الجبرتى شاهدا ـ رغم أنفه ــ على توحش الوهابية
كتاب : نشأة وتطور أديان المسلمين الأرضية
الباب الأول : الأرضية التاريخية عن نشأة وتطور أديان المحمديين الأرضية
الفصل السابع : الارهاب الوهابى وقلب المعادلة فى أواخر العصر العثمانى
الجبرتى شاهدا ـ رغم أنفه ــ على توحش الوهابية
أولا :
تعاطف الجبرتى مع الوهابية
1 ـ وقع الجبرتى ضحية للخطاب الدعائى الوهابى . وقد ارسل ابن سعود خطابا الى المصريين مع شيخ الحجاج المغاربة . وأوصله هذا المغربى المتعاطف مع الوهابية الى الجبرتى الذى نقله وعلّق عليه . يقول الجبرتى : ( ولغط الناس في خبر الوهابي واختلفوا فيه ، فمنهم منيجعله خارجيا وكافرًا وهم المكيون ومن تابعهم وصدق أقوالهم ، ومنهم من يقول بخلافذلك لخلو غرضه . وأرسل الى شيخ الركب المغربي كتابًا ومعه أوراق تتضمن دعوته وعقيدتهوصورتها.: ( بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله نحمده ونستعينهونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومنيضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدًا عبدهورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصي الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسهولن يضر الله شيئًا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد فقد قال الله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنيوسبحان الله وما أنا من المشركين) وقال الله تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونييحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) وقال تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنهفانتهوا ) وقال تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلامدينًا) فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأمرنابلزوم ما أنزل إلينا من ربنا وترك البدع والتفرق والاختلاف . وقال تعالى ( اتبعوا ماأنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكرون ) وقال تعالى ( وإن هذاصراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكمتتقون ) . والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها شبرًابشبر وذراعًا بذراع . وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذوًا القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه قالوا يارسول الله اليهود والنصارى قال فمن ) وأخبر في الحديث الآخر أن أمته ستفترق على ثلاثوسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا من هي يا رسول الله قال : ( من كان على مثلما أنا عليه اليوم وأصحابي.). إذا عرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمورالتي أعظمها الإشراك بالله والتوجه الى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاءالحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات ، وكذلك التقربإليهم بالنذور وذبح القربان والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد الى غيرذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله وصرف شيء من أنواع العبادة لغير اللهكصرف جميعها لأنه سبحانه وتعالى أغنى الأغنياء عن الشرك ولا يقبل من العمل إلا ماكان خالصًا ، كما قال تعالى ( فاعبد الله مخلصًا له الدين ألا لله الدين الخالص والذيناتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى إن الله يحكم بينهمفيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ) . فأخبر سبحانه أنه لا يرضى منالدين إلا ما كان خالصًا لوجهه ، وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياءوالصالحين ليقربوهم الى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذبكفار . وقال تعالى ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤناعند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمايشركون). فأخبر أنه من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم، وذلك أن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وقال تعالى: ( فيومئذ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم ) وقال تعالى : ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذنله الرحمن ورضي له قولًا ). وهو سبحانه وتعالى لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى ( ولايشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون). فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلامن الله ، كما قال تعالى : ( وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا ) .وقال تعالى : ( ولا تدعمن دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذًا من الظالمين ) .فإذا كان الرسولصلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء وصاحب المقام المحمود وآدم فمن دونه تحت لوائهلا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع ابتداء بل يأتي فيخر لله ساجدًا فيحمده بمحامد يعلمهإياها ثم يقال ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع.ثم يحد له حدًا فيدخلهم الجنة فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء. وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من العلماء المسلمين بل قد أجمع عليه السلفالصالح من الأصحاب والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج علىمنهاجهم . وأما ما حدث من سؤال الأنبياء والأولياء من الشفاعة بعد موتهم وتعظيمقبورهم ببناء القباب عليها وإسراجها والصلاة عندها واتخاذها أعيادًا وجعل السدنةوالنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمتهوحذر منها كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تقوم الساعة حتى يلحقحي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان . ) . وهو صلى الله عليه وسلم حمىجناب التوحيد أعظم حماية وسد كل طريق يؤدي الى الشرك ، فنهى أن يجصص القبر وأن يبنيعليه كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر . وثبت فيه أيضًا أنه بعث علي بن أبي طالبرضي الله عنه وأمره أنلا يدع قبرًا مشرفًا إلا سواه ولا تمثالًا إلا طمسه. ولهذا قال غير واحد من العلماء يجب هدم القباب المبنية على القبور لأنها أسست علىمعصية الرسول صلى الله عليه وسلم . فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتىآل بهم الأمر الى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا اللهعليهم وظفرنا بهم ، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه ، بعدما نقيم عليهم الحجةمن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف الصالح من الأمة ممتثلينلقوله سبحانه وتعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) ، فمن لم يجبالدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان ، كما قال تعالى ( لقد أرسلنا رسلنابالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسشديد ومنافع للناس ) .وندعو الناس الى إقامة الصلوات في الجماعات الى الوجه المشروعوإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج بيت الله الحرام ونأمر بالمعروف وننهي عن المنكركما قال تعالى : ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروابالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور. ) . فهذا هو الذي نعتقده وندين الله به . فمنعمل بذلك فهو أخونا المسلم له ما لنا وعليه ما علينا . ونعتقد أيضًا أن أمة محمد صلىالله عليه وسلم المتبعين للسنة لا تجتمع على ضلالة وأنه لاتزال طائفة من أمته علىالحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. ).
وقال الجبرتى معلقا: ( أقول :إن كان كذلك فهذا ما ندين الله به ونحن أيضًا ، وهو خلاصة لباب التوحيد. وما علينا منالمارقين والمتعصبين . وقد بسط الكلام في ذلك ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفانوالحافظ المقريزي في تجريد التوحيد والإمام اليوسي في شرح الكبرى وشرح الحكم لابنعباد وكتاب جمع الفضائل وقمع الرذائل وكتاب مصايد الشيطان وغير ذلك انتهى.).
وأقول : لو قرأ الجبرتى بإمعان تلك الكتب السنية المشار اليها لوجد تعارضا أساسا بين دعوى ابن سعود وما قاله المقريزى وغيره . يكمن هذا التعارض فى عدم إستحلال دماء المعارضين بمثل ما قالت الوهابية ومثلما فعلت .
2 ـ ووضح تعاطف الجبرتى مع الوهابية بعد أن دمّر (محمد على ) دولتهم ، وجاء بالأسرة السعودية اسرى فى القاهرة بعد أن ارسل رئيسهم ليُعدم فى الاستانة . التقى الجبرتى ـــ عدو محمد على ــ ببعضهم ، ووصف حالهم متعاطفا معهم . وربما كان عداء الجبرتى لمحمد على دافعا آخر للتعاطف مع الوهابيين عملا بالقول الشائع : ( عدو عدوى صديقى ). ونتوقف مع مظاهر تعاطفه معهم فى تأريخه لهم :
ثانيا :
دفاعه عنهم فى صدّهم الناس عن البيت الحرام الذى جعله الله جل وعلا للناس (المسالمين) كافة :
1 ـ أعلن ابن سعود منع غير الوهابيين من الحج ، وقد إعتبرهم مشركين ممنوعين من الاقتراب من المسجد الحرام . وكان يكرر هذا الاعلان . وذكر الجبرتى فى أحداث : [ شهر صفر سنة 1222هـ ]
قال : ( وفيه وصل ثلاث دوات من جدة إلى ساحل السويس فيها أتراك وشوام وأجناس آخرون وذكروا أن الوهابي نادى بعد انقضاء الحج أن لا يأتي إلى الحرمين بعد هذا العام من يكون حليق الذقن وتلافي المناداة قوله تعالى *(يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا))
وخصّ ابن سعود المصريين والشاميين والعراقيين بهذا المنع .
2 ــ وتبنى الجبرتى وجهة النظر الوهابية مع انها تنطبق عليه بإعتباره مصريا . في ذكره لأحداث سنة 1232هـ، يقول الجبرتي: ( منها انقطاع الحج الشامي والمصري؛ معتلين بمنع الوهابي الناس عن الحج؛ والحال ليس كذلك، فإنه لم يمنع أحدًا يأتي الحج على الطريقة المشروعة، وإنما يمنع من يأتي بخلاف ذلك من البدع، التي لا يجيزها الشرع؛ مثل المحمل، والطبل والزمر، وحمل الأسلحة، وقد وصل طائفة من حجاج المغاربة، وحجوا، ورجعوا في هذا العام، وما قبله، ولم يتعرض لهم أحد بشيء").
ونقول : كان من الممكن أن يسمح لهم بالحج وأن يمنعهم من تلك ( البدع ). ولكن الذى حدث ان ابن سعود بادر بالمنع ثم وضع الشروط .
جدير بالذكر أن الممنوع من الاقتراب من المسجد الحرام هم فقط المجرمون المعتدون ناكثو العهد كما تؤكده سورة التوبة . أى ينطبق المنع على الوهابيين الذين خرجوا من الدرعية يغزون ويعتدون ويحتلون بلاد غيرهم ثم وصلوا بهذا الاعتداء والغزو والاحتلال الى بيت الله الحرام الذى جعله الله جل وعلا مثابة للناس وأمنا ، ثم فرضوا على أهله شعائر دينهم ومنها تحريم شرب التنباك ( الدخان ).
ثالثا : فى سلبهم كنوز الحجرة النبوية
تناقل الناس وقتها سلب ابن سعود كنوز الحجرة النبوية التى إعتاد الملوك والسلاطين والأثرياء وضعها فى تلك الحجرة. وبمرور القرون اصبحت متخمة بالكنوز ، بل صارت الكنوز نفسها مقدسة محمية من السرقة لاعتقاد الناس أنها أضحت مملوكة للنبى ذاته . جرؤ ابن سعود على سلبها حين استولى على المدينة ، وربما كانت هى الهدف الأكبر له فى غزوه المدينة . توالى الهجوم على ما فعله ابن سعود حتى أصبح عارا لا يليق الدفاع عنه ، حتى أن عثمان بن بشر الوهابى الذى أرّخ للدولة السعودية الأولى والثانية تجاهل هذا بالكامل . أما الجبرتى فقد دافع عن هذا العار .
فى عام 1221 ه يقول الجبرتي : ( لما استولى الوهابيون على المدينة المنورة هدموا القباب التي فيها وفي ينبع ومنها قبة أئمة البقيع بالمدينة ، وحملوا الناس على ما حملوه عليه في مكة ، وأخذوا جميع ذخائر الحجرة النبوية وجواهرها حتى أنهم حصلوا على أربع سحاحير من الجواهر المملاة بالماس والياقوت العظيمة القدر ). وقد أثار ذلك إنكار الناس ، وتصدى الجبرتى يرد عليهم مدافعا عن ابن سعود ، يقول : ( ويذكرون أن الوهابي استولى على ما كان بالحجرة الشريفة من الذخائر والجواهر، ونقلها وأخذها، فيرون أن أخذه لذلك من الكبائر العظام، وهذه الأشياء أرسلها ووضعها خساف العقول من الأغنياء، والملوك، والسلاطين الأعاجم، وغيرهم؛ إما حرصاً على الدنيا، وكراهة أن يأخذها من يأتي بعدهم، أو لنوائب الزمان، فتكون مدخرة ومحفوظة لوقت الاحتياج إليها، فيستعان بها على الجهاد، ودفع الأعداء، فلما تقادمت عليها الأزمنة، وتوالت عليها السنين والأعوام الكثيرة، وهي في الزيادة، فارتدت معنى لا حقيقة، وارتسم في الأذهان حرمة تناولها، وأنها صارت مالاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أخذها، ولا إنفاقها، والنبي عليه الصلاة والسلام منزه عن ذلك، ولم يدخر شيئاً من عرض الدنيا في حياته، وقد أعطاه الله الشرف الأعلى، وهو الدعوة إلى الله تعالى والنبوة والكتاب، واختار أن يكون عبداً، ولم يختر أن يكون نبياً ملكا )..
وقد أعاد الجبرتى نفس الموضوع مع بعض تفصيلات جاءته فيما بعد . يقول فى أحداث شهر ذي الحجّة سنة 1223هـ : (حضر الوهابي واستولى على المدينة ، وأخذ تلك الذخائر، فيقال انه عبى أربعة سحاحير من الجواهر المحلاة بالألماس والياقوت العظيمة القدر ، ومن ذلك اربع شمعدانات من الزمرد ، وبدل الشمعة قطعة الماس مستطيلة يضيء نورها في الظلام ، ونحو مائة سيف قراباتها ملبسة بالذهب الخالص ومنزل عليها الماس وياقوت ، ونصابها من الزمرد واليشم ونحو ذلك ، وسلاحها من الحديد الموصوف ، كل سيف منها لا قيمة له، وعليها دمغات باسم الملوك والخلفاء السالفين وغير ذلك. ).
ونقول :كنز الذهب والفضة محرم فى الاسلام ( التوبة 34 ) ، وأشدُّ التحريم فى أن يتحول هذا الى قُربان ونذر للموتى وضمن تقديس قبورهم التى أصبحت بها التقديس رجسا من عمل الشيطان . ولكن ليس الحل ان ينهبها ابن سعود ويستأثر بها، ويزعم أن ذلك هو الاسلام ، ولكن الحُكم الاسلامى فى هذه الكنوز أن يتم توزيعها صدقة على فقراء المسلمين .
رابعا ـ تجاهل الجبرتى تفصيلات وحشيتهم وعدم إنكاره عليهم :
1 ــ مذبحة الطائف
كانت ــ ولا تزال ـ وصمة عار فى تاريخ الدولة السعودية الأولى ، مع أنهم كرروها فى الدولة السعودية الثالثة الراهنة .كانت الطائف تحت حكم الشريف غالب حاكم مكة ، وكان بينه وبين الوهابية المواثيق ، ولكنهم غدروا فتمكنوا من الاستيلاء على الطائف ، إذ دخلوها عنوة في ذي القعدة 1217هـ/1802م فقتلوا الناس بدون تمييز بين رجل وامرأة وطفل ؛ حتى أنهم كانوا يذبحون الرضيع على صدر أمه ، كما قتلوا من وجدوا في المساجد والبيوت ولاحقوا الفارين من المدينة فقتلوا أكثرهم ، وأعطوا الأمان للبعض فلما استسلموا ضربوا أعناق فريق منهم ، وأخرجوا فريقاً إلى أحد الأودية ، واسمه وادي الوج، فتركوهم مكشوفي العورة ومعهم النساء. وأخذت الأعراب تروح وتغدو إلى الطائف فتحمل المنهوبات الهائلة التي كانت تخمَّس ، ويرسل خمسها إلى الأمير ويقتسمون ما بقى . كما عبثوا بالمصاحف والكتب الدينية المناقضة لهم ورموها بعد أن مزقوها ورموها في الأزقة . وعمدوا أخيراً إلى حفر بيوت المدينة حتى المراحيض بحثاً عن المال الذي قيل لهم أنه خبئ في الأرض! وبعض الأعراب الوهابيين ــ بعد أن قتلوا وذبحوا الرجال والنساء والأطفال والصلحاء ــ عمدوا إلى قطع أيدي النساء لانتزاع الحلي منها ، كما كانوا يتوضأون بدماء الآدميين بعد صبه في الماء. وقد قتل خلال هذه المجزرة الشيخ عبدالله الزواوي مفتي الشافعية بمكة المكرمة، والشيخ عبدالله أبو الخير قاضي مكة ، والشيخ جعفر الشيبي وغيرهم ذبحوهم بعد أن أمَّنوهم عند أبواب بيوتهم). هذا ما تواتر عن مذبحة الطائف. فماذا قال الجبرتى عن هذه المذبحة ؟
يقول الجبرتى فى أحداث ( شهر ذي الحجة الحرام سنة 1217 : وفي يوم الجمعة خامس عشره حضرت مكاتبات من الديار الحجازية يخبرونفيها عن الوهابيين أنهم حضروا الى جهة الطائف فخرج إليهم شريف مكة الشريف غالبفحاربهم فهزموه، فرجع الى الطائف وأحرق داره التي بها ، وخرج هاربًا الى مكة ، فحضرالوهابيون الى البلدة ... فحاربوا الطائف وحاربهم أهلها ثلاثة أيام حتى غلبوا فأخذ البلدةالوهابيون ، واستولوا عليها عنوة وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال. وهذا دأبهم معمن يحاربهم.)
ونتأمل صياغته الخبر فى قوله يساوى بين المعتدى المهاجم والسكان المُعتدى عليهم : ( فحاربوا الطائف وحاربهم أهلها ثلاثة أيام ). ثم يوجز المذبحة فى عدة كلمات (وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال ) ثم يوجز وحشية الوهابيين فى بضع كلمات : (وهذا دأبهم معمن يحاربهم. )
2 ـ وفى حصارهم المدينة أحكموا حصارها حتى مات أكثر أهل المدينة جوعا . ولم تهتز شعرة للجبرتى فذكر بكل برود هذا الحصار فى أحداث شهر ربيع الأول سنة 1219 . قال: ( وفي ثالث عشره ورد الخبر بوصول مراكب داوات من القلزم إلى السويسوفيها حجاج والمحمل وأخبروا بمحاصرة الوهابيين لمكة والمدينة وجدة وأن أكثر أهلالمدينة ماتوا جوعًا لعزة الأقوات . ) . لم يستحق أولئك المدنيون العُزّل من أهل المدينة عبارة عزاء من الجبرتى .
خامسا : تجاهل الجبرتى الانكار على الوهابيين فى التهجير القسرى :
وحشية الوهابيين أدت الى تسليم مكة سلميا ، وادت الى فرار كثيرين من بلادهم خوفا على حياتهم وأعراضهم ، لجأ بعضهم الى الشام والعراق ومصر يستنجدون بحاكمها وسافر آخرون الى السلطان العثمانى . هذا تهجير قسرى ، لأن الذى يبقى وينجو من القتل سيصبح أسيرا لتحكم الوهابيين وتزمتهم وتسلطهم فى شريعتهم بتغيير المنكر . وقد جاء فى تسجيل الجبرتى لمحات عن هذا التهجير القسرى لمن هرب الى مصر . ونقتطف ما قاله الجبرتى ، وهو يقوله دون إنكار :
1 : ( شعبان سنة 1217: وفيه حضرت جماعة من أشراف مكة وعلمائها هروبا من الوهابيين وقصدهمالسفر الى اسلامبول يخبرون الدولة بقيام الوهابيين ويستنجدون بهم لينقذوهم منهمويبادروا لنصرهم عليهم فذهبوا الى بيت الباشا والدفتردار وأكابر البلد وصاروا يحكونويشكون وتنقل الناس أخبارهم وحكاياتهم.)
2 ـ شهر شوال سنة 1217 : وفي غايته حضر أولاد الشريف سرور شريف مكة هروبًا من الوهابيينليستنجدوا بالدولة فنزلوا ببيت المحروقي بعدما قابلوا محمد باشا والي مصر وشريفباشا والي جدة.)
3 ـ شهر صفر 1218 : وفي يوم الأحدحضر الشريف عبد الله ابن سرور وصحبته بعض أقاربه من شرفاء مكة وأتباعهم نحو ستيننفرًا وأخبروا أنهم خرجوا من مكة مع الحجاج وأن عبد العزيز بن مسعود الوهابي دخلالى مكة من غير حرب وولى الشريف عبد المعين أميرًا على مكة والشيخ عقليًا قاضيًاوأنه هدم قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة والأبنية التي أعلى من الكعبة وذلك بعدأن عقد مجلسًا بالحرم وباحثهم على ما الناس عليهم من البدع والمحرمات المخالفةللكتاب والسنة وأخبروا أن الشريف غالبًا وشريف باشا ذهبا الى جدة وتحصنا بها وأنهمفارقوا الحجاج في الجديدة.) أى أن من بقى فى مكة إستمع خاضعا لابن سعود لا يجرؤ على مناقشته ، وإلا قتلوه . أما من هرب فجاء يخبر بالأحوال .
4 ـ محرم 1218 : ( وفيه حضر هجان على يده مكاتيب مؤرخة في عشرين شهر الحجة مضمونها أن الوهابيينأحاطوا بالديار الحجازية وأن شريف مكة غالب تداخل مع شريف باشا وأمير الحاج المصريوالشامي وأرشاهم على أن يتعوقوا معه أيامًا حتى ينقل ماله ومتاعه الى جدة وذلك بعداختلاف كبير وحل وربط وكونهم يجتمعون على حربه ثم يرجعون على ذلك الى أن اتفق رأيهمعلى الرحيل فأقاموا مع الشريف اثني عشر يومًا ثم رحلوا ورحل الشريف بعد أن أحرقداره..)
5 ــ شهر صفر 1218 : وفي يوم الاثنين وردت مكاتبات من الديار الحجازية مؤرخة في منتصفمحرم وفيها الإخبار باستيلاء الوهابيين على مكة في يوم عاشوراء وأن الشريف غالبأحرق داره وارتحل الى جدة وأن الحجاج أقاموا بمكة ثمانية أيام زيادة عن المعتادبسبب الارتباك قبل حصول الوهابيين بمكة ومراعاة للشريف حتى نقل متاعه الى جدة ثمارتحل الحجاج وخرجوا من مكة طالبين زيارة المدينة فدخل الوهابيون بعد ارتحال الحجبيومين.)
6 ــ شهر ذي الحجّة 1223هـ : ( وانقطع عن أهل المدينة ومكّة ما كان يصل إليهم من الصدقات والعلائف والصرر التي كانوا يتعيشون منها خرجوا من أوطانهم بأولادهم ونسائهم ولم يمكث الا الذي ليس له ايراد من ذلك واتوا إلى مصر والشام ومنهم من ذهب إلى إسلامبول يتشكون من الوهابي ويستغيثون بالدولة في خلاص الحرمين لتعود لهم الحالة التي كانوا عليها من اجراء الارزاق واتصال الصلات والنيابات والخدم في الوظائف التي بأسماء رجال الدولة كالفراشة والكناسة ونحو ذلك ).
سادسا : تجاهل الجبرتى الانكار على حروب ابن سعود الهجومية فى الشهور الحُرُم :
من ملاحظة الأخبار السابقة نرى بعضها قد حدث فى الأشهر الحُرُم . وإذا كان رعاع العسكر العثمانى يقتلون السكان العُزّل فى كل الأشهر ، فقد كانوا لا يزعمون الاسلام ، بل كان بعضهم مسيحيين . أما الوهابيين الذين زعموا إمتلاك الاسلام وبهذا الزعم إستباحوا الغزو والاحتلال والقتل والسلب والنهب والاغتصاب فى الشهر الحرام ـ.. كيف غاب عن الشيخ الأزهرى المؤرخ الفقيه الجبرتى هذا مع أنه يؤرخ بالأشهر العربية ، ويقول شهر ذى الحجة الحرام .
أخيرا : إذا كان الجبرتى المدافع عن الوهابيين يضطر لذكر ما شاع عن وحشيتهم وسارت بها الركبان ، فما أخفاه كان أفظع .