المهندس "باسم" قارب الأربعين ويعمل مهندسا باحدى شركات المقاولات التى أسسها ويملكها مهندس مصرى طموح يركز معظم نشاط شركته فى المنشئات السياحية كالقرى والفنادق فى شتى نواحى البلاد. لم يكن باسم بأية حال متميزا فى أى شىء فهو قد نشأ فى أسرة متوسطة الحال لأب موظف حكومى وأم ربة بيت .. كان شكله مقبولا ولكنه ليس بجميل ليلفت الأنظار اليه .. لم يكن متفوقا دراسيا ولكنه لم يرسب فى أى مرحلة من التعليم .. وحتى تخرج فى كلية الهندسة لم يكن له أصدقاء بالمعنى المعروف وانما جيران وزملاء ومعارف ولم يمارس أى هوايات رياضية أو فنية ولا يقرأ الا لماما ودون تعمق أو اهتمام واضح. وصل باسم الى مشارف الأربعين دون أن يكون له علاقات نسائية حتى كاد قطار الزواج أن يفوته .. لم يكن لهذا سبب كالعيوب النفسية أو الشخصية وانما لنقل أنه لم يهتم بهذا الأمر رغم الحاح والدته التى لاقت ربها منذ عشر سنوات .
عندما تلقى المهندس باسم خطابا من الشركة التى يعمل بها يخبره بنقله الى مدينة الغردقة ساحل البحر الأحمر للانضمام الى فريق العمل فى احدى القرى السياحية تحت الانشاء فى منطقة "سهل حشيش" الواقعة بين الغردقة وسفاجا لم يحمل قرار النقل له أى بهجة او فرح من النوع الذى قد يسببه زيادة الراتب كما أنه لم يسبب له أى نوع من الأسى فهو لن يفتقد الكثير بابتعاده عن القاهرة فاخوته جميعا مشغولون فى بيوتهم ومشاكل أولادهم حتى أخته الكبرى التى كانت تدعوه الى العشاء بين الحين والآخر فانها كفت عن ذلك بعد أن أصيبت بسرطان الثدى وخضعت للعلاج الكيماوى ..لملم أغراضه الشخصية واستقل سيارته الصغيرة الى الغردقة وهناك أسكنوه احدى غرف استراحة المهندسين التابعة للمشروع وما لبث أن انخرط فى العمل الذى يستغرق بعض ساعات النهار فكان أن توفر لديه وقت فراغ كبير لم يجد وسيلة لاستغلاله فهو لا يهوى الرياضة ولا القراءة. ولما وجد زملاءه المهندسين يمارسون هواية صيد السمك ويتحدثون عن ما يحدث لهم فى رحلات الصيد فى اليخوت الصغيرة التى يقضون فيها ليلة أو اثنتين فى البحر ربما مع بعض المبالغة .. فكل الصيادين كما يقول المثل االنجليزى I fish therefore I lie . بعد تردد قرر باسم أن يبدأ فى تجربة هواية الصيد فاشترى صنارة بماكينة متوسطة الحجم وتطوع زملاؤه المهندسون بتدريبه على طرق ربط الشص وتثبيت الطعم ولكنه لم يغامر بالخروج الى البحر فى مراكب مع الآخرين وانما آثر أن يجلس فى كرسى ويصطاد من فوق "مارينا" القرية التى تمتد داخل البحر الى مسافة حوالى مائة وخمسين مترا. طابت له الجلسة ووجد فيها هواه فهو فى العموم يفضل العزلة والهدوء وبمرور الوقت اكتسب بعض المهارة فى الصيد فكان يعود الى الاستراحة بحصيلة معقولة. ولكن الفائدة الأعظم هى أنه تدرب على التأمل والاسترخاء بالنظر الى "لا شىء" وهو مفتوح العينين لأطول فترة ممكنة وأتاح له هذا استقراء أحداث الماضى وتذكر أشخاصا مروا بحياته. بين الحين والآخر يشتد الخيط وتهتز الصنارة موذنة بصيد يفرح به الصياد الجديد ويتراقص قلبه فى صدره. المحللون النفسيون حاولوا تفسير ظاهرة "ادمان الصيد" وربطوا بينه وبين ادمان القمار وفسروا ذلك بالشعور بالنشوة العظيمة التى تحدث للصياد وممارس القمار كليهما لحظة الفوز والمسمى ب "رعشة الأدرينالين" وهو مادة منشطة تفرز فى المخ. الفارق بين نوعى الادمان بالطبع هو موقف الدين بالاضافة الى خلو الصيد من مشاعر الكراهية والحقد الذى يصيب الخاسر فى القمار لأنه ببساطة لا يوجد خاسر فى الصيد.
شدة قوية هزت الصنارة بعنف وكادت تلقى بها الى الماء لولا أن بادر باسم بانجاز المهمة وكانت سمكة كبيرة من نوع "الشعور" فرح بها فرحة كبيرة وتاقت نفسه الى صيد أكبر وجلس يفكر لم لا يذهب مع زملائه فى رحلة صيد على ظهر يخت وربما يكون الصيد وفيرا يمكن بيعه بمال وفير مما يمكنه مع الوقت من شراء مركب صيد خاص به وتوظيف بعض صيادين للعمل معه وربما يصبح المركب أكبر حجما وقد يصير لديه أسطول من مراكب الصيد التى تعمل فى أعالى البحار لصيد أسماك التونة العملاقة التى يشاهدها فى برامج ناشيونال جيوجرافيك وبهذا يصبح من الأثرياء ويستقيل من مهنة الهندسة ويبنى مصنعا لحفظ وتعليب الأسماك وهنا سوف يفكر بالطبع فى الزواج ومن المؤكد أنه سوف يجد عروسا من أسرة طيبة رغم عمره الذى تخطى الأربعين فثراؤه سيشفع له .. وبعد الزواج سيقيم مع عروسه فى الفيللا التى سيقيمها فى أحد الأحياء الراقية بالقاهرة وسينجب ثلاثة أبناء سيحرص على حسن تنشئتهم وتعليمهم حتى يكونوا مهندسين وأطباء وفى تربيتهم سيكون لهم الأب والصديق وسيحرص على أن يهتموا بالرياضة والثقافة وربما يكون لأحدهم هواية الموسيقى فسيشجعة ويشترى له بيانو ويحضر له من يعلمه العزف والنوتة الموسيقية ثم بعد ذلك يختار لهم شركاء لحياتهم من أسر كريمة ويستمتع برؤية أحفاده يلعبون فى حديقة الفيللا أمام عينيه .. وهنا يحس باسم بأن مهمته فى الحياة قد قاربت على الانتهاء بعد أن تخطى السبعين فيقرر أن يتخذ بيتا صغيرا فى الغردقة ويبحث عن صنارته القديمة ليقضى وقته مستمتعا بالصيد وهو جالس على كرسيه على المارينا الممتدة داخل البحر لمسافة حوالة مائة وخمسين مترا ..