بسم الله الرحمن الرحيم
د. أحمد صبحى منصور
مسكين جدا .. يا عباس
1 ـ منذ أن وصل عباس الى الحكم اتخذ اثنين ليكونا أقرب الناس اليه ، هما مستشاره الخاص الدكتور عكروت ، ورفيقه العسكرى الجنرال كتكوت.
الدكتور عكروت لا يتكلم كثيرا ولكنه الذى يرسم كل خطوة يخطوها عباس ، وأكثر من هذا وأهم ؛أنه الذى يضع المتاريس أمام لسان عباس المنفلت فلا يتكلم الا ما يليق به كحاكم يملك كل شىء ويتحكم فى كل شىء. مصيبة عباس انه إذا إنطلق على سجيته فى الكلام تحول لسانه الى مدفع رشاش يقول ألفاظا تجعل السيدة الفاضلة نجوى فؤاد يحمر وجهها خجلا، فما بالك بالمحصنات القانتات فى بقية النوادى والكباريهات !!
أما الجنرال كتكوت المفترس فله سجل حافل بالهرب من كل معركة سابقة أو لاحقة أو حتى مستقبلية ، خاضها أو سيخوضها الجيش. ولكن كل ذلك يهون أمام منقبة عسكرية لا يتمتع بها غيره ،هى اخلاصه لعباس وتفانيه فى خدمته ، حتى يقال ـ والعهدة على الراوى ـ أن الجنرال الولهان بحب عباس لا يسنطيع النوم قبل أن يأخذ إذنا من عباس.
منذ وصوله الى الحكم عزم عباس على أن يظل فيه هو وأسرته الى الأبد. وبنصيحة من الدكتور عكروت اختار عباس صديقه كتكوت وجعله قائد الجيش ، وأعطاه كل الامكانات المتاحة ليضمن له ولاء الجيش، أى بدلا من أن يكون الجيش لحماية الشعب وحراسته أصبحت مهمة الجيش حماية عباس وأسرته، وبعد أن كان شعار الجيش مواجهة الاستعمار أصبح حماية الاستقرار والاستمرار .. والاستحمار.
نفّذ عباس هذه المهمة بكل همة: جزء من مشاة الجيش أصبح تحت قيادة الشرطة تكبح بها اى مظاهرة للشعب، وأصبحت الشرطة هى مقدمة الجيش فى الجبهة الداخلية ، فى حربه ضد العدو، وهو الشعب ، بينما يتفرغ باقى الجيش احتياطيا للمواجهة ضد الشعب إذا عجزت الشرطة بكل أسلحتها وأجهزتها عن اسكاته. المخابرات التابعة للشرطة هى الذراع الأمامية للجيش وأجهزته. الأسلحة لابد أن تكون متطورة وحديثة ، ليس لمواجهة أى اعتداء خارجى بل لتحقيق أكبر عمولة تدخل جيب عباس وكتكوت وعكروت وأركان الجيش. وحتى تنعدم أى فرصة لأى مشاغب من ضباط الجيش عمل كتكوت على إحالة الرتب الوسطى الى المعاش او التجديد لبعضهم سنويا إذا ضمن إخلاصهم لعباس . معنى هذا ان أمام الضابط ان يختار بين طريقين : إما الولاء التام فيحصل على الراحة والاستجمام والثروة والنفوذ ، وإما الرفض ، فأمامه الفصل والتشريد وربما السجن إذا أصبح معارضا. زيادة فى الاحتياط أكثر عباس من أجهزة المخابرات وسلط بعضها على بعض ، لتتنافس فى خدمته ، وحتى لا يتضخم أحدها وينافسه فى السلطة.
بهذا بقى عباس يمسك فى يده كل خيوط القوة، وأصبح من حقه أن ينام سعيدا آمنا.
2 ـ ولكن بقى عباس لا يشعر بالسعادة ولا يشعر بالأمن.
لقد اكتشف عباس أنه وضع نفسه داخل قفص حديدى سميك من أجهزة الحراسات المختلفة والمتنوعة؛ الحرس الخاص به بأجهزة مخابراته وأفرع أسلحته التى تماثل أفرع الجيش ، ثم الشرطة بكل أجهزتها السرية والعلنية ، ثم الجيش بكل أفرعه وأقسامه. كل هذه القوات أحاطت بعباس كى تحميه هو وأسرته الكريمة.
أحس عباس بالاختناق، لا يستطيع أن يتجول حرا فى أى شارع أو حديقة ، لا يستطيع ان يتحدث مع الناس لأنه لا يرى ناسا ، إنه يرى فقط كلاب حراسة تلقى له فرائض الطاعة وتنهش لحم من يقترب منه ولو على بعد خمسين ميلا. أحس عباس أنه سجن نفسه فى غابة من الوحوش . سأل عباس نفسه : ماذا إذا انقلبت عليه تلك الوحوش المسلحة ونهشت لحمه ولحم أسرته؟ لقد أعطاها القوة والنفوذ وجعلها تحت سيطرته فماذا إذا فكر بعضهم فى توجيه السلاح ضده؟ احس عباس بالقلق.. لم يعد عباس ينام خوفا من كلاب الحراسة نفسها . أكثر عباس من تغيير قواد العسكر ، ومن يحيله الى الاستيداع يغرقه فى نعيم الثروة ولكن بعد ان يجرده من القوة، وبعد ان يرفع فى وجهه ملفات الفساد التى تورط فيها من قبل. أثمرت هذه السياسة ، إذ (تكالب) الجميع على التنافس فى الفساد وفى ارضاء عباس. شعر عباس أنه وصل الى تمام النصر.. ولكن ..!!
3 ـ ظل عباس يعانى القلق..
اشباح مجهولة تتراءى له فى المنام، تطارده وتنغص عليه نومه ، وتتوعده بالانتقام، تقول له بصراحة إنها أشباح ضحاياه وقتلاه فى السجون والمعتقلات، أصبح عباس يستيقظ فزعا يضرب بيده يمينا وشمالا يمنع أشباح المظاليم من ملاحقته. احتار طبيبه الخاص فى تهدئة مخاوفه ، حاول أن يفهمه أن هذه الأشباح صنعها عقله الباطن اعترافا بالذنب، إلا أن عباس لم يفهم لانه لا يفهم. أصبح عباس ينام بمنوم ويصحو على مهدىء. فقد الكثير من وزنه ، وتساقط شعره الأبيض ، ولم تعد صبغات الشعر العالمية تخفى بياض شعره ، كما أن تجاعيد وجهه زادت مع قلقه ومعاناته من أشباح الظلام. استعصت تلك التجاعيد على كل محاولات التجميل والماكياج، كما استعصت حالة عباس على كل محاولات العلاج النفسى.
اجتمع مجلس الأمن القومى برئاسة الدكتور عكروت والجنرال كتكوت وقرر ان عجز الطب النفسى يستلزم استشارة الشيخ طاغوت الحبر الأكبر المتخصص فى الشئون الدينية. نودى على الشيخ طاغوت فجاء على عجل ووجل يبسمل و يحوقل ..
جلس عباس أمام الشيخ طاغوت مجرد إنسان بائس مريض يريد ان يتمتع بالنوم ليلة واحدة دون قلق أو كابوس. قبل أن يتكلم الشيخ طاغوت تأكد من الشيك الذى وضعوه فى جيب قفطانه ، ثم تأكد مرة ثانية ان المبلغ وصل الى ستة أصفار. بدأ الشيخ طاغوت يرقى عباس ويقرأ عليه بعض التعاويذ التى أشعرت عباس بالراحة. نصحه الشيخ طاغوت بالتبرع بعشرين مليون لمساعدة المحتاجين. وحتى لا يدفع عباس المبلغ من جيبه الخاص أقام حملة رسمية شعارها التخفيف عن المحرومين واقتحام مشكلة الفقر، جمع منها أكثر من خمسين مليونا ، أعطى منها عشرين للشيخ طاغوت ليوزعها بنفسه على الفقراء. قام فضيلته بالواجب فتضخم حساب فضيلته فى البنك وزاد حوالى عشرين مليونا فقط .وأصبح عباس ينام ..ولكن لم تنته مشكلة عباس..
4 ـ فى ليلة ليلاء رأى عباس حلما مزعجا.. رأى كأن ملكا نزل من السماء وظل يصفعه على قفاه، وهو يقول له:
ما طار طائر وارتفع إلا كما طار وقع.
استيقظ عباس صارخا وقد تورم قفاه. هرع اليه الحراس والأطباء. عجز الأطباء عن تشخيص الورم الذى أصاب قفا عباس، وعجز الحراس عن القبض على الملاك الذى هاجم ـ فى المنام ـ عباس. حضر على عجل الدكتور عكروت والجنرال كتكوت . قال عكروت لعباس إن ما قاله له الملاك ليس وحيا ، بل هو بيت من الشعر التراثى المشهور. عباس ليس من هواة الشعر أو النثر أو القراءة أو الثقافة ووجع الراس. سأل عباس مستشاره : فمامعنى الطائر وارتفع ووقع؟ قال المستشار: ليس المهم معنى البيت فهو معروف ، المهم أن البيت جاء فى إطار نبوءة . كالعادة عباس لم يفهم لأنه لا يفهم ، انطلق لسانه بالسب والشتم يصرخ فى مستشاره آمرا أن يكلمه بما يفهم ، حاول المستشار أكثر من مرة الشرح دون فائدة. عباس لم يفهم لأنه لا يفهم. أخيرا قال المستشار: لا بد من الذهاب الى أشهر شيخ فى تفسير الأحلام ليفسر الحلم وبيت الشعر، إنه الشيخ ناسوت ، أمير المعارضة السجين منذ عشرات السنين.
فى أمر خطير كهذا اجتمع مجلس الأمن القومى لبحث الموضوع ، وهل يدخل فى إطار المسموح أم الممنوع .. وبعد اجتماع دام ثلاث ساعات ـ ضم كبار القادة وكبار القوادين ـ انتهوا الى قرارات حاسمة : لا مفر من اختيار الشيخ ناسوت ولكن ممنوع أن يعرف الشيخ ناسوت من هوصاحب الحلم .
كان الشيخ ناسوت موضوعا فى سجن انفرادى منذ خمس سنوات. اتفقوا على نقله الى زنزانة مع مساجين آخرين ، وان يوجه له احد المساجين سؤالا يتضمن أنه رأى نفس المنام الذى رآه عباس، على أن يتم تسجيل كلام الشيخ بالصوت والصورة والألوان الطبيعية.
5ـ فى تلك الليلة كان قائد السجن منكبا على وجهه فى أرضية مكتبه لكى يعطى الفرصة كاملة لأحد المساجين ليمارس فيه فعلا خادشا للحياء. كانت تلك هواية القائد فى ليالى السجن الطويلة، وكان يتبع السياسة الحكومية الرشيدة فى بيع القطاع العام ؛إذ يختار المساجين ليس بالمناقصة ـ التى تتجلى فيها الشفافية وتكافؤ الفرص ـ ولكن بالأمر المباشرـ الذى يحمل شبهة الفساد. فى مكتب قائد السجن دق فجأة ـ وفى لحظة حاسمة ـ التليفون الخاص ، فالتقطه كارها متبرما لاعنا من ينغص عليه متعته وهوايته ، ولكنه سرعان ما وقف منتصبا مرتعبا وهو يستجمع ملابسه ويهتف: تمام يا أفندم .
بعدها بساعة كانت صلاة الفجر فى زنزانة واسعة . بعد الصلاة أقبل المساجين يحيّون الشيخ ناسوت الذى أفرجوا عنه منذ قليل من الحبس الانفرادى. اقترب أحد المساجين وانحنى وقبل يد الشيخ وطلب منه أن يفسر له المنام الذى رآه. حكى المسجون له أنه رأى ملكا من السماء نزل عليه وظل يصفعه على قفاه وهو يقول له:
ما طار طائر وارتفع إلا كما طار وقع.
نظر الشيخ مبتسما الى المسجون البائس والى الوجوه المتطلعة له والى الزنزانة التى يلمع جانب منها على غير العادة. هز الشيخ رأسه وقال للمسجون: صرصار مثلك يا بنى لا يمكن أن يرى هذا المنام. أقصى ما تراه فى المنام هو رغيف العيش، وأقصى ما تتمناه أن يرضى عنك قائد السجن ويستضيفك فى مكتبه ليمتص حيويتك ويعطيك وجبة غذاء خالية من السوس ..
ثم نظر الشيخ حوله وصرخ بأعلى صوته:هذا المنام لا يراه سوى عباس.
تقافز الرعب على ملامح الجميع فى الزنزانة وتجمدت ملامحهم. تلفت الشيخ حوله وركزعلى ركن من الأركان التى يتراقص فيها الضوء وقال يوجه خطابه الى شخص غير مرئى: أبشرك يا عباس بسوء المصير، فقد بلغت القمة التى ما بعدها ارتفاع ، وليس بعد هذا الارتفاع الا السقوط ، وسقوطك مريع وسريع قدر ارتفاعك ، هذا هو ما تبقى لك فى عمرك الذى بلغت أرذله، أبشرك يا عباس أنه على قدر الارتفاع ونعمته سيكون السقوط ونقمته ، فما طار طائر وارتفع إلا كما طار وقع، هذه هى قوانين الجاذبية وتلك هى خبرة البشر التاريخية. ثم نادى بأعلى صوته : ارجعونى للحبس الانفرادى فقد انتهت المسرحية يا أولادى ...
6 ـ فى الزنزانة الأخرى ـ أفخر زنزانة فى العالم ـ فى جزيرة عباس المعزولة عن العالم والمحاطة بأشرس كلاب الحراسةـ جلس عباس يسترجع ذكرياته. تمنى لو كان رجلا بسيطا فقيرا يعيش فى هدوء وسكينة مرتاح البال بعيدا عن المشاكل ..ثم وقف يرتجف. تراجع الجنرال كتكوت والدكتور عكروت وكبار القواد والقوادين، وحبسوا أنفاسهم خشية أن يتحول رعب عباس الى غضب لا تحمد عقباه. لم يرهم عباس ..كان يرى فقط أشباح المظاليم ضاحكة مستهزئة.. ظل عباس يكلم نفسه : ماذا يفعل الآن ؟ كيف يتحاشى المصير الذى ينتظره فى نهاية عمره ؟ تذكر مصير شاه ايران وشاوشيسكو وصدام حسين.. فتمنى لو انتهى الى مصير سعاد حسنى .... خاصمه النوم وعاد اليه القلق والأرق.
6 ـ عباس لا ينام ....
مسكين جدا يا عباس..
أيها الناس : ادعوا بالرحمة لعباس !!
أدعوا له أن ينام ..فلا يقوم ..