صراع (الحنابلة) مع (المعتزلة) في العصر العباسي

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٢٨ - فبراير - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

صراع (الحنابلة) مع (المعتزلة) في العصر العباسي

كتاب : نشأة  وتطور أديان المسلمين الأرضية

الباب الأول : الأرضية التاريخية  لنشأة وتطور أديان المحمديين الأرضية

الفصل الرابع: تطور أديانالمسلمين الأرضية فى العصر العباسى ( 132 ـ 658 هجرية ) (750-1258م )

صراع المتشددين فى الدين السّنى (الحنابلة) مع ( العلمانيين المستغربين: المعتزلة) في العصر العباسي

مقدمة

1 ــ الدولة العباسية كدولة دينية ذات دين أرضى خاص اعتمدت علي فقهائها ورواة الحديث التابعين لها في تعزيز سياستها ضد الحركات السياسية المناوئة لها ، واذا قصّر احد الفقهاء في خدمة الدولة كان يتعرض للاضطهاد على قدر التقصير، وهذا ما حدث مع مالك وابى حنيفة والشافعى ، ثم ابن حنبل فيما بعد.

2 ـ الا ان الدولة العباسية فتحت ابواب الترجمة عن اليونانية والسيريانية والهندية وواكب ذلك عودة الحياة الي المدارس الفلسفية اليونانية القديمة فى الرها وجندياسبور وانطاكية وحرّان والاسكندرية، واصبح التزندق الفلسفي موضة لا غبار عليها طالما لا يعارض سياسة الدولة، وقد اشتهر من العاملين في اجهزة الدولة العباسية الكثير من الزنادقة، واشتهر شعرهم وادبهم بينما طاردت الدولة خصومها السياسيين بحد الردة وتهمة الزندقة.

3 ـ ومن الطبيعي ان ينفر الفقهاء المحافظون من هذا التيار الجديد المتأثر بالثقافة اليونانية الغربية المتأثرة بالمسيحية والثقافة الغربية وفلسفاتها ،خصوصا مع  ظهور المعتزلة الذين يقرأون الفلسفة ويقرأون التدين السائد قراءة عقلية وبصورة تخالف القراءة المحافظة التقليدية .

4 ــ وقد وقع الخليفة المأمون (813-833)في هوى ذلك التيار المعتزلى الجديد ، اذ كان شغوفا بمجالس العلم، واقتنع بمقولة المعتزلة أن القرآن مخلوق، واستعظم ان يعارضه الفقهاء المحافظون ،وكان منهم وقتها أحد من يجمع الأحاديث ــ ولم يكن مشهورا من قبل ـ ولكن صموده فى معارضة القول بخلق القرآن أشهرته . إنه ( احمد بن حنبل ) الفارسى الأصل ، وقد إنضم اليه محمد بن نوح ومحمد بن سعد المؤرخ المشهور.  صمم المأمون علي فرض رأيه عليهم بسطوة الدولة ،وبدأت بذلك محنة الفقهاء السنيين ، وإجبارهم علي القول بأن القرآن مخلوق .وتحت الضغط والتهديد تراجع الفقهاء عدا ابن حنبل ومحمد بن نوح ،  فوضعا في السجن. ومات المأمون وقد اوصى ولي عهده المعتصم بالله بالاستمرار بالقضية فأمر المعتصم بضرب ابن حنبل سنة218،وظل ابن حنبل بالسجن الي ان افرج عنه في رمضان سنة 220هـ، وشاع ضرب ابن حنبل وصار محنة كبرى يتغنى بها الفقهاء الذين حملوا فيما بعد لقب الحنابلة ، وقالوا إنه استمر اثر الضرب في جسده يتوجع منه الي ان مات سنة241 هـ( ابن الجوزي:مناقب ابن حنبل 339،346بيروت ط1،تحقيق محمد ومصطفى عبدالقادرعطا ،  المنتظم 11/43 ،تاريخ الطبري 8/631:645 ].

محنة ابن نصر الخزاعي :

وادى ما حدث لابن حنبل الي قطيعة بين الفقهاء المحافظين والعباسيين ، واستغل الفقهاءمكانتهم في الشارع ، واقد اصبح لقبهم الحنابلة نسبة لابن حنبل، وبدءوا في اثارة القلاقل ضد الدولة بحجة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد صنعوا لذلك حديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ..الخ ) ، أى أكسبوا حركتهم فى السطوة على الشارع شرعية دينية . يلفت النظر أن الخليفة الواثق صاحب الميول العلمية ( العلوم الحقيقية فى الطب وغيره ) قد أمر بالقبض علي زعيم الفقهاء الحنابلة ، وهو احمد بن نصر الخزاعي بحجة انه ينكر خلق القرآن.وحقق الخليفة معه ثم قتله بيده ،وامر بصلب رأسه في موضع وصلب جسده في موضع آخر وكان ذلك سنة231 هجرية .( ،تاريخ الطبري 9/135:140. ابن الجوزي : المنتظم 11163:165).

بسبب محنة ابن نصر الخزاعى راج حديث الحنابلة :  (من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وهذا اضعف الايمان )ليعطى للحنابلة المتشددين سطوة فى الشارع . وفعلا أصبحت لهم فى العصر العباسى الثانى سطوة فى الشارع العباسى ، ما لبث أن تضاءلت بعد تسيد دين التصوف الذى حمل شعيرة دينية مخالفة هى ( عدم الاعتراض ) . وفى عصرنا عاد للظهور حديث الحنابلة ( من رأى منكم منكرا ) يتحرك به الوهابيون الحنابلة يرهبون الناس .

إعتماد الحنبلية السنية دينا فعليا في العصر العباسي منذ عهد المتوكل واضطهاد زعماء الأديان الأرضية الأخرى:

1 ـ في هذه الفترة كان نفوذ المعتزلة سائدا في الدولة العباسية حيث كان الوزير المعتزلي محمد ابن عبد الملك بن الزيات يسيطر علي الامور ، ويستهين بولي العهد وهو أخ الخليفة الواثق الذي تولي الخلافة فيما بعد تحت اسم الخليفة المتوكل .وكان ابن الزيات يعمد الى تحقير ولى العهد هذا ليجبره على التنازل عن ولاية العهد لصالح ابن الخليفة الواثق . ولكن مات الواثق فجأة فضاعت آمال ابن الزيات وتولى ولى العهد باسم الخليفة المتوكل سنة 232/847م ، فبادر بقتل غريمه ابن الزيات وتحسين علاقته بالفقهاء الحنابلة ،فاستقبل ابن حنبل وأكرمه وارسل الفقهاء الحنابلة للتبشير بدينهم السنى في الولايات. فصار لهم جيوش من العوام.

2 ـ إنحصر نفوذ المعتزلة فى قصور الخلافة العباسية ولم يصل الى التأثير فى الشارع ، فهناك فجوة ثقافية بينهم وبين العوام وعزّزتها سيطرتهم الفوقية على الخلافة العباسية ، ولكن النفوذ الحنبلى كان مختلفا . بدأت بالخليفة المتوكل سطوة الحنابلة فأصبحوا متحكمين في الدولة وفي الشارع علي السواء ، وتناغم تعصبهم مع طبيعة المتوكل المتعصبة ، لذا عمّ التعصب عصر المتوكل فاضطهد الجميع ، فطرد العرب والفرس من ديوان الجند تعصبا منه للجند الترك ، وتعصبا ضد أهل الكتاب ألزمهم بارتداء زي معين للتحقير ،واضطهد الشيعة وهدم ضريح الحسين فى كربلاء ، وحاكم رواد التصوف فيما يعرف بفتنة سمنون ، بل اضطهد ابنه الأكبر لصالح المعتز ابنه الأصغر لأنه ابن محظيته ( قبيحة )، مما أدى الى أن يقتل الابن الأكبر أباه المتوكل ويتولى بعده باسم المنتصر. (تاريخ الطبري 9/161،ابن الجوزي: المنتظم11/206،283،222،238،265،270).

3 ـ بسيطر الحنابلة علي الشارع اضطهدوا خصومهم المعتزلة. عاش فى هذه الفترة أئمة المعتزلة مثل الجاحظ ت 255  وابى الهذيل العلاف ت 235 وابراهيم بن يسار النظام ت 231 و الجبائى ت 303 . وكان منتظرا أن يكون لهم مدارس وتلاميذ الا ان الاضطهاد أجهز على المعتزلة وأبقى أولئك الأعلام بلا تلاميذ. بل على العكس فان تلميذا للمعتزلة انقلب عليهم ليتواءم مع متطلبات العصر فأضحى اماما. انه ابو الحسن الأشعرى ت 246 . ثم كان القضاء التام على المعتزلة فى خلافة عصر الخليفة العباسى القادر بالله الذى تولى الخلافة عام  381 . وفيه راجت إشاعات الحنابلة عن المعتزلة بحيث أصبح تكفيرهم من أسس الدين السائد. وقد تأثر بهذا المؤرخ الحنبلى الخطيب البغدادى وسجلها فى ترجمته لبشر المريسى  المعتزلى وغيره . كما تأثر بهذا المناخ الخليفة العباسى القادر بالله نفسه . وقد أدرك الخطيب البغدادى خلافة القادر بالله لأن الخطيب مات عام 436 ، ومات الخليفة القادر عام 422 . وقد ترجم له أيضا فى ( تاريخ بغداد ) وقال عنه : ( رأيت القادربالله دفعات ، وكان أبيض حسن الجسم كث اللحية طويلها يخضب. ) ومدحه الخطيب فقال عنه : ( وكان من أهل الستر والديانة وإدامة التهجد بالليل وكثرة البر والصدقات على صفة اشتهرت عنه وعرف بها عند كل أحد مع حسن المذهب وصحة الاعتقاد .) الوصف بحُسن المذهب وصحة الاعتقاد  يعنى عند الخطيب البغدادى : الالتزام بالدين الحنبلى ، وغير ذلك فهو ( البدعة ). وقد كتب القادر بالله يدافع عن مذهبه الحنبلى ، يقول عنه الخطيب: ( وكان صنف كتابًا فيه الأصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث ، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز، أفكار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن . وكان الكتاب يقرأ في كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ويحضر الناس سماعه. ). وكوفىء هذا الخليفة على حنبليته يصناعة حديث يشير الى تزكيته ، ورواه الخطيب : ( لا تهلك هذه الأمة حتى يكون فيها إثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت النبى ، يعيش أحدهما أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة . ) واستمرت خلافته  41 سنة وعشرة اشهر واحدى عشر يوما . ( تاريخ بغداد ج 4 ص 37 : 38 ) .

4 ـ ارهب الحنابلة أئمة الدين السنى نفسه من غير الحنابلة اذا خالفوهم فى الرأى. لقد اختلفوا مع الطبري فى موضوع الاستواء على العرش ـ وقد كان فى نهاية عمره امام المؤرخين والمفسرين فى عهده، وكان أعلم من ابن حنبل نفسه ـ حاصر الحنابلة الامام الطبرى في داره وهو فى شيخوخته ، ولم يرحموا توسله وإعتذاره لهم فهدموا عليه داره فمات  تحت الردم ودفن في داره ،ولم تستطع الدولة العباسية حمايته منهم . (صلاح الدين بن خليل بن ايبك الصفدى: الوافي بالوفيات 2/284.:طـ2تحقيق س0ديدرنغ1981طـ0المانيا).

خروج المعتزلة من حلبة الصراع مبكرا

1 ـ إنغماس المعتزلة فى السياسة وتحكمهم فى الخلافة العباسية أشاع جوا من الكراهية أحاط بهم ، ونشر هذه الكراهية جموع الفقهاء أصحاب الحديث ومن يتبعهم من القُصّاص ووعاظ المساجد الذين تحولت أقاصيصهم وخرافاتهم الى أحاديث فيما بعد. وقد كانوا اصحاب سيطرة على الشارع. زاد ذلك الظلم الذى إشتهر به ابن الزيات وزير الخليفة الواثق ، وقد إصطنع حجرة حديدية لتعذيب خصومه حتى الموت ، مالبث هو أن تعذب فيها حتى الموت .

2 ـ  الواقع أن خروج المعتزلة من حلبة الصراع مع دين السنة كان حتميا ليس لمجرد الأسباب السياسية المشار اليها، ولكن لأنهم لم يخترعوا دينا أرضيا ، أى لم يسندوا آراءهم الى الوحى الالهى بزعم أن الله تعالى قال كذا أو ان النبى محمدا قال كذا. ولذا ظلت آراء المعتزلة حبيسة بين حلقات العلم والفلسفة وبعيدة عن المساجد وعوام الناس ، بينما أتيح للسنة والشيعة والصوفية نشر آرائهم على أنها وحى سماوى قاله الرسول أو قيل منسوبا لله تعالى فى منام أو هاتف. وبالتالى لا بد من الايمان به أو الكفر به وليس هناك موقف وسط ، شأن كل ما يخص الدين.

3 ــ وبينما كان المعتزلة قلة مثقفة فإن الانخراط فى أديان السُّنّة والتشيع والتصوف لا يستلزم مؤهلات علمية ، بل مجرد ترديد لأقاويل وإرتداء لباس معين ــ أحيانا . وهذا شجع العوام على الانخراط فى هذه الأديان الثلاثة مما ضمن لها الانتشار والاستمرار حتى فى ظل الصراع بينها .

4 ـ وبخروج المعتزلة من الساحة بقى الدين السنى يصارع التشيع ثم التصوف معا. وتوارثناها فى عصرنا نحمل أوزارها . كلها تشترك فى تقديس النبى محمد والصحابة (أو بعضهم ) وتقديس الأئمة والقبور ، وكل دين منهم له أئمته وقادته وآلهته وأسفاره المقدسة . أنتهى العصر العباسى ولكن لا يزال أئمته أئمة حتى الآن ، من مالك والشافعى وابن حنبل والبخارى الى جعفر الصادق والغزالى والكلينى ..الخ ..

5 ـ يتقدم العالم من حولنا بيما لا زلنا نقدس هذه الآلهة العباسية .!!

اجمالي القراءات 16294