أثر الكهنوت العباسى فى تأليه الخليفة العباسى فى عصر ضعف الخلفاء العباسيين

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٢٤ - فبراير - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

أثر الكهنوت العباسى فى تأليه الخليفة العباسى فى عصر ضعف الخلفاء العباسيين

كتاب : نشأة  وتطور أديان المسلمين الأرضية

الباب الأول : الأرضية التاريخية  لنشأة وتطور أديان المحمديين الأرضية

الفصل الرابع: تطور أديان المسلمين الأرضية فى العصر العباسى ( 132 ـ 658 هجرية ) (750-1258م )

أثر الكهنوت العباسى فى تأليه الخليفة العباسى فى عصر ضعف الخلفاء العباسيين

تعاظم الكهنوت العباسى فى العصر العباسى الثانى

1 ـ تعرضنا لإعلان أبى جعفر المنصور أنه : (.. سلطان الله في ارضه.. وخازنه علي  فيئه (ماله) أقسمه بارادته وأعطيه بأذنه .) (تاريخ الطبرى 9 / 297 )، وقلنا إنه أول من أعلن مذهب الحاكمية الثيوقراطية ، أو الحكم الالهى المقدس:( The Divine rights of kings) الشائع وقتها فى العصور الوسطى،أو الحاكم الذى يحكم باسم الله تعالى ويستمد سلطته من الله وليس من الناس ، ويكون مسئولا ليس أمام الناس ولكن أمام الله تعالى فقط يوم القيامة.. وذكرنا دوره فى تأسيس هذا الكهنوت السياسى العباسى على أحاديث موضوعة ومنامات أو وحى مزعوم . وبعده تكاثرت هذه الأحاديث التى تؤكد بقاء الخلافة العباسية حتى قيام الساعة ، وصار هذا من معالم ( الدين العباسى ) .

2 ـ  بمرور الزمن تطورت وتسيدت الديانات الأرضية فى العصر العباسى الثانى من تشيع وتصوف ،وتكاثر تأليه الأولياء والأئمة من الصوفية والفقهاء وما سمُّوهم ( آل البيت ). وإذا كان مقبولا تقديس بعض العوام وجعلهم أولياء كما فى دين التصوف فمن المقبول أكثر تقديس الخليفة العباسى .

3 ــ ومن الغريب أن يتعاظم الكهنوت العباسى الدينى مع ضعف الخلفاء العباسيين ، أو أن تقوى ( الخلافة العباسية ) بنفوذها الدينى الكهنوتى ، أو ما يسمى ب ( النفوذ الروحى ) فى الوقت الذى ضعُفت فيه ( الدولة العباسية ) وإنحسر فيه نفوذ الخليفة السياسى والعسكرى. 4 ـ وقع الخلفاء العباسيون تحت سيطرة السلاطين البويهيين الذين سيطروا على الدولة العباسية أكثر من قرن، ( 334 ـ  447 ). ومع أنهم كانوا شيعة حسب المعتقد إلا إنهم إحتاجوا الى النفوذ ( الروحى ) للخلافة العباسية ــ الذى تركز فى العصر وقتها ــ لكى يحكموا بإسمها . إستمر تعاظم هذا النفوذ الكهنوتى العباسى للخلافة العباسية بمرور الزمن ، خصوصا عندما حكم الأتراك السلاجقة الدولة العباسية وأملاكها فى الشرق والشرق الأوسط ، كان السلاجقة سنيين متعصبين ، وخلال أجيال متعاقبة من طغرلبك وملكشاه وسنجر حكم السلاجقة من 1038 الى 1157 أداروا حكمهم بتقليد وتفويض من الخلافة العباسية وكهنوتها الدينى .

5 ــ بإختصار تراجع الكهنوت السياسى العباسى الذى أرساه أبو جعفر المنصور وتعاظم بديلا له الكهنوت الدينى العباسى . ونعطى لذلك مشهدين تاريخيين : فى عهد السلطان البويهى عضد الدولة أقوى سلاطين بنى بويه، وفى عهد السلطان السلجوقى طغرل بك، أقوى سلاطين السلاجقة .

المشهد الأول :

الزمان : عام 369 .

المكان : قصر الخلافة العباسية ( الحضرة )

الأبطال : الخليفة العباسى ( الضعيف ) الطائع لله . السلطان البويهى المتجبّر عضد الدولة البويهى .

شخصيات أخرى : تتبع الخليفة وتتبع عضد الدولة .

الموضوع : عضد الدولة يطلب من الخليفة الطائع أن يزيد فى لقبه وصفا جديدا ليزداد طغيانه ، ويتم منحه هذا الوصف الجديد فى إحتفال كهنوتى عباسى جرى وفق طقوس يتضح منها تأليه الخليفة العباسى وقتها .

المصدر : تاريخ ابن الجوزى ( المنتظم ) ح 14  عام 369 .

ملاحظة : ننقل النّص التاريخى كما هو ، ومطلوب التمعُّن فيه لنتعرف على طقوس عبادة وتأليه الخلافة العباسية وقتها .

يروى ابن الجوزى : ( وسأل عضد الدولة الطائع في مورده الثاني إلى الحضرة ( أى الحضرة العباسية المقدسة ) أن يزيد في لقبه تاج الملة ويجدّد الخلع عليه ويلبسه التاج والحلي المرصع بالجواهر فأجابه إلى ذلك . وجلس الطائع على سرير الخلافة في صدر صحن السلام ، وحوله من خدمه الخواص نحو مائة بالمناطق والسيوف والزينة ، وبين يديه مصحف عثمان وعلى كتفيه البردة وبيده القضيب ، وهو متقلد سيف النبي صلى الله عليه وسلم . وضرب ستارة بعثها عضد الدولة وسأل أن يكون حجابًا للطائع حتى لا  يقع عليه عين أحد من الجند قبله . ودخل الأتراك والديلم ولم يكن مع أحد منهم حديد ، ووقف الأشراف وأصحاب المراتب من الجانبين. فلما وصل عضد الدولة أوذن به الطائع ، فأذن له ، فدخل ، فأمر برفع الستارة ، فقيل لعضد الدولة‏:‏ " قد وقع طرفه عليك فقبل الأرض .! " ، ولم يقبلها أحد ممن معه تسلمًا للرقبة في تقبيل الأرض إليه ، فارتاع زياد من بين القواد لما شاهد وقال بالفارسية‏:‏ " ما هذا أيها الملك ؟  أهذا هو الله عز وجل ؟ " .  فالتفت الى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف وقال له‏:‏ " فهّمه، وقل له‏:‏ هذا خليفة الله في الأرض. "  

ثم استمر يمشي ويقبل الأرض تسع مرات، والتفت الطائع إلى خالص الخادم وقال له‏:‏ " استدنه‏" .‏ فصعد عضد الدولة وقبل الأرض دفعتين. فقال له الطائع‏:‏ " إدنُ إلي ، ادن إلي . " فدنا ، وأكبّ ، وقبّل رجله ، وثنى الطائع يمينه عليه ، وكان بين يديه سريره مما يلي الجانب الأيمن للكرسي ، ولم يجلس. فقال له ثانيًا‏:‏" إجلس ." فأومأ ، ولم يجلس ، فقال له : " أقسمت عليك لتجلسنّ . " فقبّل الكرسي ، وجلس . فقال له الطائع‏:‏ " ما كان أشوقنا إليك وأتوقنا إلى مفاوضتك‏.‏" فقال‏:‏ " عذري معلوم‏.!". فقال‏:‏ " نيّتك موثوق بها وعقيدتك مسكون إليها‏.‏" . وأومأ برأسه ، ثم قال له الطائع‏:‏ " قد رأيت أن أفوض إليك ما وكّل الله تعالى إلي من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها وتدبيرها في جميع جهاتها سوى خاصتي وأسبابي وما وراء بابي ، فتول ذلك مستخيرًا بالله تعالى‏.‏" . فقال له عضد الدولة‏:‏ " يعينني الله عز وجل على طاعة مولانا وخدمته . وأريد المطهر وعبد العزيز ووجوه القواد الذين دخلوا معي أن يسمعوا لفظ أمير المؤمنين‏.‏" ، فأذنوا . وقال الطائع‏:‏ " هاتوا الحسين بن موسى ومحمد بن عمرو بن معروف وابن أم شيبان والزيني . " فقدموا ، فأعاد الطائع لله القول بالتفويض إليه والتعويل عليه.  ثم التفت إلى طريف الخادم فقال‏:‏ " يا طريف ، يُفاضُ عليه الخلع ويُتوّج‏.‏" ، فنهض عضد الدولة إلى الرواق ، فألبس الخلع،  فخرج ، فأومأ ليقبل الأرض، فلم يطق ، فقال له الطائع‏:‏ " حسبك حسبك‏." ، وأمره بالجلوس على الكرسي ، ثم استدعى الطائع تقديم ألويته ، فقدم لواءان. واستخار الطائع لله الله عز وجل وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وعقدهما ثم قال‏:‏ " يُقرأ كتابه‏.‏". فقُرأ . فقال له الطائع‏:‏" خار الله لنا ولك وللمسلمين ، آمرك بما أمرك الله به‏ ، وأنهاك عما نهاك الله عنه ، وأبرأ إلى الله مما سوى ذلك. انهض على اسم الله‏.‏" . وأخذ الطائع سيفًا كان بين المخدتين اللتين تليانه ، فقلده إياه ، مضافًا إلى السيف الذي قلده مع الخلعة. ولما أراد عضد الدولة أن ينصرف قال للطائع‏:‏ " إني أتطير أن أعود على عقبي فأسأل أن يؤمر بفتح هذا الباب لي‏.‏"  فأُذن في ذلك . وشاهد في الحال نحو ثلثمائة صانع قد أعدهم عضد الدولة ، حتى هيئ للفرس مسقال، وركب وسار الجيش وسار في البلد‏.‏).

المشهد الثانى :

الزمان : عام 369 .

المكان : قصر الخلافة العباسية ( الحضرة )

الأبطال :الخليفة العباسى ( الضعيف ) القائم بالله.السلطان السلجوقى المتجبّر:(طغرلبـك )  .

شخصيات أخرى : تتبع الخليفة القائم وتتبع طغرلبك  .

الموضوع :  طغرلبك يطلب من الخليفة القائم تفويضا بالحكم .  ويتم منحه هذا التفويض   فى إحتفال كهنوتى عباسى جرى وفق طقوس يتضح منها تأليه الخليفة العباسى وقتها .

المصدر : تاريخ ابن الجوزى ( المنتظم ) ح 16  عام  449

 ملاحظة : ننقل النّص التاريخى كما هو ، ومطلوب التمعُّن فيه لنتعرف على طقوس تأليه وعبادة الخلافة العباسية وقتها .

يروى ابن الجوزى : ( وفـي هـذه السنـة‏:‏ لقـي السلطـان طغرلبـك الخليفة القائم بالله ، وكان السلطان يسأل في ذلك إلى أن تقـرر كـون هـذا في ذي القعدة. فجلس رئيس الرؤساء في صدر رواق صحن السلام وبين يديه الحجّاب ، ثم استدعى نقيبي العباسيين والعلويين وقاضي القضاة والشهود . فلما تضاحى النهار كتـب إلـى السلطـان طغرلبـك بمـا مضمونـه الإذن عن أمير المؤمنين في الحضور. فأنقذ ذلك مع ابني المأمون الهاشميين ومن خدم الخواص خادمين ومن الحجّاب حاجبين . ولما وُوفق السلطان على ذلـك نزل في الطيار ( سفينة نهرية سريعة ) وكان قد زيّن ، وأنفذ إليه، فانحدر ، ومعه عدة زبازب سميريات ( سفن صغيرة )  وعلى الظهر فيلان ( إثنين من الفيلة ) يسيـران بـإزاء الطيـار . فدخل الدار والأولاد والأمراء والملوك يمشون بين يديه ونحو خمسمائة غلام تُـرك ، فلمـا وصـل إلى باب دهليز صحن السلام ، وقف طويلًا على فرسه حتى فتح له ، ونزل فدخل إلى الصحن ، ومشى وخرج رئيس الرؤساء إلى وسطه ، فتلقاه ، فدخل على أمير المؤمنين وهو على سرير عال من الأرض نحو سبعة أذرع ، عليه قميص وعمامة مصمتان ، وعلى منكبه بـردة النبـي صلـى اللـه وعليـه وسلـم ، وبيـده القطيـب. فحيـن شاهـد السلطـان أميـر المؤمنين قبّل الأرض دفعات . فلما دنا من مجلس الخليفة صعد رئيس الرؤساء إلى سرير لطيف دون ذلك السرير بنحو قامة، وقال له أميـر المؤمنيـن‏:‏ " أصعـد ركـن الديـن إليـك وليكـن معـه محمـد بـن منصـور الكنـدري‏.‏" ، فأصعدهما إليه وتقدم ، وطُرح كرسي جلس عليه ، وقال أمير المؤمنين لرئيس الرؤساء‏:‏ " قل له يا علي‏:‏ أمير المؤمنين حامد لسعيك شاكر لفضلك آنس بقربك زائد الشغف بك . وقـد ولاّك جميع ما ولاه تعالى من بلاده ، ورد إليك فيه مراعاة عبادة ، فاتق الله فيما ولاّك ، واعرف نعمته عليك وعبدك في ذلك ، واجتهد في عمارة البلاد ومصالح العباد ونشر العـدل وكـفّ الظلم‏.‏" . ففسّر له عميد الملك القول ، فقام وقبّل الأرض، وقال‏:‏ " أنا خادم أمير المؤمنين وعبده، ومتصرف على أمره ونهيه ، ومتشرف بما أهلني له واستخدمني فيـه. ومـن اللـه تعالـى استهـداء المعونـة والتوفيق‏.‏" . واستـأذن أميـر المؤمنيـن فـي أن ينهـض ويُحمـل إلـى حيـث تُفـاض الخلـع ( لبس التشريف ) عليـه . فنـزل إلـى بيـت في جانب البهو ، ودخل معه عميد الملك ، فأُلبس الخُلع ، وهي سبع خلع في زي واحد . وتُرك التاج على رأسه . وعاد  ، فجلس بين يدي أمير المؤمنين سيفًا . ورام تقبيل الأرض ، فلم يتمكن لأجل التاج ، وأخـرج أميـر المؤمنيـن سيفـًا من ين يديه فقلّده إياه، وخاطبه بملك المشرق والمغرب . واستدعى ألوية وكانـت ثلاثـة‏:‏ اثنـان خمريـة بكتائـب صفـر وآخـر بكتائب مذهبة سمي لواء الحمد،  فعقد منهم أمير المؤمنين لواء الحمد بيده . وأحضر العهد فقال‏:‏ " يسلم إليه، ويقال له‏:‏ يقرأ عليك عهدنا إليك ويفسر لك لتعمل بموجبه وبمقتضى ما أمرنا به . خار الله لنا ولك وللمسلمين فيما فعلنا وأبرمناه . آمرك بما أمرك الله به وأنهاك عما نهاك الله عنـه ، وهـذا منصـور بـن أحمـد نائبنـا لديـك وصاحبنـا وخليفتنا عندك ووديعتنا ، فاحتفظ به وراعه ، فإنه الثقة السديد والأمين الرشيد وانهض على اسم الله تعالى مصاحبًا محروسًا‏.‏" .وكان من السلطان طغرلبك في كل فصل يُفصّل له من الشكر وتقبيل الأرض ما نمّ عن حُسن طاعتـه وصـادق محبتـه. وسـأل مصافحتـه باليـد الشريفة، فأعطاه أمير المؤمنين يده دفعتين، قبل لبسه الخلـع ، وعند انصرافه من حضرته، وهو يقبّلها ويضعها على عينيه. ودخل جميع من في الدار من الأكابر والأصاغر إلى المكان فشاهدوا تلك الحال .وخرج إلى صحن دار السلام ، فسار والخيل والألوية أمامه . ولما خرجت الألوية رفعت من سطح صحن السلام وحطت على روشن بيت النوبـة ، ومنـه إلـى الطيـار لئـلا تخـرج فـي الأبـواب فتُنكّـس،ومضـى.  وهنـأه عـن الخليفة ، وقال له‏:‏ " إن أمير المؤمنين يأمرك أن تجلس للهناء بما أفاضه عليك من نعمة وولاك من خدمته وحمل إليه خلعة. " فقـام وقبّل الأرض ، وقال‏:‏" قد أهّلني أمير المؤمنين لرتبة يستنفذ شكري ويستعبدني بما بقي من عمـري . " وأتـاه بسـدة مذهبـه وقـال لـه‏:‏ " أمير المؤمنين يأمرك أن تلبس هذا التشريف وتجلس في هذا الدست وتأذن للناس ليشهدوا ما تواتر من إنعامه فيبتهج الولي وينقمع العدو‏.‏")

اجمالي القراءات 7896