أثر الكهنوت العباسى فى بعث دين الزهد

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٢ - فبراير - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

أثر الكهنوت العباسى فى بعث دين الزهد  

كتاب : نشأة  وتطور أديان المسلمين الأرضية

الباب الأول : الأرضية التاريخية  لنشأة وتطور أديان المحمديين الأرضية

الفصل الرابع: تطور أديان المسلمين الأرضية فى العصر العباسى ( 132 ـ 658 هجرية ) (750-1258م )

 أثر الكهنوت العباسى فى بعث دين الزهد  

مقدمة :

1 ـ موقع أبى جعفر المنصور فى الدولة العباسية يشبه عبد الملك بن مروان فى الدولة الأموية. كلاهما كان قبل خلافته من الفقهاء طالبى (علم الحديث ) ثم تغير حاله تماما عندما ولى السلطة . كلاهما قام بتوطيد دولته بالحديد والنار . كلاهما استعمل الغدر ونكث العهود حتى مع أقرب أقاربه؛ عبد الملك قتل غدرا ابن عمه عمرو بن سعيد الأشدق الذى كان ولى عهده لكى يجعل ابنه ولى عهده مكانه، وابو جعفر المنصور مازال بابن عمه عيسى ابن موسى يهدده حتى تنازل مكرها عن ولاية العهد للمهدى ابن الخليفة. كل الخلفاء الأمويين اللاحقين لعبد الملك من ذريته ـ ما عدا آخرهم مروان بن محمد بن مروان ، أو ( مروان الحمار) حسب لقبه المشهورـ بينما كل الخلفاء العباسيين اللاحقين من ذرية أبى جعفر المنصور.

الفارق الهام بينهما هو كهنوتية الدولة العباسية وتخفيها خلف الدين ( الأرضى ) فى كل ما ترتكبه من آثام. لقد مر بنا من قبل أن عبد الملك توعّد من يعظه فقال : ( والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله إلا ضربت عنقه ) وهو هنا يحتكم صراحة الى القوة غير عابىء بالقرآن. إختلف الحال مع أبى جعفر المنصور ، يروى ابن الجوزى إنه  كان يخطب فقال له أحدهم ( إتق الله ) فقال ببساطة : ( مرحبا مرحبا، لقد ذكرت جليلا وخوفت عظيما، وأعوذ بالله ممن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم ، والموعظة منا بدت ، ومن عندنا خرجت  ، وأنت يا قائلها فأحلف بالله ما  الله أردت بها ، وإنما أردت أن يقال : قام فقال فعوقب فصبر..) وعاد الى خطبته كأنما يقرأ من قرطاس ) المنتظم 7 / 341 ) .

2 ـ   فى نهاية الدولة الأموية بلغ الظلم مداه، وكان الهاشميون من أبرز ضحاياه. كان منهم طالب علم يسمى عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس الهاشمى . استضاف عبد الله هذا رفيقا له فى طلب العلم اسمه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى . لم يكن فى بيت عبد الله العباسى الهاشمى طعام يليق بالضيف فاستلقى ثم قرأ الآيةالكريمة :" عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون." فى وقتها كان المثقفون يعيشون فى حلم ظهور المهدى المنتظر الذى سيدمر الظلم الأموى ويقيم العدل طبقا لدعوة سرية نشرت دعاية مركزة عن المهدى المنتظر وأحاديث نبوية كثيرة تنبىء بقرب ظهوره. الذى لم يعرفه  الطالب الضيف عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى أن صديقه الهاشمى المنشغل بطلب العلم هو فى الحقيقة من القادة السريين لتلك الحركة السرية . بعدها بسنوات نجحت الحركة السرية فى تدمير الدولة الأموية وهلل لها المثقفون الحالمون بالعدل ، ثم كانت حسرتهم كبرى اذ تحول الحلم الى كابوس مع تولى أول خليفة عباسى تلقب بالسفاح بسبب ابادته للأموين وكل من ثار عليه. وفوجىء عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى أن رفيقه القديم عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس هو الخليفة العباسى الثانى الذى وطد ـ بالحديد والنار ـ الدولة العباسية ، والذى سمى ابنه المهدى ليحقق نبوءة المهدى المنتظر. انه أبو جعفر المنصور، الذى قتل مئات الألوف فى سبيل توطيد الدولة الجديدة . زاره صديقه القديم ابن أنعم الأفريقى ، قال له الخليفة:" انك كنت تفد لبنى أمية فكيف رأيت سلطانى من سلطانهم ؟ فقال : يا أمير المؤمنين  والله ما رأيت من سلطانهم من الجور والظلم الا رأيته فى سلطانك " وذكّره بالأمنيات القديمة فى الاصلاح وتحقيق العدل والآية الكريمة التى استشهد بها عندما أضافه وهو فقير ثم قال للخليفة: " فقد والله أهلك الله عدوك واستخلفك فى الأرض فانظر ماذا تعمل " فقال له الخليفة : " يا عبد الرحمن انا لا نجد الأعوان" فقال له الفقيه:" يا أمير المؤمنين ، السلطان سوق نافق ، لو نفق عليك الصالحون لجلبوا اليك" يعنى لو كنت صالحا لجمعت حولك الصالحين لأن السلطان الفاسد لا يجمع حوله الا من كان فاسدا مثله. هذه القصة ذكرها ابن الجوزى فى تاريخه ( المنتظم ج 7 ص 339 .). والمستفاد منها أن الفقهاء الذين آمنوا بأكذوبة المهدى المنتظر التى نشرها العباسيون فى إطار دعوتهم السرية ـ ما لبث أن راعهم قسوة العباسيين وظلمهم حين وصلوا للحكم . رأوا أول خليفة عباسى يتلقب بالسفّاح ليبيد خصومه بلا رحمة ، ثم راعهم أكثر أن الخليفة التالى قرن القسوة والظلم بالعلم بصناعة وتأليف الأحاديث ، وأنه أكثر مهارة منهم فى إصطناع الوعظ ، وأنهم لا مجال لهم فى دولته سوى الرقص على نغماته ، وإلا فمصير أبى حنيفة فى إنتظارهم ، وليسوا هم فى قامة أبى حنيفة علما وورعا وجهادا عمليا ضد الأمويين ، ومع ذلك قتله ابو جعفر المنصور لأنه رفض السير فى قطيع فقهاء السلطة . هذا الوضع العباسى نشر دينا أرضيا جديدا قديما هو ( الزهد ) .  ونتعرض له هنا ببعض التفصيل : .

أولا :  عودة دين الزهد

1 ـ  الإسلام لا يعترف بالزهد ، فالقرآن الكريم يدعو للتمتع بالطيبات وينهي عن تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، ومفهوم الزهد لم يكن معروفا في عهد النبي عليه السلام وأصحابه ، إلا أن بيئة الشام والعراق قد عرفت الرهبانية طريقا للتعبير الصامت عن الظلم الروماني والفارسى برفض الدنيا التي احتكرتها الدوائر الحاكمة دونهم.

2 ـ والمثقفون الموالى ربما أملوا خيرا فى الحكم العربى للخلفاء الذين يحملون دينا جديدا ، ولكن ظهر لهم أن الخلفاء أكثر ظلما من الفرس والروم ، وخابت آمالهم أكثر  سريعا بدخول الصحابة فى الفتنة الكبرى والحروب الأهلية، وما نتج عنها من ظهور الخوارج باستحلال القتل العشوائى للمدنيين ، أو ما يعرف الان بالارهاب . ثم كانت القاصمة فى قيام الملك الأموى الاستبدادى يقلد ـ بمزيد من القسوة ـ الحكم البيزنطى الرومى ويتعامل مع أبناء البلاد الأصليين كممتلكات للخليفة . قسوة الأمويين فى معاقبة من يخرج عليهم تعدت كل الحدود بعد ما فعلوه بالحسين وآل بيته ، وما فعلوه بمكة والكعبة والمدينة. وكان ما فعلوه بالثائرين المسلحين من الموالى الفرس والأقباط و البربر أشد قسوة.

3 ـ مع القضاء على ثورات العلويين بدءا من الحسين فى كربلاء 61 الى حفيده زيد بن على زين العابدين 122 ثم ابنه يحيى 125 ، ظهر الفقهاء ــ وفى مقدمتهم الموالى المسلمون من الفرس ــ يحملون راية المطالبة بالعدل ، ولكن استطاع الأمويون قمع تلك الحركات المسلحة التى كان قوامها فقهاء انضموا الى ثورة محمد بن الأشعث التى قضى عليها الحجاج بن يوسف عام 84 فى معركة دير الجماجم ( بسبب أهرامات الجماجم للقتلى وكان معظمهم من الأسرى الثوار )، ثم تلقف راية الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر والظلم الحارث بن سريج وثار فى خراسان فقضت الدولة الأموية عليه وعلى حركته عام 128 هجرية. ومن هنا آثر المثقفون الحالمون من الموالى المسلمين الرجوع الى الزهد بنفس ما كان عليه آباؤهم فى العصر البيزنطى والفارسى.

ثانيا : العباسيون والأمل الضائع أعاد دين الزهد

 1 ــ إلا أن هناك أملا لمع بين دموع المحبطين بظهور أحاديث تبشر بقرب ظهور المهدى المنتظر الذى سيملأ الدنيا عدلا بعد أن إمتلأت جورا وظلما. وقد صيغت تلك الأحاديث بمهارة بارعة تجعل المتشكك يميل لتصديقها ، فكيف بالآمل الحالم.  ووضح بعدها أن للمهدى دعوة سرية تتحرك بثبات فى خراسان تحمل الدعوة الى (الرضى من آل محمد ) بدون تحديد لصاحب الدعوة سوى أنه من آل بيت النبى محمد عليه السلام. بظهور الدعوة و انتشار الأحاديث عن قرب ظهور المهدى انضم الكثيرون للدعوة الجديدة فخرجت فى خراسان الى الدور العلنى المسلح بقيادة (أبو مسلم الخراسانى ) الذى نجح فى تدمير الدولة الأموية سريعا وإقامة الدولة العباسية عام 132 هجرية.

2 ـ ولكن توالت المفاجآت بعدها ، إذ إتضح أن الدعوة ليست لذرية على بن أبى طالب ولكن لبنى عمومتهم العباسيين ، وكانت المفاجأة الكبرى أن أولئك العباسيين أشد قسوة من الأمويين ، وان أول ضحاياهم كانوا من أنصارهم الطامعين فى المشاركة فى السلطة فكان أن قضى عليهم الخليفة أبو جعفر المنصور ، فهو الذى قضى على أبى مسلم الخراسانى ، وهو الذى قضى على الرواندية . وهو الذى حارب أتباع أبى مسلم الخراسانى فى أقاصى الشرق ، وهو الذى عذّب أبناء عمه العلويين لمجرد الاشتباه ،وهو..وهو.. !!. لكنه هو الذى كان يرتكب كل تلك الجرائم بفتاوى دينية يصدرها له أتباعه من كبار الفقهاء لتقطع الطريق على كل من يزايد فى الدين على الخليفة . وحين امتعض ابو حنيفة ورفض أن يفتى له بما يريد قام ابو جعفر المنصور بسجنه وتعذيبه وقتله بالسم.

3 ــ كانت خيبة أمل المثقفين شديدة ، فقد جاء الظلم اشد ، وجاء متوشحا بفتاوى دينية وأحاديث نبوية ، وخليفة يعلن أنه سلطان الله فى أرضه. كانت خيبة أمل المثقفين الورعين في الدولة العباسية هائلة ، وكان التعبير عنها هائلا أيضا، وتمثل في الرفض الكامل ليس للدولة فحسب وإنما للدنيا أيضا التي يئسوا منها فأقاموا لهم دولة بديلة صنعوها من آمالهم المحبطة وأحلامهم التي لم يكن لها أن تحقق إلا في دنيا الخيال والأقاصيص ، واكتفي أولئك بدنياهم تلك ،وجعلوا لهم دينا هو الزهد.

ثالثا : مقاطعة العباسيين أبرز شعائر دين الزهد

1 ـ كان دخول دين الزهد يبدأ بمقاطعة الدولة العباسية ووظائفها ، وكانت الدولة تحتاج إلي أولئك المثقفين الورعين في تولي منصب القضاء فشاع بينهم تحريم تولي منصب القضاء في ظل الخلافة العباسية ، وقد نجحت دعاية الزهاد حتي أن بعض المتورعين من غير الزهاد رفض بإصرار تولي منصب القضاء مثل أبي حنيفة النعمان الذي تحمل اضطهاد أبي جعفر المنصور له . وكان الزهاد أكثرهم صرامة في رفض منصب القضاء خصوصا زعيمهم سفيان الثوري الذي هرب إلي مكة مستجيرا بالحرم من خوفه من الخليفة ، ويروي ابن الجوزي أن سفيان الثوري ظل خائفا من أبي جعفر المنصور حتي حين ذهب الخليفة إلي الحج ومات في طريقه إليه. وقد كان أبو زرعة التجيبي المتوفى 153 هـ من الزهاد ، وقد أمره الوالي العباسي بمصر واسمه أبو عون بأن يتولى القضاء وقال له : إنا معشر الحكام لا يعصينا أحد فمن عصانا قتلناه ، فاستأذنه أبو زرعة ليأتي إلي أهله ، فذهب ثم عاد إلي الوالي وقد لبس أكفانه واستعد للموت وقال للوالي : نحن أولي من سحرة فرعون حين قالوا له : اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا . ولن أتولي لك شيئا ، فعفا عنه الوالي.   وكان عثمان بن طلحة أحد أولئك الزهاد في المدينة ، وقد امتنع عن تولي القضاء بها فهدده الوالي العباسي بالسياط  فأذعن . وحين جاء الخليفة المهدي لزيارة المدينة سنة160 هـ سأله أن يعزله عن القضاء وقال له : والله لو عرفت أن بلد الروم تجيرني ولا تمنعني من الصلاة لاستجرت بهم . فعزله المهدي ، وأراد إعطاءه مرتبه المتأخر وكان يرفض أخذه من قبل ، فتنازل عنه أمام الخليفة.

 2 ــ والذين أكرهتهم الخلافة العباسية علي تولي القضاء تعرضوا لسخط الزهاد ، وكان من أولئك القاضي شريك النخعي ، وقد رآه أبو هاشم الزاهد يخرج من دار يحيي البرمكي فبكي وقال : أعوذ بالله من علم لا ينفع . أي كان شريك النخعي عند أبي هاشم الزاهد قد ضل سواء السبيل لأنه رضي التعاون مع العباسيين.

رابعا : تأسُّس دين الزهد على أقاصيص مفتراة   

1 ـ  وبمقاطعة الزهاد للدولة العباسية (الدولة الظاهرة) يحصل الزاهد علي جواز المرور إلي الدولة (الوهمية) التي ابتدعها خيال الزهاد من أقاصيص لا تتورع عن الكذب . وقد حرصوا علي أن يكونوا وحدهم فيها ذوي شأن ، وادعوا أنهم كانوا أصحاب نفوذ فعليين ثم رفضوا الجاه والسلطان وفضلوا عليه الزهد ، وهي الأسطورة الشائعة عن ( بوذا) نراها تتكرر في مصادر التاريخ في ترجمة إبراهيم بن أدهم(ت160هـ) فيقول فيه ابن الجوزي إنه كان من أولاد السلاطين ولا يعطينا اسم والده السلطان المزعوم ، مع أن اسمه ( إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر العجلي) وليس لذلك صلة بالحكام المعروفين وقتها ، ويحكي عنه نفس القصة المشهورة عن بوذا وهي إنه خرج إلي الصيد مع الغلمان والخدم والفرسان فسمع هاتفا يدعوه للإيمان فخرج عن موكبه وتزهد وأصبح سلطانا في مملكة الزهد الخيالية.

2 ـ  وحكي إبراهيم بن أدهم نفس الأسطورة عن رفيقه في الزهد حميد بن جابر الشامي ( ت151هـ) يحكي إبراهيم بن يسار إنه كان يسير مع إبراهيم بن أدهم في الصحراء فمر علي قبر فوقف عليه إبراهيم وبكي وقال : هذا قبر حميد بن جابر صاحب هذه المدائن كلها، كان غارقا في بحر الدنيا وأخرجه الله منها واستنقذه ، وحكي أنه خرج عن سلطانه حين جاءه هاتف يدعوه للخروج من ذلك الذي سيفني إلي ما يدوم ، فخرج عن سلطانه واعتزل في الجبل حتي مات..!!

3 ـ ويحكي ابن أدهم نفس الحكاية عن صاحبه شقيق البلخي (ت153هـ) إنه كان ذا ثروة عظيمة فخرج عنها وتزهد ،ويصف هذه الثروة بأنها كانت ثلاثمائة قرية وقد تصدق بها جميعا مكتفيا بالزهد. وكأن أولئك الزهاد ـ فى أكاذيبهم وخيالاتهم ـ يقولون للدولة العباسية إننا لا نقل عنكم جاها ولكن تركنا ذلك لأنه جاه مؤقت وفضلنا عليه النعيم الأبدي الذي يستمر في الدنيا والآخرة.  

4 ــ ولأن تلك الأقاصيص تعبر عن آمال المحبطين و المقهورين فقد شاعت وتناقلها القصاصون و صدقها الناس خصوصا العوام لأنها تعبر عن الطموحات المصادرة والآمال المحطمة والرغبة في تعويض النقص ، وتلك مشاعر اشترك فيها الزهاد مع عوام الشعب المقهورين أبدا. وإذا كانت الدوائر العباسية تتيه علي الناس بما تكتنزه من أموال فإن أولئك الزهاد في مملكتهم الوهمية كانوا يحتقرون الأموال ، ويحكون في ذلك أقاصيص تلهب خيال العوام وتفتح شهيتهم للاستماع. يروي إبراهيم بن أدهم عن نفسه أن غلاما جاء من أهل أصحاب السلطان يركب فرسا ومعه بغلة وعشرة آلاف درهم بعث بها أخوته إليه ، فأمره بالرجوع وأنعم عليه بالحرية وأعطاه الأموال وأمره ألا يخبر أحدا بذلك ، ومع أنه لم يخبر أحدا إلا أن القصة شاعت ووصلتنا يحكيها ابن الجوزي مصدقا لها ، ولو حدثت تلك الرواية لكان ذلك الغلام مستحقا لجائزة نوبل في الأمانة ، ولكان لنا أن نعاتب إبراهيم بن أدهم أن حرم رفاقه الجائعين من تلك الأموال.ولكنها التعبير النفسي الصادق عن الحرمان،والحرمان أبرز النوازع النفسية في الزهد .

خامسا : البدء فى سبك الكرامات عن طريق الزُّهّاد

 1 ــ  وبعضهم لجأ إلي ادعاء الكرامات يعبر بها عن رفضه الأموال التي يستطيع أن يحصل عليها بأيسر طريق إلا أنه يرفضها ، ونري ذلك في ترجمة أبي زرعة التجيبي أحد زعماء الزهاد ، يقول أحد أتباعه وهو خالد بن الفرز إنه كان يعاني من شظف العيش فقال له : " يرحمك الله لو دعوت الله يوسع عليك في معيشتك .!"، فالتفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا فأخذ حصاة من الأرض وقال : اللهم اجعلها ذهبا ، فأصبحت ذهبا ، ورمي بها إلي صاحبه مستنكفا منها وأمره أن ينفق منها! .

2 ـ  وتتكرر نفس الأسطورة في ترجمة عبد العزيز الراسبي (ت150هـ) الذي دعا لصاحبه ( دهثم) أن يعطيه الله المال ليستعين به علي عياله ، وسرعان ما استجاب الله دعاءه فتناثر الذهب عليهما ، وتركه الراسبي معرضا عنه ومضي ، ولم يلتفت إليه!! .

3 ـ   ولعب الزهاد بمهارة في قضية الموت والآخرة إذ جعلوا أنفسهم أهل الآخرة في مقابل العباسيين ودولتهم الدنيوية ، وبذلك ضمنوا لأنفسهم التفوق الذي يحتاجون إليه لعلاج عقدة النقص المتحكمة فيهم. وتكفلت الكرامات التي أسندوها لأنفسهم في تأكيد ذلك المعني ، فعلي سبيل المثال قالوا إن رواد العجلي ــ أحد مشاهير الزُّهّاد ــ حين حملوه إلي قبره وجدوا لحده مفروشا بالريحان ، وأخذ القوم من بعض ذلك الريحان فمكث سبعين يوما طريا لا يتغير فافتتن به الناس ، فاضطر الأمير إلي أخذ ذلك الريحان . وانتهت الأسطورة بضياع الريحان من منزل الأمير ، ولم تذكر مصادر التاريخ اسم ذلك الأمير ولا اسم المدينة التي حدثت فيها الواقعة ، وإن ذكرت سنة الوفاة التي مات فيها أبو رواد العجلي وهي (165هـ) ، والواضح أنها إشاعة قيلت بعد وفاته وصدقها الناس وسجلها المؤرخون علي أنها حقيقة تاريخية. 
وبالغت روايات أخري في حكاية موت علي بن صالح والفضل بن عطية وقد توفيا سنة 154هـ .

سادسا : نقد الزهاد لدين العباسيين

1 ـ دين العباسيين الحقيقيى هو عبادة المال ، ولذا فإن بعض الروايات التى إخترعها الزهّاد كانت تحمل انتقادا ضمنيا للدوائر المؤثرة والمحيطين بها الذين يتكالبون علي الأموال ، خصوصا الخليفة أبا جعفر المنصور الذي كان مشهورا بحب المال واكتنازه فتأتي تلك الروايات تؤكد أن الزهاد يترفعون عن ذلك المال الذي يتنازع عليه أبناء الدنيا.

2 ــ علي أن بعض الروايات التي اخترعها الزهاد وذكرتها مصادر التاريخ كانت تنتقد الخليفة المنصور خصوصا عندما بني مدينة بغداد وجعلها أعظم مدينة وبني فيها قصره المعروف باسم قصر الخلد ، وقد ندد به الزهاد شعرا فقال أبو هاشم: 
بنوا وقالوا لا نموت 
وللخراب بني الُمبِنّي 
ما عاقل فيما رأيت 
إلي الحياة بمطمئن 
وحين خربت بعض منشآت العباسيين فيما بعد كتبوا علي جدارها: 
هذي منازل أقوام عهدتم 
في رغد عيش رغيب ماله خطر 
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا 
إلي القبور فلا عين ولا أثر .

سابعا : إخترع المنامات فى دين الزُّهد

1 ـ لم يتحرج الزهاد من حكاية منامات أقدموا فيها علي تزكية أنفسهم وأشياخهم ، وبعضها كانوا يمدحون فيها من مات منهم ، إذ يدعي بعضهم أنه رأي المتوفى بعد موته وهو يصف كيف أصبح منعما في الآخرة ، يقول سليمان العمري رأيت أبا جعفر القاريء في المنام بعد موته فقال لي : اقريء أخواني مني السلام وأخبرهم أن الله تعالي جعلني من الشهداء الأحياء المرزوقين ، واقريء أبا حازم مني السلام وقل له : يقول لك : إن الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات..!! وبعضهم رأي أبا المعتمر التيمي (143هـ) بعد موته في المنام فسأله : ما فعل الله بك فقال : غفر لي وأدناني وقربني وعلمني.

أخيرا :

الخطير هنا أن الزهد بإختراع المنامات ـ أو الوحى الشيطانى الكاذب ـ بالمنامات قد نصب من نفسه دينا أرضيا ، وإن كان دينا أرضيا مُسالما يختلف عن دين السُّنّة الى أسّسته الدولة العباسية من أحاديث وسيرة نبوية مزيفة تستحل الدماء والأموال والأعراض .

الخطير أيضا أن إفتراء المنامات إستشرى فيما بعد وبرز فيه دين التصوف بدءا من القرن الثالث الهجرى ، وما لبث أن تابعهم فيه الشيعة والسنيون . وتاريخ ابن الجوزى ( المنتظم ) يمتلىء بهذه المنامات مع أنه كتاب فى التاريخ ، وقد ملأ كتبه الأخرى بهذه المنامات ومنها كتابه فى مناقب ( ابن حنبل ) . وهذا يؤكّد أن أكاذيب المنامات كانت تحظى بالتصديق شأن الأحاديث المفتراة . 

اجمالي القراءات 8408