كتاب : نشأة وتطور أديان المسلمين الأرضية : فكرة عن الكتاب

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠١ - فبراير - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

 كتاب :   نشأة أديان المسلمين الأرضية

فكرة عن هذا الكتاب :

تمت كتابته عام 2006 ، وتأخر نشره ، وكان بذرة لآبحاث متخصصة تم نشرها فيما بعد مثل ( وعظ السلاطين ) و ( المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين ) و ( الفتنة الكبرى الثانية ) و ( مذبحة كربلاء ) و ( الحنبلية أم الوهابية وتدمير العراق فى العصر العباسى الثانى ) . بالإضافة الى كتاب لم يكتمل عن مسلسل الدم فى عصر الخلفاء وتقسيم العالم الى معسكرين . هذا الكتاب يقدم لمحة عن الأرضية التاريخية التى نبعت فيها الأديان الأرضية المحمدية من سنة وتشيع وتصوف .

وكالعادة فإننا نقدم أبحاثا تمهيدية تدعو الباحثين الجادّين للبناء عليها وتفصيلها .

والله جل وعلا هو المستعان .

أحمد صبحى منصور :

فرجينيا ـ الولايات المتحدة

أول فبراير 2017

 

كتاب :   نشأة أديان المسلمين الأرضية

 

المقدمة:

 

هناك فارق بين المبدأ وتطبيقه ، فمن السهل أن تصدر الأوامر وتوضع الخطط والأفكار ، ولكن تطبيقها يخضع لظروف الزمان والمكان وأهواء الانسان.

يسرى هذا على النظريات والأفكار البشرية ، فالشيوعية مثلا اختلفت رؤاها الفكرية بين لينين وتروتسكى ، واختلفت تطبيقاتها مع الأصول الفكرية لما قاله ماركس ، ثم إختلفت تطبيقاتها فيما بين الصين والاتحاد السوفيتى ويوغوسلافيا ورومانيا .

الديمقراطية فكرتها واحدة ولكن تختلف تطبيقاتها فى دول أوربا وأمريكا. وحتى مصطلح العلمانية ومدى الفصل بين الدين والدولة لا يخلو من اختلاف نظرى وتطبيقى.

هذا على المستوى البشرى الفكرى والعملى التطبيقى. تراه أيضا فى الدين الالهى السماوى وفى الأديان البشرية الأرضية.

تراه فى المسيحية التى تتسم بالحب والتسامح والعفو والمغفرة ، ولكن تحت رايتها تمت الكشوف الجغرافية واسترقاق شعوب وابادة بعضها على يد الاسبان أكثر المسيحيين تمسكا بالمسيحية ، ثم سارت بقية شعوب أوربا المسيحية على نفس الطريق فى استعمار واستعباد وقهروسلب واستغلال  شعوب العالم .

ودفع الثمن فى العصور الحديثة معظم أمم العالم من الهنود الحمر فى أمريكا وشعوب آسيا فى  اندونيسيا والهند والصين والهند الصينية والشعوب المسلمة فى أواسط آسيا الى العرب والأفارقة.  كل العالم تقريبا قامت أوربا المسيحية باستغلاله وقهره خلال ثلاثة قرون انتهت بحربين عالميتين أزهقت حياة الملايين من البشر الأبرياء .هذا عن العصر الحديث ، اما ما سبقه من حروب صليبية وغير صليبية فهو أبشع.

 فى كل ذلك التاريخ الدموى لأوربا المسيحية لم يتهم أحد المسيحية بأنها دين الارهاب والابادة الجماعية ، ولم يجعلها احد مسئولة عما فعله المسيحيون الأوربيون. المسيحية لم تتحمل وزر الاستعمار الأوربى والمذابح الغربية بدءا من استعمال السيف والرمح فى العصر الرومانى الى استعمال القنبلة الذرية فى الحرب العالمية الثانية ،والأسلحة المحرمة دوليا فى فيتنام وما بعد فيتنام.

المسيحية الأوربية كان أساسها العدوان على الآخر وقهره بدءا من الرومان الى الأسبان ثم الأمريكان ثم الصرب والكروات فى عصرنا الحالى . وهذا التطبيق الأوربى للمسيحية يناقض  التطبيق المصرى لها ، فالمسيحية القبطية المصرية تقوم على الصبر على الظلم والاستكانة له دون اللجوء للثورة عليه إلا عندما يبلغ الظلم مداه.

إن التطبيق البشرى لمبادىء المسيحية والاسلام يتشكل تبعا لثقافة كل دولة أو مجتمع ، ولهذا ترى فى المسيحية الأوربية ملامح أوربا ، وترى فى المسيحية المصرية القبطية ملامح الثقافة المصرية الزراعية ، كما يختلف التدين المصرى بالاسلام عن التدين الصحراوى العنيف الذى تجده فى الجزيرة العربية وأفغانستان والجزائر ، كما تجد التدين الايرانى بالاسلام ترديدا للعقائد الفارسية القديمة تحت اسم التشيع.

أى إن ما حدث فى المسيحية من تطبيقات مختلفة حدث مثله مع الاسلام.

الفارق الوحيد هنا أنهم برءوا المسيحية من جرائم إرتكبتها الأكثرية من معتنقى المسيحية ،  وظلت ترتكبها منذ فجر المسيحية الى منتصف القرن العشرين ، من عصر الرومان الى وقت الصرب والأمريكان ، وفى نفس الوقت جعلوا الاسلام هو المسئول عن ارهاب ارتكبته تنظيمات  لا يمكن أن يصل عدد أفرادها بضع مئات الألوف ضمن تعداد للمسلمين يصل الى بليون ونصف البليون من البشر.

هذا الفكر الوهابى هو المسئول عن معظم الجرائم الارهابية ، وقد انتشر بنفوذ الدولة السعودية الراهنة ، ولا يزال يحتمى بسلطانها . هذا الارهاب الوهابى جاء ردا متأخرا على تاريخ لارهاب مستمر مارسه الاستعمار الأوربى المسيحى إمتد قرونا ، كما جاء أيضا نتيجة لاستغلال أمريكى له فى حربها ضد الشيوعية فى أفغانستان. أمريكا المسيحية هى التى تحالفت مع نشطاء هذا الفكر واستغلتهم فى أفغانستان ضد نظامها الشيوعى ، ثم إنقلبوا عليها. اى هو استغلال سياسى لفكر وهابى يناقض الاسلام جملة وتفصيلا . ومع ذلك فقد جعلوا الاسلام هو الذى يتحمل وزر ما فعله وما يفعله الارهابيون ومن يحركهم، حيث يطلق عليهم الغربيون و العلمانيون العرب اسم ( الاسلاميون).

لقد قضيت ثلاثين عاما من عمرى أرد على هذه المقولة الخاطئة منهجيا وعلميا . ولهذا فإن من دواعى سرورى ان أحاول تلخيص جهدى فى العقود الثلاثة الماضية فى هذا الكتاب الذى أرجو أن يكون مدخلا مبسطا لفهم التناقض بين الاسلام والمسلمين عامة وبين الاسلام والفكر السنى الوهابى خصوصا.

منهج الكتاب

ولأن جوهر الكتاب يوضح التناقض بين الاسلام والمسلمين وانعكاسات هذا التناقض فيما يخص حقوق الانسان والعلاقة بالآخر ..الخ  ، فإن المنهج يقتضى توضيح حقائق الاسلام من خلال القرآن الكريم ، ثم السير مع تاريخ المسلمين لتوضيح كيف بدأ الاختلاف ثم التناقض بين مبادىء الاسلام وما فعله المسلمون ، ثم كيف تم تبرير وتسويغ وتشريع أفعال المسلمين بأحاديث وتأويلات للقرآن الكريم تحولت بها مذاهب المسلمين الى أديان أرضية متكاملة لها وحيها المقدس وكتبها المقدسة وأئمتها المقدسون وعقائدها المقدسة .

وكل ذلك يتناقض مع القرآن الكريم ، وهو المصدر الوحيد للاسلام.

إن شريعة القرآن قد سبقت عصرها فى تقرير الحرية والديمقراطية وحقوق المرأة وحقوق المواطنة وحقوق الانسان والتسامح ،فتناقضت مع الثقافة السائدة والمتحكمة فى العصور الوسطى فى الشرق المسلم والغرب المسيحى على السواء حيث سادت بينهما وفى داخلهما الحروب الدينية والمحاكمات الدينية والخرافات الدينية والدول الدينية والصراعات المذهبية. ولذا فقد كان حتما تغيير جوهر الاسلام ليتناسب مع ثقافة العصور الوسطى ، وحدث هذا بتحريف أو تأويل معانى القرآن الكريم واختراع وحى الاهى جديد تحت مسمى الأحاديث المنسوبة للنبى محمد أو لله تعالى أو للأئمة الشيعة أو الصوفية، وبهذا أقام المسلمون لهم بالتزوير أديانا أرضية تتماشى مع المألوف من ثقافة العصور الوسطى وكهنوتها حيث الاستبداد والفساد والاستعباد.

 ولقد تحررت أوربا من ثقافة العصور الوسطى وسارت فى طريق الديمقراطية وحقوق الانسان ، وتأثرت بهذه النهضة الأوربية مصر فى مطلع القرن التاسع عشر فحاولت الاصلاح متبعة خطى الغرب ، ولكن برزت قبل ذلك الدعوة الوهابية التى أقامت الدولة السعودية الأولى فى منتصف القرن الثامن عشر فى صحراء نجد فى الجزيرة العربية.

ووقع الصدام بين مصر الناهضة وتلك الدولة الوهابية التى تريد إرجاع المسلمين الى ثقافة العصور الوسطى بالدم والتدمير والهدم . وأسفر الصراع عن إسقاط  مصر للدولة السعودية الأولى سنة 1818 .وسارت مصر فى طريق نهضتها العلمانية الاصلاحية إلا أن الظروف السياسية والدولية والاقليمية أعاد إقامة الدولة السعودية أخيرا سنة 1932 ، ثم ظهر فيها البترول وتحالفت مع أمريكا ، وبقوة البترول والدولار إنتشرت الوهابية على أنها الاسلام، ودفع الثمن ضحايا بالملايين ، منذ ظهور هذه الدعوة الوهابية الى الآن.ولكن الاسلام هو أكبر ضحية.

وبسبب النفوذ السعودى الوهابى فإن أى مفكر مسلم يتصدى لمناقشة التناقض بين الاسلام والوهابيى مصيره الاضطهاد.

والغريب أن القيم العليا للغرب الآن هى نفسها التى جاءت فى القرآن الكريم .

لقد قالها الامام المصلح محمد عبده حين زار أوربا وعاش فى فرنسا ، فوجد الحضارة الأوربية وقيمها العليا متفقة مع القيم العليا للاسلام ؛ تلك القيم التى أضاعها المسلمون فى تاريخهم وفى ثقافتهم وسلوكياتهم ، فقال محمد عبده كلمته المشهورة : وجدت اسلاما ولم أجد مسلمين. أى أن قيم الاسلام فى الغرب بينما ( المسلمون ) بعيدون عن جوهر الاسلام وقيمه العليا رغم أنهم من حيث الاسم ( مسلمون )

وهى نفس العبارة التى تجول بخاطرى وأنا أعيش لاجئا فى أمريكا متمتعا بحريتى فى الدين والمعتقد بعد اضطهاد دام ربع قرن فى مصر ( كنانة الاسلام ) وبين جنبات الأزهر الذى جعلوه (منارة للاسلام) ، وكان(الاخوان المسلمون) أبرز أعدائى  بسبب آرائى وجهدى فى اصلاح المسلمين سلميا بالاسلام . كل هذا الاضطهاد لى ولغيرى من المختلف معهم فى الفكر أو فى المذهب أو فى الدين يخالف الاسلام وقيمه العليا، وهو يتفق تماما مع دينهم الأرضى وهو الوهابية الحنبلية السنية.

ومنهجيا وعلميا لا بد من التفرقة بين الاسلام وتلك الملة الوهابية التى أفرزت وتفرز معظم الارهاب الموجود على الساحة فى بلاد العرب والغرب على السواء.

يقوم منهج الكتاب على التعرف على الاسلام من خلال فهم للقرآن الكريم ، ثم بحث موضوعى لتاريخ المسلمين فى الجزء الأول من الكتاب. ويتخصص الجزء الثانى فى توضيح التناقض بين الاسلام والمسلمين فى العقائد والتشريعات ، بعد توضيح أسلوب أئمة المسلمين فى تسويغ تشريعاتهم المناقضة للاسلام بوضعها فى صورة أحاديث ونسبتها للنبى محمد عليه السلام وبتغيير مصطلحات القرآن ، وإهمال لتشريعاته وتعطيلها بدعوى النسخ يمعنى الحذف ،

وهناك منهج لفهم القرآن وهناك منهجا لفهم تراث وتاريخ ( المسلمين ) وتشريعاتهم ، ونعطى لمحة سريعة للتوضيح :

هل القرآن الكريم "حمّال أوجه "

المنهج السائد فى الدراسات الأصولية هو فهم القرآن من خلال مصطلحات التراث ورواياته وفتاويه، وبسبب الاختلاف الشديد فى مصطلحات التراث ورواياته وفتاويه وأحاديثه فإن فهم أصحاب هذا المنهج للقرآن يقع فريسة للاختلاف والاضطراب، ومن هنا يبررون هذا الاختلاف بمقولة منسوبة كذباًَ للأمام على بن أبى طالب، وهى أن "القرآن حمَّال أوجه"، وعليه فالباحث الأصولى المتمسك بهذا المنهج ينتقى الرأى الذى يهواه سلفاً، وينتقى له الدلالة من التراث، وينتقى له ما يشاء من الآيات القرآنية ويتجاهل سواها، وهو مطمئن لمقولة أن "القرآن حمَّال أوجه".

ولكن هل القرآن فعلاً "حمَّال أوجه"؟ أى ترى فيه الرأى ونقيضه؟ وترى فيه الاختلاف فى الرأى الواحد؟  وبحيث تنتقى الرأى الذى تختار ويكون لمن يخالفك فى الرأى أن ينتقى هو الآخر من آيات القرآن ما يؤيد وجه نظره؟ وهل فعلاً قال الإمام "على" هذا الكلام عن القرآن؟

إن ما نتصوره عن الإمام على بن أبى طالب وملازمته للنبى محمدعليه السلام يجعلنا ننكر نسبة هذه المقالة له، لأنه لا يمكن له أن يسىء للقرآن بمثل تلك المقالة الخطيرة التى تخالف ما قاله رب العزة جل وعلا عن كتابه العزيز.

لقد جاءت نصوص القرآن الكريم "محكمة " أى دقيقة الدلالة (هود 1).وهو كتاب لا مجال فيه للعوج بل جاء مستقيما مباشرا (الزمر 28).(الكهف 1)( الأنعام 126 ، 153 ).وهو كتاب لا مجال فيه للاختلاف  (النساء 82).

ولكن إذا كان القرآن لا تتناقض آياته ولا تتصادم حقائقه وليس كما يقولون "حمَّال أوجه" فلماذا يتبارزون فى اختلافاتهم بالآيات؟ ولماذا ينتقى كل فريق ما يؤيد وجهة نظره فى مواجهة الفريق الآخر؟

والإجابة تكمن فى المنهج الذى يعتمدونه، وهو فهم القرآن حسب مصطلحات المذهب الذى ينتمى اليه الباحث ووفق تراث مذهبه ورواياته وفتاويه. والمذاهب الأخرى لها مصطلحاتها التراثية ورواياتها وفتاويها، وبالتالى تختار من الآيات ما تراه يتمشى مع مذهبهم، ويغطون عورة هذا الاختلاف بمقولة أن القرآن حمَّال أوجه ويستسهلون اتهام القرآن بهذه التهمة.

المنهج العلمى لفهم القرآن الكريم

إذن، فما هو المنهج العلمى الذى نفهم به القرآن ونتأكد به من أن القرآن فعلاً لا مجال فيه للتناقض والاختلاف؟

أن المنهج العلمى يفرض على الباحث ألا يبدأ بحثه بأحكام مسبقة، وإذا كان يبحث فى كتاب ما فإن عليه أن يلتزم بمصطلحات هذا الكتاب ومفاهيمه، لأن المفاهيم التى يعتمدها المؤلف فى كتابه تكون بمثابة عقد بين المؤلف والقارئ أو الباحث، فإذا التزم القارئ أو الباحث بتلك المفاهيم والمصطلحات التى يقوم على أساسها نسق الكتاب أمكن للقارئ أو الباحث بسهولة، أن يستوعب كل حقائق الكتاب المبحوث. وهذه هى أصول المنهج العلمى التى نراعيها فى بحث المصادر والكتب البشرية. وهى نفسها أصول المنهج العلمى التى يطالبنا رب العزة باتباعها فى تدبرنا للقرآن.

أن الله تعالى يأمرنا فى القرآن بالتدبر لآياته (محمد 24) ( النساء 82) ( المؤمنون 68)والمنهج العلمى للتدبر يكمن فى بنية الكلمة نفسها. فالتدبر يعنى أن تكون فى دبر الآية، أو خلفها، أى أن تكون الآية القرآنية أمامك (بفتح الهمزة) وأن تكون إمامك (بكسر الهمزة) والمعنى أن تبدأ بآيات القرآن، وليس بفكرة مسبقة، وأن تتبع كل الآيات فى الموضوع المراد بحثه فى القرآن، و أن يخلو ذهنك تماماً من كل أحكام ومفاهيم أخرى خارج القرآن، طالما تريد أن تتعرف على الرأى القرآنى المجرد ومخلصاً. وحينئذ ستجد أمامك كل الآيات المحكمة والآيات المتشابهة تقول نفس الرأى وتؤكد نفس الحقيقة، غاية ما هناك أن الآيات المحكمة تؤكدها بإيجاز وصرامة، أما الآيات المتشابهة فهى تعطى تفصيلات تؤكد عليه الآيات المحكمة. وفى النهاية تجد كل الآيات المحكمة والمتشابهة تؤكد نفس المعنى وتؤكد لك أيضاً أن القرآن الكريم كتاب أحكم الله تعالى آياته بعد أن فصلها على علم وحكمة. ( الأعراف 52 ) سبحانه جل وعلا.

وعليه، فإن اتبع الباحث المنهج التراثى فى فهم القرآن فسيقع فى الانتقاء والابتعاد عن حقائق القرآن، والتناقض مع القرآن ومع المنهج العلمى أيضاً. ولن يضيف إلا المزيد من الشقاق والاختلاف الذى عرفته المذاهب والفرق "الإسلامية".

أما إذا اتبع المنهج العلمى القرآنى وقام بفهم القرآن من خلال القرآن نفسه، واتجه لكتاب الله تعالى طالباً الحق والهداية دون رأى مسبق وبتصميم على أن يعرف الحقيقة مهما خالفت الشائع بين الناس، فإن من اليسير عليه أن يعرف رأى القرآن، وسيفاجأ بأن مفاهيم القرآن ومصطلحاته تخالف بل وتتناقض أحياناً مع مفاهيم التراث ومصطلحاته، وأنه من الظلم للقرآن والمنهج العلمى أيضاً أن تقرأ القرآن وتفهمه بمفاهيم ومصطلحات تخالف وتناقض مفاهيم القرآن ومصطلحاته.

وقد إتبعت هذا المنهج العلمى والموضوعى خلال ثلاثين عاما فى البحث القرآنى والتراثى فى الاسلاميات . وعليه يقوم هذا الكتاب.

ونعطى نماذج سريعة للاختلاف والتناقض بيم مفاهيم القرآن ومفاهيم التراث :

1- الدين فى مفهوم القرآن يعنى الطريق، والسبيل، والصراط، والطريق قد يكون مستقيماً وقد يكون معوجاً. وقد يكون الدين أو الطريق معنوياً، أى العلاقة بالله تعالى. وقد يكون الدين أو الطريق حسياً مادياً كقوله تعالى عن أهل المدينة فى عصر النبى يعلمهم فن القتال ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة 122) فالآية تتحدث عن النفرة للقتال، وضرورة إرسال فرقة استطلاع تتعرف على الدين أو الطريق ثم تنذر الناس وتحذرهم. ومن الخبل أن نفهمها على أن يترك المؤمنون رسول الله عليه السلام فى المدينة ثم يذهبوا للتعليم خارج المدينة، وهى موطن العلم بالإسلام، وغيرها مواطن الشرك فى ذلك الوقت.

2- ولكن مصطلحات التراث جعلت التفقه قصراً على العلم بالشرع، مع أن مفهوم التفقه فى القرآن يعنى العلم والبحث العقلى والمادى فى كل شىء.

3- والسنة فى اللغة العربية تعنى الشرع، تقول "سن قانوناً" أى شرع قانوناً. وفى القرآن تأتى فى التشريع بمعنى الشرع حتى فيما يخص النبى (الأحزاب 38) وتكون حينئذ منسوبة لله تعالى، أما النبى فهو صاحب القدوة والأسوة (الأحزاب 21) فالسنة لله تعالى، ولنا فى النبى أسوة حسنة، وتأتى السنة منسوبة لله تعالى أيضاً فيما يخص تعامله جل وعلا مع المشركين، وتكون هنا بمعنى المنهاج والطريقة (الأحزاب 62، فاطر 43، الفتح 23) ولكن السنة فى التراث تعنى شيئاً مختلفاً سياسياً ومذهباً فقهياً. والحديث فيها يطول.

4- و"الصحابة" فى التراث هم أصحاب النبى وأصدقاؤه ممن أسلموا. ولكن فى مفهوم القرآن فالصاحب هو الذى يصحب فى الزمان والمكان، وذلك تكرر فى القرآن وصف النبى عليه السلام بأنه صاحب المشركين (النجم 2، سبأ 46، التكوير 22).

5- والنسخ فى القرآن يعنى الإثبات والكتابة والتدوين، ويعنى فى التراث العكس تماماً، أى الإلغاء.

6- ومفهوم الحكم فى القرآن يعنى التحاكم القضائى، وليس مقصوداً به على الإطلاق ما يتردد فى التراث من أنه الحكم السياسى أو الحاكمية.

7- وكذلك الحال مع "أولوا الأمر"، فالمقصود بهم فى القرآن هم أصحاب الشأن وأصحاب الخبرة والاختصاص فى الموضوع المطروح (النساء 59، 83) وليس المقصود هم الحكام كما يتردد فى التراث.

8- و"الحدود" فى القرآن تعنى الشرع والحق، ولا تعنى العقوبات.

9- و"المكروه" فى مفهوم القرآن هو أفظع المحرمات وأكبر الكبائر كالقتل والزنا والكفر والفسوق (الإسراء 38، الحجرات 7) ولكن المكروه فى الفقه التراثى هو الحلال الذى يفضل الابتعاد عنه.

10- وكذلك المستحب أو المندوب فى التراث يعنى الحلال المباح، ولكن المستحب فى مفهوم القرآن هو الفرض الواجب (الحجرات).

11- والتعزير عند الفقهاء هو الإهانة والعقوبة، ولكن التعزير فى القرآن يعنى التكريم والتمجيد والتقديس والإعزاز والنصرة لله تعالى ورسوله (المائدة 12، الأعراف 157، الفتح 9).

والأمثلة كثيرة أهمها على الاطلاق تناقض القرآن مع تراث الفكر السنى فى مفاهيم الاسلام والايمان والشرك والكفر وما يخص المسيحيين واليهود والمكرأة والشورى وحقوق الانسان الخ.... وسنتعرض لها فى تفصيلات الكتاب ضمن مظاهرأخرى فى تحريف وتشويه معانى القرآن مثل تجاهل مناهج القرآن الكريم فى القصص وفى التشريع ، وتأسيس تشريعات أرضية مناقضة تعتمد على وحى كاذب منسوب لله تعالى وللرسول محمد تحت إسم الحديث النبوى والحديث القدسى والسنة النبوية، وكلها أساس الدين الوهابى الذى أفرز أسامة بن لادن والظواهرى وعمر عبد الرحمن والزرقاوى وغيرهم..

 

المشكلة المنهجية فى بحث التراث

 

1 ـ أهم مشكلة منهجية فى الدراسات الاسلامية هى التعامل مع المصادر.

أغلبية الباحثين يخلط بين الحقائق القرآنية المطلقة وبين روايات التراث وأحاديثه التى كانت تسميتها الأصلية : أخبار وروايات.

هذه التسمية هى فصل الخطاب فى موضوعنا.

فى عصر الازدهار العلمى لحضارة المسلمين كان علماء الحديث يطلقون على تلك الأحاديث المنسوبة للنبى محمد مصطلح ( الخبر) والخبر عندهم هو الذى يحتمل الصدق والكذب، ولأن الأصل فيه الشك وليس اليقين فقد كانوا يجعلون له اسنادا عبر أجيال من الرواة ليحاول أن يؤكد صحته، فيقولون : رواه فلان عن فلان عن فلان ..الى أن يقول الراوى الأخير أنه سمع  النبى محمدا يقول كذا.. وهذا الاسناد لا يعطى ذلك الحديث صفة اليقين لأن هناك مطاعن ضد الرواة واختلافات فى مدى صدقيتهم وحفظهم وأمانتهم فى النقل. ولا يوجد اتفاق عام بين علماء الحديث المنسوب للنبى على أن هذا الراوى صادق ثقة أو كاذب ، لأنها أحكام تتعلق بالظاهر والرؤى الشخصية والاعتبارات المذهبية ، فعلماء كل مذهب يصدقون رواتهم ويتهمون رواة المذاهب الأخرى بالكذب . وبسبب تللك الأحكام المتناقضة فى توثيق راو معين أو فى تكذيبه كان علماء الحديث يقولون ان تلك الأحاديث تفيد الظنّ ولا تفيد اليقين. أى مجرد أخبار تحتمل الصدق والكذب ، وبالتالى ليست جزءا من الدين لأن الدين لا بد أن يكون يقينيا من عند الله تعالى ، وهذا اليقين لا يتأتى الا فى القرآن فقط . وقد قالوا ايضا ان العقائد أوالسمعيات  لا تؤخذ الا من القرآن لأنها تدخل ضمن الايمان ولا بد للايمان أن يكون مصدره يقينيا.

وفى عصر الازدهار الفكرى بعد موت النبى محمد بقرنين وأكثر ـ اى فى العصر العباسى  الأول ـ عاش أئمة الحديث والفقه. لم يكونوا يقولون مباشرة ( قال رسول الله ) وانما يقولون ( روى فلان عن فلان عن ..  ان رسول الله قال .. ) أى يؤكدون انها رواية بشرية وليست قولا مباشرا مؤكدا قاله النبى بنفسه لمن كتب ذلك الحديث. وبعضهم كان يختصر فيقول بطريقة المبنى للمجهول  ( روى أن رسول الله قال ..) هو يؤكد نفس المعنى من أنها مجرد رواية متناقلة عبر رواة متعددين مختلفين فى الزمان والمكان.

 وفى عصر التقليد والجمود بدءا من القرن السابع الهجرى عكف اللاحقون على كتب السابقين يشرحونها ويلخصون الشرح ويجعلونه مختصرا موجزا ثم يحولون المختصر الى متن ثم يعيدون شرح المتن. وبذلك تقهقرت الحركة العلمية من تقليد الى جمود الى تأخر ، وذلك من بداية العصر المملوكى الى أواخرالعصر العثمانى تقريبا ( 1250 ـ 1850 ) وبالتالى تحولت كتب العلماء السابقين الى أسفار مقدسة ـ مع اختلافها والشقاق بين مؤلفيها ـ وتحول أولئك الأئمة الى أنصاف آلهة لا يجوز الاعتراض عليهم أو مناقشة آرائهم. والأهم من ذلك أن روايات الأخبار عن النبى أصبحت بالتقليد الأعمى وغيبة العقل والنقد جزءا أساسيا من الدين . وأصبح لا يقال ( روى فلان عن فلان عن أن رسول الله قال ) بل يقال على وجه التأكيد ومباشرة ( قال رسول الله ).

ثم جاء عصر الصحوة التى بدأها الامام محمد عبده ( 1849 ـ 1905 ) وحملها فى رحلاته الى تونس والجزائر وغيرها ، واقترنت هذه الصحوة الدينية بتوجهات سياسية وفكرية ليبرالية فى مصر وغيرها ، وكان مأمولا أن تثمر هذه الحركة نهضة اصلاحية تعيد الاسلام الى المسلمين وتعيد المسلمين الى الاسلام لولا ظهور الدولة السعودية بفكرها الوهابى الذى استرجع أردأ انواع الفكر السلفى وأشده تعصبا وتخلفا وجمودا وظلامية. وقام قطار النفط بنشر الوهابية على أنها الاسلام ، وأيدته ظروف محلية واقليمية ودولية فانتشر وساد ، واسفر فى النهاية عن اتهام الاسلام بالارهاب والتخلف والجمود. وهذا ما نعانيه الآن وما يستوجب الاصلاح.

ومن ملامح هذا التخلف الوهابى المسيطر أنه أعاد منهج العصر العثمانى فى التفكير، وهو العصر الذى عاش فيه محمد بن عبد الوهاب، فلم يعد يقال : روى فلان عن فلان عن   أن رسول الله قال ، بل أصبح أحدهم يقول بجرأة : قال رسول الله، كما لو كان جالسا مع النبى للتو واللحظة .. ولم يعد يقال انها " اخبار " أو انه (خبر ) عن النبى يحتمل الصدق والكذب  ، بل أصبح يعرف بأنه حديث تحدث به النبى على وجه اليقين فأصبح جزءا من الدين.

تلك الأحاديث ليست جزءا من الاسلام، فالاسلام هو القرآن فقط.

تلك الأحاديث تعبر فقط عن ثقافة المسلمين فى العصر الذى تمت كتابتها فيه، وتعبر عن ثقافة مؤلفها ، فصحيح البخارى يعبر عن عقلية البخارى بمثل ما يعبر كتابى هذا عن ثقافتى وعصرى وعقليتى. وفى النهاية فهو جهد بشرى وتراث بشرى وتاريخ بشرى ودين صنعه البشر ونسبوه كذبا لله تعالى  وليس جزءا من الدين السماوى بل هو يناقض الدين السماوى الذى إكتمل بالقرآن الكريم

2 ـ بناء على هذه البلوى فاننا نعانى من خلط مستمر فى المنهج بين حقائق القرآن وأقاويل التراث المنسوبة للنبى. فالعلماء التقليديون ومن سار على نهجهم من محترفى الكتابة فى الدين ـ بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير ـ يخلطون بين حقائق القرآن وأكاذيب التراث وأقاويله، يخلطون بين الحقيقة القرآنية المطلقة وأخبار التراث التى ـ ان صدقت ـ فالصدق فيها احتمال كما أن الكذب فيها احتمال آخر ، وكلاهما وارد.

والأسوأ  أنهم ألحقوا التاريخ بالأحاديث، مع أن كل دارس للتاريخ لا بد ان يبدأ بمنهجية الأحكام النسبية لكل روايات التاريخ ووقائعه، سواء كانت اقوالا أو كانت أحداثا بسيطة أو مركبة ، وسواء كان الراوى أو المؤرخ معاصرا للحدث ناقلا عنه من واقع المشاهدة والرؤية العيانية أو كان ناقلا عن السابقين من المؤرخين .

تتضح البلوى أكثر لدى من يكتب فى الاسلاميات بدون علم ، أو بمجرد الهواية والجرأة الهائلة على الابحار فى هذا المحيط دون استعداد عقلى وثقافة ومعرفة وعلم بالمناهج البحثية.  وأساس الجهل عندهم هو ذلك الخلط بين حقائق القرآن المطلقة وأخبار التراث ، ورفعهم أخبار التراث الى مستوى حقائق الاسلام القرآنية.

 

3 ـ  لنا أن نأخذ من هذا التراث البشرى والتاريخ البشرى ما يعبر عن عقلية أصحابه وظروف عصرهم.

وهذا الأخذ والرد والقبول والرفض ليس عشوائيا أو انتقائيا أو بمجرد الهوى او بدافع التحامل أو الجهل . بل له منهج علمى فى البحث، وقد شرحته بالتفصيل فى كتبى التى كانت مقررة فى جامعة الأزهر قسم التاريخ والحضارة الاسلامية ، ومنها كتب :( البحث فىمصادر التاريخ الدينى) ( اسس البحث التاريخى ) ، و(التاريخ والمؤرخون : دراسة فى تاريخ علم التاريخ) ( والتاريخ والمؤرخون : دراسة فى المادة التاريخية ).

هناك منهج يستطيع به الباحث قبول رواية تاريخية ورفض أخرى ، يستطيع به فحص الروايات اذا كانت متشابهة أو متعارضة أو متداخلة، ومنهج يستطيع به فحص الرواة والمؤرخين ومدى مصداقية أحدهم اذا كان ناقلا عن الغير أو ناقلا بنفسه عن عصره .. والحديث يطول فى منهجية البحث التاريخى وطبيعة المادة التاريخية ومناهج المؤرخين السابقين ومصطلحاتهم.. وفى النهاية فان مصداقية الباحث التاريخى والتراثى ترتبط بمدى كفاءته العلمية ومدى حياده ونزاهته وأمانته فى النقل والنقد . وفى النهاية أيضا فان ما يتوصل اليه الباحث من بحثه التاريخى ( فى تلك الأخبار التراثية والتاريخية التى تحتمل الصدق والكذب ) ليس سوى وجهة نظر شخصية ، وليس أبدا حقائق مطلقة، لأن الحقائق المطلقة لا توجد الا فى القرآن الحكيم وحده. ما نستنبطه من القرآن الكريم وما نختاره من ( اخبار ) التراث والتاريخ هو عمل بشرى غير معصوم من الخطأ ، تكون جودته بقدر ما فيه من جهد عقلى وابداع بحثى واستدلال علمى .و لأنه عمل بشرى فانه يحمل اسم المؤلف، سواء كان المؤلف هو البخارى ( الامام المقدس للسنيين ) او أى فلان من الناس.

أما القرآن العظيم فليس له مؤلف من الناس .أنه كتاب رب العالمين جل وعلا ، لذا فلا يصح مساواته بكتب البشر.

والله تعالى المستعان..

الشيخ .د: أحمد صبحى منصور

فرجينيا ـ الولايات المتحدة الأمريكية

يولية 2006

اجمالي القراءات 11943