القرآن الكريم لغة الحياة ،وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول:صدق الله العظيم ":( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ )(الحديد16 ) أولا :
1 ـ شهد عام عام 349 وفاة جعفر بن حرب . هو شخص ضمن ملايين الأسماء المغمورة فى التاريخ ، ولكن خبره غريب . جعفر بن حرب هذا كان ضمن أعوان معز الدولة البويهى يتقلد الأعمال الكبار فى خدمته ، وكان له نفوذ وسلطة توازى سلطة الوزراء . لكن كانت فى داخله بذرة خير تنتظر اللحظة الحاسمة للتوبة . وجاءت اللحظة تلك حين كان جعفر بن حرب يسير ( راكبا فى موكب له عظيم ونعمته على غاية الوفورومنزلته بحالها في نهاية الجلالة فسمع رجلًا يقرأ ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ )، فصاح: اللهم بلى . وظل يكررهادفعات ، وبكى ، ثم نزل عن دابته ونزع ثيابه ودخل إلى دجلة واستتر بالماء ولم يخرج منهحتى فرق جميع ما له في المظالم التي كانت عليه وردها وتصدق بالباقي ، فاجتاز رجل فرآهفي الماء قائمًا وسمع بخبره فوهب له قميصًا ومئزرًا فاستتر بهما وخرج وانقطع إلىالعلم والعبادة حتى مات. فى عام 349.) هذا ما جاء فى سيرته التى كتبها المؤرخ ابن الجوزى فى ( المنتظم ج 14 وفيات 349 ).
2 ـ المؤمن صاحب الاستعداد للهداية يكون مرشحا للتوبة الحقيقية لو وقع فى محنة ، وبالتوبة يتحرر من غفلته ، ويبدأ عهدا جديدا من التقوى . وقد يبدو غريبا هذا الخبر عن التوبة الفجائية لجعفر بن حرب ،الذى تطرّف فى توبته الى درجة خروجه عن كل وظائفه ونفوذه وماله ( وحتى ثيابه ) مرة واحدة ، ثم يتفرّغ للعلم والعبادة . وربما يدخل الشّك فى الرواية لأنها تتكرر فى سيرة الزهاد والصوفية ، وهى تعزف على نفس الوتيرة ، أى ذلك الشاب الغنى المترف الذى يتوب فجأة ويتنازل عن كل ماله وجاهه ويتعبّد ، قيل مثل هذا عن ( بوذا ) وعن ( ابراهيم بن أدهم ) . ولكن صاحبنا جعفر بن حرب لم يتحول الى شيخ صوفى ، بل أنتقل من الشهرة والجاه والصيت الى غياهب التاريخ ، فلم يعد يسمع أحد عنه شيئا ، أى إنه فعلا إعتزل الناس ، وظل نسيا منسيا الى أن مات . ليس مثل أولئك الذين كانوا نسيا منسيا ثم زعموا الولاية وزعموا أنهم كانوا أبناء ملوك فاشتهروا ولم يكونوا قبلها شيئا مذكورا . نحن لا نعرف من هو ذلك الملك الذى كان والدا لاباهيم بن أدهم . ولكن صدّق الجميع زعمه بأنه كان ابن ملك من الملوك ، واكتسب شهرة الولاية وحيكت حوله الكرامات وكتبوا فى سيرته المناقب بعدها . أى جاء ابراهيم بن أدهم من دائرة الخمول الى ساحة الأضواء ، كان نكرة فأصبح شهرة . وعلى العكس منه صاحبنا جعفر بن حرب الذى كان فى شهرته وجهه وثروته ثم تنازل عن هذا كله حين سمع قوله جل وعلا : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ ) فارتعش جسده وصحا ضميره واستيقظ قلبه فتاب ودخل بمشيئته الى دنيا النسيان ، الى أن مات.
ثانيا
وربما كانت هناك إرهاصات يسّرت لجعفر بن حرب طريق التوبة . فقد كان يخدم السلطان معز الدولة البويهى المسيطر على الخلافة العباسية وصاحب الأمر والنهى فى العراق وشرق العراق فى ذلك الوقت . نقول ربما إتعظ جعفر بن حرب بما كان يحدث لسيده السلطان معزّ الدولة . وهذا السلطان أيضا إضطره المرض الممّض المؤلم للتوبة متأخّرا . وشهد جعفر بن حرب طرفا من مرض السلطان ومعاناته ، وأدرك أن كل ( عزّ ) وجاه السلطان ( عزّ الدولة ) لم ينجه من عذاب المرض ...وربما وهو يعايش معاناة سلطانه تاب وأناب حين سمع القارىء يتلو قوله جل وعلا (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ). ونتتبع أخبار مرض السلطان عزّ الدولة ضمن الأحداث التاريخية التى رصدها المؤرخ ابن الجوزى فى تاريخ ( المنتظم ) فى الجزء 14صفحات 94 ، 126 ، 132 ، 182 .
1 ـ فى عام 343 شهر ذي الحجة: ( عرض لمعز الدولة مرض وهو الإيقاظ الدائم فأرجف به فاضطربت بغداداضطرابًا شديدًا واضطر إلى الركوب مع علته حتى رآه الناس فسكنوا.). أى أصابه أرق من المرض ، ووصلت أخبار المرض الى الناس فاضطربت بغداد لأن مرض السلطان وقرب منيته تعنى التنازع على السلطة وقيام الفتن ، لذا تحامل عزّ الدولة على آلامه وسار فى موكب حتى يطمئن الناس . وظل معزّ الدولة يكتم آلامه ومرضه ، واشتهر مرضه فى منتصف شوال عام 349 ، إذ أصبح يعانى من حصوات الكلى ويتبول دما ، يقول ابن الجوزى ( وفي نصف شوال: عرضت لمعز الدولة علة في الكلى فبال الدم وقلق منها قلقًا شديدًاثم بال بعد ذلك الرمل ثم الحصى الصغار والرطوبة التي ينعقد منها الرمل والحصى )
2 ـ وفى العام التالى 350 إشتد عليه المرض ، ووصف ابن الجوزى أعراض المرض بدقة : يقول : ( ثم دخلت سنة خمسين وثلثمائة، فمن الحوادث فيها أنه اشتدت علة معز الدولة ليلة السبت لأربع خلونمن المحرم وامتنع عليه البول كله واشتد قلقه وجزعه ثم بال على ساعة باقية من الليلدمًا بشدة ثم تبعه البول وخرج مع البول رمل كثير وحصى صغار وخف الألم ) . وبعد أن خفّ الألم خرج السلطان للنزهة ، وقام ببعض الاصلاحات وإرتكب بعض المظالم والمصادرات كى يوقع المهابة ـ كعادة المستبد . ثم إشتدت به علته وخرج الأمر عن طاقة إحتماله فظل يعانى حتى مات عام 356 .
3 ـ لكنه قبيل موته تاب وأناب . إذ تملكته الأمراض ، فبالاضافة الى حصوات الكلى أصبح لا يثبت فى معدته طعام ، وأصبح لا يقوى على القيام ، فعهد إلى ابنه بختيار . وعند الاحتضار أمر أن يحملوه إلى بيت الذهب واستحضر بعض العلماء فتاب على يده فلما حضر وقتالصلاة خرج ذلك الرجل إلى مسجد ليصلي فيه فقال له معز الدولة: لم لا تصلي ها هنا؟ فقال: إن الصلاة في هذه الدار لا تصح.وبعد سؤال وجواب مع هذا العالم قال معزّ الدولة : ما علمت بهذا. وتصدق بأكثر ماله وأعتقممالكيه ورد كثيرًا من المظالم وبكى حتى غشي عليه.ومات لأربعساعات قد مضين من ليلة الثلاثاء سابع عشر ربيع الآخر سنة ست وخمسين وثلثمائة .وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهرًا وعمره ثلاث وخمسونسنة .
الخاتمة : خاتمة كل إنسان هى الموت ..هذه حقيقة لا يسع الجميع إلّا التسليم بها ، ولكن لا يسع الجميع العمل بمقتضاها . لا يهمنا كثيرا هناالشخص العادى الذى لا يؤثر كثيرافى حياة الآخرين . المهم لدينا هنا هو الحاكم المستبد المتحكّم فى الناس ، والذى يتمنى الناس الخلاص منه بالموت ، والذى لا يحب الموت ويحاول الفرار منه ويتجاهل الحديث عنه . هذا المستبد يضحى بأقرب الناس اليه ليظل فى عرشه ، ويظل يظلم مدافعا عن عرشه الى أن يموت بالمرض أو بالقتل . يفقد كل شىء ، ويعود الى تراب .. وعند الاحتضار يتمنى لو كان ممن سمع الحق وأطاع الحق . ربما يقرأون له وهو على فراش الاحتضار قوله جلّ وعلا : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ )، فيتمنى أن يعود للحياة ويأخذ فرصة أخرى ليتوب ...ولكن ..فات الميعاد . ! يقول جلّ وعلا : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) ( المؤمنون ) ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) ( المنافقون ).
ودائما ..صدق الله العظيم .!!