عادت إلي جنية بني عبس التي حدثتكم عنها ليلة أمس، فاستأذنت فسلمت فقالت: جئتك من جنة محاطة بسور أشد صلابة من جدار الصين، جئتك بنبأ يقين: بداية المؤمن ظلمة حالكة، وبداية الكافرأنوار مشرقة ؟
قلت :مثل ما ذكرت كمثل أم كريمة أوقدت ناراعظيمة، فلما أضاءت ما حولها بصُر بها ـ عن بعد ـ فتيان من شيعتها، فسعى أحدهما صوبها يريد الدفء والنور، وذهب الآخر في الاتجاه المعاكس فأوغل في شعاب البرد والظلمات، فمنطلق الفتيين ـ كما ترين ـ واحد، وهو معتم مظلم عند مقارنته بأنوار القرب، ومنير مشرق حين يقارن بظلمات البعد.
اقرئي مجددا وعلى مهل : (( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)) سورة البقرة ـ 2 ـ
قالت: عد بنا مشكورا لصدر السورة لأسألك عن أمر عُجاب: ضُرب مثل لأقوام فعرفنا أنهم: ((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)) ثم ضُرب لهم مثل آخر يُفهم منه أنهم يسمعون ويبصرون.
قلت: الناس ثلاثة أصناف لا رابع لها: مؤمن فقير، وكافر مستغني، ومريض مرتاب، ولكل وجهة هو موليها: فأما الفقير فمقيم على الحمد والسؤال وهو على صراط مستقيم، وهذا الصراط يختلف ـ كليا ـ عن صراط الكافرين، وكلاهما يختلف ـ نسبيا ـ عن صراط الضالين. وقد ضرب الله مثلا للمؤمن والكافر فقال جل وعلا: ((مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ...)) ذهب به أي: استحوذ عليه، واسترد الهبة الموهوبة: (( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ)) أعرضوا عن النور وتركوه فتُركوا (جَزَاءً وِفَاقًا)، وفي مختتم الآية نقرأ: ((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ.)) تولوا فأوغلوا، وختموا فصموا، وعموا فأغمضوا، فختم الله على قلوبهم (جَزَاءً وِفَاقًا).
ذاك مثل المؤمن والكافر، وفي النص الرديف مشهد عاصف مخيف يكشف عن بعض مسالك الضالين. يقول ربنا جل وعلا: ((أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ)) إحاطة كاملة، وفي خلفية العبارة إشارة تهديد مبطنة، تهديد لكل من جعل رأس الإصبع تحيط بثقب الأذن وتكفره، والكفر بفتح أوله التغطية، والمقصود أنهم غطوا آذانهم وكفروها فأصابهم النعت الصادق، ويمكن أن تفهمي ـ يا جنيتي ـ أنه نعت فقط، نعت لمن كفر الأذن لا أكثر :(جَزَاءً وِفَاقًا)، ثم نقرأ:(( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ )) أوشك وقارب ولم يخطف البصر كليا، ولو شاء الله لذهب بكل ما وهب .. ثم نقرأ: ((كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ)) كلما أضاء البرق تُشحن بطارية الإيمان فيمشون بضعة أشواط على صراط مقبول :(( وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا)) كمشلول عشا لا يستطيع حراكا، وبين الضوء وبؤبؤ العين قصة مد وجزر تشبه تماما قصة ما بالقلوب من إيمان:ـ إما زيادة وإما نقصان : ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.20)) وفيه ـ لمن ألقى السمع ـ رنين أجراس وأجراس، وفيه ألف ألف إشارة، تأملي تجدي أن (كل شيء) قد تم إيضاحه، وأن الدرس قد خُتم..
وقل لمن يريد سماع رنين تلك الأجراس ورؤية تلك الإشارات، خذ كتابك بقوة، واقترب من الدارة التالية، واحذر الموت وانقطاع الكهرباء:
مبتدأ الدرس1، أو الآية البادية: (الم ﴿١﴾ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾)
مختتم الدرس1، أو الآية الحادية : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿٢١﴾ )
...
فاصل لفسحة بأرضنا: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ...﴿٢٢﴾)
...
مبتدأ الدرس2 ـ أو آية الريب::(وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿٢٣﴾
مختتم الدرس2 أو آية الامتحان والاختبار:( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ... ﴿٢٤﴾)
فاصل لفسحة بأرض الجنة، أو آية النجاح والفلاح : ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَـٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿٢٥﴾)
....
نظرة فابتسامة فموعد فدعاء، فسجود فخشوع فدموع فلقاء : وبشر المؤمنين.
جلست ـ جنيتي ـ والخوف في عينيها، فقرأت: ((إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.20))، ثم قالت: رنين أجراس وأجراس، هل أصابك وسواس كنيسة، قل لي بربك أين وجدت ذلك ؟
قلت: الذي فهمته من تلك الآية وكل النجوم، أن الكون كان علم من لدن، فقال الله كن فكان كرسيا عظيما، وخلق الله في بطن الكون سبع سماوات طباقا، وجعل القمر فيهن نورا، وجعل الأرض فراشا، لتكون مسجدا، مسجد متقن الصنع بديع: زينة سقفه ثريات ومصابيح وشموع، وأرضيته سجاد من نجم وشجر ودموع، وخلق الله الإنسان فعلمه النطق والبيان، ومده بعقل وميزان، ذاك خبر الخلق الأول، و خبر المسجد الذي أُعد لآدم وصاحبته قبل أن تفرض الصلاة وتدق الأجراس ويرفع الآذان.
نظرة فابتسامة فموعد فدعاء
فسجود فخشوع فدموع فلقاء
وبشر المؤمنين.