كثير من الأخوة يريدون الاستفسار عن هذا المعنى، وهل هو معنى مطاطي أم لا، على الأقل ليفهموا ماذا نريد بالضبط..فالشائع لديهم أننا ننتقد فقط البخاري أو لدينا مشكلة مع ابن حنبل..وبالتالي تكون المشكلة شخصية وليست فكرية..
مبدئيا: التراث هو كل ما تركه السابقون من ثقافات ومعارف ولغات وعادات ومذاهب وأديان وحتى علوم أدبية..
ونقد التراث يعني التمرد على كل شئ سلبي من ذلك، ومنها تقديس الأشخاص والرموز، رفض العنصرية في السياسة، عدم الخلط بين الدين (الثابت) والعلم (المتغير) المطالبة بحقوق الإنسان، رفض والتمرد على كل عادات المجتمع القبيحة كالطبقية والمذهبية واضطهاد الأنثى، والثأر في الصعيد وما يتبعه من كفر بالقوانين.
يوجد من ينتقد التراث بمفهومه الديني، فهو يركز فقط مع هذا الجانب ويحصر مشكلته مع كتب بعينها أو بعض التفسيرات أو اتجاهات مذهبية، وفي تقديري أن هؤلاء هم من أحدثوا المشكلة وصنعوا الخلط..بل في تقديري أن هؤلاء أكثرهم مؤيدين للدكتاتوريات العربية ويدافعون بغرابة عن الظلم، ومنهم أشخاص طائفيون لم يصلوا لمفهوم موحد وجامع عن فكرة التسامح..
التراث أوسع من ذلك ومفهومه أشمل وقد يخص ذلك جوانب كالسياسة والفلسفة والأدب، كمثال أن الجانب الأدبي مثلاً في القرن 15 مختلف عن الأدب في القرن 21 لأن الأديب أو الشاعر وقتها متأثر ببيئة معينة ، فيُسقط هذه البيئة في فنونه ويخرج إبداعه موافق لظروف محدودة..يأتي بعد ذلك المتعصبون ويفسرون هذا الأدب القديم على أنه صالح للعصر الحديث..والنتيجة المباشرة (فشل في القراءة) أو ما يراه بعض الناس (رجعية)
وتحدث المصيبة أحيانا باعتبار هذا الأدب دين أو معارف مقدسة، وقتها ينحط الشعب ويصبح معزول بشكل كلي عن الحضارة..
ليكن في معلومك: كل شئ يتطور..كل العلوم..الثقافات..الأشعار..الخيال..حتى الدين يتطور..المجتمع الآن ليس هو المجتمع في السبعينات..توجد اختلافات جذرية وأخرى فرعية، مهمة الفيلسوف أو الناقد هو تشخيص الحالة أولا وإيجاد الفروق ومن ثم التعامل مع الواقع بحِسّ جديد ، ولأن الثقافة كالسياسة لها جوانب خلافية يحدث الشقاق بين المثقفين ، كلُ يحاول تفسير وتشخيص الحالة وفقا لمبادئه، فالمؤمن يحاول التوفيق حسب إيمانه، والملحد حسب إلحاده..وهكذا..
كذلك النقد لا يعني (الرفض) فكلما ترفع سلاح النقد الديني يواجهك المتعصبون باتهام أنك ترفض الدين..وهذا غير صحيح، كلمة النقد تعني استخلاص الجيد والملائم لظروف العصر، أو إعادة قراءة لنصوص مهمة، أو إحياءً لضمائر وعقول ماتت منذ زمن، وبالتالي يكون المطلب الأول للنقد هو (رفع القداسة) عن الأشخاص والرموز كمطلب عام يُسهّل عملية النقد، هذا ينتج صدام فوري مع المتعصبين الذين جُلّ اهتمامهم بالأشخاص والرموز..لا بالأفكار والموضوعات، والناقد الجيد يدرك ذلك فلا يشخصن المسائل ويبتعد قدر الإمكان عن إسقاط الرموز، ولو كان ذلك ضروريا فيُسقطه بالفكر والمحاججة المنطقية والتركيز على النتائج تفاديا لأي حديث شخصي..
كذلك فأي جدال خاص بنقد التراث عموما هو شئ جيد، وما يحدث في مصر الآن سواء في الإعلام أو في مواقع التواصل هو شئ عظيم، فهو من ناحية يضع التراث والثقافات موضع تشريح وتقريب لمفاهيم العوام ، ومن ناحية أخرى يُنقّب ويبحث عن أصل الداء بمهارة..هذا ستكون له نتائج إيجابية في المستقبل، ولو أن النظام المصري سمح ببرامج تنويرية مخصصة لأنتج ذلك سرعة في عملية التغيير للأفضل، لكن رجعية هذا النظام ثابتة وحبسه للمثقفين ثابت ولا أمل للإصلاح معه، وفي تقديري أنه لولا القفزة في وسائل التواصل الاجتماعي والحركة الشبابية في الشارع بعيدا -عن أعين الحكومة- لتم اعتبار الشعب المصري من الشعوب الميتة..وهذه الحركة هي ما أعتبرها مقياس لنبض وحياة هذا الشعب..
النقد في النهاية هو محاولة لإيجاد صيغة عملية لنصوص جيدة، وإزاحة نصوص أخرى تكفر بالإنسان وقيمه الحداثية، أو قيمه الأخلاقية بالمطلق، فالنقد شئ مستمر حتى من قَبل الحداثة، والبعض يحصر مفهوم النقد في جانب (الأمن) ويرى أن الوصول بنظرية أمنية تحقق سعادة الإنسان وأمنه الشخصي هو الغاية من النقد، وفي تقديري أن هؤلاء على صواب، والخلاف قد يدور حول مفهوم الأمن وأبعاده المختلفة..