ليس صحيحا أن البيان صدر بأقلية لا تزيد علي 52 صوتا والصحيح أنه صدر بأغلبية ساحقة لأن كل عضو كان يصوت لمجموعة ولا يصوت لنفسه فقط!
فضيحة : سفراؤنا في الخارج مشغلون بزيارات الشخصيات المصرية ولا يهتمون كثيرا بما يجري بعيدا عن المطاعم ومحلات الشوبنج وأعضاء مجلس الشعب المصري في البرلمانات الدولية لا يعرفون غالبا اللغة الإنجليزية ولا يجيدون مناورات صنع القرار والقرار المضاد!
يستحق فتحي سرور وأحمد أبو الغيط جائزة" الحنجرة" الذهبية مناصفة عن أدائهما الصاخب في مواجهة قرار البرلمان الأوروبي.
كان البرلمان الأوروبي قد اتخذ قرارا بإدانة ما وصفه بتردي حالة حقوق الإنسان في مصر فقامت قيامة التصريحات.. والمنشيتات.. والميكروفونات.. والإدانات.. والانسحابات.. والفضائيات.. حالة من الهيستيريا الرسمية لم تشهدها السياسة المصرية بهذه الصورة من قبل.
سحب وزير الخارجية سفراءه السبعة والعشرين في أوروبا جماعة للتشاور معهم علي مائدة مكتبه المطل علي نيل القاهرة.. في حركة مسرحية.. استعراضية.. مباغتة.. دون أن يتخيل أن مثل هذا التصرف الذي لم يؤثر علي القرار الأوروبي قد اضعف الدبلوماسية المصرية.. وكسر هيبة رجالها الذين سيعودون إلي سفاراتهم في العواصم الأوروبية وهم يقولون في سرهم :" يا ريتك يا بو الغيط ما غزيت".
إن قرار سحب السفراء قرار خطير.. لا تلجأ إليه الدول عادة إلا في حالة إعلان الحرب.. أو تجميد العلاقات.. ولذلك لا يؤخذ بتسرع.. ولا في لحظات الانفعال.. بل لابد أن تسبقه حسابات باردة تحدد ما نكسب وما نخسر.. خاصة إذا كنا نتحدث عن قارة مثل أوروبا بيننا وبينها جسور تاريخية وحضارية واقتصادية وثقافية متينة.. ولا نقول إنها منحتنا في العشر سنوات الأخيرة 1225 مليون يورو في شكل معونات مالية وستمنحنا في السنتين القادمتين 558 مليون يورو غيرها.. حسب ما قاله لنا السفير محمد بسيوني عضو مجلس الشوري الذي ألغي سفره هو وزميله محمد شوقي يونس إلي بروكسل تعبيرا عن مقاطعة مجلس الشوري لاجتماعات اللجنة السياسية والاقتصادية للبرلمان الأورو متوسطي وهو البرلمان الذي يضم 27 عضوا يمثلون الدول الأوروبية وعشرة أعضاء يمثلون ثماني دول عربية مطلة علي البحر المتوسط بجانب تركيا وإسرائيل.
وفي الوقت نفسه رفض البرلمان المصري بمجلسيه استقبال لجنة سياسية فرعية في الاتحاد الأوروبي كانت ستأتي يومي 23 و24 يناير الحالي بدعوي أن المناقشة لا معني لها بعد القرار.. وهو تصرف فيه رضاء نفسي وغياب سياسي.
لقد تصرف أحمد ابو الغيط بمنطق العمد ومشايخ الخفر الذين يؤمنون بأن" العيار الذي لا يصيب يدوش".. لا بمنطق أن الطلقة التي لا تقتل يجب أن تجرح.. إن المنطق الذي أديرت به هذه الأزمة منطق في السياسة الخارجية يثير السخرية.. ويضعف الدولة التي تؤمن به.. العيار الذي لا يصيب يفقدها المصداقية.. خاصة إذا كانت مضطرة إلي الرجوع فيه.. أو التخفيف منه.. كما هو متوقع.. فقد صدرت تعليمات عليا بالرجوع إلي الوراء.. كما كانت.
ولو كانت الحكومة تأخذ علي المعارضة أسلوب الانسحاب وتصفه بالسلبية فإنها لم تجد غير هذا الأسلوب تلجأ إليه وهي تعالج أزمتها مع الاتحاد الأوروبي الذي يتكون من مجلس يقرر ومفوضية تنفذ.. وبرلمان يراقب.. قلدت الحكومة المعارضة وانسحبت.. دون أن تعرف الخطوة التالية التي عليها أن تخطوها.. وأغلب الظن أنها ستحاول ترميم الجسور المحترقة من جديد فلا يمكن أن تعزل نفسها بنفسها وأن تجلس وحيدة داخل حدودها تغني "ظلموه".
والحقيقة أن قرار البرلمان الأوروبي ليس ملزما وسبق أن اتخذ مثله من قبل كما أنه كان نسخة بالكربون من تقرير سابق للكونجرس الأمريكي.. فلماذا لم "تتشطر" السياسة المصرية وتعلن سحب سفيرها من واشنطن؟.. كما أنه كان الأجدر بها أن تسحب سفيرها من إسرائيل في وقت تجاوزت فيها الدولة الصهيونية كل الاعتبارات وأحرجت مصر أكثر من غيرها.. لو فعلت ذلك لارتفعت شعبيتها مائة مرة في ثوان معدودة.
ولا يمكن إنكار أن لهجة البيان الأوروبي متعالية.. متغطرسة.. لا تخلو من التدخل في الشئون القضائية.. خاصة فيما يتعلق بحالة أيمن نور.. وهي قضية قديمة.. تعرف مصر أنها شوكة في جنب علاقاتها بالبرلمانات الخارجية.. باعتبار أن بطلها كان عضوا في مجلس الشعب وقت أن جري له ما جري.. فقد سبق أن وافقت مصر علي زيارة وفد من البرلمان الدولي لمقابلة أيمن نور في السجن.. لكنها سرعان ما رفضت الزيارة بعد أن أعلن وفد الزيارة أنه سيأتي بأطباء من عنده للكشف عليه.. وتقرير حالته الصحية.. تمهيدا لطلب علاجه خارج السجن أو خارج مصر.. والمقصود أنها قضية لا تحمل مفاجأة.. فلماذا بدا رد الفعل هذه المرة بكل هذه العصبية؟.
السبب هو أنه ليس هناك تحرك مصري مناسب في المنظمات الدولية والإقليمية التي ننتمي إليها.. وتخرج منها البيانات المؤلمة التي تزعجنا.. وتوترنا.. وتفقدنا أعصابنا.. إن غالبية سفاراتنا في الخارج لا تجد الموارد الكافية لخلق لوبي مصري كفيل بمنع البلاء قبل وقوعه.. أو مواجهته إذا ما وقع.. كما أن نسبة هائلة من أعضاء البعثات الدبلوماسية يعتبرون زيارة الشخصيات الرسمية المصرية إلي البلاد التي يخدمون فيها هي المهمة السياسية الأولي لهم بكل ما فيها من دعوات علي عشاء.. أو زيارات لشوبنج.. وعندهم حق.. فقد أسهمت هذه الشخصيات في وصولهم إلي مناصبهم ولا يجوز التنكر لهم في الغربة.
كما أن حال نواب مجلس الشعب الذين اختيروا لتمثيلنا في البرلمانات الدولية ليسوا في أغلب الأحوال أفضل من غيرهم.. فلا هم يجيدون لغة أجنبية يتفاهمون بها.. ولا هم يعرفون كيف تطبخ القرارات ولا كيف ينزع فتيلها؟.. ولا يعرفون كيف يستخدمون ورقة المصالح الثنائية في تفويت القرارات المحرجة.. ولو فشلوا تماما فإن عليهم صياغة قرار آخر يدفعون إلي التصويت عليه.. واحدة بواحدة.
مثلا.. كان علي فتحي سرور أن يدفع بقرار يدين جرائم إسرائيل في حق الفلسطينيين أو قرار يدين ما يتعرض له المسلمون في أوروبا نفسها.. لتجري المقايضة بين هذا القرار والقرار المضاد لنا.. إن هجوم فتحي سرور علي انتهاكات حقوق الإنسان في أوروبا ردا علي بيان البرلمان الأوروبي الأخير كان يجب ان يصبح قرارا في نفس البرلمان.. لا أن يكون مجرد تصريح للاستهلاك المحلي معدوم القيمة. وأغلب الظن ان ابرز مؤهلات أعضاء البرلمان المصري الذين يحملون عضوية البرلمانات الدولية لا تزيد علي ملكية عدد مناسب من بطاقات الائتمان يستخدمونها في "الشوبنج" خاصة إذا سافروا مع وفد مصري" رفيع" المستوي.. وربما يخبرنا مأمورو الجمارك بأحجام الصناديق الهائلة التي تشبه التوابيت التي تعود بها هذه الوفود.. محققة إنجازها الوحيد.. حمل بضائع بلا جمارك إلي بيوتهم.
إن هذه الأسباب هي التي كشفت تقصير الدبوماسية الرسمية.. السفراء.. والدبلوماسية البرلمانية.. أعضاء مجلس الشعب.. وهو تقصير واضح يصعب تجاهله كان وراء مظاهرات الغضب الإعلامي الكلامي التي شنها أحمد أبوالغيط وفتحي سرور.. علي طريقة" خذوهم بالصوت".. كي يعلنا براءتهما من البيان الأوروبي وكأنه خرج في غفلة منهما.. لذلك استحقا عن جدارة جائزة "الحنجرة" الذهبية.
لقد هاجما البيان الأوروبي من باب حفظ ماء الوجه.. فكان هذا الهجوم عملا موجها للداخل لاللخارج.. عملا يحافظ لهما علي منصبيهما لا علي تأثيرهما.
وفي رغوة الصخب الإعلامي غابت حقائق أولية وسيطرت العبارات الإنشائية.. وجرت أكبر محاولة للضحك علي الذقون.. عاكسة طريقة في التعبير والتصرف تنتهي بطريق مسدود لا مفر من التراجع عنه.. وإلا فقدت اعتبارات المصلحة الوطنية وسادت الغوغائية الكلامية.. وهنا فإن الملاحظات التالية تبدو ضرورية :
(1) البيان بارد وصادر عن جهة صاغته بمنقار ديك رومي منفوش الريش.. ولكن ليس صحيحا صدر عن أقلية لا تزيد علي 52 عضوا بنسبة ستة في المائة من عدد أعضاء البرلمان الأوروبي الذين يزيدون علي سبعمائة عضو.. لقد دعي للتصويت 59 عضوا يمثل كل منهم مجموعة من الأعضاء ولا يمثل نفسه فقط.. فصوت 52 عضوا نيابة عن 52 مجموعة.. ورفض القرار 7 أعضاء نيابة عن سبع مجموعات.. ومن ثم فالقرار اتخذ بأغلبية كاسحة وليس أقلية ضعيفة كما قيل في مصر.. وإلا لماذا كل هذه الضجة علي قرار اتخذه ستة في المائة فقط ؟.
(2) إن مثل هذه البيانات لا تطبخ بليل كما تعودنا في القوانين المصرية أحيانا.. وإنما توضع علي جدول أعمال لجان البرلمان الأوروبي منذ شهور طويلة.. فلو كنا نعلم ولم نتحرك فهذه جريمة تستحق العقاب وإذا كنا لا نعلم فهذه جريمة أخري تستحق عقابا أكبر.. فأين كنا منذ أن وضع الأمر علي أجندة البرلمان الأوروبي وحتي صدور القرار والمسافة هنا تقاس بالشهور لا بالأيام؟.
(3) إن الاتحاد الأوروبي يساند القضية الفلسطينية بقوة أكثر من غيره وربما كان السند الغربي الوحيد لها.. لكن.. جاء رد الفعل العصبي المصري ليعطي الفرصة لإسرائيل كي تضغط وتتراجع هذه المساندة.
(4) إن لا أحد ترجم البيان ترجمة دقيقة ليتعرف علي ما فيه من إيجابيات.. مثل تقدير الدور المصري في عملية السلام.. والإشادة به في تشديد الأمن علي الحدود مع إسرائيل لمنع تهريب الأسلحة إلي قطاع غزة.
(4) إن هناك كراهية حادة نشعر بها تجاه كل من يتدخل في شئوننا الداخلية.. لكن.. الاتفاقيات الدولية التي وقعتها الدولة في مصر هي التي أباحت ذلك.. منها اتفاقيات تبادل المجرمين بشرط ألا يحاكموا أمام محاكم استثنائية.. عسكرية.. مثلا.. ومنها اتفاقية التعاون في مجال حقوق الإنسان وهو مجال لم يعد التعرض له نوعا من التدخل في الشئون الداخلية.
هل ذكر بيان البرلمان الأوروبي شيئا عن حقوق الإنسان وحبس الصحفيين والخوف من أن يكون قانون الإرهاب صورة قاسية مستمرة من حالة الطوارئ لم يذكره كل المعارضة وبعض الحكومة في مصر؟.
لقد تعودنا من المعارضة أن تضغط علي الحكومة في مواقف سياسية وطنية مثل علاقتها بإسرائيل وكانت ترد عليها بدعاوي الحكمة والروية والمصلحة الوطنية.. لكنها.. في الموقف الذي كان عليه أن تضع هذه الاعتبارات نصب عينيها تصرفت برعونة وحماقة ضاربة بكل شيء عرض الحائط.. إنه نوع من" الحول" السياسي يجب أن تعالج منه قبل أن تنظر إلي إسرائيل وتأخذ قرارا ضد اوروبا.