( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) ؟؟!!

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٠٣ - يناير - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) ؟؟!!

أولا : هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ :!!

1 ـ جئت الى أمريكا هربا قبل أن يعنقلونى ، وصلتها يوم الثلاثاء 16 اكتوبر 2001 ، كنت مدعوا لمؤتمر فى نيويوك عن السلام بفضل صديقى د . خالد دوران ، وفيه تعرفت ب د . عبد الغنى بوشوار . وبدأت صفحة جديدة فى الجهاد الاسلامى السلمى ، وفى مؤتمرات لاحقة وفى خطابات عديدة كنت ولا أزال أعبّر عن إمتنانى لأمريكا التى آوتنى وأعطتنى فرصة الحياة الكريمة التى ما عرفتها فى وطنى السابق مصر . وعندما كنت  أقسم يمين الولاء لأمريكا فى حفل الحصول على الجنسية الأمريكية دمعت عيناي تأثرا وإعتزازا بالوطن الأمريكى وطنى الجديد الذى أفخر بالانتماء اليه ، والذى أحسست فيه بالأمان وبالكرامة . وطن ( أحسن ) لى ، فهل جزاء الاحسان إلا الاحسان ؟

2 ـ فى هذا المؤتمر الذى حضرته فى نيويورك لفت نظرى رجل يقترب من الستين ، ملامحه ترجح أنه أمريكى من اصل أوربى ، كان يدافع عن أمريكا بغضب فى جدل ثار باللغة الانجليزية بينه وبين شخص آخر . فوجئت به بعد قليل يتكلم العربية بطلاقة مع شخص عربى ، إقتربت منه وتعارفنا . وتوثق الصلة بيننا بعدها بضع سنوات عبر الهاتف والايميلات . هو لبنانى تخرج فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة ، ولا يزال يحمل بين جوانبه ذكرياتها ، وهاجر بعدها الى أمريكا ، وعاش فى أحد ولايات الوسط الأمريكى ، ونجح فى عمله ونجح أكثر فى العمل العام ، وتم إنتخابه سيناتور عن تلك الولاية ، ثم صار سفيرا لأمريكا فى البحرين . ذكر لى أنه قابل ـ وهو سفير ـ الملك فهد السعودى ، الذى فوجىء بأن السفير الأمريكى هو عربى لبنانى متجنس أمريكى .

الفارق أنه فى السعودية يمكن أن تولد فيها وأن تعيش فيها طيلة عمرك دون أن تحصل على الجنسية السعودية . وهذا ما حدث لشاب مولود فى السعودية وقضى فيها مع والديه الشطر الأول من عمره دون أن يحصل على الجنسية  ، ثم غادرها وجاء لأمريكا واستقر فيها ، وحصل على جنسيتها ، وكان يصلى معنا صلاة الجمعة ، وفى حديثنا تناثرت ذكرياته عن عمره الذى أمضاه فى السعودية مواطنا بلا وطن ومحروما من الانتماء الى بلد وُلد فيه ونشأ وعاش .. ولقى الهوان . هذا الشاب  يحب أمريكا بقدر حب اللبنانى السيناتور السفير لها . هما معا يعبران عن قول رب العزة جل وعلا : ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ (60) الرحمن )

3 ـ صديق عزيز من أهل القرآن ، عاش ويلات حكم آل الأسد فى سوريا ، سجنوه وهو شاب صغير فظل فى السجن الى أن خرج منه على أعتاب الثلاثين من عمره . من يومين شرفنا بالزيارة فى بيتنا مع أسرته الجميلة ، حكى عن وجبة التعذيب اليومى المقررة فى سجن ( تدمر )، عانى من هذا التعذيب اليومى طيلة سنوات سجنه .!! سألته عن نوعية هؤلاء الجلادين وملامح وجوههم فلا أتصورهم بشرا آدميين ، فوجئت به يقول إنه كان محظورا عليهم رؤية وجوه الجلادين ، محظور عليهم أن يرفعوا رءوسهم ، لا بد أن ينظروا الى الأرض ، ومن يرفع وجهه ويرى وجه السجّان يقتلونه فورا ، وحكى عن من لقى حتفه بسبب وجبة التعذيب اليومية . المؤسف أن المحكمة حكمت ببراءته بسبب صغر سنه ، ومع ذلك لبث فى السجن تحت التعذيب اليومى مدة طويلة ( لا أتذكر ما قاله عن عدد سنوات سجنه )، وبعد خروجه من السجن كانوا يستدعونه للتحقيق برغم معرفتهم بأنه قرآنى وضد الاخوان المسلمين ، وقال إنه كان يوجد فى سوريا 17 جهاز مخابرات ، كل منها له مطلق الحرية فى إعتقال وسجن وتعذيب وقتل من يشاءون دون إبداء الأسباب . قال إن الاخوان المسلمين فى السجن أساءوا معاملته وقاطعوه حين تحول قرآنيا ، وأنهم كانوا يوشون به . فى الحرب الأهلية إستطاع بعد قصة من المعاناة أن يغادر سوريا الى تركيا ومنها الى مصر ، ثم اخيرا نجح فى الوصول لأمريكا لاجئا ومعه زوجته وأولاده . وسط  ذكريات هذه المعاناة أضاء وجهه وهو يتكلم ممتنّا لأمريكا ، وكيف انه أخطأ وهو يركب الاتوبيس فإعتذر له سائق الاتوبيس . صديقى السورى القرآنى أعلن فى الفيس بوك أنه خائن لوطن يملكه المستبد ، هو نفس ما كتبته فى مقال ( ملعون الوطن الذى يملكه المستبد ) و ( ملعون أبو الاستقلال .. ) الذى يجعل الاستبداد والاحتلال المحلى يحلّ محلّ الاحتلال الأجنبى ..

4 ـ إبنى سامح هو الخامس بين أبنائى الستة . مولود عام 1986 ، فى العام الذى كنت مُحالا للتحقيق فى جامعة الأزهر بسبب مؤلفاتى موقوفا عن العمل ومحروما من مستحقاتى المالية ، وعاش بعدها صبيا فى سنوات الضنك والفقر والخوف وإنعدام الأمن ، وعاش يسمع ما اقول من نقد للمستبد ولنظام الحكم ، إمتلأت شرايين عقله بمعاناته ومعاناة اسرته وأهله ، وتشكّل بها وعيه الطفولى وتأسّس . وهاجرت الى أمريكا ، ولحق بى مع والدته وشقيقه الأصغر بعد عامين عام 2003 . عاش شبابه فى أمريكا يقارن بين وضعين متناقضين ، فكما تفتحت عيناه على الظلم الذى حاق بأبيه وأسرته فى مصر فقد تفتحت مداركه على النقيض فى أمريكا . أنتج هذا التناقض فيه تعصبا شديدا لأمريكا وبغضا شديدا للمستبد المصرى . يفترق فى هذا مع إخوته ، لا يتفق معهم إذا وجهوا نقدا للسياسة الأمريكية ، ويردد دائما عن مصر ( شوفوا عملوا إيه فى بابا ) .. مهما بالغ سامح فى حبه لأمريكا وتعصبه لها فهو معذور ..!! فهل جزاء الاحسان إلا الاحسان ؟!

5 ـ الذى لا تجد له عذرا هو الذى جاء لأمريكا يبحث عن وضع أفضل وليحقق الحُلم الأمريكى فى إمتلاك بيت وسيارة وعمل وتمتع بحرية وحياة كريمة . ونال هذا أو بعضا من هذا ، ثم تراه ناقما على أمريكا كارها لها ، مدافعا عن الاستبداد العسكرى فى بلده الأصلى متغنيا بوطنية المستبد . أبسط ما يقال له : لماذا جئت هنا أصلا .؟ ولماذا تستمر العيش فى بلد تكرهه ؟ ولماذا لا ترجع الى الوطن الذى تحبه وتتعصب له ؟ رأيت من هذه النوعية كثيرين جدا ، منهم من يحمل الجنسية الأمريكية ، ويتمتع فيها بحرية التعبير ويستخدمه فى لعن البلد الذى أحسن اليه .. هذه النوعية لا تعرف معنى الاحسان الذى جاء فى القرآن الكريم .

6 ـ الذى يستحق اللعنة فعلا هم أولئك السنيون الوهابيون الذين لجأوا الى أمريكا والغرب هربا من إضطهاد المستبد العربى ، فآوتهم أمريكا والغرب ، فردوا الاحسان بأعمال إرهابية وبخطابات تحريض على الارهاب وبفتاوى تستحل دماء من احسنوا اليهم وتستحل أكل أموالهم بالباطل . أولئك الارهابيون وشيوخهم فى المساجد الأمريكية والأوربية هم أعدى أعداء الاسلام . هم يشوهون إسمه وشريعته ومبادئه وقيمه العليا ، ومنها قيمة الاحسان . . أتعجب من مظاهراتهم فى بعض الدول الأوربية بذقونهم ومظهرهم الداعشى وهم يلعنون البلد الذى أستضافهم والذى يعطيهم المعونات الاجتماعية. هل يستطيعون فى بلدهم الأصلى الذى هربوا منه أن ينطقوا بكلمة ضد المستبد ؟. هم عار على البشرية قبل أن يكونوا عارا على الاسلام الذى يزعمون الانتساب اليه وهو منهم برىء.  أين هؤلاء من قول رب العزة جل وعلا : ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ (60) الرحمن ).

أخيرا : درجات الاحسان فى الاسلام :

1 ـ ليس من الاحسان أن يجهر المظلوم بالسوء من القول ، ولكنه من العدل . و معذور ذلك المظلوم الذى يجهر بالسوء من القول . يقول جل وعلا : ( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) النساء ). الاحسان أن يعفو وأن يصفح . إن لم يعف ولم يصفح فهذا حقه ولا لوم ولا مؤاخذة عليه إذا علا صوته بلعن الظالم . وهذا ما أفعله كثيرا ...

2 ـ  الله جل وعلا يأمر بالعدل والاحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى . يقول جل وعلا : (  إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) النحل ). هذه الآية الكريمة هل يعى معناها الواضح الوهابيون البُغاة ( أصحاب شريعة الارهاب والقتل العشوائى للأبرياء وجهاد المُناكحة ) ؟

3 ـ الإحسان درجة تعلو على العدل. يقول جل وعلا : ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) الشورى ). العدل أن ترد السيئة بمثلها قصاصا . هذا فى التعامل الفردى . وهو أيضا فى تعامل الدولة الاسلامية مع دولة تعتدى عليها تهاجمها عسكريا . لها حق الدفاع ورد الاعتداء بمثله ، يقول جل وعلا : (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة ) ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) البقرة ) . فى التعامل الفردى يكون الاحسان مع المعتدى بأن تعفو عنه ، فمن عفا واصلح فأجره على الله جل وعلا ، والله جل وعلا يحب المحسنين ولا يحب الظالمين .

4 ـ هذا الاحسان الذى يعلو العدل له درجات . الدرجة الدنيا أن ترد السيئة بالتسامح والعفو: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) الشورى ) . الدرجة العليا أن ترد السيئة ليس بمجرد الحسنة ( أى العفو ) ولكن بأن تقدم خيرا لمن اساء اليك ، أن ترد على السيئة ليس بالحسنة بل بالتى هى أحسن ، أو بالتعبير القرآنى أن تدفعها بالتى هى أحسن . يقول جل وعلا : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) (96) المؤمنون ). هذه درجة سامية لا يبلغها إلا ذو الحظ العظيم عند رب العالمين ، يقول جل وعلا : ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) فصلت ). تخيل أن يسىء اليك شخص متعديا فتدفع إساءته بأن تعطيه هدية أو مالا .. عندها سيخجل من نفسه ويتصرف كما لو كان لك صديقا حميما ، لأنك خاطبت جانب الخير فيه . هذا هو الاحسان فى تشريع الاسلام . ومن الإساءة الى الاسلام والطعن فيه أن يقال عن الوهابيين إسلاميين .

5 ـ رأيت فى برنامج أمريكى تسجيلا حيا لسفاح قتل العشرات من الفتيات ، وقد حكمت عليه المحكمة بالاعدام . وطبقا للتقاليد فقد حضر فى الجلسة الأخيرة فى المحاكمة أهالى الضحايا ، وكل ضحية يتقدم عنها من يتكلم موجها حديثه للمجرم . ومن المعتاد ــ والطبيعى ــ  أن يتكلم أحدهم باكيا يرثى الضحية   ويلعن السفاح . هذا ما حدث فى هذه الجلسة ، بكاء وترحم على الضحايا ولوم للسفاح ، والسفاح ينظر اليهم فى إستهتار وعدم مبالاة وكأنه فخور بما فعل . حتى جاء أب فى حدود الستين وتكلم عن إفتقاده لابنته القتيلة ثم وجّه حديثه للقاتل قائلا : أنا أسامحك يا سيدى . (  I forgive you sir) . عندها إنفجر السفاح فى البكاء . حتى هذا السفاح كانت فيه بذرة خير ، أيقظها الاحسان .

اجمالي القراءات 11914