خدعوك فقالوا : (إن الله يزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن )

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٨ - ديسمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

جاءنى هذا السؤال من الشيخ القرآنى الاستاذ :  أحمد الدرامى السنغالى  ، يقول : ( ما معنى : "إن الله يزغ  بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن." قيل أنه حديث صحيح عن عثمان بن عفان.؟  ما الذي كان يريد قائل هذا الكلام أن يزرع في أذهان الناس.؟ وما هي الكارثة التي نجمت منه في تاريخ المسلمين؟  ) .

واقول :

  لمحة عامة :

1 ـ فقهاء السلطة إفتروا للسلطان أحاديث تبرر له الظلم وسفك الدماء . برز منهم الأوزاعى الذى خدم الأمويين ثم العباسيين ، وسبك للعباسيين حديث الردة ليقدم ولاءه للسلطة الجديدة بعد أن خدم الأمويين ثم تخلى عنهم فى محنتهم وسبك حديث الردة ليشرع للعباسيين قتلهم ، وقد شرحنا هذا فى كتابنا ( حد الردة ).

2 ــ  ولكن هذا الحديث يثير قضايا خطيرة تتناقض مع الاسلام ، نناقشها فى الآتى :

أولا :  بين التقوى الاسلامية والإكراه فى دولة الاستبداد

1 ـ يمكن إيجاز الدين الالهى (الاسلام ) فى كلمة واحدة هى التقوى ، ففى النهاية لن يدخل الجنة إلا المتقون (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً (63) مريم ) (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ) 71 ) الزمر ) ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً  ) (73) الزمر ) . والمتقى هو ذلك الذى يخشى ربه بالغيب بدافع ذاتى وبإرادته الحرة .ونقيضه ذلك الكافر المعتدى الذى يشاء بإختياره الفسوق والعصيان . ولأن الحرية اساس المسئولية فإن الله جل وعلا لا يؤاخذ من يخطىء بدون قصد ومن يخطىء ناسيا ومن يقع فى الاضطرار أو يقع عليه إجبار وإكراه ، يقول جل وعلا : ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) الاحزاب   )( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) (106)  النحل  ) (  فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) النحل ).

2 ـ هذه الحرية فى التشريع الاسلامى تتناقض مع إعطاء السلطان سلطة يزغ أى يقهر بها الناس ، يرهبهم ليتحولوا الى منافقين ليكونوا فى الدرك الأسفل من النار .  

3 ـ هذا عدا أن الشورى الاسلامية تعنى الديمقراطية المباشرة والتى لا يوجد بها حاكم يحكم الناس ويعلو عليهم . وقد فصلنا هذا فى كتاب عن الشورى .

ثانيا : تأليه السلطان :

1 ـ ثقافة العصور الوسطى السياسية هى الحكم الالهى المقدس (   Divine rights of kings) ، أى إن السلطان يحكم بتفويض الاهى ، بما يعنى أن الخروج على السلطان هو خروج عن الدين وعصيان للإرادة الالهية . واتفق رجال الدين ( المسيحى ) مع نظرائهم من (المحمديين ) فى هذا ، وبالتحديد فى أن سوط السلطان إنما هو تأديب إلاهى للرعية بسبب ما يقع من الرعية ، وإنه إذا صلحت الرعية صلح السلطان .

2 ، كفار قريش  فى مكة ـ وفى مقدمتهم الأمويون ـ كانوا ينسبون كفرهم لمشيئة الرحمن (  وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) ) الزخرف )، (  سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148)    ) الانعام )(  وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)  ) النحل ).

 وبوصول الأمويين الى الحكم المستبد قهروا الناس بمقولة إن ما يفعلونه هو إرادة الله ، فالحسين مقتول بإرادة الله وإنتهاك حرمة المدينة هى بأمر الله ، ومقتل الآلاف على يد الحجاج وغيره ليس سوى مشيئة الله . إستدعى هذا ظهور القدرية ،أو مذهب الارادة الحرة التى رفعت شعار ( لا قدر ، والأمر أنف ) ، أى ليست مظالم الأمويين قدرا إلاهيا بل هو ظلم وتسلط بالقوة يجرى رغم أنف الناس . وتعرض أعيان القدرية لاضطهاد الأمويين . وقد فصلنا هذا فى مقال عن ( فلسفة الجبرية فى الدولة الأموية ) و ( حرية الراى بين الاسلام والمسلمين ).

3 ـ فى بداية العصر العباسى  أعلن الخليفة أبو جعفر المنصور أنه سلطان الله فى أرضه وخليفته فى خلقه والقائم على أمواله . وشاع بعدها أن الخليفة يملك الأرض ومن عليها ، وشاع تكفير القدرية .

4 ـ وفى العصر العباسى الثانى تحول هذا الى درجة من درجات العقيدة الصوفية ، لا تقتصر على السلطان بل تشمل الناس جميعا . وقد نشرها الغزالى فى كتابه (إحياء علوم الدين ) تحت مصطلح ( وحدة الفاعل ) والتى تعنى أن الله جل وعلا هو الفاعل ، وأن كل فعل بشرى ليس من صُنع الانسان بل من صتع الله. فالقاتل ليس الانسان بل .. والزانى .. تعالى الله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا . وقد فصلنا فى هذا فى كتاب ( التصوف والعقائد الدينية ) ومنشور مقالاته هنا .

5 ــ  هذه هى الأرضية الثقافية التى نبت فيها هذا الحديث .

ولكن حقارة هذا الحديث بالذات أنه مع تأليه السلطان المستبد فإنه ينسب الظلم لرب العزة ، ويجعل السلطان الظالم أداة لرب العزة يؤدب به الناس ، وبالتالى فالسلطان الظالم لا جناح عليه . ثم إن هذا الحديث الفاجر يجعل السلطان فوق القرآن .

ثالثا : تشريع لقهر السلطان للرعية

1 ـ أحاديث كثيرة غير هذا ـ تحض السلطان ـ على قهر الناس ، ومنها أحاديث تعتبرهم ( رعية ) أى حيوانات للرعى يملكها الراعى . واشهرها حديث : (كلُّكم راعٍ فمسؤولٌ عن رعيتِه، فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ وهو مسؤولٌ عنهم،)  ... ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِه ) الذى إخترعه العصر العباسى ونسبوا روايته لابن عمر . الله جل وعلا نهى المؤمنين عن قولهم ( راعنا ) أى كن راعيا لنا ، لأنه يشبه رب العزة بالراعى ـ وهذا لا يليق بجلال رب العزة ، وجعل المؤمنين كالأنعام والأغنام . قال جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)   ) البقرة ).

2 ـ خطورة هذا الحديث أنه يبيح للسلطان المستبد أن يقهر الناس بما أسموه ( سيف الشرع ) . وفى كتابنا عن ( المجتمع المصرى فى عصر السلطان قايتباى فى ظل تطبيق الشريعة السنية ) شرحنا كيف ان السلطان المملوكى قايتباى ( المشهور بالورع وقيام الليل ) كان يتسلط على الناس بسيف السلطة وأيضا بسيف الشرع يقتل ويضرب من يشاء . ( وهو السلطان الورع الذى كان يقوم الليل وله أوراد مشهورة ) ولذا إرتبط وقتها الظلم الفادح بالتدين السطحى والاحتراف الدينى مع الفساد والانحلال الاخلاقى ، خصوصا فى تعامل السلطة المملوكية مع الناس ، و فى بناء المؤسسات الدينية بالمال السُّحت والمصادرات وتسخير الناس ظلما وعدونا . وايضا فصلنا القول فى هذا فى كتاب ( التصوف واثره السياسى فى الدولة المملوكية ) وغيره .

3 ـ وفى العصر العباسى الثانى إشتهرت فتوى فقهية سنية منسوبة للإمام مالك بعد موته بقرنين تبيح للإمام (أى السلطان ) بالتعبير الفقهى ، أن يقتل ثلث الرعية لاصلاح الثلثين . وقد كشفنا عن هذه الفتوى فى مصر فى الثمانينيات ، وكان ابوحامد الغزالى قد نقل هذه الفتوى  في كتابه  (شفاء الغليل في بيان الشبه والمُخيل ومسالك التعليل) . وذكرها ابن حجر العسقلانى عرضا فى تاريخه ( إنباء الغُمر بأبناء العُمر ) . نشرنا هذه الفتوى وفضحنا بها الوهابيين لنحذر من طموحهم السياسى وخطر إقامة حكم دينى فى مصر وخطورة تطبيق الشريعة السنية . ولم تكن مواشى الأزهر تعرف هذه الفتوى . بعد نشرها لفضح الاخوان ودينهم السنى الوهابى قام بالترويج لها ا شيخ الأزهر الهالك محمد سيد طنطاوى ليتقرب بها الى سيده حسنى مبارك ليشجعه على سفك دماء المعارضة .  وعلقنا على هذا فى حينه فى جريدة الأحرار فى أوائل التسعينيات .

4 ـ وفى 4 مايو 2012  نشرت جريدة اليوم السابع أنه ( أكد الدكتور محمود مهنا، عضو مجمع البحوث الإسلامية، فى تعليقه على جمعة النهاية والأحداث الدامية أمام وزارة الدفاع الآن: "إن هؤلاء الذين ذهبوا إلى وزارة الدفاع لإسقاطها خارجون عن ملة الإسلام لأن القوات المسلحة هى صمام أمن وأمان للأمة الإسلامية، ومن كفر هؤلاء فهو كافر ويجب على القوات المسلحة أن تتدخل بجيشها وسلاحها ودباباتها، حتى لو أدى ذلك إلى قتل ثلث مصر، لأن الإمام مالك رضى الله عنه يقول يجوز قتل الثلث لإصلاح الثلثين".). تخيل هذا الشيخ الألمس الرقيق الناعم حاكما لمصر ؟ سيقتل ثلث الشعب المصرى لاصلاح الثلثين ، أى سيقتل 30 مليونا ، فيبقى 60 مليونا ، يحتاجون الى إصلاح فيقتل ثلثهم أى 20 مليونا ، فيبقى 40 مليونا يحتاجون الى إصلاح فيقتل ثلثهم ..وهكذا الى ألا يُبقى ولا يذر .

أخيرا :

1 ـ السلطان المستبد من أحقر البشر .

2 ـ ولكن الأحقر منه هم رجال الدين الذين يزيفون أحاديث وفتاوى يتقربون بها للمستبد ، ليرتكب ما يشاء باسم الشرع الذى يزيفونه . ثم يتبجحون بأن هذه هى الشريعة وهذا هو الشرع ، ثم يطالبون بتطبيق الشريعة .

3 ــ عليهم جميعا لعنىة الله جل وعلا والملائكة والناس أجمعين .
 

اجمالي القراءات 10247