مؤاذاة النبي
الصلاة علی النبي

عبدالوهاب سنان النواري في الإثنين ٠٥ - ديسمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة:

1- نحن لا نعمل علی قلب مفاهيم الإسلام، أو طمس معالم هذا الدين، أو تشويه قيمه ومبادئه وثقافته، كما يروج لذلك السلف الطالح الذي فعل ويفعل كل ما يتهمنا به؛ ولكننا وبفضلهم وجدنا مفاهيم هذا الدين مقلوبة، ومعالمه مطموسة، وقيمه ومبادئه وثقافته مشوهة، فعملنا ونعمل جاهدين علی إعادة الأمور إلی نصابها، من خلال العودة الخالصة للقرآن الكريم وحده، لنتعلم منه وحده مفاهيم ومالم وقيم ومبادئ ديننا الإسلامي الحنيف، ونحن بهذا لا نخترع شيئا جديدا، وإنما نقوم بإزاحة غبار التراث اللعين عن حقائق القرآن الكريم، فتظهر للناس وكأنها جديدة.

2- والصلاة علی النبي، الواردة في الآية (56) من سورة الأحزاب (إن الله وملائكته يصلون علی النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليمت) من أبرز المفاهيم المقلوبة والمغلوطة، بحيث أصبحت ثقافة (صل علی النبي) ثقافة مشوهة وسائدة في أوساط المسلمين بمختلف مذاهبهم الفقهية ومستوياتهم العلمية والثقافية.

3- فقد أصبحت من ضمن الشركيات التي تمارسها الأمة في عباداتها، فهم يؤمنون بأن رب العزة لا يتقبل صلواتهم، ودعائهم، وسائر طاعاتهم إلا بالصلاة علی نبيهم وآل نبيهم وأصحاب نبيهم، أي أنهم جعلوا من النبي وآله وأصحابه شركاء وأندادا يقربونهم إلی الله زلفی.

4- كما جعلوا من الصلاة علی النبي حرزا سحريا مانعا وصارفا للشرور، وجالبا للخير والرزق والبركة والشفاء والشفاعة .. الخ، ولا يتم الفرح والسرور إلا بالصلاة علی النبي، كما يقولون!!

5- وهذا الموضوع من أكثر المواضيع إثارة للجدل، مما استلزم منا توضيحه وتبسيطه، رغم أن هناك العديد من الكتابات التي أعطته حقه، وهي منشورة هنا في موقعنا (أهل القرآن) ، وتعالوا بنا لنتعرف علی معنی الصلاة علی النبي، من خلال القرآن الكريم..

 

أولاً- تصحيح المفاهيم:

1- الصلاة علی:

هناك فرق بين: (الصلاة علی، والصلاة لـ) ، فالصلاة علی شيء أو شخص ما معناها: الرحمة والشفقة والعطف والتخفيف منا عليه، وعدم مؤاذاته. أما الصلاة لشخص أو شيء ما فمعناها: تقديسه وتعظيمه، أملا منا في الحصول علی رحمته وعطفه وتخفيفه وشفقته، وإجتناب سخطه. فنحن نصلي لله جل وعلا، ولا نصلي عليه، وهو سبحانه يصلي علی عباده، ولا يصلي لهم.

والمؤمنون المخاطبون في الآية (56) من سورة الأحزاب، مطالبون بأن يصلوا علی النبي، أي أن يرحموه ويخففوا عنه متاعب الحياة، ويكفوا عن مؤاذاته. غير أن الناس ردوا أمر الله تعالی إليه، فهو يطلب منهم أن يصلوا علی النبي، وهم يقولون له: بل صل عليه أنت، (اللهم صل عليه .. ) في صورة يمكن تشبيهها بالتعليق السخيف علی كلام الله جل جلاله، مع أنه سبحانه قد أخبر بأنه هو وملائكته يصلون علی النبي.

والناس بهذا لم يعودوا يصلون علی النبي بل يصلون له، فقد أصبح ذكره مقرونا بالرهبة والتقديس والتعظيم بغرض الحصول علی فضله وشفاعته وصلاته هو عليهم، وإجتناب سخطه.

 

2- النبي:

يوصف محمد بالنبي حينما يتعلق الأمر ببشريته وحياته الخاصة، ويوصف بالرسول حينما يتعلق الأمر بالرسالة القرآنية، وهناك العديد من الكتابات التي توضح هذا الفرق وهي منشورة هنا في موقعنا (أهل القرآن) ويمكن الرجوع إليها.

والآيات التي وصفته بالنبي هي آيات نزلت لزمانها ومكانها ولا يمكن تطبيقها بعد موته، والشواهد القرآنية بهذا الخصوص كثيرة جدا، نكتفي منها بقوله تعالی: وإذا أسر النبي إلی بعض أزواجه حديثا .. (التحريم 3) . هذه الآية تتحدث عن علاقته بأزواجه، وهو حدث يخصه هو وحده ولا يعني غيره، وقد مات خاتم النبيين، ومات أزواجه، ولا يمكن تطبيق هذه الآية بعد ذلك، فقط نأخذ منها الدروس والمواعظ والعبر.

 

3- يا أيها الذين آمنوا:

أسلوب الخطاب في الآية (56) من سورة الأحزاب، هو أسلوب الخطاب العام الذي يراد به الخصوص، أي أريد به مخاطبة جماعة بعينها، في زمانها ومكانها ولكن بوصف عام، وهذا الأسلوب مشهور ويستخدم كثيرا في اللسان العربي. وقد ورد هذا الأسلوب في الكثير من الآيات القرآنية، نكتفي منها بقوله تعالی: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون (الحجرات 2) .

جاءت هذه الآية بلفظ العموم: (يا أيها الذين آمنوا) ولكنها لا تخاطب كافة المؤمنين في كل زمان ومكان، ولكنها تخاطب مجموعة بعينها في زمانها ومكانها، جماعة كانوا يرفعون أصواتهم في حضرة خاتم النبيين، وقد مات خاتم النبيين وماتت تلك الجماعة، ولا مجال لتطبيق الآية في زماننا، فقط نأخذ منها الدروس والعبر.

كما أن هذا الخطاب (يا أيها الذين آمنوا) يعتبر أسلوب من أساليب التوبيخ، بمعنی: يا من تزعمون أنكم مؤمنون لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي .. الخ.

 

4- التسليم:

التسليم هو الإنقياد والطاعة، والمؤمنون أو من يزعمون أنهم مؤمنون مأمورين بالتسليم للنبي، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: فلا وربك لا يؤمنون حتی يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرج مما قضيت ويسلموا تسليما (النساء 65) .

وخاتم النبيين مأمور كغيره من العباد بالتسليم لله جل وعلا، جاء ذلك في قوله تعالی: قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين (غافر 66) . ولكن الناس لجهلهم يطلبون من رب العزة أن يسلم لمحمد، وذلك في قولهم: صلي اللهم عليه وسلم .. وسلم تسليما كثيرا !!

 

 

ثانيا- السياق:

1- السياق العام الذي وردت فيه (الصلاة علی) يدل علی أنها تعني: الرحمة والشفقة والعطف والتخفيف علی شخص ما، وعدم مضايقته ومؤاذاته، وتعالوا بنا نتتبع جميع الشواهد القرآنية بهذا الخصوص:

أ- عن رحمة الله جل وعلا، بعباده الصابرين، يقول سبحانه: وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (البقرة 155-157) .

ب- وعن رحمته وشفقة ملائكته جل وعلا، بعباده الذاكرين، يقول الحق تبارك وتعالی: يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ، وسبحوه بكرة وأصيلا ، هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلی النور وكان بالمؤمنين رحيما (الأحزاب 41-43) .

جـ - وعن رحمته وشفقة ملائكته بخاتم أنبياءه، وتوجيه الصحابة إلی طاعة النبي، والتخفيف عنه وعدم إيذائه ومضايقته، يقول رب العزة: إن الله وملائكته يصلون علی النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (الأحزاب 56) .

د- وعن توجيه الله جل وعلا، لنبيه الخاتم بأن يعطف علی من تاب من المنافقين، يقول الحق تبارك وتعالی: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (التوبة 103) .

هـ - وعن نهي الله جل وعلا، لخاتم أنبياءه عن الشفقة والترحم علی من مات علی النفاق، يقول الحق تبارك وتعالی: ولا تصل علی أحد منهم مات أبدا ولا تقم علی قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (التوبة 84) .

 

2- بتدبر السياق الخاص الذي ورد فيه قوله تعالی: (صلوا عليه وسلموا تسليما) . تتجلی لنا الحقيقة القرآنية القاطعة، وتعالوا بنا نتدبر سورة الأحزاب:

أ- تحكي لنا سورة الأحزاب بشكل عام عن وضع محرج وظروف قاسية، عانی منها المسلمون بشكل عام، وخاتم النبيين بشكل خاص، نتيجة حصار الأحزاب للمدينة، وما رافقه من حرب نفسية شنها المنافقون داخل المدينة، وليس هذا موضوعنا، ولكن ما يهمنا في هذا الجانب هو تخيل حجم المسؤلية والهموم التي تحملها خاتم النبيين باعتباره المسؤل الأول في المجتمع المدني، هذا طبعا إلی جانب هموم ومسؤلية الدعوة.

ب- ثم تحكي لنا سورة الأحزاب عن هم جديد ومحنة أخری تعرض لها خاتم النبيين، وهي مشكلته العائلية مع أزواجه، وكما تعلمون فإن المشاكل الأسرية من أعظم وأشد المحن التي يواجهها الرجل، مما استدعی تدخل الوحي لإنهاء هذه المحنة، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) .. الخ.

جـ - ثم تحكي لنا سورة الأحزاب محنة ثالثة تعرض لها خاتم النبيين، وهي عصيان بعض الصحابة لقضائه بعد إحتكامهم إليه، وهو أمر كان يصيب خاتم النبيين بالحزن، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالی: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضی الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36) .

د- ثم تحكي لنا سورة الأحزاب عن محنة رابعة تعرض لها خاتم النبيين، وهي مشكلة متبناه زيد مع زوجته، وتحرج النبي من الزواج منها، والقصة معروفة، ولحسم المشكلة قال سبحانه وتعالی: ما كان علی النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا (38) .

هـ - زد إلی كل ما سبق محنة خامسة تعرض لها خاتم النبيين، وهي تطفل بعض الصحابة علی حياته الخاصة، ومباغتته في أوقات الطعام للأكل عنده، ثم الاستئناس بالحديث معه، ومؤاذاته بمنادمة أزواجه والتلميح بالرغبة في الزواج منهن إذا ما طلقهن النبي، الأمر الذي كان يصيبهن بالغرور فتكثر مشاكله العائلية، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالی: يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلی طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فسئلوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما (53) .

و- لكل ما سبق تدخل الحق تبارك وتعالی، لحسم تلك المشاكل وللترويح عن نبيه، فقال للجميع: أنه جل وعلا، وملائكته، يرحمون ويشفقون علی النبي الذي يتعرض لكل هذه المحن، فيا من تزعمون أنكم مؤمنون أرحموا الرجل وكفوا عن مؤاذاته، ونفذوا قضائه، جاء ذلك في قوله تعالی: إن الله وملائكته يصلون علی النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56) .

ي- ثم توالت اللعنات بعد ذلك علی من يؤذون الله ورسوله والمؤمنين، وجاءت الآية (69) من سورة الأحزاب، لتؤكد ما أشارت إليه هذه الآيات، من أن مؤاذاة النبي هي المعنی المعاكس للصلاة عليه، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: يا أيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسی فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها.

 

أخيراً:

صلاتنا علی النبي، تتجلی في رحمتنا لشخصيته التاريخية الفريدة، التي وضع الأفاكون علی كاهلها آلاف الروايات التي تؤذيه وتشوه صورته القرآنية العطرة، ولذلك فنحن نصلي عليه بإزاحة كل تلك الأكاذيب من علی كاهل سيرته. وتسليمنا له يتجلی من خلال اتباعنا وتمسكنا بالرسالة القرآنية التي أوكل إليه الحق تبارك وتعالی مهمة تبليغها للعالمين.

اجمالي القراءات 12788