في يونيو 2013 ثار الشعب المصري بكل طوائفه ضد حكم الرئيس الأسبق د. محمد مرسي، مما نتج عنه قيام وزير الدفاع وقتها بخلع الرئيس وإعلان خارطة طريق لبناء الدولة في ظرف عام..
ومهما كان الخلاف حول هذا العمل من وزير الدفاع سواء كان انقلاباً عسكريا أو ثورة شعبية إلا أن هناك حقيقة مؤكدة لا تخطئها العين، وهي أن فصيلاً كبيرا وقطاعا ضخماً من الشعب تظاهر ضد نظام الإخوان، حتى لو صادرنا على رأي هذا الفصيل وقلنا أنه موجه أو ضحية لمؤامرة من أي نوع..لكن نزول الجمهور للشارع يعني خطأ من السلطة قولاً واحدا.
وفي فقه الثورات تلجأ السلطة دائما لاتهام الثوار بالمؤامرة أو باتهام أطراف داخلية وخارجية بالإفشال وعدم التعاون، وهي نزعة نفسية ترافق الحاكم يبرر بها عجزه عن القيادة، مما يعني أنه لا سلطة ثار عليها شعبها تمتلك الجرأة ولا الثقافة للاعتراف بأخطائها ..أو النية الحقيقية والمخلصة لعدم تكرار ذلك، ويمكن إلحاظ ذلك في نفسية الإخوان الذين لم يعترفوا بأخطائهم طيلة عامٍ في الحكم، وكأن سلطتهم كانت ملائكية أو موكلة باسم الرب..فلم ينتبهوا أن أولى خطوات الإصلاح هي.."نقد الذات"..وهي خطوة يفتقدها تيار الإسلام السياسي بشكل عام.
نعم تيار الإسلام السياسي لديه عقيدة محكمة يؤمن فيها بقداسة أفكاره، ونقد تلك القداسة غير مقبول فضلا أنه غير وارد أصلا، لذلك جزئية نقد الذات هذه كانت تصلح للإخوان قبل صعودهم للسلطة..أما وإنهم صعدوا للحكم فلا إمكانية هنا للنقد..بل لتطبيق برنامجهم وأفكارهم على الأرض، وأزعم أنهم كانوا قد شرعوا بذلك فعلا بتولية أصحاب الثقة على حساب أصحاب الكفاءة..والتحالف مع السلفيين والجهاديين ضد الليبراليين والاشتراكيين، إضافة لخسارتهم أبناء الطوائف المسيحية والشيعية والبهائية..كل ذلك ساهم في زيادة الحشد ضدهم في الشارع..وهي جزئية لن يعترفوا بها، كون الاعتراف بحقوق هؤلاء السياسية يتطلب أولا نقدهم للذات وهي مرحلة غير ممكنة لديهم كما أسلفنا.
في الأيام الأخيرة وبعد أكثر من 3 سنوات على خلع الدكتور مرسي أعلنت مصادر –غير رسمية- سواء من الحكومة المصرية أو من الإخوان بإمكانية عقد مصالحة وطنية يعود بها الإخوان كفصيل سياسي مرة أخرى يمارس حياته بطبيعية، ساهم في ذلك تولية القيادي.."إبراهيم منير"..أعمال المرشد العام للإخوان من أوروبا، وهو توجه معتدل حسب تصنيف البعض، إذ أن منير مصنف غالبا من القيادات المعتدلة والناقدة للجماعة قبل وبعد ثورة يناير.
إضافة إلى قبول الطعون الإخوانية بإلغاء الأحكام السابقة بالإعدام والمؤبد على الدكتور مرسي في أكثر من قضية، والقارئ لطبيعة وزمن هذه الأحكام ربما يلحظ توجها من السلطة بقبول الإخوان كطرف مفاوض على العودة، لكن طبعا لن تكون عودة مجانية بل مشروطة، وفي رأيي أن كبرياء الإخوان سيمنع حدوث ذلك بهذا الشكل إذ أنهم يعتقدون بأحقيتهم في المُلك، وأنهم ظُلِموا وأن عودتهم بهذا الشكل تعني الهزيمة والتنازل عن ما أسموه.."حق رابعة"..وهو اتهام للسلطة الحالية وللجيش بقتل المئات من عناصرهم في أحداث فض ميدان رابعة العدوية في النصف الثاني لعام 2013.
كذلك ألمس توجها من إبراهيم منير نفسه بعدم قبول تلك المصالحة على حساب " دماء رابعة " ولا أدري هل ذلك يعد امتصاصا منه لغضب قطاع من الإخوان يرفض المصالحة، أو هي رسالة نهائية بالرفض؟..في تقديري أن الاحتمال الأول راجح، فإبراهيم منير لديه تاريخ من العمل السلمي في أوروبا، واختياره بالذات لتولي منصب المرشد العام –ولو بالمعنى- يُفهم منه تقديم قيادات جديدة غير محسوبة على التيار القطبي العنيف داخل الجماعة، أي أن تَصدّر قيادة منير يعني مكتب إرشاد جديد أعضائه من الخارج ، وبعقول متفتحة عن القيادة القديمة.
لكن ولسبق التجربة لا يطمئن الكثير من خصوم الإخوان لهذه الخطوة، والسبب أن القيادة القديمة للإخوان شبيهة بالقيادة الحالية، كانت ترفع شعارات ومبادئ تقدمية وانفتاحية قبل ثورة يناير ، حتى بعد الثورة زمن المجلس العسكري ..لكن انقلبوا بشكل فاضح بعد توليهم السلطة، فتحالفوا مع المتشددين والجهاديين حتى رأيناهم ضيوف دائمين على منصة رابعة، إضافة لتفكيرهم بطريقة طائفية فأعلنوا العداء للمسيحيين وللشيعة المصريين أولا بالمادة 228 من دستور 2012 أو في مؤتمر الاستاد المؤيد للثورة السورية أو في جريمة قتل الشيخ حسن شحاتة كبير شيعة مصر في أبي النمرس، وهي أحداث ساهمت في نزول أبناء الطائفتين للميادين في الانتفاضة ضد الدكتور مرسي.
مبدئيا إذا أراد الإخوان فعلا مصالحة وطنية أو العودة للحياة السياسية في مصر يجب عليهم الإجابة عن سؤال محوري وهو، ماذا يريدون بالضبط؟..هل يريدون جمهورية أم خلافة إسلامية؟..الإجابة على السؤال ستوضح برنامج الإخوان السياسي
بمعنى أن لو كان الإخوان يطمحون في إنشاء خلافة إسلامية وأن الرئيس المنتخب سيطبق الشريعة يعني مصارحة ومكاشفة داخلية تؤثر حتما على طبيعة تحالفاتهم، فلا مكان لليبرالي أو للعلماني أو للمسيحي أو للشيعي..وعلى الشعب الاختيار، وفي ظني لو أعلنوا في برنامجهم ذلك ما تحالف معهم أحد في البرلمان، حتى السلفيين لديهم مشروع آخر للخلافة مختلف عن الإخوان..وهنا يستعيدون جميعا أجواء الخلاف الفقهي والسياسي بين مدارس الفقه السني المتعددة، وأبرزهم في ذلك مدرسة الحنابلة المضادة بشكل كلي لمدرسة الأحناف فكريا، ولمدرسة المالكية والشافعية في السياسة والمصالح المرسلة.
وخطوة مشروع الخلافة هذه تجعل عناصرهم أكثر دراية وفهما للواقع السياسي المصري، فلو كان الإخوان يفهمون حقا معنى إنشاء خلافة لأدركوا طبيعة الشعب المصري وثقافته، إذ أن الإيمان بالخلافة يعني الإقرار بنفيها عن الواقع..وبالتالي تذهب أكذوبة أو نغمة الشعب المصري متدين بطبعه أو هو يريد تطبيق الشريعة..هذه كلها مفاهيم خدعت الإخوان في السابق، وفشلوا عن طريقها في قراءة الشعب..حتى رأينا من يتظاهر لهم ويؤيدهم في برلمان 2011 ودستور 2012 هو نفسه من تظاهر ضدهم ورفضهم في 2013، وهو بعينه من اختار السيسي رئيسا وبرلمانا ودستورا بأغلبية كاسحة.
نعم لو أعلن الإخوان أنهم يريدون تطبيق الشريعة ومشروع الخلافة فعلا لأصبحوا أكثر قوة مما مضى، على الأقل سينجحون في بناء تحالفات شعبية تنتصر لهذا التوجه، والقوة تأتي من الوضوح دائما..لكن في تقديري أنهم لا يمتلكون الشجاعة للإعلان عن ذلك لسببين: الأول: ظهور داعش بخلافة مشئومة وسيئة شوهت كل مشاريع الخلافة المطروحة، الثاني: أن طبيعة الإخوان السرية تحول دون ذلك..فالمعلومة غير متاحة وقواعد الانتخاب والاقتراع على الرأي داخل التنظيم فاشلة، لأن طبيعتهم السرية لا تسمح باستبيان حقيقي لرأي القواعد والنخب..وهو توجه وسلوك إخواني معادي للديمقراطية.
وفي جزئية عدم إيمان الإخوان بالديمقراطية فصلنا كثيراً في تلك الجزئية، وقلت أنهم يؤمنون بالشورى، والفارق أن الشورى تجعل الرأي في النهاية للأمير/ الحاكم مهما كان حجم الرفض الشعبي لرأيه، بينما الديمقراطية غير ذلك لأن القرار فيها من الشعب أو ما عرف تحديدا.."بالشعب مصدر السلطات"..وهي قيمة لا يؤمن بها الإخوان لأن الشعب لديهم متغير بتغير الثقافة، أما الحكومة يجب أن تكون ثابتة لحراسة الدين..فمن غير المقبول لديهم أن ينتخب شعب يحب أليسا أو نانسي عجرم خليفة للمسلمين..لأن الخليفة وقتها سيُصبح نزولاً لرغبة هؤلاء الفاسدين، بمعنى آخر الشعب لديهم ليس مصدر للسلطات لأنه شعب فاسد ومتغير..
والجانب الأخير هو ما دفعهم للعمل بما سموه.."مشروع الأسلمة"..ويعني نشر الإسلام-حسب ما يعتقدوه-في الشارع، وبالتالي خلق أجيال ونخب وجماهير تؤمن بما يعتقدوه، ومشروع الأسلمة بدأ لديهم في السبعينات وانتشر في الثمانينات والتسعينات، ومن مظاهرة شيوع الحجاب وغطاء الرأس والجلباب واللحية، وانحراف الذوق الفني والشعبي لذوق آخر خليجي، أي أن مشروعهم للأسلمة كان شكليا لا جوهريا، وقد تحدثت عن هذه الجزئية كثيرا وقلت باختصار: أن التراث الذي اعتمدوه لنشر الأسلمة هو تراث شكلي لذلك كان تدينهم شكليا....
نعود للسؤال المحوري ماذا يريد الإخوان بالضبط؟؟..هل جمهورية أم خلافة إسلامية؟؟.وقد فصلنا الأخيرة بشئ من الإيجاز، أما الكلام عن الجمهورية فيأخذنا إلى سؤال رئيسي..ما معنى الجمهورية؟
يقول شيشرون.."أن الجمهورية تعني الشئ التابع للجمهور أي أنها معادِلة للجماهير"..وهو تعريف مبسط وواقعي أؤمن به بشدة، فالجمهورية من الجمهور، وبما أن الديموقراطية تعتمد في آلياتها على هذا الجمهور إذن فالديموقراطية ركن أساسي في الجمهورية..
هذا التعريف يصدم العقل الإخواني بشدة ، إذ أنهم لا يؤمنون بسيادة رأي الجمهور أصلا كونهم يرون القاعدة الشعبية فاسدة وتحتاج للإصلاح والأسلمة، وعليه لن يؤمنوا بخيار يجعل الفاسد عليهم ملكا، والسبب أن العقل الإخواني يرى الدين بطريقة سلطوية، أي أن الدين يبدأ وينتهي بالسلطة، وفي أعرافهم شاعت مفاهيم القوة كيزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فالدين لديهم مجرد وسيلة للسلطان أما الإصلاح كله يأتي من تلك السلطة..
طريق طويل جدا ومهمة شاقة لإصلاح العقل الإخواني، لكن أراه ضروريا وشرطا رئيسيا كي يعودوا للحياة السياسية في مصر، فإيمان الإخوان بالجمهورية يعني التمرد على كل القيم والأعراف والمذاهب التي نشأوا عليها، وهي مهمة شاقة جدا كما سلف، وفي نفس الوقت أرى أن تلك المهمة ممكنة –مرحليا- فقط لو شرعوا في نقد الذات، على الأقل يثوروا أو يرفضوا مشروع الخلافة..ليس لأن داعش آمنت به ونفذته، ولكن لأن الخلافة نفسها مبدأ وخيار غير عصري..ففي زمن التكنولوجيا والإنترنت أصبح رأي الشباب مقدم على رأي النخب، وتبدلت القاعدة فبدلا من قيادة تلك النخب المفترضة -والقائمة على الإصلاح-للشباب..حدث العكس..
أي أن أبعاد ومقومات عصر الإنترنت لن تسمح بنشوء أو حتى نجاح تلك الخلافة، وهي رؤية تتطلب أولا من الإخوان الثورة على كل المفاهيم القديمة التي درسوها وتـأثروا بها في الكتب، لذلك قلت هي مهمة شاقة جدا لأنها تعني الانسلاخ عن الذات وبناء إنسان عصري جديد..