عودة الدولة العميقة مع مشروع قانون الجمعيات!

سعد الدين ابراهيم في السبت ٢٦ - نوفمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

لقد ورثنا مُصطلح الدولة العميقة، من بُلدان أوروبا الشرقية، حينما كانت تحت سطوة النظام الشمولى السوفييتى، والمُصطلح يُشير إلى النفوذ الذى تُمارسة الأجهزة الأمنية والمُخابراتية، على بقية مؤسسات المجتمع وعلى عموم المواطنين، دون أن يراها الرأى العام، أو يكون فى مقدور آليات الضبط الاجتماعى، بما فيها القضاء، مٌراقبتها، أو مُحاسبتها.

وقد عرفت مصر، خلال النصف الثانى من القرن العشرين، مؤسسات الدولة العميقة، مُتمثلة فى جهازى مباحث أمن الدولة، والمُخابرات العامة، بكل ما صاحبها من الرعب، والتعذيب، والاختفاء القسرى للمواطنين.

وكانت مُبررات النظام السياسى الحاكم فى لجوئه لتلك المُمارسات اللاإنسانية واللاأخلاقية، هو أن الوطن يمر بمراحل حرجة، وأن مصر مستهدفة من أعدائها فى الخارج، أو من الرجعية وجماعات مُتطرفة فى الداخل.

ومع الثورة الشبابية المجيدة فى ٢٥ يناير ٢٠١١، انكشف الستار عن مثل تلك الدعاوى والمُبررات، وأنها مُجرد فزّاعات، يتحايل بها النظام الحاكم وأجهزة دولته العميقة، للتنكيل بالنُشطاء والمُعارضين. بل إن انفجار الثورة فى ذلك اليوم (٢٥ يناير) كان مقصوداً، حيث كان المصريون يحتفلون بهذا اليوم عرفاناً وافتخاراً برفض قوات الشُرطة فى مدينة الإسماعيلية لإنذار قوات الاحتلال البريطانى بالاستسلام وإخلاء مبنى أمن المُحافظة للجنود الإنجليز الذين كانوا يبحثون عن الفدائيين المصريين الذين دأبوا فى تلك الفترة (١٩٥٠/١٩٥١) على مُهاجمة مُعسكراتهم فى منطقة القناة.

ولكن العقود الستة التالية (١٩٥٢-٢٠١٠) شهدت التحول التدريجى لقوات الشُرطة من جهاز وطنى يعتز به الشعب المصرى، إلى جهاز قمعى، لإرهاب المصريين وإهانتهم وانتهاك حقوق الإنسان، جهاراً نهاراً، دون وازع من إنسانية أو ضمير. ومن ثم كان التوقيت لانتفاضة ٢٥ يناير هو مُحاولة لإيقاظ ضمير العاملين فى المؤسسات الأمنية المصرية!

المُهم لموضوعنا هو أن مؤسسات الدولة العميقة عادت إلى المجال العام لإرهاب المصريين وتخويفهم، فمن مقتل الناشطة السكندرية شيماء الصبّاغ فى ميدان طلعت حرب بالقاهرة (٢٠١٢)، إلى تعذيب البائع المتجول مجدى مكين حتى الموت (٢٠١٦)، ضمن حوادث أخرى عديدة فى أماكن مُتفرقة، على امتداد مصر المحروسة، من سيناء، إلى المنصورة، إلى كرداسة (بالجيزة)، إلى النوبة فى أقصى جنوب البلاد.

ولكن آخر تجليات عودة الدولة العميقة، هو التخطيط لحِصار مُنظمات المجتمع المدنى المصرية من خلال مشروع قانون الجمعيات الأهلية، وهو مشروع القانون الذى أخفته مؤسسات الدولة العميقة حتى عن وزرائها المُختصين برعاية وتشجيع الجمعيات الأهلية، وفى مقدمتهم الوزيرة النابهة غادة والى، التى فوجئت بأن البرلمان أجاز مشروع قانون مُغاير للمشروع التى كانت هى ومُساعدوها، والاتحاد العام للجمعيات قد أنجزوه منذ عدة شهور، أو ذلك الذى كان قد أنجزه الوزير الأسبق لنفس الوزارة، الدكتور أحمد البُرعى.

فهل هى الدولة العميقة عادت مرة أخرى، وقدمت مشروع قانون على مزاجها لتكبيل المجتمع المدنى المصرى؟

فإذا كان جهاز الأمن الوطنى (مباحث أمن الدولة سابقاً) هو الذى أعد مشروع قانون الجمعيات الجديد، فلماذا لا يُفصح عن ذاته، ويطرح مشروع قانونه على الرأى العام أسوة بمشروع وزارة التضامن الاجتماعى، وذلك للمُفاضلة بينهما، واختيار الأصلح، أو ربما للخروج بمشروع ثالث يأخذ من كل ما يُطرح فى هذا الصدد أفضل ما فيه؟

وأخيراً، همسة عتاب وتحذير للرئيس عبدالفتاح السيسى، إن كل المجهودات المُضنية التى يبذلها هو ورئيس وزرائه المهندس شريف إسماعيل، لاجتذاب الاستثمارات الخارجية، أو لتعبئة المُدخرات المحلية، لن تثمر كلية، ما دام المجتمع المدنى المصرى، وعماده الجمعيات الأهلية، مُكبلاً بالأغلال!

ربما يستغرب الرئيس، وربما من يقرأون هذا المقال، عن العلاقة بين جذب الاستثمارات وتعبئة المُدخرات من ناحية، والجمعيات الأهلية من ناحية أخرى؟

والإجابة هى باختصار، الإرادة الحُرة للأفراد والكيانات المعنوية. فالادخار والاستثمار هو سلوك تطوعى فى المقام الأول، وكذلك الجمعيات الأهلية. فالذين يُبادرون بتأسيس الجمعيات الأهلية، يفعلون ذلك بإرادتهم الحُرة. ولذلك نجد أن البُلدان الناهضة تعتمد جميعاً على مُثلث: القطاع العام (الدولة)، والقطاع الخاص (رجال الأعمال)، والمجتمع المدنى (الجمعيات الأهلية). وكلما تساوت أو تقاربت أضلاع المُثلث، صح، وانطلق الجميع.

أما المرض المُزمن للدولة فى شكّها فى أمانة أو وطنية المجتمع المدنى فالرد عليه، هو أنه لم يحدث أو يثبت أن أياً من هذه المنظمات قد تورّط فى تجسس أو خيانة أو اختلاس. بل إن العكس هو الصحيح. أى أن معظم القضايا الكُبرى للتجسس والخيانة والفساد، كان الضالعون فيها هم من المسؤولين فى أجهزة الدولة نفسها.

اللهم قد بلغت... اللهم فاشهد،

وعلى الله قصد السبيل.

اجمالي القراءات 7898