الخطبة الأولی:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
تبارك الذي نزل الفرقان علی عبده ليكون للعالمين نذيرا ، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا.
الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطييات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين ، هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين
هو الذي أرسل رسوله بالهدی ودين الحق ليظهره علی الدين كله.
قرآنا عربيا لعلكم تعقلون.
كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.
آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون، فسنتحدث في هذه الساعة المباركة عن دين الله جل وعلا، والذي وصفه سبحانه بأنه الدين القيم، وموضوعنا هذا يأتي كحلقة ضمن سلسلة حلقات هدفها، تنقية العقيدة ومحاربة الشركيات، حتی يكون الدين خالصا لله وحده لا شريك له.
في البداية يحدثنا الحق تبارك وتعالی عن عظمته وملكه وقوته، بأنه خالق ومالك السماوات والأرض، وأن جميع ما فيهما من دآبة وملائكة خاضعين له سبحانه، يخافونه جل وعلا، ولا يستكبرون عن عبادته، ثم ينهانا الحق تبارك وتعالی أن نتخذ إله (ولي) آخر، فليس لنا إلا إله واحد، له الدين خالصا (واصبا) ، جاء ذلك في قوله تعالی: ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دآبة والملائكة وهم لا يستكبرون ، يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ، وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون ، وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون (النحل 49-52) .
وحقيقة خلق السماوات والأرض ومالكها يعرفها كافة المسلمون، ولكن الغالبية العظمی لا يعرفون معنی قوله تعالی: وله الدين واصبا. والذي وضحته الآيات السابقة بأن معناه توحيد الخالق جل وعلا، ورهبته واتقائه وحده لا شريك له، أي إخلاص الدين لله تعالی.
وبعد هذا يأمرنا الحق تبارك وتعالی، بالعدل، وإخلاص العبادة لله جل وعلا، موضحا بأن الناس في هذا الخصوص فريقين: فريقا وحدوا الحق تبارك وتعالی، فاستحقوا الهداية. وفريقا آخر اتخذوا الشياطين (الأئمة) أولياء من دون الله تعالی، فحقت عليهم الضلالة، وهم يحسبون بأنهم مهتدون، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون ، فريقا هدی وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون (الأعراف 29-30) .
بنزول القرآن الكريم، لم يعد هناك عذر بالجهل، فقد كانت توجيهات الله جل وعلا، واضحة صارمة: بأن تكون العبادة خالصة لله جل وعلا، وأن ما يذكر من دونه من أولياء (أهل بيت وصحابة وصالحين .. الخ) بهدف التقرب بذكرهم وخاصة في العبادات، إنما هو كذب، وأن الله جل وعلا، سيحكم فيهم حكمه العادل يوم القيامة بالخلود في الجحيم، فهو سبحانه لا يهدي من هو كاذب كفار، جاء هذا في قوله تعالی: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ، ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلی الله زلفی إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار (الزمر 2-3) .
كانت أوامر الله جل وعلا، لخاتم أنبياءه واضحة قاطعة، بأن يعبد الله جل وعلا بإخلاص، وأن يكون أول المسلمين من حيث تطبيق أوامر الله جل وعلا. وقد أعلن خاتم النبيين لقومه (المشركين) خوفه من عذاب يوم عظيم، معلنا تبرئه من شركهم، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ، وأمرت لأن أكون أول المسلمين ، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ، قل الله أعبد مخلصا له ديني ، فاعبدوا ما شئتم من دونه (الزمر 11-15) .
هذا الدين الخالص هو ملة إبراهيم الحنيف، التي وصفها الحق تبارك وتعالی بالصراط المستقيم، والذي تناولناها في الجمعتين الماضيتين، وقلنا فيهما: بأن خاتم النبيين لم يأت بدين جديد، فما هو في الحقيقة إلا متبع لملة إبراهيم. والملة هي طريقة العبادات، والحنيف هو المائل والمخالف لقومه المشركين. ولب ملة إبراهيم: هو توحيد الخالق والذوبان فيه، بأن تكون صلواتنا ونسكنا ومحيانا ومماتنا لله رب العالمين، لا شريك له، والحرص علی حيازة المرتبة الأولی في الطاعات، نفهم ذلك من قوله تعالی: قل إنني هداني ربي إلی صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ، قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (الأنعام 161-162) .
ثم يأمر الحق تبارك وتعالی، خاتم أنبياءه، بأن يقول للمتشككين: أنه لا يمكن أن يقدس أو يذكر أو يتوسل أو يتقرب، بما بقدسه ويذكره ويتوسل ويتقرب به أولئك المشركون، فكل تلك المقدسات حقيرة، لا تضر ولا تفع، جاء ذلك في قوله تعالی: قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين ، وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ، ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين (يونس 104-106) .
وفي نهاية المطاف مع الكفار، وبكل لبرالية وديمقراطية وعلمانية، يأمر الحق تبارك وتعالی خاتم النبيين، أن يقول لقومه، لكم دينكم ولي دين، جاء ذلك في قوله تعالی: قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، لكم دينكم ولي دين (الكافرون) .
وقبل خاتم النبيين (عليهم السلام) ، وضح الصديق يوسف في سجنه معالم الدين القيم، المتمثلة في توحيد الله جل وعلا، وعبادته وتقديسه وحده ولا شريك له، باعتباره صاحب الحكم والأمر وحده، وأن كل ما دون الله جل وعلا، من أولياء وأئمة وقبور مقدسة .. الخ. ما هي في الحقيقة إلا مفتريات وأسماء اخترعها الناس وعظموها، مع أن الله سبحانه لم ينزل بها سلطانا، وفي ذلك يقول سبحانه: يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (يوسف 39-40) .
وكالعادة يضرب الحق تبارك وتعالی، الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، وهنا يضرب لنا مثلا من أنفسنا: هل يعقل أن يقوم أحد منا بإشراك أحد خدمه أو عماله في أمواله وسلطته! ليصبح هو وخادمه سواء في الصلاحيات والملك؟! بالتأكيد لا يمكن، لماذا؟ لأنها فطرة الله الذي لا تقبل بشريك، ولا يجهل هذه الحقيقة إلا جاهل متبع لهواه، ظالم لنفسه، ليس له من ناصر، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الأيات لقوم يعقلون ، بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين ، فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (الروم 28-30) .
وأخطر أنواع الشرك علی الإطلاق، هو الشرك التشريعي، حين يقدس الناس أقوال الأئمة والرواة، ويضعونها إلی جانب كتب الله جل وعلا، بل ويجعلونها حاكمة ومهيمنة علی كتب الله جل وعلا، تقول له: قال تعالی. فيقول لك: بل قال سيدي، بل قال إمامي الفلاني كذا وكذا. وعن هذا الشرك يقول سبحانه وتعالی: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله (الشوری 21) .
لذلك يحذرنا الحق تبارك وتعالی، من أن نكون من أولئك المشركين الذين فرقوا دينهم بصناعة مذاهب من خلال تقديس أقوال أولئك الشركاء الذين صنعوا لهم أحاديث واجتهادات ما أنزل الله بها من سلطان، وفي ذلك يقول سبحانه: ولا تكونوا من المشركين ، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون (الروم 32) .
مؤكدا جل جلاله، بأن دينه وشرعه واحد، وأن الممثل الشرعي والوحيد لدينه هو كتابه العزيز، فالواجب علی الناس التمسك بكتاب الله تعالی، وعدم التفرق في دينه، جاء ذلك في قوله تعالی: شرع لكم من الدين ما وصی به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسی وعيسی أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه (الشوری 13) .
ولأن الأمم السابقة تفرقت واختلفت وابتعدت عن هدي الله تعالی، ووقعت في الشرك حين اخترع الناس روايات وأكاذيب ونسبوها لأنبياءهم، فإن القرآن الكريم، يبرئ خاتم النبيين مسبقا من أولئك المجرمين الذين سيأتي بعد موته، ليختلقوا أحاديث وروايات تمزق الأمة وتجعلها جماعات وطوائف ومذاهب، مختلفة، وفي ذلك يقول سبحانه: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلی الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون (الأنعام 159) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه تعالی ملك بر رؤوف رحيم.
قلت ما سمعتم، واستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، ولوالدي ووالديكم، ولسائر المؤمنين والمؤمنات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
المضحك المبكي في حال البشر، أنهم يعيشون في غيهم، مبتعدين عن ربهم، فإذا دارت عليهم الدوائر، وأصابتهم المصائب، رجعوا إلی خالقهم مخلصين له الدين، قاطعين له العهود بأنه إذا نجاهم مما هم فيه، ليكونن من الشاكرين، فإذا ما أنجاهم إذا هم يعودون لغيهم مرة أخری، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: هو الذي يسيركم في البر والبحر حتی إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق (يونس 22-23) .
وهذا هو حال المشركين أيضا، يقدسون ويعظمون أولياء لا حول لهم ولا قوة، وإذا ما ألمت بهم كارثة، رجعوا إلی الله مخلصين له الدين، فإذا ما أنجاهم عادوا لشركهم، وفي ذلك يقول سبحانه: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلی البر إذا هم يشركون ، ليكفروا بما ءاتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون (العنكبوت 65-66) .
ولي شخصيا تجربة مرة في هذا الخصوص، فيوما ما كنت من المشركين، وكانت هتافاتنا وأدبياتنا ومبادئنا، منصبة في تقديس الأولياء والموتی: يا حسين، يا رسول الله، لبيك يا زينب، يا وليي، يا إمامي، يا زيد، يا سيدي .. الخ. غير أن كل هؤلاء الموتی تلاشوا وضاعوا في أول موقف أواجه فيه الموت، بعد أن أدركت أني مقتول لا محالة، حينها لم يبقی أمامي إلا أن أتجه إلی رب العزة جل وعلا، هناك فقط عرفت معنی قوله تعالی: وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلی البر فمنهم مقتصد وما يجحد بأياتنا إلا كل ختار كفور (لقمان 32) .
وقبل الختام نعود ونذكر بوجوب إخلاص الدين لله جل وعلا، قبل فوات الأوان، وذلك إمتثلا لقوله تعالی: فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون (الروم 43) .
وأهم وسيلة تعين الإنسان علی إخلاص الدين لله تعالی، هي اجتناب مخالطة المشركين، نفهم ذلك من قوله تعالی: وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا (الأنعام 70) .
وصدق الله العظيم، القائل: ونادی أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما علی الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بأياتنا يجحدون (الأعراف 50-51) .
ختاما: يقول الحق تبارك وتعالی: يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ، وسبحوه بكرة وأصيلا ، هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلی النور وكان بالمؤمنين رحيما (الأحزاب 41-43) .
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (غافر 60) .
ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ، ربنا وآتنا ما وعدتنا علی رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته علی الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا ، أنت مولانا فانصرنا علی القوم الكافرين.
قوموا إلی صلاتكم يرحمكم الله