مقدمة
1ـ طبقا لما رواه أئمة الحديث ومؤرخوهم فقد كان ابن المبارك (118ـ ـ181هـ) أكثر علماء عصره شهرة ، وأنه عاش فى عصر هارون الرشيد وفاقت شهرته على شهرة هارون الرشيد، ولم تقتصر شهرته علي مجتمع العلماء بل امتدت إلي جموع الشعب المسلم بين خراسان والعراق والحجاز ومصر. ولم تقف شهرته علي نبوغه في العلم وإنما امتدت إلي تفرده بالكرم والمروءة ورعاية المحتاجين من العلماء ثم اشتهر مع ذلك بإسهامه بالغزوات وجهاد الروم بالسلاح والنفس والمال .. وقد قالوا إن العلماء اعترفوا له في خلافة الرشيد بالفضل والسبق في ميدان العلم والأخلاق الحميدة ، ومع أنهم أسهبوا في مدحه فإننا لا نجد من أقام له مذهبا علميا حمل اسمه بعد وفاته ، مع أن له تلامذة مشهورين بين علماء الحديث والفقه . وكل هذا يجعلنا نشكّ فى الروايات التى حيكت فى تاريخه .
2 ـ والخطأ الأساس لدى مؤرخى التراث إنهم كانوا يصفون أئمة وشيوخ الحديث والسّنة بأنهم علماء ، وصفة العلم أبعد ما تكون عنهم ، فقد كانوا متخصصين فى الكذب على النبى واختراع أحاديث ينسبونها له عليه السلام ـ بعد موته بقرنين وأكثر، عبر( السند ) أو سلاسل من العنعنات ، أى روى فلان عن فلان عن فلان.ولقد بحثنا هذا الإفك فى بحث ( الإسناد). ولا يمكن للكاذب الأفّاك أن يكون عالما، ثم تراهم بعد الكذب على النبى يختلفون فى تقييم الرواة الكاذبين، يعطون أحكاما مؤبدة بالكذب أو بالعصمة أو بالثقة ، ويختلفون مع بعضهم فى هذا التقييم الذى يتراوح بين ( الجرح ) أى الهجوم و( التعديل ) أى المدح . وهذا الهوى لا يؤسس علما موضوعيا ، ولكن يصلح لتأسيس دين أرضى ، فالأديان الأرضية كلها مؤسسة على الافتراء على الله جل وعلا ورسله ، وبعد الكذب فى الدين يصبح سهلا الكذب فى التاريخ. ومن هنا تلونت سيرة شيوخ الأحاديث بالكذب ، خصوصا عندما يؤرخ أحدهم لشيخه أو إمام مذهبه. ولقد سرت هذه العدوى حتى أصبحت وباءا أسفر عن ظهور مؤلفات تتخصص فى مناقب أئمة المذاهب الفقهية ، بل وتتخصص فى تاريخ شيوخها مثل ( طبقات الشافعية ) وغيرها. ومن هنا نفهم الأرضية التى نبتت فيها رسم تلك الشخصية لعبد الله بن المبارك . ولا يعنى هذا أننا نلقى عرض الحائط بكل ما جاء فى التأريخ له ، ولكن بمنهجية البحث التاريخى نفحص الروايات ، ونقول فيها رأينا ، وهو أيضا مجرد اجتهاد يخطىء ويصيب ، شأن أى بحث تاريخى . وننقل ما قيل فى سيرته ، ونعطى تعليقا عليها .
أولا : من هو ابن المبارك ؟
1 ـ (عبد الله بن المبارك ، أبو عبد الرحمن المروزي ، نسبة إلي مدينة مرو.) كان أبوه تركيا من همدان وكانت أمه خوارزمية ، واكتسب ولاء عربيا لقبيلة حنظلة حسبما كان متبعا في ذلك الوقت. وقد أدرك أبواه شهرته العلمية ، وكان إذا قدم ابن المبارك إلي همدان زارهما وعظمهما . ويبدو من سيرته المكتوبة أنه كان عصاميا ، لم يرث ثروة عن أبيه الذي كان فقيرا أو كان مولى لبعض التجار كما يروي ابن الجوزي في المنتظم ، ومعني ذلك أن عبد الله بن المبارك بدأ من الصغر فأسس نفسه بنفسه في ميدان العلم وميدان التجارة وجمع بينهما ففتح الله تعالي عليه أبواب العلم وأبواب الرزق معا ، وحين اشتهر بالعلم وسعة المال فإنه ـ طبقا لما جاء فى سيرته ـ كان يوزع هذا وذاك بسخاء شديد علي كل من يريد ، وعليه فقد تأسست شهرته بين شيوخ الحديث ـ ومعظمهم فقراء ـ بسبب سخائه وثروته.
2ـ وساعدته التجارة علي التقلب بين الأمصار فسمع الحديث من العلماء في كل بلد وأخذ عنهم ، فسمع عن هشام بن عروة وإسماعيل بن أبي خالد وسليمان الأعمش وسليمان التيمي وحميد الطويل وعبد الله بن عون ويحيي بن سعيد الأنصاري وموسي بن عقبة وسعيد الجريري ومعمر بن راشد وبن جريج وابن أبي ذئب ومالك بن أنس وسفيان الثوري وشعبة والأوزاعي والليث بن سعد ويونس بن يزيد وإبراهيم بن سعد وزهير بن معاوية وأبي عوانة . ومن التوقف مع أولئك الشيوخ فإن ابن المبارك سافر إلي مصر فأخذ عن علمائها وأهمهم "الليث بن سعد" ورحل إلي المدينة فأخذ عن فقيهها "مالك بن أنس" وإلي الشام فأخذ عن "الأوزاعي" وإلي العراق وخراسان ليأخذ عن " الثوري وشعبة والأعمش" وغيرهم .وأنه أيضا قد ( سمع ) روايات الحديث والفقه والمغازي والتاريخ إذ أن هذه الثلة من العلماء ضمت أهل الفقه وأهل الحديث وأصحاب المغازي والتاريخ ، وأضاف إلي ذلك موهبة فائقة في الشعر والأدب وعقلية حافظة لاقطة مبدعة حسبما نفهم من الروايات . ولكن نتوقف مع مغزى تعبير (سمع من فلان ) أى كان ما يسمى بعلم الحديث يقوم على السماع من شيخ ، والرواية عنه ، ويصبح المستمع حجة فيما سمعه عن شيخه الذى يروى عنه بعد موته، وطبعا مفروض أن نصدقه فيما يرويه عنه من أحاديث منسوبة للنبى . أى هو ( سماع ) أى إشاعات واقاويل مرسلة تأسس عليها ما يسمى بعلم الحديث ، ثم بدأ التدوين فيما بعد ، بأن يكتب أحدهم من ذاكرته يقول ( أخبرنا فلان عن فلان ) كما كتب البخارى ت 256 ، وأضرابه .. وهذا هو (علم الحديث ) ..
ثانيا : جهود ابن المبارك فى رواية وسبك الحديث
1 ـ وبسبب شهرة ابن المبارك فقد زعم كثيرون الأخذ عنه ، منهم داود بن عبد الرحمن العطار وسفيان بن عيينه وأبو إسحاق الفزاري ومعتمر بن سليمان ويحيي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن وهب ويحيي بن آدم وعبد الرازق بن همام وأبو أسامة ومكي بن إبراهيم وموسي بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم وعبد الله بن عثمان ويعمر بن بشر وأبو النضر هاشم بن القاسم ويحيي بن معين وأبو بكر بن أبي شيبة والحسن بن الربيع البواراني والحسن بن عرفة ويعقوب الدورقي وبن مجشر وغيرهم .. وقد قالوا فى سيرته انه حيثما كان يحل ببلد يتوافد عليه الناس لتلقي العلم ، ومع أنه كان يزور بغداد قليلا إلا أن الخطيب البغدادي ترجم له ضمن أعيان بغداد افتخارا به وقال عنه " قدم بغداد غير مرة وحدث بها " وأفرد له ترجمة تقع في ست عشرة صفحة .
2ـ والخطيب البغدادى ـ المتوفى عام 463 فى القرن الخامس الهجرى ـ جمع فى موسوعته ( تاريخ بغداد ) تأثير ابن المبارك في بغداد بعد موت ابن المبارك بنحو قرنين من الزمان ، إذ كانت الألسن تلهج بمدحه والإشادة به عالما كريما سخيا وصاحب مروءة ، وقد جمع الخطيب البغدادي شهادة أهل عصره فيه ، ونورد بعضها لنرى إلى أي حد جعل رواة الحديث من ابن المبارك نجما ساطعا في خلافة الرشيد، وكان عصر الرشيد يموج بالعلماء وكان أزهى أيام الخلافة العباسية ،ومع ذلك فقد جعلوه عصر ابن المبارك وليس عصر الرشيد، وقد قيل فى ابن المبارك إنه (هو البدر المنير فى هذا العصر) ، وقد مدحه عمار بن الحسن فقال فيه هذا المعنى :
إذا سار عبد الله من مرو ليلة . فقد سار منها نورها وجمالها
وإذا ذكر الأخيار في كل بلدة . فهم أنجم فيها وأنت هلالها
ويقول عنه الخطيب البغدادي" كان من المتقدمين الموصوفين بالحفظ ومن المذكورين بالزهد " . وقال عنه عبد الله العجلي " عبد الله بن المبارك خراساني ثقة ورجل صالح ، وكان يقول الشعر ، وكان جامعا في العلم " . وقال عنه العباس بن مصعب "جمع عبد الله بن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس ــ أي التاريخ ــ والشجاعة والتجارة والسخاء والمحبة عند الفرق " . أي وصف علمه وشخصيته وحب جميع الفرق له ، أي أنهم افترقوا واختلفوا في الآراء ولكن اتفقوا علي الإشادة بابن المبارك .
وفى القرن السادس الهجرى يقول عنه ابن الجوزي المتوفى عام 597 : " كان من أئمة المسلمين الموصوفين بالحفظ والفقه والعزيمة والزهد والكرم والشجاعة ، وله التصانيف الحسان والشعر المتضمن للزهد والحكمة وكان من أهل الغزو والمرابطة" . وابن الجوزي يلخص في القرن السادس الهجري ما قيل عن ابن المبارك في القرن الثالث الهجري .
ثالثا :وضع الروايات فى ذيوع شهرته
1 ـ وروى القصاصون ورواة الحديث أن ابن المبارك نبغ في موطنه خراسان إلا أن شهرته تعدت خراسان وغزت بغداد فتحدث علماؤها عنه ، وأثنوا عليه قبل أن يشاهدوه ، ومن الطريف أن ذلك كان يحدث أمامه وهم لا يعرفون أنه ابن المبارك ، فيروي ابن سنان أن ابن المبارك أتي حماد إبن زيد فنظر إليه ابن زيد وتحدث معه فأعجبه منطقه فقال له : من أين أنت ؟ قال من خراسان ، قال : من أي خراسان ؟ قال : من مرو ، قال : تعرف رجلا يقال له عبد الله بن المبارك ؟ قال : نعم ، قال : ما فعل ؟ قال : هو الذي تخاطب ، فسلم عليه ورحب به وتصادقا . وقالوا أن الأوزاعي عالم الشام الأشهر سأل بعضهم قائلا : أرأيت ابن المبارك ؟ فقال : لا ، قال له : لو رأيته لقرت عينك . وسأل شعبة رجلا آخر فقال : أعرفت ابن المبارك ؟ فقال له الرجل : نعم . فقال شعبة للرجل : ما قدم علينا من ناحيتكم مثله .. وذلك يعني أن ابن المبارك قد سبقه علمه ونبوغه إلي العراق قبل أن يأتي العراق . وقالوا إنه جاء للعراق أستاذا معلما سنة 141 تسبقه شهرته فالتف حوله الناس .
2 ـ ويصور المحدثون شهرته حين جاء الى بغداد بتلك الرواية التى يحكيها شعيب بن شعبة المعيصي يقول " قدم هارون الرشيد أمير المؤمنين الرقة فانصرف الناس إلي عبد الله بن المبارك ، وتقطعت النعال وارتفعت غبرة التراب من كثرة ازدحام الناس حوله ، فأشرفت زوجة للرشيد من برج قصر الخشب فلما رأت الناس قالت : ما هذا ؟ قالوا : عالم من أهل خراسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك ، فقالت : هذا والله الملك ، لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلا بالشرطة والأعوان .." لكى نصدق هذه الرواية علينا أن نتصور الراوى داخل قصر هارون الرشيد يقف خلف زوجة هارون الرشيد التى لم يحدد الراوى إسمها ، مع شهرة نساء الرشيد وجواريه. وهذه رواية غاية فى الجرأة على الكذب ، فقد كان مستحيلا أن يدخل أحدهم الى حريم هارون الرشيد ويقف خلفها يتسمع ما تقول ، ثم يخرج حيا ليحكى لنا ما سمعه . وإذن فأين كان مسرور وسيفه البتار الذى أرعب البرامكة وغير البرامكة ؟ ولكنه الادمان على الكذب عند أهل الحديث .وبتلك الروايات اللاحقة المصنوعة فاقت مكانة بن المبارك مكانة هارون الرشيد ، وحاز دونه على حب الناس وإعجابهم وتهافتهم عليه . وكان منتظرا أن يحسده هارون الرشيد على تلك الشهرة ـ لو كان ذلك صحيحا ، ولكنهم جعلوا هارون الرشيد يحزن عندما بلغه موت ابن المبارك، وأنه قال : " مات سيد العلماء "،أى جعلوا هارون الرشيد فى مكانة بعض تلامذة ابن المبارك ، لذا لا نعجب حين يقول أبو إسحاق الفزاري : "ابن المبارك إمام المسلمين أجمعين " ، وكان أسود إبن سالم يقول "كان بن المبارك إماما يقتدي به وإذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه في إسلامه " .. وهذا بالتأكيد لا علاقة له بالاسلام الحقيقى الذى يعبر عنه القرآن الكريم وحده ، ولكن علاقته بالدين السّنى الذى صنعه ابن المبارك وغيره .
رابعا : بينه وبين معاصريه من مخترعى الدين السّنى
1ـ وشهرة بن المبارك كانت تستدعي عقد المقارنات بينه وبين غيره من علماء الدين السّنى فى العصر العباسى الذي احتشد بكثير من أئمة هذا الدين الأرضى ، وكان لكل إمام أنصاره وأتباعه، ويؤلف الأتباع الروايات فى مدح وتزكية شيوخهم، وكان هذا يستدعى عقد المقارنات بين الشيوخ ووضع الروايات فى ذلك لتعبر عن رؤية الأتباع لشيوخهم . فكان ابن المهدي يقول " الأئمة أربعة ، سفيان الثوري ومالك بن أنس وحماد بن زيد وابن المبارك " . ويقول ابن المهدي " ما رأيت رجلا أعلم بالحديث من سفيان الثوري ولا أحسن عقلا من مالك ولا أقشف من شعبة ولا أنصح لهذه الأمة من عبد الله بن المبارك .." وكانت لبعضهم نظرات أخرى ، فيقول إبراهيم بن شماس " رأيت أفقه الناس وأودع الناس وأحفظ الناس ، فأما أفقه الناس فابن المبارك وأما أروع الناس فالفضيل بن العياض وأما أحفظ الناس فوكيع بن الجراح وتلك المقارنة تشمل العلم والعبادة والورع .
2 ـ وغزت شهرة ابن المبارك العراق حيث كان أهل العراق يلتفون حول سفيان الثوري الذى جعله أتباعه أشهر أهل عصره بالورع ، وكان من الطبيعي أن يلتفت بعضهم إلي عقد المقارنات بين ابن المبارك وسفيان الثوري ، وقد قيل لعبد الرحمن بن مهدي : "أيهم أفضل عندك ابن المبارك أو سفيان الثوري ؟ " فقال : ابن المبارك. فقيل له إن الناس يخالفونك. فقال إن الناس لم يجربوا مثلي ما رأيت مثل ابن المبارك . وعبد الرحمن بن مهدي من تلاميذ ابن المبارك مثله في ذلك ابن معين عالم الحديث المشهور الذي يقول عن أستاذه ابن المبارك " ابن المبارك أعلم من سفيان الثوري " . وقد اجتمع علماء الحديث في بيت عبد الرحمن بن مهدي وقالو له: جالست سفيان الثوري وسمعت منه وسمعت من عبد الله بن المبارك فأيهما أرجح ؟ فقال ابن مهدي : ما تقولون ؟ لو أن سفيان جهد جهده علي أن يكون يوما من أيام عبد الله بن المبارك لم يقدر . بل وضعوا رواية بنفس المعنى على لسان سفيان الثورى ، فقد رووا أن سفيان الثوري قال فيما يرويه شعيب بن حرب عنه قال :" قال سفيان إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة واحدة مثل عبد الله بن المبارك فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام . ويروي عمران بن موسي الطرسوس أن رجلا جاء سفيان الثوري يستفتيه ، فقال له سفيان : من أين أنت ؟ فقال من أهل المشرق ، فقال له سفيان : أو ليس عندكم أعلم أهل المشرق عبد الله بن المبارك؟ فقال الرجل : وهل هو أعلم أهل المشرق ؟ فقال له سفيان : نعم وأهل المغرب أيضا . وروي بعضهم أنهم كانوا في مكة حول ابن المبارك، فقالوا له : حدثنا يا عالم المشرق. وكان سفيان إلي جانبهم فقال : ويحكم هو عالم أهل المشرق والمغرب .أى جعلوا ابن المبارك بهذه الروايات يتفوق على استاذه سفيان الثورى . ولنا أن نتحفظ علي بعض تلك الأقاويل التي يروونها في تفضيل ابن المبارك ونري أن تلك المبالغة ترجع إلي كرم بن المبارك الزائد مع طلبة الحديث ورواته فتكاثروا حوله وانفضوا عن سفيان الثورى وزهده وفقره . هم أنفسهم تحدثوا عن مروءته وأخلاقه الرفيعة وإنفاقه علي العلماء من كسب تجارته مما جعل الجميع يلهجون بمدحه والثناء عليه.
خامسا : مؤلفــاتـــــه فى الدين السّنى
1 ـ جعلوا ابن المبارك في عصره إماما لرواة الحديث بلا منازع ، وطبقا لمروياتهم فقد كانوا يتنازعون فيلجأون إليه يقول فضالة النوسي " كنت أجالس أصحاب الحديث بالكوفة وكانوا إذا تشاجروا في حديث قالوا : مروا بنا إلي هذا الطيب حتي نسأله ، يعنون عبد الله بن المبارك . وكان يحيي بن آدم يقول " كنت إذا طلبت الدقيق من المسائل فلم أجده في كتب ابن المبارك أيست منه . وكان يحيي بن معين خليفة ابن المبارك في رواية الحديث ، وقد اعترف بذلك علي إبن المديني وهو القائل " انتهي العلم إلي رجلين إلي عبد الله بن المبارك ثم بعده إلي يحيي بن معين ".
2 ـ من الممكن أن نتسامح مع هذه الروايات ، ولكن ليس مع الروايات التى تنسب اليه كتابا قام بتأليفه ، إذ يقول تلميذه ابن معين : "كان عبد الله بن المبارك رحمه الله كّيسا مستثبتا ثقة وكان عالما بصحيح الحديث وكانت كتبه التي حدث بها تحوي عشرين ألفا " وهى مبالغة لا تستقيم مع حقائق العصر الذى كان يتعرف على التدوين البدائى ، ولم يكن التدوين قد انتشر بعد حتى يقال ان لابن المبارك كتابا يحوى عشرين ألفا من الأحاديث.!! فالثابت أن الموطأ هو أول كتاب تم تدوينه ، وابن المبارك كان معاصرا لمالك .ولو كان لابن المبارك كتاب فعلا لاشتهر هذا الكتاب تبعا لشهرة صاحبه . ولكن لم يحدث هذا ، وهى إحدى كذبات ابن معين الذى نصب نفسه حكما على مدى صدق الرواة،وهو أحد الكذّابين .!.وأكثر منه فى الكذب ذلك الذى يجعل لابن المبارك كتبا وليس كتابا واحدا ، وهو يحيى بن آدم القائل:" كنت إذا طلبت الدقيق من المسائل فلم أجده في كتب ابن المبارك أيست منه". ونسى هذا وذاك أن يخبرنا بأسماء تلك الكتب أو ذلك الكتاب.
سادسا : مروءة ابن المبارك
1ـ والمروءة وصف عام كان يقصد به فى العصر العباسى حسن الخلق وكرم السجايا ورفعة السلوك الشخصي،وذلك ما كان واضحا في السيرة التى حاكوها لابن المبارك مما جعلهم يتفقون على حبه والإقرار بفضله، فيقول إسماعيل بن عباس" ما علي وجه الأرض مثل عبد الله إبن المبارك ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك ، ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلي مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو لا يطعم " وتلك العبارة تؤكد باختصار علي إعجاب عصره به إذ كان لهم كهفا يحتمون به من الفقر فيجدون لديه السخاء وحسن الخلق وجميل الصحبة فلا يسعهم إلا الإشادة به .
2 ـ وطبقا للروايات فقد كان سخاؤه بالمال مقترنا بأدب رفيع وتواضع جم مع أولئك الذين يعيشون من فضل ماله، ويروي عمر بن حفص الصوفي أن ابن المبارك خرج من بغداد مسافرا إلي المصيصة حيث تعّود الجهاد وقتال الروم في آسيا الصغري ، فصحبه جمع يطمعون في كرمه فقال لهم : "حتي لا تحتشمون مني علي كل واحد منهم أن يضع تحت الطست ما معه من مال ، ثم ننفق جميعا من ذلك المال" فأخذ كل واحد منهم يضع تحت الطست الدرهم والعشرة دراهم ، فجمع الدراهم وظل ينفق عليهم عن سعة طيلة السفر إلى أن بلغوا المصيصة ثم فرّق عليهم الباقي فأعطي كل واحد منهم عشرين دينارا يزعم أن ذلك ما تبقي ، وكانت تلك حيلة ذكية للإنفاق عليهم وإعطائهم الأموال . وكانت تلك طريقته إذا ذهب إلي الحج فيقول ابن شفيق إنه كان إذا أراد الحج اجتمع عليه إخوانه من أهل مرو فيقولون: نصحبك يا أبا عبد الرحمن ، فيقول لهم : هاتوا ما معكم ، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق مقفول ، ثم ينفق عليهم أحسن النفقة ويخرجون معه في أحسن زى وأحسن مركوب فإذا صاروا إلي مكة ثم إلي المدينة اشتري لهم ما يريدون من الهدايا ويعود بهم بنفس عادته في الإنفاق عليهم عن سعة فإذا وصل إلي مرو عائدا بهم إلي بيوتهم أمر بطلاء بيوتهم وتجصيصها ثم يصنع لهم وليمة بعد ثلاثة أيام ويكسوهم وأخيرا يفتح الصندوق ويدفع إلي كل رجل منهم المال الذي دفعه من قبل ويكون قد كتب اسمه عليه . وقد أخبر خادمه أنه أنفق في آخر وليمة أقامها لرفاقه بما يساوي تكلفة خمسا وعشرين مائدة من أطيب الطعام وأنه كان ينفق علي الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم .
3 ـ وكان يقضي ديون أصحابه ومن يقصده من المحتاجين. وحدث أن جاءه رجل فسأله أن يقضي عنه دينا قدره سبعمائة درهم فكتب ابن المبارك لوكيله أن يقضي عنه سبعة آلاف درهم فنبهه وكيله إلي الغلطة التي كتبها وقال له:إن الغلات قد فنيت، فقال له ابن المبارك إن كانت الغلات قد فنيت فإن العمر يفني فأجز له ما سبق به قلمي.
4 ـ وأسرفت الروايات فى تصوير كرمه ، فيقال أن أهل بلده عاتبوه في تفريق أمواله علي العلماء في الأمصار دونهم فقال لهم : إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق ، طلبوا العلم فأحسنوا الطلب والناس يحتاجون إلي علمهم وما لديهم وقت لطلب المعاش فإن تركناهم ضاعوا وإن ساعدناهم نشروا العلم لأمة محمد صلي الله عليه وسلم ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم. وقد روي الحسين بن الحسن أنهم كانوا جلوسا عند ابن المبارك فجاء سائل وسأله شيئا فقال ابن المبارك : يا غلام ناوله درهما. فلما ولي السائل قال له بعض أصحابه: يا أبا عبد الرحمن هؤلاء الشحاذون يتغدون بالشواء والحلوى وكان يكفيه قطعة فلماذا أمرت له بدرهم كامل؟ فقال ابن المبارك : يا غلام رده فإذا كانوا يأكلون بالشواء والحلوى فلابد من عشرة دراهم ليقدروا علي تكلفتها يا غلام أعطه عشرة دراهم. أي أنه لم يستكثر علي المتسولين أن يأكلوا أطيب الطعام وأعانهم علي ذلك .
5 ـ وفي إحدى رحلاته إلي الحج كان كالعادة يحج بأصحابه ومعه الأحمال والصناديق والخدم وبينما هم في الطريق نزلوا بأثقالهم في مكان ، وحدث أن ماتت بعض الدجاجات فألقاها الخادم علي تل زبالة وتحرك الركب ، ونظر ابن المبارك فوجد فتاة صغيرة تتسلل إلي الزبالة وتختلس الدجاجات الميتة وتعدو بها إلي منزل قريب ، فأمر ابن المبارك خادمه بأن يقرع باب البيت ، فخرجت الفتاة وعرف منها ابن المبارك أنها تعيش مع أخت لها وحدهما ليس لهما إلا رداء واحد بعد موت أبيهما الذي كان تاجرا موسرا ولكن أخذ أمواله بعض الظلمة ، وعاشت الفتاتان تأكلان الميتة وما يتساقط من القوافل وليس في الدار إلا ذلك الرداء الواحد تلبسه إحداهما وتتغطيان به عند النوم ، وسرعان ما جاء ابن المبارك بالنفقة التي معه فأعطاها للفتاتين واستبقي منها ما يلزمه للعودة إلي مرو ، ورجع بلا حج ذلك العام . وهذه الروايات ـ لو صحّت ـ لاستحق ابن المبارك مايقال فيه من مدح فى سخائه ومروءته . وإن لم تصح وكانت من خيال واضعيها فهى الى الوعظ أقرب ..ولا بأس بالوعظ حتى لو صيغ فى أقاصيص خيالية من هذا النوع .
سابعا :ابن المبارك التاجــر والمجاهــــد
1 ـ والغريب أن يجد ابن المبارك الوقت ليكون تاجرا ومجاهدا غازيا للروم وهو بزعمهم ( العالم الفقيه الذى كتب المؤلفات ).. ولكن يهمنا من تلك الروايات أنه كان لابن المبارك مفهوم ايجابي للزهد يخالف به الفضيل بن عياض الذي تأثر مثل أكثرية الزهاد بالرهبانية ، لذلك كان يعيب الفضيل علي ابن المبارك عمله بالتجارة ، وقال له : أنت تأمرنا بالزهد والتقلل ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلي البلد الحرام . كيف ذا؟ فقال ابن المبارك : يا أبا علي إنما أفعل ذلك لأصون به وجهي وأكرم به عرضي واستعين به علي طاعة ربي،لا أري لله حقا إلا سارعت إليه حتي أقوم به ، فقال له الفضيل : يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا ..
وكان ابن المبارك يقول : لا أري لصاحب عشرة آلاف درهم أن يدع الكسب فإنه إن لم يفعل لم آمن أن لا يعطف علي جاره ولا يوسع علي عياله ..! الأهمية هنا فى أن بعضهم تأثر بالرهبانية النصرانية وجعلها من شعائر تدينه ، ولم يقتصر على هذا بل طفق يدعو لرؤيته تلك ، ويعيب على من يرتزق من حلال وتتكاثر أمواله ، ويخرج منها حق الله جل وعلا مثل ما يروونه عن ابن المبارك .
2ـ وقالوا إنه كان رأسمال ابن المبارك التجاري نحو أربعمائة ألف يتاجر بها بين البلاد ، وكان مكسبه مائة ألف ينفقها علي أهل العلم والعبادة والزهد . وربما أنفق ماله كله ، ثم يبارك الله تعالي فيه ويعود مكسبه أضعافا فيستعيد رأس ماله . ومع ذلك كان يصوم حتي في السفر ويتقلل في الطعام فأعطي معني حقيقيا للزاهد الذي يزهد عن غني لا عن فقر واحتياج وسلبية واعتزال وتواكل .
3 ـ وبالاضافة للتجارة نتوقف سريعا مع روايات جهاده وقتاله للروم ، فقالوا إنه كان يسافر دائما للثغور ، وهي الأرض المتاخمة للحدود الحربية بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية في آسيا الصغري ، ونظرا لكثرة وجوده في تلك المناطق كانت له مدرسة من طلبة العلم في المصيصة وطرسوس والرقة ، وقد ذكر الخطيب البغدادي قصة طويلة عن فتي من تلامذته في طرسوس كان قد دخل الحبس في دين عليه ، وقد استعجل ابن المبارك ودخل في الجيش الذي تأهب للمسير للغزو ، وحين عاد من الغزوة سأل عن الشاب وسبب اختفائه فعرف أنه محبوس بسبب ما عليه من ديون ، فلم يزل يستقصي عن صاحب الدين حتي عرفه وأعطاه الدين وقدره عشرة آلاف درهم وحلّفه ألا يخبر أحدا مادام ابن المبارك حيا . وأمره بأن يخرج الفتي من السجن ، ثم سارع ابن المبارك بمغادرة المدينة ، وخرج الفتي ولحق الفتي بابن المبارك ليراه ويسلم عليه وقال له : جاء رجل فقضي ديني ولم أعلم به ، فقال له ابن المبارك:" يافتي احمد الله علي ما وفق لك من قضاء دينك" .ولم يعرف الفتي بحقيقة الأمر إلا بعد وفاة ابن المبارك .
4ـ وطبقا للروايات أيضا ، فكما كان ابن المبارك يخفي الصدقة ، كان أيضا لا يميل للتفاخر بشجاعته في ميدان الحرب مع الروم، وقد كان أحد المتطوعين في الجيش، وقد روي ابن سليمان المروزي أنه كان في سرية حربية مع ابن المبارك في بلاد الروم، وحين الاصطدام بالعدو خرج رومي داعيا المبارزة ، فخرج إليه رجل مسلم فقتله الرومي ، ثم خرج إليه رجل آخر فقتله ، ثم آخر فقتله ، ثم خرج رجل ملثم بين المسلمين فبارز الرومي فقتله ، فكبر المسلمون.. وازدحموا حول البطل المسلم فأخفي عنهم وجهه وكشف سليمان طرف كمه فوجده ابن المبارك ، فقال له : وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا ..!!
آخر السطر
نتمنى تصديق كل تلك الروايات الانسانية والأخلاقية عن ابن المبارك ، ونتمنى ألا تكون مجرد فيلم هندى عن ابن المبارك . ولكن نرفض وبشدة كل تلك الأحاديث التى صنعها ابن المبارك أو أسهم فى نشرها هو ورفاقه وتلامذته ..
التعليقات (8) |
[63424] تعليق بواسطة ايناس عثمان - 2011-12-29 |
نجومية ابن المبارك ، وظلم التاريخ لآخرين
|
تفوق ابن المبارك في نجوميتة على أكثر فناني عصرنا نجومية اليوم ، وما سبب تلك النجومية ؟ هل لروايته للحديث أو تحصيله إياه أم كرمهالمبالغ فيه ورضا المؤخين عنه ، هناك سخصية في زمن الأمويين أذكر ان اسمه معاوية لكنه اشتهر بالورع وحبه للعدل وقد قتل من قبل البيت الأموي نفسه ، ويصحح لي الدكتور أحمد هذه المعلومة ، لأني قرأتها في موضوع تاريخي له ، ومع ذلك لم يجعله المؤرخون نجما كما جعلوا ابن المبارك ، فهل المؤرخون كانوا ينتظرون العطايا أم يخافون من بطش الحكام حتى يهملوا قصصا ، ويبدعوا وينمقوا أخرى !
|
[63427] تعليق بواسطة رضا عبد الرحمن على - 2011-12-29 |
نبذه أخرى عن ابن المبارك قد تختلف قليلا في بعض التفاصيل
|
أولا: اسمه عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي. عن العباس بن مصعب قال: كانت أم عبد الله بن المبارك خوارزمية وأبوه تركي، وكان عبداً لرجل من التجار من همذان من بني حنظلة.[1] عن الحسن قال: كانت أم ابن المبارك تركية، وكان الشبه لهم بيناً فيه وكان ربما خلع قميصه فلا أرى على صدره أو جسده كثير شعر.[2]
|
[63428] تعليق بواسطة رضا عبد الرحمن على - 2011-12-29 |
من أشهر أقواله ومكان وفاته
|
من أقواله وحكمه
|
[63430] تعليق بواسطة محمود مرسى - 2011-12-29 |
لنتخذن عليهم مسجداً ... قالتاريخ يعيد نفسه..
|
في تلك المناطق البعيدة من خراسان وهيت ومناطق الأردن ما زال الناس يعبدون أحبارهم ورهبانهم.. وشيوخهم ورواة احاديثهم.. !! ولقد كان هناك حديث مع أحد رجال الشام .. في مناسبة عمل فيلم تسجيلي عن الاسكندر الأكبر والقائد الحربي الشهير عبر التاريخ..
|
[63435] تعليق بواسطة ربيعي بوعاقل - 2011-12-29 |
اركب سلحفاة بطيئة الخطو
|
السلام عليكم ورحمة الله ، أخي أحمد، علقت ـ من قبل على المقال التوأم ـ وأريد أن تقرأه، إن سمح الذهب الذاهب، وهموم الزمن الهارب، المنطلق كالراغب في اللحاق بتلك النجوم.
|
[63472] تعليق بواسطة كمال بلبيسي - 2011-12-30 |
سؤال يحيرني
|
قرأت كثيرا لما كتبه الدكتور احمد اطال الله في عمره في التاريخ والحديث عن ما يسمونهم علماء والناس في عصورهم يمتدحونهم ويشيدون بعلمهم وكرمهم والسؤال الم يكن في تلك العصور علماء من نوع آحر علماء في العلوم الحقيقية الفيزياء والكيمياء والطب والهندسة والجغرافيا لهم شهرة بين العامة ويمتدحون علمهم ويؤلفون عن علومهم الكتب وإذا كان لمثل هؤلاء العلماء وجود ومؤلفات لماذا لم تنتشر بين المسلمين كتبهم وعلومهم مثلما إنتشرت كتب الكذب والنفاق وارجوا من الدكتور احمد ان يوضح لي هذه النقطة كونه عالم وباحث بالتاريخ
|
[63507] تعليق بواسطة آحمد صبحي منصور - 2011-12-31 |
شكرا لكم ، واقول لكم
|
1 ـ الاستاذة إيناس عثمان : فى مقال منشور لى اليوم أشرت الى مقياس العظمة عند الناس ، ,انه ليس القيم العليا ولكنه الثروة والسلطة والظلم ، وهذا هو مقياس العظمة لدى المؤرخين الذين يطوفون حول الفجار من المستبدين ورجال الدين ( الأرضى )
|
[63511] تعليق بواسطة رضا عبد الرحمن على - 2011-12-31 |
كل وانتم جميعا بخير
|
السلام عليكم جميعا
|