مقدمة:
1 ـ فى استعمالاتنا اللغوية نقول ( أثر ) من التأثير ، والجمع ( آثار ) يعنى تأثيرات ،أو ما تركه السابقون من مظاهر حضارية و(آثار ) كالآثار الفرعونية والبابلية والفينيقية ..
2ـ فى القرآن الكريم يأتى الفعل ( آثر ) بمعنى (فضّل ) كقول أخوة يوسف له : (قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ )( يوسف 91 ). ليست للفعل (آثر ) علاقة بالفعل (أثّر ) فى المعنى ، مع إشتقاقهما من نفس المصدر الثلاثى (أ ث ر ). المقصود هنا أن الألفاظ ذات المصدر الواحد قد تختلف فى معانيها ، وهذه سمة عامة فى كل اللغات ، يؤكدها أن تنظر الى أى صفحة فى قاموس أى لغة ستجد للكلمة الواحدة معانى مختلفة ،بل قد تكون متناقضة ، والسياق هو الذى يحدد المعنى المراد. نقول هذا لنعيد التأكيد على استحالة وجود معنى واحد لكلمة واحدة يتحد حولها المسلمون فى فهم آية قرآنية ، هذا مع إفتراض ان كل المسلمين ملائكة متمسكين بالهداية أو يبحثون عنها باخلاص . فما بالك بالمسلمين اليوم والأمس ؟
3 ـ ونؤكد مجددا بأن البحث القرآنى يوجب أن يسلم الباحث نفسه للآيات بلا فكرة مسبقة يحاول إثباتها بانتقاء مايراه مناسبا وتجاهل غيرها ، أى يبدأ الباحث مخلصا بتدبر الآيات القرآنية ، بتجميع كل الآيات المتصلة بالموضوع ، ثم يحدد المفاهيم القرآنية للألفاظ المتصلة بموضوعه فى سياقها العام والخاص ، ويتدبر الآيات معا . عندها سيتعلم من القرآن ما لم يكن يعلم ، وربما يطول به البحث مكتشفا حقائق جديدة لم تخطر له على بال ، حتى لو أمضى معظم عمره باحثا ، فعطاء القرآن متجدد ، ولا يوجد بشر يستطيع ان يحيط به علما. بعض الموضوعات القرآنية بسيطة ـ مثل موضوعنا هذا ـ وبعضها معقد مثل موضوع ( كتاب )(نفس )( غيب ). والعادة أن نضع الموضوعات البسيطة فى (القاموس القرآنى ) بينما نضع الموضوعات المعقدة فى باب التأصيل . ولكن كل الموضوعات البحثية فى القرآن ـ بسيطة أو معقدة ـ لا بد من بحثها بالمنهج القرآنى حتى نزداد علما ورحمة، وإلاّ إزددنا بالقرآن ضلالا ، يقول جل وعلا : (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ( الأعراف 52 ) (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا ) ( الاسراء 82 ). ونعطى مثلا عمليا فى منهجية البحث القرآنى ، فى موضوع (أثر ـ آثار ) فى القرآن الكريم. وسنجدها تأتى بمعنيين مختلفين : الطريق ـ الدين ـ المنهاج ، ثم بمعنى التأثير .ونعطى التفصيل.
أولا : (أثر ـ آثار ) بمعنى الطريق والدين.
1 : الطريق والدين مترادفات قرآنية . والسياق هو الذى يحدد المعنى المراد . هناك طريق حسى تسير فيه ، وهناك طريق معنوى ، تسير عليه حياتك أو ( طريقتك ) فى التفكير وفى الحياة ، وطوال حياتك على الأرض فأنت ( تسير ) فى الأرض مكانيا وماديا فى شوارع وطرق وحارات مسافرا وساعيا فى الأرض ، وأنت أيضا (تسير ) فى ( زمنك ) وعمرك وحياتك متبعا طريقة معينة فى تعاملك مع الناس ومع رب العزة جل وعلا ، وهذه الطريقة المعنوية المعينة هى ( الدين ) فالدين يعنى الطريق الحسى أو المعنوى. ومصطلح (الدين ) جاء بمعنى الطريق الحسى فى قوله جل وعلا للمؤمنين فى عهد النبى محمد عليه السلام فى سياق القتال :(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ( التوبة 122 ). أى أمر لهم بارسال جنود استطلاع ليتقدموا الجيش ليتفقهوا أى ليتعرفوا على الطريق (الدين ) ثم يعودون لينذروا قومهم ليحذروا. الشائع فهم خاطىء للآية بسبب شيوع مصطلح ( الفقه ) الذى إبتدعه المسلمون على علومهم الشرعية ، ففهموا الآية خطأ على أنها دعوة لطلب العلم ، وهذا تأويل جاهل فكيف يترك المؤمنون المدينة وفيها رسول الله ليطلبوا العلم خارجها ؟ وهل كانت هناك مدارس لتعليم الاسلام فى الجزيرة العربية خارج المدينة فى عهد خاتم النبيين عليهم السلام. وفى المقابل تأتى كلمة الدين لتفيد طريقة التعامل مع الله جل وعلا ،إما بأنه لاشريك له كما فى الاسلام ، وإما بالكفر به واتخاذ شركاء له ، وقد أمر رب العزة خاتم النبيين ليقول لقومه :(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )، أى لكم طريقكم ولى طريقى فى العبادة وفى العقيدة. والطريف أن رب العزة استعمل مصطلح الطريق فى سورة (طه ) بالمعنى الحسى المادى وبالمعنى المعنوى ـ أى الدين وطريقة التفكير . عن الطريق المادى يقول جل وعلا فى قصة موسى : ( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لّا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) ( طه 77 ). وعن الطريق المعنوى بمعنى الدين وعبادة الفرعون : (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) ( طه 63 ). وهو نظير قول فرعون لقومه عن دينهم الذى يعتبرونه عظيما : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) ( غافر26 ). وهذه هى طريقتهم فى التفكير ، ومثل ذلك عن طريقة المجرمين فى التفكير يوم الحشر : (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا ) ( طه 102 : 104 ). ونحو ذلك ما قيل عن الجنّ مؤمنيهم وكافريهم : ( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ) ( الجن 14 : 16 ).
2 ـ: الدين والطريق والصراط والسبيل مترادفات : فنحن ندعو الله جل وعلا فى الفاتحة بأن يهدينا (الصراط المستقيم )أى الطريق المستقيم . ويقول جل وعلا عن القرآن الكريم : (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ )( الانعام : 126). والسبيل بمعنى الطريق المادى والمعنوى ،أى الدين ، ومنه قوله جل وعلا يأمر خاتم النبيين عليهم جميعا السلام : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( الاسراء 108 ). والعادة أن يترك معظم البشر الطريق المستقيم وأن يخترعوا لهم أديانا أرضية (أو طرقا )أو ( سبلا ) وهذا مانهى عنه رب العزة فى الوصية العاشرة من الوصايا العشر :(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)( الانعام 153). ومن الإعجاز القرآنى أن يطلق السنيون على ملمح من ملامح دينهم وأحاديثهم ( هذا من طريق فلان الراوى ) وأن يطلق الصوفية على تجمعاتهم ( الطرق الصوفية ) من طريق. وفى النهاية فكل إنسان يختار طريقه المعنوى فى علاقته بربه وبالناس ، إما الطريق الصراط السبيل المستقيم وإما السبل والطرق والصراط المنحرف والملتوى . وفى المقابل فإن رب العزة يزيد من يشاء الهدى هدى ويزيد من يختار طريق الضلال ضلالا يدخل به ( طريق ) جهنم ، يقول جل وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )( النساء 186 : 187). كل هذا مقدمة لنفهم معنى مصطلح الأثر والآثار فى القرآن الكريم.
3 ـ الأثر بمعنى الطريق . ويأتى مصطلح (الأثر ) بمعنى الطريق المعنوى أى الدين فى آيات كثيرة منها فى قصة موسى حين جاء للقاء ربه وترك قومه لايعلم بما فعله بهم السامرى ، فقال لربه جل وعلا : (قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ) ( طه 84 )،أى هم على طريقى ودينى وأثرى ، هذا بينما قال السامرى :(قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)( طه 96). أى نبذ أثر الرسول أى دين الرسول وهو موسى فدعا لعبادة العجل. فهنا (أثر ) موسى أى دين موسى والذى نبذه السامرى . وهذا (الأثر ) جاءت به كل الرسالات السماوية وكل الرسل والأنبياء ، فهم يقولون نفس العقيدة فى أنه لا اله إلا الله جل وعلا ، أى إن دينهم واحد وطريقهم واحد و(أثرهم ) واحد ، أو (آثارهم ) واحدة ، هذا مايؤكده رب العزة فى آيتين كريمتين :(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ) ( المائدة 46 )(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ ) ( الحديد 26 : 27 ).
وفى المقابل فإن مشركى قريش أختاروا دينهم الأرضى رافضين للقرآن الكريم ، مما أحزن خاتم النبيين فعاتبه ربه جل وعلا قائلا :(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) ( الكهف 6 )، أى كان شديد الأسف بسبب آثارهم أى دينهم الذى كانوا يؤمنون به فى مكة وقتها وهم (أحياء ) ، فكلمة (آثار ) هنا جاءت فى سياق قوم يعيشون ويمارسون دينا أرضيا ومن أجله يرفضون القرآن أو حديث رب العزة فى القرآن الكريم : :(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا). وهذا الدين الأرضى هو من (ثوابت ) قريش الدينية التى يحرصون على التمسك بها فى حياتهم جيلا بعد جيل ، وهذا هو تجديد ما وجدوا عليه آباءهم ، وتمسك بدين وآثار وأثر الآباء والسلف : ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) ، أى بدينهم مهتدون وعلى دينهم قائمون ، فالأثار هنا بمعنى الدين . ولقد جعلها رب العزة قاعدة عامة تسرى فى كل زمان ومكان ، فقال جل وعلا :(وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ )(الزخرف 22 : 23 ) . ويتجلى هنا إعجاز القرآن بعدها بقرون ، فهذا ما يتكرر فى الدين السّنى الأرضى فى حياتنا المعاصرة ، فيقولون ( أجمعت الأمة ) بمعنى (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ) ويقولون (جاء فى الأثر ) بمعنى (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ).وسيتجلى الإعجاز يوم القيامة حين يقال عن أهل النار جميعا : ( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) ( الصافات 69 : 70 ). أى يهرعون الى التمسك بدين الأسلاف . وهذا هو مايفعله السلفية فى عصرنا .
4 ـ على أن روعة الإعجاز والبيان تتجلى فى قوله جل وعلا فى كتابة أعمال البشر:( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) ( يس 12 ). فالبيان القرآنى يستعمل (واو ) العطف للتوضيح والتفصيل . أى فقوله جل مثلا : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ)(الأنبياء48 :49 ) فلقد أوتى موسى وهارون التوراة ، وهى شىء واحد ولكن جاء التعبير عنها بأوصاف توضيحية تجمعها واو العطف فى قوله جل وعلا: ( الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ).ولا يتصور عاقل أن الله جل وعلا أعطاهما ثلاث كتب هى الْفُرْقَانَ وَالضِيَاء وَالذِكْرً. ً . ونفس الحال عن المتقين،فقد جاء وصفهم بصفتين تربطهما واو العطف:( لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ). واو العطف توضح صفات كتاب الأعمال للبشر فى قوله جل وعلا : :( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ )، أى نكتب ما قدموا من سعى وعمل ، بمعنى نكتب آثارهم ، أى طريقهم الذى ساروا عليه فى حياتهم ، بمعنى أن نحصيه فى إمام مبين . والروعة فى كلمة (أثارهم ) فى الآية الكريمة . فهى الكلمة والمصطلح والموضع الوحيد الذى يجمع كل معانى الطريق والدين ملخصا ما سبق بيانه . فقد قلنا إن الأثر بمعنى الدين والطريق والصراط والسبيل ، وأن الدين يعنى الطريق الحسى فى المكان ويعنى الطريق المعنوى فى الزمان بطريقة التعامل مع الله جل وعلا والناس. وأن الدين إما صراط مستقيم أو سبل وطرق مختلفة . وجاء مصطلح (أثر) و( آثار ) فى تفصيل ذلك كله فى الجزيئات. ولكنه فى هذه الآية الكريمة جاء يجمع كل ما سبق وببيان بليغ بواو العطف. فكتابة الأثار هى لكل البشر من المؤمنين والكفار ، وهى تشمل سعيهم المادى فى السير فى الأرض وسعيهم المعنوى فى العقيدة والعبادة والتعامل مع الناس ورب الناس ، فى الدين وفى الدنيا ، وهى تشمل السعى فى المكان لكل فرد والسعى فى الزمان فى حياة كل فرد وعمره فى هذه الأرض، كل هذا السعى بالزمان والمكان بالصلاح والفساد ولكل فرد يتم تسجيله وكتابته فى حياة كل فرد ، ويتم نسخه طبق الأصل مما يفعله فى حياته، أى فى إيجاز وإعجاز مع تبيين بواو العطف وبأقل عدد من الكلمات وصف رب العزة تسجيل آثار أو سعى كل فرد فى كتب أعماله فى حياته، تسجيلا يلاحق بالفعل المضارع (وَنَكْتُبُ ) لما سبق فعله من سعى للانسان الحى (مَا قَدَّمُوا )،وهذا السعى هو بإيجاز هو (آثارهم ) .
ثانيا : (أثر ـ آثار ) بمعنى التأثير. ويأتى فى القرآن الكريم بمعنى :
1 ـ قدرة الله جل وعلا فى الإحياء والبعث: ( فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ( الروم 9 ، 50 ).
2 ـ الأثر العلمى المكتوب : (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )( الاحقاف 4 )
3 ـ الآثار الجسدية فى وجوه الأحياء :( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) ( الفتح 29 )
4 ـ الآثار التى تركتها الأمم السابقة التى أسّست فى الأرض من حضارات لا تزال (آثارها) باقية ، والله جل وعلا يأمر بالسير اليها والاتعاظ بها ،على عكس دعوة السلفيين فى مصر لتدمير الآثار الفرعونية :( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ )(غافر 21 ).
هذا والله جل وعلا هو الأعلم ..
التعليقات (7) |
[63039] تعليق بواسطة عائشة حسين - 2011-12-14 |
آثاروا الأرض وعمروها "في موضوع الزراعة والعمران " أسأل ..
|
السلام عليكم لقد كانت تستوقفني كلمة آثار كثيرا ، ولكن بعد هذا البحث الموجز المفيد والعلمي نشكر الدكتور منصور وأردت أن استزيد في تعليقي عن عن هذه الآية القرآنية :( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"
|
[63050] تعليق بواسطة آحمد صبحي منصور - 2011-12-14 |
شكرا أستاذة عائشة ، ولقد استفدت من تعليقك الآتى عن إثارة الأرض
|
الفلاح يثير الأرض يضرب فيها فأسه ومحراثه ، وينقل اليها الماء لتتفجر بالحياة . ومن هنا فالحضارات تنشأ دائما فى البيئات الزراعية ، فى مصر والهند والصين والرافدين . ودائما يأتى تدمير الحضارات من البيئات الصحراوية كالعرب والمغول والتتار والمرابطين والموحدين ، وفيها تنشأ احيانا الأديان الأرضية التى تحترف التدمير والهدم ، ومنها الوهابية وشعارها كما جاء فى عقد الاتفاق بين ابن عبد الوهاب وابن سعودد عام 1745 ( الدم الدم ..الهدم الهدم ). لذا لا نعجب أن يكون من معتقدات السلفيين هدم وكراهية الآثار الفرعونية. ولا نعجب من تدمير الطالبان لتمثال بوذا وهو أحد فنون المعمار ، ولم يكن مقدسا فى افغانستان ،بل مجرد أثر قديم يتفرج عليه السياح دون عبادة أو تقديس.
|
[63056] تعليق بواسطة محمود مرسى - 2011-12-14 |
روعة الإعجاز والبيان تتجلى...1
|
نعم روعة الاعجاز والبيان تتجلى في قوله تعالى ..( إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم ، وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) يس 12.. لفتت نظري هذه الآية الكريمة.. التي بواو واحدة بينت وأفصحت .. مجمل حيوات الأجيال السابقة واللاحقة .. من طريق مادي وهو السير في مناكب الأرض فيقول تعالى .. قل سيروا في مناكبها وكلوا من رزقه.. وهذا ينطبق على الفرد وعلى الجماعة.. وما ينتج من السير من تشييد وترك أثار الأقدام للراحلة وللإنسان.. ثم يشيد ذلك الانسان دورا للسكنى وللعبادة وهو يسير في الأرض.. (آثار).. وكل ما ينتج من اعمال معنوية وعقائد عقلية وقلبية..(أثار)..
|
[63093] تعليق بواسطة عثمان محمد علي - 2011-12-15 |
تكامل أهل القرآن
|
فعلا صدقتى أستاذة عائشة حسين ،وبارك الله فيك فى لفت نظرنا لمفهوم قول الله تعالى (وأثاروا الأرض وعمروها ) وهو بمعنى جهد وشغل الفلاح فى تحفيز وتقليب وإثارة الأرض الساكنة بعوامل مثيرة ومحفزة لتجهيزها لإنبات دورة زراعية جديدة .......... وهذا مُصطلح معروف وموجود فى كثير من التفاعلات الكيماوية .ويقال عنه (عامل مُحفز ) أو (عامل مُثير ) )(Catalyst)...ممكن يكون حرارة أو إضافة مادة كيماوية أخرى لا تؤثر على التفاعل الأصلى ،ممكن تكون عملية التقليب ،او رج إنبوبة الإحتبار نفسها ،وهكذا وأعتقد أن هذا ما يفعله الفلاح (التقليب ،او إضافة مواد أخرى كيماوية أو عضوية كروث الحيوانات ) للتربة وهذه هى العوامل المُحفزة والمثيرة للتربة .ومن هنا كان قول الله تعالى عن هذه العملية (وأثاروا الأرض وعمروها ) .... فشكرا لك مرة أخرى على هذه اللفتة الفقهية العظيمة .
|
[63095] تعليق بواسطة Ezz Eddin Naguib - 2011-12-16 |
تُثير الأرض
|
تُشير هذه الآية إلى استخدام البقر في إثارة الأرض أي حرثها وفي سُقياها {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} البقرة71
|
[63100] تعليق بواسطة غالب غنيم - 2011-12-16 |
تكامل أهل القرآن - تعليق صغير
|
أخي الدكتور عثمان،
|
[63105] تعليق بواسطة عثمان محمد علي - 2011-12-16 |
صباح الخير استاذ غالب .
|
صباح الخير أستاذ غالب .. نحن فعلا أخى الكريك نتكامل فى المعرفة _كأهل القرآن جميعا ) . وهذا ما قصدته فى تعقيبى السابق .. وارجوك يا اخى الكريم الا تتعتقد أنى أقصدك أو أقصد أحدا بعينه فى وخاصة فيى عدم إتفاقه مع بعض ما يطرح من أراء على الموقع المبارك ... فهذا لم يخطر على بالى أبدا .. فأنا وكما تعلم من خلا رسائلنا السابقة أُرحب وأسعد بكل الكُتاب وأتمنى أن يكونوا أضعاف وأضعاف عددهم الآن ... فيا أخى لا تشغل بالك بمثل هذه الأمور التى يريد الشيطان أن يُفرق بيننا بها وإستعذ بالله من الشيطان لُذهبها عنا جميعا ... وأُحييك على إعتمادك على الإيمان العقلى لا النقلى .
|