ما رأيك لو أصبح كل الأغنياء مفكرين؟..أو أصحاب رؤوس الأموال أصبحوا نخبة وقادة المجتمع؟..هل سيؤثر ذلك على الفقراء أو يسهم في زيادة معدل الإنتاج؟..وماذا لو عمل هؤلاء في الفكر من الذي سيعمل في الإدارة؟ ..أم أن الفكر والإدارة يصبحوا واحد؟
مفهوم الانتلجنسيا يعني.."النخبة والمثقفين"..والبرجوازيين هم.."الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال"..والعنوان يبحث في العلاقة بينهم كمحاولة لتحرير أدوارهم سواء مجردة على حدا أو ككتلة تحالف مشتركة، وفي أفكار الدكتور .."مراد وهبة"..وصف هذه الكتلة المتحالفة.."بالبرجوازية المنتجة"..أي الأغنياء القائمين على الفكر وتجديده، ويساهمون في نشر الوعي بالتوازي مع مساهمتهم في زيادة معدل الإنتاج، بينما وصف الأغنياء البعيدين عن الفكر وليسوا من النخبة ولا مهتمين بها وصفهم.."بالبرجوازية الطفيلية"..أي كونهم أغنياء يفترض فيهم القوة وسعة النفوذ، لكن بابتعادهم عن الفكر تطفلوا على الشرائح الأضعف منهم، والتطفل بمفهوم د مراد وهبة هو أداة ذم وقدح لتلك الفئة التي فضلت مصالحها المادية الضيقة على سعة المصالح العامة.
لكن حتى الآن لم نجيب على السؤال: ماذا لو أصبحت الانتلجنسيا برجوازية؟..أي ماذا لو أصبح المثقفون أغنياء وأصحاب رؤوس أموال يتحكمون في وسائل الإنتاج؟
إن ما طرحه د مراد وهبة يعني أنه مع هذا التحالف أو الدمج أو تحويل المادة إلى فكر والعكس غير صحيح، بيد أن الدكتور مراد لم يوضح موقفه من تحويل الفكر إلى مادة بمعنى أن تصبح البرجوازية انتيلجنسيا بالضرورة، ولأنه لم يُجب على هذا السؤال أكتفي باستنتاج جوابه بالبداهة ، فهو يرفض ذلك وأي عاقل يجب أن يرفضه..لأن الغني سيمتلك حينها مسوغاً للحديث في الفكر والثقافة حتى لو لم يكن أهلا لهم أو بضاعته فقيرة وعلومه ناضبة ونظرته قاصرة.
أنا هنا سأختلف –قليلا- مع الدكتور مراد، وأرى أن عمل البرجوازيين في الثقافة يعني خمسة أشياء:
أولا: يخلق حاجز بين طبقة الأغنياء والفقراء ولكن هذه المرة ليس حاجزا اقتصاديا أو اجتماعيا..بل حاجزا فكريا ونفسيا يصبح له تأثير في رؤية الكادحين للثقافة التي تصبح- وقتها – مهمة مادية وليست عقلية بالنسبة للكادح.
حدث ذلك في مصر أوائل القرن العشرين، كان لا يعمل في الثقافة سوى.."البشوات والبكوات"..وهم الطبقة الأعلى نفوذا في القطر المصري، والثقافة حينها كانت معنىً لكل شئ في السياسة والاجتماع والرياضة والفن حتى في الدين، كان المجتمع يقوده (الشيوخ والبشوات والبكوات) فأدى ذلك إلى تحالف –معنوي- بين الدين والسلطة، وحادثة قمع الزعيم .."سعد باشا زغلول"..للشيخ علي عبدالرازق وتأييده لمصادرة كتابه وعزله وربما محاكمته كانت دليل على تحالف ديني سلطوي هذه الفترة.
وفي تقديري لو لم يكن رجال الفكر من الأغنياء وشيوخ الأزهر وقتها لحدثت معارضة شديدة لذلك القمع ، ربما تصنع حركة مضادة يضطر معها سعد زغلول للرضوخ والإفراج عن الشيخ وكتابه، بل ورد الاعتبار له كمفكر مجتهد، والسبب أن دور الشيخ وقتها كان مكمل لدور السلطة..وهو هكذا منذ قديم الأزل، أما المفكرين خشية تعرض مصالحهم للخطر من السلطة القمعية (الوفدية) لم يقفوا بجانب الشيخ علي عبدالرازق، ولأن المجتمع يشعر بالحاجز الفكري والنفسي –الذي أشرنا إليه- لم يتدخل، بل لو قدر الله له أن يسمع بتلك الواقعة لن يفهمها أو يقدر ما يحدث حوله، فالكادح وقتها لا يهمه الكتاب أكثر مما يهمه (المحصول) أو الأجر القليل الذي ينتظره آخر اليوم بعد عناء ومشقة.
ثانيا: معنى أن يكون رجال الفكر من الأغنياء يعني أنه ومع أول تهديد للمجتمع يسقط فورا، كون الغني فقط من يملك حرية وإمكانيات الحركة، فينتهي المجتمع إلى طبقة (معدومة) الثقافة وهي الطبقة الكادحة تتمتع بالفراغ النفسي والعقلي، فتظل تتخبط يمينا ويسارا لا هم لها سوى الهرب.. هذا لو استطاعت إليه سبيلا، ولدينا في بعض الدول العربية التي تحدث فيها الحروب الآن نموذج، فلم ينتقل ويملك طاقة الحركة والابتعاد عن الخطر سوى (البرجوازيين) أما الفقراء والكادحين تلقوا مصيرهم المحتوم، إما بالقتل والقمع داخل قراهم ومدنهم، وإما التشرد والذل في معسكرات اللاجئين، أو الموت في البحر بعد خداعهم بالهجرة الغير شرعية.
ثالثا: ربما كان يصلح هذا التحالف النخبوي المالي منذ 100 عام، كانت وقتها المجتمعات لا تتواصل مع الأخرى بالشكل الحالي، حتى المجتمع من الداخل لم يكن يملك وسائل ترفيه وسرعة نقل المعلومة كما يحدث الآن، ومن هنا أتفهم رؤية د مراد وهبة، هو كان يفطن جيدا للوضع العالمي خصوصا في أوائل القرن العشرين، ورأى أن الغني العامل في مجال الفكر يصبح هو (التعويض) عن ضعف التواصل، فبسعة نفوذ الأغنياء وقدرتهم الفائقة على الحركة تنتقل المعلومة فيشيع الفكر، أما الآن فقد تم سد هذا الفراغ وأصبحت المعلومة من أسهل ما يكون.
الآن فقط يمكنك الحصول على كل شئ عن الصين بضغطة زر، بل وترجمة لغتها والتعرف على ما يقولوه بضغطة زر، بل ومعرفة الأخبار بعد وقوعها بعدة ثواني، كذلك وصل العالم إلى مرحلة جديدة من التواصل وهي .."التواصل المرئي الآني"..ويعني التحدث بين أكثر من طرف في مكانين مختلفين مع رؤية كل منهما الآخر.
هذا قرب كثير من المفاهيم ولم يعد العالم بحاجة إلى المفكر القائد أو الزعيم المستنير، لأن المعلومة الآن تنتقل في فراغ ووسيلة اتصال لا سيطرة عليها حتى من مالكيها، وبالتالي لو استدعينا رؤية د مراد وهبة وجعلنا النخبة من الأغنياء ستثور الطبقة الأكثر استخداما وانتفاعا من وسائل التواصل هذه، وقتها فقط سيشعرون بمؤامرة نخبوية سلطوية على مصالحهم، وفي تقديري أن هذه الحالة موجودة بشكل فاقع في مصر، فالنخبة المصرية اختارت طريق السلطة، ولم يعد النقد تمارسه في أدبياتها، ومن شدة عزلتهم عن الواقع وعدم شعورهم بآلام الشباب وتطلعاته بالحرية ، وعدم شعورهم بالفقراء وتطلعاتهم في حياه كريمة اتجهوا إلى نوع آخر من الثقافة وهو .."الجانب الأدبي"..في محاولة منهم لإثبات الذات بعيدا عن (دوشة السياسة) كما يصفها البعض.
أستثني من هؤلاء بعض عناصر النخبة التي حافظت على مبادئها وقاومت الإغراء في السنوات الماضية، ونجحوا في الحفاظ على أكبر قدر من المصداقية والوضوح، وهم رغم كونهم أقلية نادرة إلا أن وجودهم ما زال مؤثرا والسلطة تخشاهم ، ومن شدة شعور الحاكم بخطرهم تم استغلال كل قوانين القمع الدينية والسياسية في الدستور واللوائح المصرية، ومنعوا من الظهور في الإعلام، وإذا ظهر واحد ليتكلم سرعان ما يعود إلى قبوه الموجود أسفل جدران الكهف الذي يسكنه.
رابعا: أن وظيفة النخبة أولا وأخيرا هي.."النقد"..الذي عن طريقه تستطيع أن تحافظ على مصالح المجتمع وخصوصا مصالح الطبقة الكادحة الأكثر ضعفا، وبالتالي حديثها يكون باسم الشعب ضد الحكومة، لذلك أنا لا أتفهم دور المثقف أو الانتلجنسيا المؤيدة للسلطة، ولا أراه سوى إنسان خائن لضميره ومبادئه، وأنه يستخدم عقله غالباً في تبرير مصائب الحاكم..خصوصا الحكام الغير ديمقراطيين، ولذلك أرى أن من أسوأ الوظائف التي أعرفها هي المثقف المؤيد للحاكم الغير ديمقراطي.
وبالتالي لو جعلنا النخبة برجوزايين سنقضي أولا على حريتهم في النقد، وجرأتهم في التحري والبحث، ويكونوا أضعف لو أنهم كانوا أحرار لا يخافون على مال أو مركز اجتماعي أو سياسي، والسبب أن الحاكم أول ما ينظر لصناعة دولته هي هذه الطبقة، فيستعين بهم أولا: لقربهم من الجماهير، ثانيا: لقدرتهم الفائقة على إقناع كل الطبقات من أول الغفير مروراً بالحرفيين والموظفين انتهاءً بالسياسيين، وأّذكر منذ فترة حذرت من خداع السيسي لنخبة مصر باجتماعات قاربت على 3 مرات ومع ذلك لم يحقق لهم شئ سواء في حماية قانونية لهم بإلغاء ازدراء الأديان، أو حمايتهم من تكفير المشايخ، وحذرت كذلك من ردة فعل المثقفين أنهم لو فطنوا لتلك الخدعة سينقسموا لعدة فرق، فرقة منهم براجماتية تقف مع الحاكم، والثانية سلبية تعود للأدب والمعلومات العامة، والثالثة تهتم بكل شئ في العالم إلا الوضع المصري.
خامسا: أن النخبة ربما هي الطبقة الوحيدة القادرة على التحدث إلى كل جهات العالم الخارجي والداخلي أيضا، فلو جعلنا النخبة من الأغنياء وقتها نكون قد صدرنا صورة (مزيفة) عن واقع المجتمع الفعلي، بالتأكيد ليس المجتمع على شاكلة تلك النخبة سواء من حيث المظهر أو الفكر والعقل أو من حيث المادة أو من حيث السلوك، فتسود صورة مزيفة ستؤثر حتما في ذهنية وتفسير النخبة لأنفسهم ويرى كل عنصر منهم نفسه كعملاق..بينما الحقيقة أن ما صدروه للخارج والداخل يعتبر أزمة اجتماعية حقيقية تحمل الدولة على تجاهل مشاكل الفقراء، فهم لا يرون سوى المثقف بمظهره الجيد وعقليته، ويظن السياسي الأحمق وقتها أن الشعب الكادح يفهم كفهم هذا المثقف أو أنه قوي بما فيه الكفاية لمقاومة الإغراءات.
والحق الذي أراه هو أن عمل الفقراء والكادحين في الفكر سينقل صورة طبيعية (وبالألوان) عن واقع وحال المجتمع، وكلما كانت النخبة فقيرة كلما اتصلت بالعالم الخارجي ونقلت علومه وثقافته إلى الأرياف والقرى والنجوع، وهذه كانت أزمة في بدايات القرن العشرين، حيث ظلت الثقافة حكر على المدن، حتى عانت القرى والأرياف من الفراغ إلى أن جاءت الوهابية واخترقت تلك القرى، وبعد افتراسها للفقراء تحولت الوهابية لافتراس الأغنياء في المدن.
النقطة التي أتفق فيها مع الدكتور مراد وهبة أن عمل البرجوازيين في الفكر سيساهم في تقليل النفقات والتضحيات التي تتطلب جهدا أعلى وأموال كثيرة في نشر الفكر والوعي، بينما الفقير لا يملك ذلك، ولو مس الفقراء شعور باليأس لن يفكروا أو يتقدموا خطوة واحدة، بينما الغني بأمواله يقدر على توصيل أفكاره ورؤيته للناس بمنتهى السهولة، ومثال ذلك إنفاق العديد منهم على مشروعات تنويرية كافتتاح قناة فضائية مثلا، أو إنشاء صحيفة، أو إنشاء حزب، أو هجوم ألكتروني في مواقع التواصل الاجتماعي يهدف فقط للتنوير ودعم المثقفين.
أما أن ننتظر من النخبة الغنية الآن أن تقدم ما قدمته هذه النخبة منذ 100 عام مثلا فهو قفز على حقائق التاريخ، وإنكار لتطور البشرية ، وعدم إدراك للواقع المعاش، بل أزعم وفي تقديري أن العالم الآن كلما كانت النخبة المثقفة فيه من الأغنياء يصبح المجتمع مهدد من الداخل، وكلما كانت من الفقراء انتشر الوعي وانخفضت سلطات رجال الدين الذين يستهدفون الفقراء بشكل أساسي.