أولا
1ـ كان سليمان القانوني هو آخر السلاطين العظام ، وفي نهاية حياته سيطرت عليه حبيبته الروسية " روكسانة " وجعلته يقتل ابنه ولي العهد الأمير مصطفى في سبيل أن يكون ابنها الأمير سليم هو ولى العهد ، وأصاب الدولة العثمانية من جراء ذلك ضرر عظيم ، من القتل والحروب الأهلية .. ولكن أعظم الأضرار كانت تتمثل في شخصية السلطان الجديد ابن روكسانة والسلطان سليمان القانوني وهو السلطان سليم الثاني الماجن ، المشهور بلقب " سليم مست " أو سليم السكير " : بسبب إسرافه في الخمور ، وكان كما – يقول أستاذنا الدكتور عبد العزيز الشناوي مؤرخ الدولة العثمانية – مشهورا بارتكاب أقذر أنواع الرذائل التي يشعر الإنسان بالخجل عند سماعها ، وكان يقضي أوقاته داخل القصر يمارس هوايته في شرب الخمور ومطلقا العنان لشهواته البهيمية ومسامرا لحثالة من حاشيته ، ولم يذهب إلى ساحة القتال أبدا ، مع أن عهده شهد إرسال حملة عسكرية لإعادة السيطرة العثمانية على اليمن ، وإرسال حملة أخرى لفتح قبرص ، وذلك يرجع إلى أن قوة الدولة كانت لا تزال متأججة برغم ضعف ذلك السلطان ، الذي كان دافعه لفتح قبرص هو أن مستشاره اليهودي الماجن جوزيف ناسي قد أقنعه بأن نبيذ قبرص هو أعظم نبيذ في العالم ، مما جعل السلطان يهتف قائلا لصديقه اليهودي : ستكون ملكا على قبرص ، وقد بلغ من حظوة ذلك اليهودي عند السلطان سليم الثاني أن أعطاه جزيرة ناكسوس بعد أن نجحت الدولة في الاستيلاء عليها .وقد تشجعت الدول الأوربية بضعف هذا السلطان فتنادت إلى عقد حلف ضده ونجحت في تحطيم الأسطول العثماني في موقعة لبانت في أكتوبر سنة 1571، واعتبرتها أوربا هزيمة للإسلام .. !!
2.ولذلك يجمع المؤرخون كما يقول الدكتور عبد العزيز الشناوي في كتابه الضخم عن الدولة العثمانية أن هذا السلطان هو أسوأ السلاطين ، وأنه البداية الحقيقية لاضمحلال الدولة العثمانية ، وأنه أول من يستحق وصف التنبل .. وعلى رأس السلاطين التنابلة الذين لا عمل لهم إلا اقتناص المتعة الشرعية وغير الشرعية .. تاركا سيدات القصر ليقمن بإدارة شئون الدولة بدلا منه .. وكان أقواهن " نوربانو " أي سيدة النور وهي إحدى قادينات السلطان سليم الثاني وقد اكتسبت قوتها من كونها أم ولي العهد .. وقد استمر نفوذها بتولي ابنها السلطنة تحت اسم مراد السادس ، وقد استمر يحكم الدولة أكثر من عشرين عاما " 1574 – 1595 " .
3.وفي عصر السلطان مراد الثالث كان الصراع يدور بين أربع من السيدات حول إدارة شئون الدولة ، بينما انصرف السلطان مراد الثالث – مثل أبيه سليم الثاني – إلى المجون واللهو مع الجواري والمحظيات من القادينات وغير ذلك مما نعف عن ذكره . إذا كانت أروقة الحريم هي التي تحكم الدولة العثمانية في عصر السلطان مراد الثالث .. وكان ابرز القوى تتمثل في أم السلطان مراد الثالث وهي .. "نوربانو " وكانت تشبه كاترين دي مدتشي ملكة فرنسا الوالدة والمعاصرة لها .. وكان ينافسها بحكم العادة الزوجة الأولى للسلطان أو " الباش قادين " صفية .
.والباش قادين صفية هي في الأصل كانت بنتا رائعة الجمال من أسرة بافو التي تنتمي إلى جمهورية البندقية ، وكان أبوها حاكما على جزيرة قورفو وأثناء نزهة بحرية مع بعض السيدات النبيلات ، وهي في الرابعة عشرة من عمرها خطفها القراصنة ، وانتهى الحال بها لتباع إلى السلطان جارية رائعة الجمال .. وحين تولى السلطان مراد الثالث بهره جمالها فأعتقها وتزوجها وأنجب منها وارتفع مركزها في البروتوكول العثماني من جارية إلى قادين ثم إلى باش قادين ، أي الزوجة الأولى ، وأصبح في يدها الإسهام في السياسة العثمانية بقدر ما تستطيع اقتناصه من نفوذ " السلطانة الوالدة " " نوربانو " ، وعملت " الباش قادين " " صفية " على أن تسير السياسة الخارجية العثمانية على نحو يخدم مصالح وطنها الأم جمهورية البندقية الإيطالية .
.ومع ذلك فقد كان للباش قادين صفية عدة مشروعات خيرية دينية إسلامية ، وفي القاهرة لا يزال فيها مسجد يحمل اسمها ، ويحمل هذا المسجد لوحة تذكارية تقول " أنشأت هذا الجامع المبارك المعمور بذكر الله تعالى " صاحبت " الخير الآدر. ( يعني الحريم السلطاني) الشريفة والدة المرحوم مولانا السلطان محمد خان طاب ثراه على يد فخر الخواص المتقربين مولانا الناظر الشرعي على الوقف المذكور ، وكان الفراغ من هذا البناء المذكور في السابع والعشرين من شهر محرم من سنة تسع عشر وألف من الهجرة " ( وذلك يوافق 21 ابريل 1610م) .
ويوجد بدار الكتب المصرية مصحف محلى بالذهب مكتوب عليه أنه " وقف المرحومة صفية أم السلطان محمد خان في سنة 1032 هـ " .
4.ولم يكن الصراع وقفا على أم السلطان مراد الثالث وزوجته الباش قدين صفية ، وإنما دخل في الصراع أخت السلطان مراد واسمها " إسمات " وكانت متزوجة من الصدر الأعظم أو رئيس الوزراء " محمد صوقلو باشا " صهر السلطان ، وشاركت في الصراع السياسي بزواجها من الصدر الأعظم الذي يعاون السلطان – رسميا – في إدارة الدولة سياسيا وحربيا . وبسبب انغماس السلطان مراد في الشهوات فقد كان لجافيد خاتون نصيب في النفوذ السياسي ، فقد كانت جافيد خاتون تقوم بعمل " كايا " أي تدير شئون الجواري الفاتنات في الحريم السلطاني .وكان خفيا وسافرا ذلك الصراع السياسي بين أم السلطان مراد الثالث وزوجته صفية .والصراع الخفي تمثل في انهماك أم السلطان في شغل ابنها بالتهام العديد والمزيد من الجواري الفاتنات ، كي ينشغل أساسا عن محظيته صفية " الباش قادين ، وكي يترك للام المجال ليتزايد نفوذها من واقع إحساسه بالامتنان لها ، وكان مراد الثالث معروفا بشغفه بالنساء .
5.وماتت السلطانة الأم ولكن هذه السياسة لم تمت ، لأن الكايا "جافيد خاتون " تطلعت إلى ملء الفراغ الذي كانت تحتله والدة السلطان ،وأكثرت من شراء الجواري الفاتنات والحقتهن بالحريم السلطاني وأدى الإقبال على شرائهن إلى الارتفاع الجنوني في أسعارهن في سوق النخاسة ، خصوصا إذا تميزت الجارية بالجمال المفرط ورقة المشاعر وخفة الدم ورشاقة العود والحيوية والعذوبة .
6.وبموت السلطان مراد الثالث تولى أبنه محمد أكبر أولاده الذى حكم ما بين ( 1595 – 1603 ) وكانت أمه صفية لا تزال على قيد الحياة فاستمر نفوذها كالسلطانة الوالدة .. وكي تضمن نفوذها على ابنها فإنها سارت في نفس السياسة التي سارت فيها حماتها " نوربانو " بأن قدمت لأبنها المزيد من الجواري الفاتنات لينغمس في بحور الفتنة ويترك لها إدارة شئون الدولة ، وذلك ما حدث فعلا .
7.وطيلة استمرار الخلافة العثمانية استمر نفس المسلسل .. السلطان مشغول بغرائزه ومقاليد السياسة بين يدي الأم والزوجة وباقي مراكز القوى ، والأم تلهي ابنها السلطان بالجواري الحسان ليزداد انشغالا وفسادا .
أخيرا
1 ـ ألا نعذر المتطلعين الى إستعادة الخلافة ؟ أولئك الذين يتغنون بمناقب الدولة العثمانية وخلافتها (الاسلامية )؟ لكى نعذرهم يجب أن نقرأ حياة المتعة والنعيم التى كان يحياها أولئك الخلفاء . ولكى نعذرهم أكثر لا بد أن نتصور معاناة أولئك الطامحين للخلافة. هم يعانون من شعور بالدونية لا علاج له إلا بأن يركبوا ظهور الناس باسم الاسلام . وهم يعانون من فقر مريع ، مع إن لديهم المال الفائض ، ولكن نفوسهم تربت على الجشع ، ولا يمكن إشباع نهمهم إلا بأن تكون لهم أموال الشعب باسم الاسلام . وهم يعانون من الحرمان الجنسى ويتصورون أنفسهم يتقلبون بين آلاف السيقان النسائية وفوق أطنان اللحم الأبيض ومختلف الألوان .. وحتى لو بلغ أحدهم أرذل العمر فهو يطمع فى المتعة الشفهية ..
2 ـ ولكن ..لا يمكن أن نعذرهم ..يكفى أن تقرأ فاصلا من حياة الفلاح المصرى فى العصر العثمانى لتعرف معاناته وشقاءه ..والفلاح المصرى مجرد حالة من حالات الشقاء التى عاناها جميع ( الرعايا ) فى الدولة العثمانية من العراق شرقا الى حدود المغرب ، ومن جنوب ليبيا واليمن جنوبا الى حدود روسيا والبلقان وصربيا وبلغاريا فى شرق أوربا . معاناة مئات الملايين من المسلمين والمسيحيين كانت لهدف أعظم ، هو أن يتقلب فى المجون والخمر والنساء شخص واحد هو السلطان العثمانى أو خليفة المسلمين .
3 ـ لن نتحدث عن الاسلام المظلوم الذى شوّه أولئك الظالمون سمعته ..ولكن يكفينا أن نقف بقوة ضد استمرار تشويه سمعة الاسلام . لذا فالجهاد الحقيقى هو فى اصلاح المسلمين بحقائق الاسلام وقيمه العليا من التقوى وسمو الخلق والعدل والاحسان واحترام حقوق وكرامة الانسان ـ أى إنسان بغض النظر عن اللون والعنصر والجنس والثقافة ..واصلاح المسلمين بالاسلام يعنى أيضا الوقوف بقوة وحزم ضد أولئك البغاة الذين يريدون أن يصبحوا طغاة ، يسيرون على سنّة الخلفاء الظالمين ؛ العثمانيين وغير العثمانيين .
4 ـ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ..