كان يجلس في الكرسي الأمامي في سيارة الأجرة ينتظر اكتمال عدد الركاب حتي تنطلق به السيارة إلي بلدته، أخرج جواله ووضع السماعات في أذنيه وأخذ يبحث عن رقم صديق ليتصل به، جاءته امرأة تمدُّ يدها إليه متسولةً وكانت تدفع أمامها عربة عليها صبيٌ تدّعي أنّه يحتاج لإجراء عملية جراحيّة، كان الوقت ليلا والإضاءة في موقف السيارات خافتة فلم يتبين حالة المرأة ولا حالة طفلها، كما أنه لم يرفع عينيه عن شاشة الجوال وهي تدعو له وتطلب المساعدة كما يفعل المتسولون . بالرغم من حبه الشديد للتصدق وحرصه عليه ، إلّا أنه لم يكن يكترث كثيرا لمتسولي الأماكن العامة ، وخاصة المزدحمة منها ، ويري أنّ هناك من هم أحوج منهم ألف مرة ويتعففون عن السؤال. ثم إن هؤلاء المتسولين يكذبون طيلة الوقت ، ولديهم براعة في التمثيل واستجداء العواطف ، وقد اتّخذوا من التسول فناً وصنعةً تدرُّ عليهم من الأموال ما لا يحققونه بالكدِّ وعرق الجبين، الأمر الذي يجعله ــ وإن عطف علي أحد منهم بشئ ــ فإنه يكون مبلغا زهيدا. قال لها عدة مرات وهو ينظر في شاشة الجوال ولا يلتفت إليها : ( اذهبي الله يسهلِّك ) حتي ملَّت وخفضت يدها وولَّت عنه وهي تقول ( الله يفضحك ). تملكه الذعر من قولها ، والتفت إليها غاضبا حانقا من موقفها وسواد قلبها، ولكنَّ الغضب تبدل في لحظة إلي خوف استولي علي كيانه كله؛ هل يتقبل الله منها دعاءها بالشر، إنه لم يسىء إليها ولم يظلمها فلن يتقبل الله منها بالتأكيد. بالرغم من ذلك لم يطمئن ، وأخذت دقات قلبه تتسارع ، وحبات العرق تعلو جبينه، وراح يفكر في دعائها عليه ؛ ألم تجد في قائمة النقم والبلايا إلا الفضيحة تدعو بها عليه؟ . وهل يملك في الدنيا من نعم الله شيئاً أعظم عنده من الستر؟!. وسأل نفسه : ماذا لو خُيِّر بين نعم الله كلها ليختار منها واحدة، أيها سيختار ؟، فوجد أن نعيم الدنيا كله يستطيع الغني عنه إذا ما قورن بنعمة إسبال الستر. زال الحنق الذي شعر به نحو المرأة في لحظة أيضاً، ونزل من السيارة وأخذ يتلفت يميناً ويساراً في الزحام والأضواء الخافتة لعله يجدها، كانت قد اختفت تماما عن ناظريه، عاد إلي مكانه ثم ما لبثت السيارة أن امتلأت بالركاب وركب السائق إلي جواره وأدار مفتاح محرك السيارة واستعد للإنطلاق، حزن حزنا شديا وندم وتملكه الخوف من أنه سيرحل دون أن يستسمحها، وفي اللحظة التي دارت فيها إطارات السيارة دورة أو اثنتين، رآها تقف إلي جوار العربة التي يجلس عليها الصبي وتتسول من بعض الرجال الواقفين علي بعد عشرة أمتار منه تقريباً، بسرعة طلب من السائق أن يتوقف لبضع ثوانٍ متعللا بأنه قد نسي شيئاً. وذهب إليها وأخرج من حافظته ورقة مالية لم يعتد أن يخرج مثلها لمتسولي الأماكن العامة ، وقال لها متبسما " اتفضلي يا ست الكل " فشكرته ودعت له، ثم استدرك وقال " أنا الذي كنت في السيارة وقد دعوتي عليّ فسامحيني لأنني كنت مشغولا باتصال هاتفي" قالت له " حاشا لله لم أكن أدعُ عليك بل كنت أقول الله يفرَّحك ". قال لها " حصل خير والحمد لله" . تنفس الصعداء ، وذهب إلي السيارة ، وقد أزال حملاً ثقيلا كان قد جثم علي قلبه قرابة العشر دقائق، ومن يومها لم يردَّ سائلا صفر اليدين قط.