بحث في الأدلة القرآنية علي عدم صدق المرويات التي افتريت علي رسول الله
وحيٌ واحد أم وحيان

عامر سعد في الخميس ١٥ - سبتمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

القارئ العابر لسورة الأنعام ربما يتسائل لماذا سميت بهذا الإسم بالرغم من أن الأحكام التي تخص الأنعام فيها لا تتعدي آيات قليلة جدا في وسط السورة،  وربما يتسائل أيضا عن الصلة بين المغزي العام للسورة وبين تشريع المحلل والمحرم أكله من الأنعام، تتحدث آيات السورة في مجملها عن الشرك بالله واتخاذ أولياء من دونه وعن أقوام يعدلون الله تعالي بمن خلق من البشر ويجعلون كلامهم ككلام الله وفي بعض الأحيان حاكم عليه وناسخ له، وهذه بعض آيات متفرقة من السورة:

 

(( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون )) الأنعام 1

 

(( قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأنزل إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخري قل لا أشهد قل إنما إلهكم إله واحد وإنني برئ مما تشركون ، الذين آتينهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون، ومن أظلم ممن افتري علي الله كذبا أو كذب بآيته إنه لا يفلح الظلمون )) الأنعام 19 - 21

 

(( ومن أظلم ممن افتري علي الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ  ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله  ولو تري إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون علي الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون )) الأنعام 93

 

(( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلي بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون، ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ماهم مقترفون، أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتينهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين، وتمت كلمتُ ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، وإن تتبع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون )) الأنعام 113 - 116

 

تبديل أحكام الله وتشريعاته وتحريم ما أحلّ واستحلال ما حرّم هو مسلك سلكته كل الأمم السابقة إلا من هدي الله، ومن تلك التشريعات التشريع الخاص بالطعام والشراب و هو من أهم تشريعات الله التي تبين أحكام أحد الحاجات الأساسية للبشر وتحريف ذلك التشريع ينتج عنه مفسدة كبيرة،  وفي سورة الأنعام يقص الله عز وجل علينا  ما فعلته الأمم من تحريف لما يحل لهم وما يحرم عليهم من الأطعمة، فيستحلون الحرام ويحرمون الحلال بما أملته عليهم أهوائهم و أهواء الذين اتخذوهم أولياء من دون الله  ثم يدَّعون أن الله هو الذي أوحي إليهم بذلك ويجعلونه دينا ويحسبون أنهم مهتدون، وهذا هو الرابط بين الموضوع الذي تتناوله السورة بشكل عام وهو الشرك بالله وبين بيان ما فعلته الأمم السابقة من تحريف لشرائع الله التي أهمها تشريع ما حرِّم من الطعام، بعد ذلك يقول الله تعالي كلمته الأخيرة وتشريعه الأبدي فيما حرم أكله من الأطعمة وأما ما عداها فهو حلال طيب إلا من اضطر لأكل المحرم كظرف استثنائي مع الإقرار بحرمته في الأيام العادية.

 

لو وضعنا سؤالا علي الإنترنت وسألنا : هل يحل أكل لحم الحمار، كلنا نتوقع النتيجة بالطبع، سيكون السؤال نفسه مستهجنا جدا ولو قلت لهم أن أكله مباح بنص آيات الله لظنّك البعض تهذي واتهمك البعض بالهرطقة والكفر، وربما تجد أخيرا من يمن عليك ويجادلك بالحسني وبالطبع سيأتيك بوابل من الروايات المنسوبة لمحمد رسول الله عليه السلام، فإذا سألته بأي حق يشرع النبي شيئا كهذا من تلقاء نفسه مخالفا أمر الله عز وجل ، لو تماسك وقرر أن يتمادي معك في النقاش سيقول لك أن الله تعالي أنزل علي رسوله وحيان، وحي تمت كتابته وتكفل الله بحفظه وهو القرآن الكريم والوحي الآخر قاله الرسول لأصحابه في مواقف حياتية يومية ثم نقل سمعاً وحفظ في ذاكرة جيل خلف جيل حتي جاء إلينا، لم يتكفل الله بحفظ هذا الوحي بل وقد أمر رسول الله أصحابه ألا يكتبوا هذا الوحي وأن يحرقوا نسخا منه كان قد كتبها بعضهم، لا ندري هل لإنعدام الفائدة منه أم أن النبي قد استهان في تبليغ وحي ربه ؟ حاشاه رسول الله، ولكن هذا سؤال منطقي ووجيه جدا أوجهه للذين يظنون صدق كتب كاملة من هذه الروايات ككتابي البخاري ومسلم ويظنون ظناً يصل إلي درجة العقيدة واليقين أن النبي قد قال هذا بلسانه،  ولماذا يفكرون بهذا الشكل، لكي لا يشككوا في مشايخهم وفي أيِّ من السلف الصالح كما يسمونهم، وهذه هي النقطة المفصليه ومحور الإختلاف الذي بيننا وبين القوم، وهو ما تنفيه كل الشواهد من آيات الذكر الحكيم ومن الحقائق التاريخيه والتفكير المنطقي.

 

تتحدث سورة الأنعام كما قلنا عن الذين يفترون علي الله الكذب ويقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله، وتتحدث عن أحكام تواصت الأمم بتبديلها وهي ما يحل وما يحرم من الأطعمة، بعد ذلك يأتي نص التشريع الخاص بالحلال والحرام من الأطعمه، ولكنه يأتي بصيغة لم تذكر في القرآن إلا في هذا الموضع وهي صيغة تنفي تماما ما ادّعاه المدعون بإضافة محرمات أخري لا تحصي وصيغة لا تقبل الإلتباس ولا تحتاج لشرح أو تفسير ولا تقبل أي تأويل منطقي لمعني آخر بل وتنسف ادِّعاء الوحيين المزعوم من الأساس ، ولنقرأ الآية، يقول تعالي (( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما علي طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه والله غفور رحيم )) الأنعام 145 

 

الآية لا تقرر الأطعمة المحرمة فقط بل وتنفي نفياً قاطعا أن الله أوحي إلي رسوله أي محرمات أخري سواء في القرآن أو بأي طريقة أخري من طرق الوحي المزعومة، فالله سبحانه وتعالي يقول للرسول أن يقول للناس أنه لا يجد في كل ما أوحي إليه محرما علي طاعم يطعمة إلا ما ذكر في الآية، فكيف يزعم من يزعم أن الله قد أوحي إلي نبيه قائمة أخري من المحرمات ولكن لسبب لا يعرفه أحد لم تأتي هذه القائمة ضمن ما ذكر في الآية، فهل قال الله عز وجل - ولله المثل الأعلي - لرسوله أن لحم الحمار حرام أكله ألن يكون من المنطقي أن يستنكر الرسول ذلك ويقول يارب كيف أقول لهم هذا وقد أمرتني في القرآن أن أقول أنني لا أجد في ما أوحي إلي محرم أكله إلا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به إلا من اضطر !!! . هل يرجع الله في حكمه ؟، ألن يكون هذا تبديل لحكم قد سبق قول الله فيه وهو الذي لا مبدل لكلماته ؟، ألم يروا أن تلك المحرمات ذكرت في العديد من المواضع في أكثر من سورة، إذا لماذا لم يخبرنا الله عز وجل  في أي منها عن تلك المحرمات ؟، وإذا كان الله قد أوحي إلي نبيه عبر الوحي الآخر محرمات أخري غير التي في القرآن لماذا جاءت الآية بصيغتها تلك التي تغلق الموضوع تماما ولا تسمح بالإختلاف فيه ؟.

 

ربما يعترض معترض ويأوِّل الآية تأويلة غير منطقية بالمرة وهي شائعة في كتب أسلاف القوم فيقول أن الآيات السابقة لتلك الآية كانت تتحدث عن تحريم بني اسرائيل لبعض أجزاء الأنعام المشهورة بأكلها أو التي نطلق عليها اليوم اسم الماشية كما حرموا أكل لحوم الإبل وشرب ألبانها ولذلك جاءت الآية لتنفي وجود أي شئ محرم من تلك الأنعام فقط بشكل خاص وأن رب العزة لم يقصد جميع الحيوانات، وآخر يعترض بقول ليس في محله إطلاقا أيضا ويقول أن الأنعام بالأساس لا يقصد بها إلا البقر والغنم والإبل والماعز، ونبدأ بالرد علي الأخير ونقول أن الإستثناء في الآية ليس من الأنعام في الأساس حتي نختلف في المراد بكلمة الأنعام، بل إنها تتحدث بشكل عام عن كل الأطعمة، وإلا لقال الله تعالي ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما علي طاعم يطعمه من الأنعام إلا ........ ) وهذا ردٌ علي المعترض الأول أيضا، وإذا لم يكن ذلك كافيا ليقتنع  فلنستعرض سياق الآيات الأخري الشبيهة لتلك الآية والتي تحرم نفس المحرمات بنفس الترتيب لنثبت له أن تأويله لا يصح.

نبدأ بالآية من سورة البقرة،  يقول الله عز وجل  (( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله  إلا من اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم )) البقرة 173، لم يأت في سورة البقرة علي كثرة آياتها وتعدد موضوعاتها أي ذكر لكلمة ( الأنعام ) مطلقا فلا مجال للظن أن المستثني منه في الآية هو الأنعام، أما الآيات قبل تلك الآية، فنجد آية قبلها بآيتين تقول (( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون )) البقرة 170، لقد سبق في علم الغيب عند الله أن أُمَّتنا ستحرم أكل بعض الحيوانات كما فعلت الأمم السابقة وأري أن تلك الآية قد جاءت لتحذر من التقليد الأعمي للسابقين لكي يقيم الله تعالي حجته علي الذين يجحدون بآياته رغم استيقان أنفسهم بها، كما تعطينا تلك الآية لفتة جميله إذ لا يشترط وليس قانونا إلاهيا في الأمم من قبلنا أو في أمتنا أن يكون الأسلاف خير من الأخلاف، نعم إن صحابة رسول الله في مجملهم كانوا من أعظم الناس وأكثرهم إيمانا وصبرا علي التحمل في سبيل أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وهم مجموعة مصطفاة آمنوا بالله وتحملوا في ذلك أشد أنواع العذاب ولا وجه للمقارنة مطلقا بينهم وبين الذين دخلوا في دين الله أفواجا بعد انتصار نبي الله وصحابته الذين كانوا من السابقين الأولين في اتِّباع هدي الله، هؤلاء اللاحقين من الطلقاء ومن تلاهم في القرون الأولي للإسلام ليسوا بالضرورة أكثر إيمانا وتقوي وفهما وعلما فمعظمهم قد عاشوا في ظروف أشد فسادا من أيامنا هذه، إن الإنسان بشكل عام قد تطور أكثر وتراكمت عنده خبرات أكبر وعلوم وحقائق أكثر وأصبحت الأرض في كثير من بقاعها أكثر أمانا وعلما وأخلاقا وعدلا وضمانا للحقوق وتقدما ورقيا أكثر من ذي قبل، إذا فعلام كل هذا التقديس والإيمان بصدق الأولين.

لنأتي للآيات التالية للآية من سورة البقرة، يقول الله تعالي (( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدي والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم علي النار، ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد )) البقرة 159 - 161 ، الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، يكتمونة عن الناس ويكتمونه عن عقولهم التي ترضخ لهوي النفس وإلي العقيدة الفاسدة المتجذرة في نفوسهم وأفهامهم، ولأن الواحد منهم يخشي أن يفكر فيكتشف أن شيئا ما مما يعتقد به كذب وافتراء ويخشي أن يأخذه العقل إلي أبعد مما يتخيل مع التفكير المستمر، لقد قيل عن د. مصطفي محمود أنه ألحد من كثرة التفكير، لا أدري إذا كان ألحد بالفعل أم لا، ولكن هذه هي الرواية المقبولة عند القوم، لأنهم مقتنعون أن الذي يلحد ويكفر بالله كفراً صريحا أن التفكير واستخدام العقل والعلم هو سبب كفره وإلحاده، بينما الذين يبينون للناس ما أنزل الله إليهم في الكتاب فإنهم جهلاء لا يفقهون شيئا غير متخصصين ولا يصح لهم أن يتحدثوا فيما هو حكر علي مشايخهم وأوليائهم وشياطينهم التي تزين لهم السوء، حتي إذا راودهم الشك قليلا فيما يعتقدونه يعودون سريعا للإيمان الراسخ بصحة عقائدهم الفاسدة ويرفضون حتي السماع أو النقاش وذلك لأن اللاوعي يفكر هكذا  (( لو كان خيرا ما سبقونا إليه )) وذلك لاعتقادهم أنهم علي الحق وأن من دونهم علي باطل ولا يستطيعون أن يواجهوا أنفسهم مرة واحدة بأنهم علي باطل أو أنهم كانوا مخطئين، هذا طبع غالب في البشر ويعلم الله نبيه كيف يجادل الكافرين بالتي هي أحسن فيقول (( وإنا أو إياكم لعلي هدي أو في ضلل مبين )) ،  ومما روي لي علي سبيل الفكاهة أن أحد الأشخاص كان من الجماعة التي يطلق عليهم الجهاديين أو التكفيريين وكان معتقلا فجاءت إليه زوجته يوما في السجن لتزوره وفي أثناء الزيارة رفع إصبعيه السبابة و الوسطي ثم أشار بهما إليها وعاد بهما مشيرا إلي نفسه وقال لها ( أنا وأنت فقط علي حق وكل من حولنا من البشر كفار ومشركين ومبتدعين ورب فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله )، لنناقش سببا آخر من أسباب رفض أهل الباطل للحق إن أحدهم إذا عرض عليه ما يخالف قناعاته يخشي في اللاوعي عنده أن يقتنع بشئ أو أن يقول بشئ كهذا مخالفا من حوله من الناس، إما لخوفه أن يكون منبوذا ومكروها ومستقصدا في المجتمع أو أن يصل به الحد لأن يقتل أو يسجن ويعذب، وربما يكون خائفا أكثر كون الأغلبية من حوله قد أجمعوا علي شئ وأن الأقلية التي يخاف أن يقتنع بها تقول شيئا آخر وهو في تفكيره وتراثه أن الأغلبية والأكثرية هي التي تكون دوما علي حق وهذا مناقض لكلام الله إذ يقول : (( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون )) الأنعام 116

 

ولنأخذ مثالا آخر لآية من سورة المائدة تحمل نفس المعني:

 يقول الله تعالي (( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به  والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح علي النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئِس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم )) المائدة 3، نفس المحرمات بنفس الترتيب لا زيادة ولا نقصان وإنما يأتي تفصيل أكثر كي لا يختلف الناس في ذلك التشريع الهام فيذكر الله حالات الميتة التي ربما يشك البعض في صلاحيتها للأكل، وهنا سؤال يطرح نفسه بشدة، إذا كان قول الله تعالي في القرآن حريصا علي تبيين هذا التشريع بالتكرار وإضافة التفصيلات لِماذا إذاً لم تذكر ولو لمرةً واحدة حرمة تلك الحيوانات التي يدعون تحريمها، هل حرمة أكل تلك الحيوانات هي أقل حرمة أو أقل خطرا فقد ذكرت حرمة أكل لحم الخنزير أربع مرات في القرآن ولم تذكر حرمة أكل أي حيوان آخر حرمة مطلقة، وإذا كان القوم حقا يؤمنون إيمانا تاما بوجود الوحي الآخر والأكثر أهمية كما يدعون ماذا لو خيرنا أحدهم بين أكل لحم الخنزير وبين أكل لحم الحمار، ماذا سيختار ولماذا، إذا استفضنا في ذكر آراء أئمة القوم السابقين سنجد اختلافا كبيرا بين المحلل والمحرم أكله،  ألا ينطبق عليهم قول الحق سبحانه (( ذلك بأن الله أنزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد )) البقرة 176، في الجزء الثاني من الآية الثالثة لسورة المائدة يحذر الله الذين آمنوا أن يخشواالذين كفروا ويبشرهم أنه سبحانه وتعالي قد أكمل لهم دينهم وأتم عليهم نعمته، إن تكرار نفس التشريع في نفس الآية التي يقول الله فيها أن الدين قد اكتمل وأنه لم يعد هناك تشريعات أخري ولا تبديل لكلمات الله، لكي يقيم الحجة مرة أخري علي الذين يتبعون الظن، وإن كانت هذه هي آخر ما نزل من القرآن بالفعل فهكذا تكون آخر آية في القرآن يذكر الله بها الناس بما حرم عليهم وما أحل لهم من الطعام لأهمية ذلك التشريع كما أسلفنا.

 

نأتي للمثال الأخير من سورة النحل ويقول فيها رب العزة سبحانة (( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) النحل 115، هي نفس المحرمات ثم يقول الله تعالي في الآية التالية (( وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ )) النحل 116، مرة أخري يأتي تشريع الحلال والحرام من الطعام مرتبطا بالتحذير من افتراء الكذب علي الله وتحريم ما أحل وتحليل ما حرم.

ربما نكون قد استطعنا بهذا القدر أن نقنع أحدا ما أن الروايات التي جاءت عن النبي في تحريم أطعمة أخري غير التي جاءت في القرآن هي روايات مكذوبة عليه، ولكنه لا يزال مقتنعا بأن هذا الحكم لا ينصرف إلي كل أو معظم ما روي عن النبي، ولكي نستدل علي قولنا أكثر فلنمر علي إثنتين من تلك الروايات مرورا سريعا ولنبدأ بتلك الرواية:  

( أخرج مالك والبخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلي الله عليه وسلم نهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. )

ألا يدل مرور تلك الرواية عن طريق كل أولئك الرواة من أصحاب الكتب المقدسة عند القوم أن عملية تناقل أقوال رسول الله من جيل إلي جيل هي خدعة كبري ضلّ بها المسلمون وحادوا عن شريعة الله الحقة، وإذا كانوا جميعا قد عملوا علي تنقية الروايات وأسقطوا منها ما اعتقدوا بدراستهم وعلمهم وفهمهم لحقائق الدين ومعاني القرآن أنه كذب وافتراء علي رسول الله، إذا كيف تخدعهم رواية كتلك الرواية مع وضوح مخالفتها لكتاب الله مخالفة صريحة واضحة لا تحتاج إلي بيان فكيف الحال مع الروايات الأقل شهرة وروايات الآحاد التي يجعلها القوم مقدمة علي آيات الذكر الحكيم وناسخة لها ويقولون أن القرآن ينسخ بالسنة والسنة لا تنسخ بالقرآن (( إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون علي الله ما لا تعلمون )).

كلنا أو كثير منا يعرف قصة الحمر الأهلية التي ذبحها الصحابة يوم خيبر ثم جاء الخبر إلي النبي فقال أن الحمر الأهلية محرمة وأمرهم بإهراق ما في القدور علي الفور، فإذا أقررنا أن وحيا آخر يأتي للنبي يمليه تشريعات لم تذكر في القرآن، ألم يكن من الأمانة ومن ضروريات تبليغ الرسالة أن يخبرهم الرسول بما جاء من تشريعات فور نزولها وألا ينتظر حتي تأتي مناسبة لذلك، وإن كان ذلك التشريع أوحي إلي النبي بالفعل قبلها بأيام فمن يحمل وزر من أكلوا لحوم الحمير في الفترة من وقت نزول الوحي وحتي تم تبليغه، وماذا لو حدث أن الصحابة كانوا قد أكلوا من لحوم الحمير التي ذبحوها يوم خيبر قبل أن يعلم النبي بالخبر هل كان سيأمرهم بتقيئ ما أكلوه أم كان سيتحمل عنهم وزرهم، ومع ذلك فقد روي أن بعضهم كان قد أكل منها بالفعل وبعد أن أكل ذهب يستفتي النبي، فإذا كانوا يشكٌون في الأمر فعلا من البداية فلم أقبلوا علي ذبح كل تلك الحمير دفعة واحدة قبل أن يستفتوا النبي، وماذا لو لم يفكر أحد بزبح الحمير وأكلها سواء في يوم خيبر أو غيره من الأيام فهل كان سينسي النبي أن يبلغ ما أوحي إليه، وإذا كان النبي قد أضاف إلي المحرمات أيضا كل ذي ناب ومخلب كما في الرواية السابقة لما لا تذكر الروايات تلك المحرمات أيضا في نص تحريم الحمر الأهلية، أم أن تشريعا هاما هكذا قد أُهمِل ولم يُكترث به حتي جاءنا في نصوص متفرقة متضاربه ليصبح عندنا نص قرآني يحصر المحرمات من الأطعمة في الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله وما دونه حلال طيب، وعندنا نص آخر يكسر هذا الإستثناء ويضيف الحمر الأهليه، ثم نجد نصا ثالثا يضيف إلي المحرمات كل ذي ناب ومخلب، فأي أحكام هذه المتضاربة المتفرقة بين القيل والقال ومع ذلك تجد من يؤمن بها جميعا بدعوي السمع والطاعة وتعطيل نعمة العقل والتفكير، وما الذي يضمن لنا أن محرمات أخري قد أضافها النبي ولكن لسبب ما توقفت عند أحد السامعين ولم يبلغها لمن هم بعده ؟، أليس من الممكن أن يكون قد حدث شئ من هذا القبيل ؟ ، ألم يكن الحال كما نعلم جميعا وهو أن كل من سمع من النبي شيئا كان يقوله للناس أو لبعض الناس ما يذكر من ذاكرته التي كان قد مرت عليها سنين عديدة في معظم الأحيان؟،وأن هذا تم بشكل عشوائي فكان للجميع الحق في أن يدعي أنه سمع كذا من فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله بدون نظام أو آلية تنظم هذا العمل وبدون دليل علي صدق قولهم وكيف يأتون بالدليل وقد كان كل من رووا عنهم قد ماتوا ولاسبيل لطلب شهادتهم علي صحة ما يقال، واستمرت هذه العملية قرنان من الزمان كثرت فيهما الحروب والفتن بين الصحابة وأبنائهم من بعدهم واستخدم الدين في الأمور السياسية والسيطرة علي الناس وهذا مجال خصب لإفتراء الكذب علي الله ورسوله، إنهم قد أقرٌوا بالفعل أن معظم ما جمع من الروايات كان مكذوبا علي النبي حتي جاء مالك والبخاري ومسلم وغيرهم فانتقوا من تلك الروايات ما انتقوا وادعوا أنهم قد فعلوا ذلك علي أسس وضوابط كالجرح والتعديل وغيره، إذا كيف ينخدع معظمهم بالكثير من الروايات التي تخالف نص القرآن الذي تكفل الله بحفظه كما تعارض بعضها بعضا في أحيان كثيرة بل وقالوا كما أسلفنا أنه إذا تعارض القرآن مع الحديث فالحديث أولي بالتصديق ويكذبون بآيات الله بالرغم من وعيد الله للذين يكذبون بآياته، ثم يقال  بعد كل هذا أن الجيل الأول هم الأكثر فهماً لحقائق الدين فالجيل الذي يليه وهكذا وهذا من أهم مسوغاتهم لوضع عقولهم علي الأرفف فقد فكر لهم أسلافهم وكل جديد يخالف ما كان عليه السلف فهو باطل مهما كان، وسنستفيض في شرح هذا لاحقا، وأعود إلي السؤال أليس من المنطقي في ظل تلك العشوائية أن تسقط روايات وأحكام صحيحة ولا يصل لنا منها شئ؟، ومن الجائز أيضا أن يكونوا قد أسقطوا وضعَّفوا روايات أخري وهي في الواقع صحيحة وذلك لعدم ثقتهم في بعض الرواة ، فكيف يكون النبي قد بلغ الرسالة وأدي الأمانة إذا؟ وكيف يكون الدين قد اكتمل كما قال رب العزة ؟، وإذا كان هذا وحي واجب تبليغه فلماذا لا توجد روايات عن النبي يأمر فيها أصحابه أن يحفظوا كلامه اليومي ويبلغوه للناس جيلا بعد جيل، أليس من المفترض أن يكون النبي قد أوصاهم بذلك مرارا وتكرار، ولماذا لا تبدأ الروايات بقول النبي أنه قد أوحي الله له أن افعلوا كذا وكذا، أولم يروا أن الله جل وعلا في الكثير من آيات الذكر الحكيم يأمر النبي أن يقول كذا وكذا كقوله (( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ... )) وغيرها الكثير،  فإذا كان الوحي الآخر هو من الله تعالي أيضا فالمفترض أن يكون بنفس الأسلوب وأن تبدأ تشريعاته بكلمة "قل" في كثير منها علي الأقل، أليس كذلك ؟، كنت أتأمل الكثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن أمور حياتية عادية  وقصص للوعظ وما كان تحليل عقلي القاصر يعتبر أن تكراره لا طائل منه وأتسائل لماذا ذكر الله تعالي ( وله المثل الأعلي سبحانه ) هذه الأمور في القرآن وتغاضي عن أمور وتشريعات أكبر وأهم بكثير - كرجم الزاني المحصن - واكتفي بأن تروي عن طريق السنة حتي نال الكثير منها ما نال من التحريف والكذب، ولن نذهب بعيدا فما بين أيدينا مسألة المحرم من الطعام، ظننت لسنوات أن باقي التشريع علي أهميته لم يذكر في القرآن ولكن قد ورد في مرويات السنة وتاه عني قوله تعالي (( ما فرطنا في الكتاب من شئ )) وأتذكر قول أحد مشايخ السلفية الكبار مداهنا وكاذبا علي الله أن المقصود بالكتاب في تلك الآية هو اللوح المحفوظ وليس القرآن ويقصد بذلك أن القرآن ناقصا، الله القادر علي كل شئ ينزل كتابا ليصبح دستور الخلق جميعا من الإنس والجن ويتكفل بحفظه إلي يوم الدين، ثم يتركه ناقصا ( له الكمال وحده )، لماذا ؟، لا نعلم، وعوضا عن ذلك يعتمد علي المرويات الغير مكتوبة والتي لا تصمد أمام الزمن.    

 

ويظل السؤال قائما وملحاً، إذا كان هناك وحياً آخر غير القرآن أبي النبي أن يكتبه ويرتب موضوعاته ويضبطها بنفسه، ألم يكن يعلم أن تناقل الوحي من جيل إلي جيل عبر الذاكرة فقط سيؤدي إلي ضياع ذلك الوحي واختلاف الناس فيه لدرجة أن كتب الصحاح نفسها - كما يسمونها - يوجد بها الكثير الروايات التي تناقض بعضها بعضا في نفس الكتاب وتناقض ما في كتب أخري، ثم يصنفون هذا كله علي أنه صحيح، أين تلك الصحة ؟ إنها عقول وأفهام مريضة من تدرس تلك الروايات دراسة جادة ثم تصدق بكل ما فيها، ولو أن العرب والمسلمون يقرؤون لكانت مهمتنا سهلة وميسورة ولكننا نجدهم يستميتون في الدفاع عن البخاري مثلا وهم لم يقرؤوا منه سطرا وستجد الكثيرين من كثرة الشهرة التي نالها البخاري وكتابه يظنونه من الصحابة ولا يعلمون أنه قد كتب كتابه  بعد وفاة النبي بأكثر من مائتي سنة، تخيلوا معي أن أحد أفراد عائلة محمد علي بك الكبير منذ عام 1800 ميلادي قد حفظ الكثير من الوصايا التي أوصاه إياها، وبعد موت الوالي روي ذلك الجد لأبنائه تلك الوصايا وأوصاهم أيضا بتبليغها للأجيال القادمة من العائلة بدون أن يكتبوها، فماذا سيتبقي من تلك الروايات في سنة 2016، وما هو كم التشوه الذي سيصيبها وكل ذاكرة قد حفظت رواية من الروايات قد فهمتها فهما مختلفا وأسقطت منها بعض الكلمات والجمل وأضافت إليها ما ليس فيها، لنعقد المسألة أكثر، هذا الجد كان له من الأبناء خمسة، كلهم قد حفظوا الوصايا ونقلوها للجيل الذي يليهم، وفي سنة 2016 كانت عائلة هذا الجد قد أصبحت قرابة 100 رجل ولنقل أن عشرة أفراد فقط استمروا في الرواية، كم من الإختلاف سيكون بين تلك الروايات وأيها نصدق، ولنضف تعقيدا آخر، ففي جيل من الأجيال اختلف أفراد العائلة علي الميراث والحكم وانقسموا إلي حزبين متحاربين، فأخذ الكثيرون منهم يؤلف روايات ليأخذ ماليس له بحق، روايات في فضل فلان علي باقي العائلة وروايات في أفعال فلان وروايات عن قصص تثبت بطولة فلان أو قربه من الوالي، وروايات تعيب علي الحزب المعادي كل شئ يفعلونه وتتهمهم بأخذ ماليس بحقهم، ووجد آخرون في أنفسهم موهبة الخطابة والتأثير في الناس ورأي شغف عائلته بالسماع عن جدهم الوالي وسماع مواعظه فأخذ يؤلف لهم قصص وحكايات من نسج خياله وينسبها للوالي ليظل بينهم ذو قدر وشأن ومقام رفيع، ويصبح من العلماء والعارفين وكبار المؤرخين، وأخيرا قررت العائلة أن تكتب  تلك الروايات عن الوالي، وتولي أربعة منهم هذا الأمر وكل قد كتب كتاباً، تخيلوا ماذا كان ستحتويه تلك الكتب

ولننهي كلامنا عن الحرام والحلال في لفتة أخيرة، ربما سيأتي في التعليقات ما معناه أنه إذا كنت تقول بإباحة أكل لحم الحمير والكلاب والقطط الضالة والضفادع والصراصير والأبراص فهل تقبل أن تأكلها ؟!!!، وفي هذا أقول أن كل شعب وكل مجموعة وكل فرد قد اعتاد أكل شئ ما  وشرب شئ ما ولبس شئ ما، كلها مباحة، وليس المطلوب من كل شخص يقول بإباحة تلك الأشياء أن يفعلها، فليمتنع عما يريد ولكن ليس لأحد أن يعتبر ما يفعله شعب من الشعوب أو شخص من الأشخاص محرما مالم يرد فيه نص، وإذا فعل يكون قد افتري علي الله الكذب، وببساطة أكثر لو أن فلانا يعاف أكل لحم الأرنب علي سبيل المثال، لن يكون عليه وزر إلا إذا حرم ذلك علي من يأكله.

 

سأختم  ببعض النقاط  التي تطرح أسئلة كثيرة عَصِية علي الإجابة حول الإيمان والإعتقاد بصحة تلك الروايات المنسوبة للنبي لعلها تصادف عقولا وأفئدة تبحث عن الحق ولا تبتغي عنه بديلا، إن معظم الروايات التي تنسب إلي رسول الله تصنف بما يسمي أحاديث آحاد أي أنها سمعت من شخص واحد وليس معه شاهد علي صدق روايته، إذا ماذا عن خطب النبي الكثيرة في أيام الجمع وغيرها التي تتحدث في صميم الدين والتي كان يسمعها العشرات ثم المئات وربما الآلاف من البشر، أين هذه الخطب ولماذا لم تحفظ وتروي وتتناقلها الأجيال وهي التي كانت أولي بالحفظ والرواية ، ألا يجعلنا هذا نشك أن تلك الروايات كلها أو معظمها كانت تفتري علي الله ورسوله لخدمة غرض خاص، هذا من جهة، دعنا الآن نبحث عن أي دليل في القرآن الكريم يثبت وجود وحي آخر ينزل به جبريل من السماء ويعمل جنبا إلي جنب بجوار القرآن، انظروا إلي تلك الآيات من سورة الأنعام التي ذكرناها في أول الموضوع، هل تجدون فيها أي تلميح أو إشارة لوجود وحي آخر ينزل للنبي، ألم يكن ضروريا أن يذكر هذا الوحي ضمن هذا الآية مثلا (( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ))، لم تشر هذه الآية أن هذا التاريخ - المسمي بالسنة -الذي لا نستطيع إلا أن نصنفه إلا كتاريخ وليس كنص مقدس وذلك حتي نخضعه للنقد وهكذا فإنه لا يصح أن نأخذ منه تشريع أو دين، لم تشر الآية بضرورة معرفة هذا التاريخ وهذا لأن القرآن كاملٌ،  فيه التشريع والدين كله وما فرط الله فيه من شئ وهو ميسر للذكر وآياته بينات ومعناها واضح في ما يخص التشريعات والحدود والعبادات والحلال والحرام أما هذه الروايات فكلها ظنية لا نستطيع أن نثبت إثباتا يقينيا أن النبي قد قالها ولذلك هي من الظن الذي وصف الله الأكثرية الضالة من البشر أنهم يتبعونه في الآيات نفسها (( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ))، سيرد البعض علينا ويقول أن الله تعالي أمر بطاعة الله ورسوله وأن نأخذ ما آتانا الرسول وأن ننتهي عما نهانا عنه، هذا الدليل الذي يجادلوننا به ليس له علاقة بكون تلك الروايات هي من الوحي وأنها مصدر تشريع وتحريم وتحليل، فلم يكن للنبي أن يشرع أو أن يدع الناس أو يأمرهم بما ليس في القرآن، وآيات القرآن تؤكد ذلك في مواضع كثيرة (( قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأنزل إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ))، في الآية الرسول لم يذكر إلا أنه ينذر الناس بالقرآن ومن بلغهم القرآن سواء في حياته أو بعد مماته، لم يأت علي لسان الرسول أي ذكر لِوَحي آخر وأصدقائنا من أهل القرآن يعلمون أن الرسول في القرآن بعد وفاة النبي تعني الرسالة نفسها أو القرآن وسيأتي شرح ذلك بتفصيل أوضح فيما يأتي.

كثير جدا من الروايات المنسوبة إلي رسول الله  يدّعي مخترعوها أنه يعلم أوصاف الجنة والنار وعلامات الساعة وما سيحدث للصحابة في المستقبل وأحداث النهاية ومصائر الأمم، هذه الأشياء من علم الغيب وهذه الروايات تدعي علم رسول الله بالغيب وهو ما ينفيه القرآن تماما، لو كان يعلم الغيب لعرف مكيدة خالد بن الوليد يوم أحد كما تحكي الرواية وأعد لذلك عدته، ولنذكر ما عندنا من دليل من القرآن في إثبات هذا، الله عز وجل يقول(( قل ما كنت بدعا من الرسل ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلّا ما يوحي إلي وما أنا إلّا نذير مبين )) الأحقاف   النبي لم يكن يعرف مصير نفسه وهل سيدخل الجنة أم النار بل إن الله تعالي لم يبشره إطلاقا بشكل خاص بدخول الجنة وكانت تنزل الآيات دوما تحذره من عواقب الشرك وعدم تبليغ الرسالة فكيف له أن يعرف مصير أصحابه ومصيرنا معهم ، يقول الله تعالي أيضا  (( قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا، عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدا ،  إلا من ارتضي من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا )) الجن 25 - 27، الإستثناء هنا لبعض الرسل فقط وليس لهم كلهم، وهذا ليس له علاقة بمقام الرسول أو مكانته عند الله، ونستدل من الآية أيضا أن العبد الصالح في قصة موسي في سورة الكهف كان رسولا من عند الله عز وجل وهذا مما بينه الدكتور أحمد صبحي منصور في برنامجه اليوتيوبي " فضح السلفية"، أما عن محمد رسول الله عز وجل فقد جاء في القرآن أمر الله له أن يقول للناس (( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب إن أتبع إلا ما يوحي إلي قل هل يستوي الأعمي والبصير أفلا تتفكرون )) الأنعام 50 وفي آية أخري (( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير )) 9، إذا فرسول الله لم يكن من الرسل الذين ارتضي لهم الله أن يعلموا الغيب ولم يكن يعلم أي شئ مما يحدث في المستقبل ولم يعرف من سيدخل الجنة ومن لن يدخلها ولم يبشر أحدا بدخول الجنة ولا الشهادة ولا الولاية وآلاف الروايات التي تقول بذلك مفتراة عليه، لو كان يعلم الغيب بالفعل لما كان يقلق ويضطرب ويحزن في دعوته وحروبه مع المشركين أليس من المفترض أن يكون يعلم علما يقينيا كرأي العين أنه سينتصر في النهاية علي كل هذا، بالإضافة إلي أنه لا يوجد أي دليل علي أن النبي كان يعلم الغيب إلا أن هناك آية ربما تنفي ذلك من طريق آخر، تقول الآية (( إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور )) الأنفال43،  رسول الله في هذا الظرف العصيب لم يكن يعلم الغيب ولم يأته الوحي بشئ خلاف القرآن وكانت طريقة التواصل المسموحة له هي الرؤية المنامية الصادقة فقط، وآية أخري تقول (( وإما نرينك الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد علي ما يفعلون )) يونس 46، يخبر الله نبيه أنه من الممكن أن يري مصير المشركين أو أن يتوفاه الله قبل حدوث ذلك ولكن مطلقا لم يخبره بمصيرهم مسبقا فلم يكن يعرف أماكن مصارع كبار القوم من قريش قبل معركة بددر كما تقول الروايات،  فكيف إذا يعلم غيب الأمور الخارجة عن نطاق زمانه ورؤيته.

     بنزول القرآن الكريم كان هذا إيذانا بانطلاقة جديدة للبشرية وبداية مرحلة جديدة من التطور الإنساني، وصل الإنسان لمرحلة اكتشاف العلم وكشف الأسرار والقوانين الإلاهية في الكون واستلزم هذا نزول الكتاب الهادي الذي هو بمثابة الكون المنطوق، ولنعرف قدر القرآن ومكانته نعتبر أنه من الدقة المتناهية والعمق كالدقة والعمق الذي يكتنف الكون كله بداية من الذَّرة إلي المجرة، فبالإضافة للأحكام والتشريعات البينة الواضحة توجد أسرار واكتشافات في القرآن لا متناهية يستنبطها فقط أولو العلم والمشتغلون بالدراسة والبحث، وإلي أن تقوم الساعة توجد أسرار ومعاني لا يعلم تأويلها إلا الله ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل  قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون )) الأعراف 53، بهذه المرحلة القائمة علي العلم والعقل والتفكير كما نلاحظ تكرار هذه الألفاظ في القرآن لم يعد من المناسب للرسالة الخاتمة أن تكون قائمة ولو علي جزء منها علي المعجزات وخوارق العادات كما جاء مع الرسل السابقين فقد انتهي عهد عصا موسي، وظل القرآن هو الآيات الخالدة، كلام الله وهديه القائم حجة علي الناس إلي يوم الدين، انتهي عصر بعث الرسل وبقي القرآن هو بمثابة الرسول الباقي دائما أبدا في الناس في أي زمان ومكان وقد بين الله تعالي في القرآن كيف طلب المشركين من الرسول آيات وخوارق للعادة كما جاء به المرسلون من قبل ولنذكر الآيات (( وقالوا لولا أنزل عليه آياْتٌ من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين، أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلي عليهم إن في ذلك لرحمة وذكري لقوم يؤمنون )) العنكبوت 50 - 51، (( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا )) الإسراء 59 ، (( وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولي )) طه 133 وبهذا يمكننا القول أن الروايات التي تقول بانشقاق القمر للرسول أمام المشركين وبكاء جزع الشجرة وكلام الحجارة والحيوانات وحادثة شق الصدر ، والسحابة التي كانت تظل النبي والدجاجة التي أطعمت جيشا وقدر اللبن الذي شرب منه كثير من الرجال ولم ينقص منه شئ، كل هذا خيال سينمائي يصلح لقصص الأطفال ضلَّ وخسر من افتراه علي الله ورسوله.

هذه نقاط عامة وكلية وللذين يريدون قراءة المزيد هناك الكثير من مناقشات تفصيلية لروايات يصنفها القوم علي أنها صحيحة لا تقبل الشك ومع ذلك تجدها تعارض بعضها ومنها ما يشوه تشريع الله ويستبدله بتشريعات مفتراة علي الله ومنها ما يطعن في  رسل الله وأنبيائه ومنها ما تستباح به الدماء والأعراض وغيرها كثير والباحث في التفاصيل سيجد شياطين أكثر قابعة هناك، وأخيرا فلعل الله يهدي المسلمين الذين تفرقوا شيعا ومذاهب وجماعات وحادوا عن الصراط المستقيم بفضل تلك الإفتراءات التي افتروها كذبا علي الله ورسوله، توجد هذه المناقشات علي موقع أهل القرآن وغيره من المواقع.

 (( إنّ الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما أمرهم إلي الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون )) الأنعام 159

 (( قل هو القادر علي أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون )) الأنعام 65، ونحن ليس لدينا إلا القرآن والقرآن وكفي، كفي به هاديا إلي الصراط المستقيم، ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.

(( كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق ولقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا، خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا )) طه 99-101 

 هدانا الله وإياكم إلي صراطه المستقيم وإلي لقاء آخر إن شاء الله

اجمالي القراءات 12208