لطائف قرآنية (18)
نظرات متجددة حول تأويل سورة المسد
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) } سورة المسد
" أَبِي لَهَبٍ ..." هي كنية أو صفة وليست بشخص محدد، وقد تعني صاحب اللهب، وهي تشير إلى المصير النهائي الذي ينتظر المرء المعارض لجادة الحق، والمتعنت في معاداته، مع دوام إصراه على العناد والصلف، ليس بفمه فقط ولكن بقلبه وأفعاله، أي بجوانحه وجوارحة، ناشراً كل معاني الضلال داعيا له كما ينتشر اللهب في كومة من الحطب.
" تَبَّتْ يَدَا ..."، لم يقل الحق تبَّ أبي لهب، أو تباً لأبي لهب، وإنما قال " ..تَبَّتْ يَدَا.." ، واليد هي آداة تفعيل الفعل وممارسته، وأيضا هي جهاز الكتابة ووسيلته، ومع أن الكتابة فيها توثيقٌ للأفعال وتأكيدٌ لها - إذا ما جانبتها الأهواء -، إلا أنها وهي بذاتها من الممكن أن تلوي الحقائق أو تزيف الأحداث، وتروي واقعاً لم يقع، أو تصف وصفا مختلقا عاريا من حقيقة الذي حدث ووقع بالفعل.
{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) } البقرة
والويل هو حلول الشر، وقيل أنه وادٍ بجهنم في أعمق دركاتها وأشد لهيبها، وهذا المعنى يناسب صفة المكابر والمعاند، صفة أبي لهب.
" مَالُهُ وَمَا كَسَبَ...."، لم يقل الحق ماله وما ملك، لكنه قال ماله وما كسب، مما يعني أن هناك ثمة مكاسب معنوية، ومناطق نفوذ، وآماد سلطوية، قد يجنيها الداعي إلى الضلال.
" ...وَامْرَأَتُهُ...."، لا تعني بالضرورة زوجته، وإنما هي رمز لأي إمرأة تؤيد هذا الدَعِي بالقول أوبالفعل أو بكليهما معا، فكما أن صفة أبي لهب صفة ذكورية تلتصق بالرجال، جاء لفظ المرأة هنا ليضم إليهم مؤيديهم من النسوة المعاضدات له والمسايرات لأفكاره، والمساعدات لأفعاله.
" فِي جِيدِهَا...."، والجيد هو الرقبة، وهو مكان تعليق العِقد - بكسر العين - من الحلي وهو من دروب الزينة، وكذلك التمسك والوفاء بالكلمة وبالعَقد - بفتح العين - من العهد والإتفاق.
" ..حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ...." ، محكم الأركان، منضبط شدة وجودة اللف، مما يدل على العلاقة الوطيدة، أو الرابطة المحكمة التي تربط بين المرأة الناشرة للضلال وبين - أبي لهب - الداعي له.
".... حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ...." ، والحطب هنا ليس هو المعنى الدارج له، أو بما قد يعني المواد القابلة للإشتعال، وإنما هو تحمل مسؤلية التأييد للفكر المريض والمنطق المعكوس، ومناطق الحيرة والتخبط، مما يزيد من نار الفتنة ويزيدها لهيبا واشتعالا.
ومجمل القول، أنه سيكون هناك دائما ثمة رجال سوف يدعون إلى الفتنة والضلال المعارض لجادة الحق، وأنه ثمة نساء سوف يتبعون هذه الدعوة، ليس عن إقتناع بها، ولكن لمجرد الرغبة في الفساد والإفساد، وهاتيك وهؤلاء خسروا دنياهم وآخرتهم، وجميعهم حطب نار جهنم وبئس القرار. م / محمد ع. ع. خليفة