( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) الحجر)

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢٩ - أغسطس - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :

جاءنى هذا السؤال : ( .. بما انك مؤرخ و مؤسس موقع اهل القران اكتب لنا مقالة عن القران كيف وصل الينا بهذا الشكل و ما الذي حدث له في الماضي!!. اساذ معلوماتنا عن القران ضئيلة جدا و كل ما تم زراعتة في عقولنا يجب الايمان به كما هو نحن لا نعرف و لا نريد ان نعرف اي شيء عنه لسببين:البعض يخاف ان يتزعزع ايمانه اذا ما اكتشف معلومات جديدة و البعض الاخر استكفى بهذه الاية "انا نحن نزلنا الذكر و انا له لحافظون" و لا يريد حتى ان يتعمق لبحث عن معنى الذكر(ان كان حقا المقصود به القران) و معنى ان الله "يحفظه" لنفس الاسباب حتى لا يتزعزع ايمانه!!. اننا نعبد الله "على حرف" لان معلوماتنا ضئيلة جدا عن القران و جاهلين بالتاريخ الى درجة اننا لا نعرف ماهو الشيء المؤكد ماهو الشيء الغامض ماهو الشيء المشكوك فيه و اين يجب ان نضع نقاط استفهام . نريد ان نعرف تاريخ القران اخبرنا بما تعرف في هذا الخصوص استاذ احمد حتى و ان كانت الصورة غير مكتملة نحن كل ما نريده هي الحقيقة بالحياد تام . رايك يهمني . شكرا لك . ) .

ومع اننى كتبت كثيرا فى هذا الموضوع فلا باس من التذكرة . أقول :

أولا

1 ـ فى أثناء التحضير لرسالة الدكتوراة فى منتصف السبعينيات عكفت عاما تقريبا مع المخطوطات المكتوبة فى العصر المملوكى.  ـ وفى العصر المملوكى أعيد نسخ كل التراث المكتوب فى العصر العباسى بعد أن دمّر المغول بغداد ومكتبتها . فى معظم تلك المخطوطات كانت إستشهادات بالقرآن الكريم . وكانت مكتوبة بخط جميل ، وبالتشكيل ، وبالرسم (العثمانى ) الذى تمت به طباعة المصحف فيما بعد لأول مرة  فى العصر الحديث .

2 ـ والرسم العثمانى نسبة للخط أو طريقة الكتابة للقرآن التى إعتمدها الخليفة عثمان بن عفان ، وأحرق النسخ الأخرى التى كتبت القرآن بطريقة مختلفة. فى الفتوحات وبانتشار الفاتحين العرب بين آسيا وأفريقيا كتبوا نسخا من القرآن بالطريقة العربية المعتادة ، ولم يعرفوا أن للقرآن الكريم نوعية فريدة فى الكتابة تخالف المألوف عند العرب ــ وحتى الآن . إنتشرت تلك النسخ المكتوبة لدى العرب ، وحدث إختلاف فى قراءة القرآن بسبب إختلاف تلك النسخ عن النسخة الأصلية المكتوبة بخط النبى محمد نفسه . لذا أحرق عثمان بن عفان ـ فى خلافته ـ كل تلك النسخ المكتوبة حديثا ، وألزم الناسخين للمصحف بإتباع نفس طريقة الكتابة التى كتب بها النبى محمد عليه السلام القرآن الكريم . ومن وقتها كان الالتزام ب ( الرسم العثمانى ). نعيد التأكيد على أن الرسم العثمانى مأخوذ عن النسخة القرآنية المعتمدة من النبى محمد عليه السلام ، وبها كانت الكتابة القرآنية مختلفة عن طريقة الكتابة العادية فى ( اللغة العربية ).

3 ـ  والآن نكتشف بالاعجاز العددى الرقمى للقرآن الكريم أهمية الاعجاز فى هذه الكتابة القرآنية الفريدة . وهى الدليل الأعظم على حفظ القرآن الكريم من لدن رب العزة جل وعلا. التفاصيل فى بحث منشور هنا عن النبى محمدا هو الذى كتب القرآن بيده . ومنشور مقالات هنا أيضا للاستاذ مراد الخولى والاستاذ محمد صادق عن الاعجاز العددى فى القرآن الكريم ، والذى يثبت حفظ الله جل وعلا للقرآن الكريم .

ثانيا :  

حول القرآن الكريم دار تراث ( المسلمين ) بجميع طوائفهم ، ومذاهبهم وأديانهم الأرضية . على نفس الكتابة القرآنية ( الرسم العثمانى ) إعتمد علماء النحو وعلماء اللغة والبلاغة ، وعلم الكلام ( اللاهوت ) والملل والنحل ، والمؤرخون وأئمة السنيين والشيعة والصوفية . كتبوا ما يناقض القرآن الكريم فيما يسمى بالنسخ ( اى أن آيات القرآن ينسخ أو يلغى بعضها بعضا ، وأن الأحاديث تنسخ أى تبطل وتلغى آيات القرآن التشريعية ) ، مع أن ( النسخ ) فى المفهوم القرآنى وفى اللسان العربى يعنى الإثبات والكتابة وليس الحذف والإلغاء والإبطال ، وكتبوا فى تشريعاتهم المناقضة للقرآن الكريم آيات قرآنية ، وكتبوا فى عقائدهم فى تقديس النبى محمد وشفاعته وفى تقديس الأئمة وآل البيت والأولياء الصوفية ، وإستشهدوا بآيات من القرآن الكريم . ونضع عليها بعض ملاحظات  :

  1 ـ كانوا يستشهدون بالآيات بالرسم العثمانى بنفس الخط وطريقة الكتابة التى لا تزال موجودة فى المصحف المطبوع حتى الان .

   2 : إنهم ـ مع إلتزامهم بنفس الكتابة ـ لكنهم كانوا ينتقون من الايات ما يوافق ظاهرها رأيهم وعقيدتهم ، ويؤلونها لتوافق رأيهم ، ويتجاهلون الآيات الأخرى التى تتعارض صراحة مع دينهم ومعتقداتهم وآرائهم ، أو يحكمون بأنها ( منسوخة ) أى ملغى حكمها . بإختصار : عجزوا  عن تحريف النصوص القرآنية فقاموا بتحريف معانيها بطرق مختلفة مثل التأويل والتفسير وصناعة الأحاديث ومقولة النسخ .

   3 : فى كل ما كتبوه فى مؤلفاتهم وتحت أسمائهم نقلوا النصوص القرآنية كما هى وإفتروا ما يشاءون ، وتقبّل العصر منهم هذا ، حتى لقد ظهر ما يعرف بعلوم القرآن ، وفيها الطعن فى القرآن بزعم النسخ والتأويل والتفسير وأحاديث تزعم إضافة كلمات الى القرآن ، وأحاديث تزعم نسيان تدوين بعض السور وبعض الآيات ، وأحاديث فيما يسمى بالتجويد أى التغنى بالقرآن ، وما سمى بالقراءات ، كما لو كانوا قد إكتشفوا فى العصر العباسى كيفيات لقراءة القرآن لم تكن معلومة من قبل . ولقد كتبنا عن التجويد والتفسير والتأويل وعلوم القرآن التى تطعن فى القرآن .

  4 : ونعطى بعض الأدلة : من الطعن فى القرآن الزعم بإضافة كلمات ليست من القرآن للقرآن : و( مالك ) أول من بدا هذا الإفك تشكيكا فى القرآن . مثل (  حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، مَوْلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ قَالَ أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا ثُمَّ قَالَتْ إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الآيَةَ فَآذِنِّي ‏{‏حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ‏}‏ فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَىَّ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَصَلاَةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ قَالَتْ عَائِشَةُ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏.) (وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ، أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أَكْتُبُ مُصْحَفًا لِحَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الآيَةَ فَآذِنِّي ‏{‏حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ‏}‏ فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَىَّ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَصَلاَةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ‏.). واقع الأمر أنهم كانوا يختلفون فى معانى بعض الآيات ، فيقوم بعضهم بوضع رأيه فى صورة حديث ينسبه للنبى أو لبعض الصحابة والتابعين ، وأو يتمادى فيزعم أن فى الاية كلمة هى كذا ، كما زعم مالك فى رأيه عن معنى ( الصلاة الوسطى). ولنا بحث مفصل عن معنى (الصلاة الوسطى ) تعرض لهذا .

ثالثا :

 إنهم مع كل هذا العداء للقرآن وهذا الكفر بالقرآن فيما كتبوه فى مؤلفاتهم عن ( القرآن ) فقد كانوا حريصين على عدم المساس بالقرآن المكتوب فى المصحف ( بالرسم العثمانى ) . والتفصيل جاء فى مقالنا المنشور هنا  ( هذه كلمتى عن جريمة تدنيس القرآن الكريم ) . وإضافة اليه نعطى لمحة تاريخية :

 1: فى العصر العباسى ـ عصر التدوين ـ كان فيه من تخصص فى التدوين والنشر ـ وظهرت حرفة الوراقين ، المتخصصين فى نسخ المؤلفات عامة ، وفى تدوين القرآن الكريم خصوصا . ( راجع بحثنا عن التدوين وهو منشور هنا ) . وبلغ من تأثرهم بتدوين المصحف أن كانوا يدونون صحيح البخارى بنفس الطريقة فى التشكيل ـ وهذا فى العصر المملوكى الذى عمّ فيه تقديس البخارى .

2 ــ ومنهم من  تخصص فى تدوين القرآن ونستشهد بما قاله المؤرخ الحنبلى ابن الجوزى:

  2 / 1  :  فى ترجمته لأبى بكر السمرقندى المتوفى عام  489 ، وكان والد أستاذ لابن الجوزى ، يقول عنه ابن الجوزى : ( والـد شيخنا أبي القاسم ولد سنة ثمان وثمانين وثلثمائة .. وكان مجودًا وكان ينسخ المصاحـف . ) ‏.

2 / 2 : ويقول عن ابى إسحاق الخراز المتوفى فى نفس العام نقلا عن شيخه ابن عقيل :(  كان الشيخ أبو اسحاق الخزاز شيخًا صالحًا بباب المراتب وهو أول من لقنني كتاب اللّه بدرب الديوان بالرصافة وكان من عادته الإمساك عن الكلام في رمضان وكان يخاطب بآي القرآن في أغراضه وسوانحه وحوائجه . )  أى عايش القرآن الى درجة أنه كان لا يتخاطب مع الناس إلا بآيات القرآن بسبب تلقينه القرآن ونسخه المصاحف .

2 / 3 : وممن كان ينسخ المصاحف ( أبو حكيم الخبرى ) المتوفى عام 489 ، يقول عنه المؤرخ ابن الجوزى : ( وهو جد شيخنا أبي الفضل بن ناصر لأمه تفقه على أبي أسحاق وسمع من الجوهري وغيره وكانت له معرفة تامة بالفرائض وله فيها تصنيف وله معرفة بالأدب واللغة وكان مرضي الطريقة وحدثنـي عنـه شيخنـا أبـو الفضـل بـن ناصـر قـال‏:‏ كـان يكتـب المصاحـف فبينا هو يومًا قاعدًا مستندًا يكتب وضع القلم من يده واستند وقال‏:‏ واللّه إن كان هذا موتًا فهذا موت طيب ثم مات .! )

 3  : كانوا تحت الرقابة المجتمعية وقتها . وكانت هناك حساسية مفرطة لأى مساس بالنصوص القرآنية فى المصحف ، ولم يكن هناك أى تهاون  من الفقهاء والحكام فى العصر العباسى مع هذا مهما بلغ فسادهم . نستشهد ببعض الأمثلة :

3 / 1 : فى عام ‏323  يذكر ابن الجوزى : ( فمن الحوادث فيها‏:‏ أنه في ربيع الأول بلغ الوزير أبا علي ابن مقلة أن رجلًا يعرف بابن شنبوذ يغير حروفًا من القرآن ، فاستحضره واستحضر القاضي أبا الحسين عمر بن محمد وأبا بكر بن مجاهد ، ونوظر بحضرة الوزير ، فأغلظ القول بمناظرته ، فضُرب .. سبع درر ... ثم عرضت عليه الحروف التي قرأ بها ، فأنكر ما كان شنيعًا وقال‏:‏ فيما سوى ذلك قد قرأ به قوم وذلك مثل قوله‏:‏ ( فامضوا إلى ذكر الله ) ( كالصوف المنفوش) ( يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا ) فاستتابوه ، فتاب  ، وكتب خطه بذلك ، فحمل إلى المدائن في الليل ليقيم بها أيامًا ، ثم يدخل منزله مستخفيًا ولا يظهر لئلا تقتله العامة...‏) ويلاحظ هنا توحّد الرأى بين العوام والفقهاء والحكام . والوزير ابن مقلة نفسه كان من مشاهير من ينسخ المصاحف ، وهو مشهور بجودة الخطّ ، وبشهرته هذه وصل الى الوزارة .

3 / 2 : فى عام 398 حدثت (فتنة طائفية ) معتادة بين الشيعة والسنة فى حى ( الكرخ ) فى بغداد ، وزاد من حدتها إتهام الشيعة بما يسمى بمصحف ابن مسعود ، وأمر الفقهاء السنيون بزعامة أبى حامد الاسفرايينى بحرقه ، وتفاقم الأمر الى القتل والقتال ، وتدخل السلطة العباسية فأخمدت الفتنة .

3 / 3 : قال ابن الجوزى فى ترجمة ( أبى العطار المقرىء ت  354  ) : ( وكان ثقة من أعرف الناس بالقراآت و أحفظهم لنحو الكوفيين ، وله في معاني القرآن كتاب سماه‏:‏ " كتاب الأنوار" ، و ما رأيت مثله ، وله تصانيف عدة ، و لم يكن له عيب إلا أنه قرأ بحروف تخالف الإجماع واستخرج لها وجوهًا من اللغة والمعنى مثل ما ذكر في كتاب‏:‏ ( الاحتجاج للقرافي ) في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما استيأسوا منه خلصوا نجيًا‏}‏ فقال‏:‏ لو قرئ خلصوا نجبًا بالباء لكان جائزًا .. وقد أنكر العلماء هذا عليه و ارتفع الأمر إلى السلطان فأحضره واستتابه بحضرة الفقهاء و القراء فأذعن بالتوبة و كتب محضر بتوبته و أشهد عليه جماعة ممن حضر..) وقيل عنه : (.. و قد نبغ نابغ في عصرنا هذا فزعم أن كل ما صح عنده وجه في العربية لحروف من القرآن يوافق خط المصحف فقراءته جائزة في الصلاة ، فابتدع بقوله ذلك بدعة ضل بها عن قصد السبيل ، وأورط نفسه في مزلة عظمت بها جنايته على الإسلام وأهله ، وحاول إلحاق كتاب الله من الباطل ما لا يأتيه من بين يديه و لا من خلفه ، )

رابعا :

1 ـ  وهنا يتجلى الفارق بين القرآن الكريم الرسالة السماوية الخاتمة للبشر جميعا وكل الرسالات السماوية السابقة . الرسالات السماوية السابقة كانت محلية ومؤقتة لقوم بعينهم فى وقت معين ومكان معين . بل تتابعت الرسالات السماوية فى بنى إسرائيل بأنبياء متتابعين كان آخرهم عيسى عليه وعليهم السلام ، يقول جل وعلا : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ  ) (27)  الحديد  ) ، وفى هذه الرسالات السماوية المحلية المؤقتة كان حفظ الكتاب السماوى موكلا الى نفس القوم ، يقول جل وعلا عن التوراة : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ  ) (44) المائدة ). فالربانيون والأحبار هم الذين (أُستحفظوا ) أى كانت عليهم مسئولية حفظ التوارة كتاب الله جل وعلا . ولهذا لحق التحريف تلك الكتب ولا يزال سائدا حتى الآن .

2 ـ  ولأنه عليه السلام خاتم النبيين ولأن القرآن هو خاتمة الوحى الالهى للبشرية فمن المنتظر أن يكون حفظ هذا الوحى الالهى المكتوب بيد صاحبه رب العزة جل وعلا ليكون حُجّة على البشر من وقت نزوله الى نهاية العالم . لذا فإن الذى أنزل الذكر هو الذى ضمن حفظه ، وجاء هذا بصيغة التأكيد فى قوله جل وعلا : ((8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) الحجر  ) .

خامسا :

1 ـ مصطلح ( الذكر ) له معانى فى القرآن الكريم ، أشهرها أنه وصف للقرآن الكريم . يقول جل وعلا عن القرآن الكريم وصفا له بالذكر : ( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) آل عمران )(بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) النحل )(  ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) ص ) (أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) ص )

  (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) القلم )

2 ـ وبهذا الوصف قال جل وعلا عن القرآن الكريم : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) الحجر  )

ونبدأ قراءة السورة من أولها ، ورب العزة جل وعلا يقول عن القرآن الكريم :( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) الحجر ) فالاعجاز فى ( الر ) إشارة الى أنه آيات الكتاب ، وهى إشارة الى الاعجاز الرقمى الذى بدأنا ندخل مجاله فى عصرنا الرقمى حيث أن الأرقام هى لغة العلم ولغة العالم اليوم ، وهى الدليل القاطع فى الاستشهاد ، وبها نتأكد من وصول القرآن الينا بكتابته الفريدة عبر القرون برغم أن أكثرية من إلتزم بحفظه كان يتناقض مع القرآن الكريم فى عقيدته وشريعته .

3 ــ  ونستمر مع قوله جل وعلا عن الكافرين :( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) الحجر ) الى قولهم فى تكذيب القرآن ( أى الذكر ) : ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) الحجر ) أى طلبوا معجزة حسية كمعجزات الأنبياء السابقين ، وقد كانت معجزات الأنبياء السابقين حسية وقتية مرئية من قومها ، أما المعجزة أو الآية القرآنية فلا بد أن تكون على مستوى القرآن ، آية ( معجزة ) مستمرة وقائمة ومستمرة الى قيام الساعة ، وأهمها آية مُدّخرة الى عصرنا الرقمى ، وهى الاعجاز الرقمى العددى ، لذا جاء الردّ عليهم بقوله جل وعلا :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) الحجر  ) ، أى هناك إعجاز مُدّخر هو حفظ القرآن عبر القرون .

4 ـ ولهذا هو معنا الآن ، وسيظل مع الأجيال القادمة وحتى نهاية العالم ، وفى كل عصر يتجلى بوجه جديد . وفى عصر العلم الذى يتطور كل دقيقة سيظل القرآن بإشاراته العلمية سابقا لتقدم البشر العلمى ، يقول جل وعلا عن القرآن الكريم : (  قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) فصلت ) ثم يقول جل وعلا بصيغة المضارع والمستقبل أن آيات القرآن سيراها البشر فى أنفسهم وفى الآفاق المحيطة بهم : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) فصلت )

سادسا :

1 ـ مستحيل أن يؤلف محمد هذا القرآن ، وقد كان رجلا عربيا يعيش فى الجزيرة العربية فى القرن السابع الميلادى . لقد تحدى الله جل وعلا العرب أن يؤتوا بآية مثل آيات القرآن، قال جل وعلا عن القرآن  : ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) يونس ) ثم ردا على إتهاماتهم بأن محمدا إفتراه قال جل وعلا  يتحداهم : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)   يونس ).

2 ـ وتكرر هذا التحدى أن يؤتوا بسورة من شخص مثل محمد ، قال جل وعلا : ( وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) البقرة ).

3 ـ بل تحدى رب العزة جل وعلا الجن والانس أن يؤتوا بمثيل للقرآن الكريم : ( قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) الاسراء ) .

4 ــ مستحيل أن يوجد مثيل للقرآن الكريم ، فكما أنه لا مثيل للقرآن فلا مثيل لرب العزة جل وعلا : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) الشورى ) . ومن هنا فالقرآن هو كلام الله جل وعلا لنا ، وهو حديثه لنا ، والمؤمن لا يؤمن بغير رب العزة جل وعلا إلاها ، ولا يؤمن بغير القرآن حديثا يقول جل وعلا : (  تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)  الجاثية  ) .

أخيرا

1 ـ يقول جل وعلا : :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) الحجر). جاء الاسلوب بالتأكيد على أنه جل وعلا هو الذى أنزل القرآن:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) ،  وبالتأكيد على انه هو جل وعلا الذى يضمن حفظه:( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ). الشطر الأول من الآية جاء بالفعل الماضى (:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) عن الماضى، والشطر الآخر جاء بالجملة الاسمية التى تفيد الدوام والثبوت :( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ  )، اى عن الحاضر والمستقبل .

2 ـ ومع ذلك فإن تأكيد الحفظ يعنى وجود محاولات للنيل من القرآن الكريم ومحاولات تحريفه ، وأن حفظ رب العزة لكتابه يقف حائلا دون هذا التحريف .

3 ـ ولقد قالها جل وعلا محذرا مهددا :  ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) فصلت ).

3 ـ وستستمر محاولات النيل من القرآن ، ولن تنال من القرآن . والله جل وعلا غالب على أمره :( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) يوسف )

اجمالي القراءات 25359