ملك اليمين : فى لمحة تاريخية وتشريعية فى العصر العباسى

آحمد صبحي منصور في السبت ١٣ - أغسطس - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :

1 ـ من الفتوحات العربية نبعت كل الشرور ، منها الاسترقاق والسبى ومجتمع الجوارى والعبيد الذى صار ظاهرة سكانية طاغية تفاعلت فى حياة الناس على المستويات العليا فى قصور الحكام وعلى المستويات الدنيا والوسطى فى الحانات وبيوت الدعارة واسواق النخاسة.

 2 ـ وأدى هذا الى عدة نتائج :

2 / 1 : إجتماعيا :  التأثير السلبى على الحرائر، إذ تفوقت عليهن الجوارى جمالا وثقافة وإستحوذت دونهن على إهتمام الرجال .

2 / 2 : سياسيا : وصول الجوارى الى سدة الحكم من وراء ستار ( الخيزران ، قبيحة ، شغب ) ثم مباشرة الحكم علنيا ( شجرة الدر ).

2 / 3 : تاريخيا :  وأدى هذا بدوره الى نتيجة غريبة ، هى أن مئات الملايين من الأحرار ـ رجالا ونساءا ـ لم تتعرض لهم كتب التاريخ فى العصور الوسطى ،وقد كانت تؤرخ للجوارى ضمن المشاهير من الحكام وأتباعهم والأدياء والشعراء والفقهاء والعلماء . ملك اليمين من النساء إلتفت لهن التاريخ وكتب الأدب ، ومنها نتعرف على بعض المسكوت عنه من التاريخ الاجتماعى فى العصور الوسطى .  

2 / 4 : تشريعيا : تشريعات الأديان الأرضية تقوم على الهوى ، وقد إختلفت أهواء الفقهاء والمثقفين فى موضوع الجوارى والحرائر ، ودارت حروب فكرية تبارز فيها الفقهاء المحافظون والمعتزلة ( الليبراليون ) بإخترع الأحاديث والتأويلات للآيات القرآنية .

3 ـ  وهذا كله باب جديد يستحق تخصصا بحثيا أصوليا تاريخيا، نكتفى هنا بالاشارة اليه ، على أمل أن يتابع البحث فيه باحثون جادُّون .    

4 ـ ونعطى بعض التفصيلات فى هذا الباب :

أولا :

1 ـ كان  الحجاز "مكة والمدينة"  موطن المعارضة السياسية والحربية ضد الأمويين وعاصمتهم دمشق.. فمن المدينة ومكة خرجت الثورات تحتج على انفراد بني أمية بالحكم وتحويلهم الخلافة إلى ملك وراثي يقوم على القهر والاستبداد ، ومن المدينة خرج الحسين ثائراً بأهله وكانت مأساة كربلاء ، وعلى أثرها ثارت المدينة ثورة عارمة فاقتحمها الجيش الأموي وانتهك حرمتها ، وبعدها ثار عبد الله بن الزبير في مكة وأعلن نفسه خليفة فهزمه الأمويون وقتلوه وصلبوه ولم يأبهوا بحرمة البيت الحرام.وحتى لا تعود المدينة ومكة للثورة وتسيل الدماء ويقتل الأمويون أقاربهم من قريش في الحجاز ارتأى الأمويون حلاً آخر هو شغل أبناء المهاجرين والأنصار في مكة والمدينة بالمال والمتاع والجواري والغناء والشعر وكل وسائل التسلية ، وبذلك امتلأت مكة والمدينة بأرباب الغناء وأصبحت في كل منهما مدرسة فنية تنافس الأخرى ، ويهيج تلك المنافسة الشعراء وأصحاب السمر والأخبار .

2 ـ وجاء العصر العباسى ولا يزال الحجاز مركز المعارضة للعلويين ضد أبناء عمهم العباسيين . وفى العراق حيث التنوع الفكرى والعرقى والجغرافى  ظهرت فى العصر العباسى الأول مدرسة فكرية حُرة تقول بالرأى تزعمها أبو حنيفة الذى كانت له آراء فى التشريع ( الفقه ) وفى العقائد ( علم الكلام / اللاهوت )، وقالتها فى المدينة مدرسة محافظة تُحرّم الرأى والاجتهاد ، وتضع الرأى فى صورة حديث تنسبه بأثر رجعى للنبى بعد قرنين من موته وأيضا الى بعض الصحابة والتابعين الذين ماتوا دون أن يعلموا شيئا عما نُسب اليهم . وبدأ مالك بن انس هذه المدرسة .

3 ـ لم تكن مدرسة ( مالك ) رد فعل للتحرر الفكرى العراقى فقط ، بل كانت ايضا رد فعل عنيفا ضد الانحلال الخلقى الذى تجذر فى مكة والمدينة من بداية الفتوحات وفى العصر الأموى ، وتحولت مكة والمدينة الى ( ماخور ) كبير للغناء واللهو والجوارى والمغنيين والمخنثين من كل صنف ولون ، وكتب الأدب خير شاهد على ذلك ، من ( الأغانى ) للأصفهانى ، الى ( العقد الفريد ) لابن عبد ربه ، علاوة على دواوين الشعر الأموى وتاريخ مشاهير الشعراء وقتها من الفرزدق وجرير والأحوص وعمر بن ربيعة والعرجى والأخطل ..الخ . قابلت مدرسة مالك هذا بإختراع ( حد الرجم )وبتغليظ فى الحجر على الحرائر من النساء .

 ومن المدهش أن هذه المدرسة المُغرقة فى الحظر والمنع والتحريم كانت متساهلة مع الجوارى ، جعلت عدة الجارية حيضة أو حيضتين لتسهيل إستغلالهن جنسيا بأسرع وقت ، ولم يتورعوا عن سبك قصص وروايات يزعمون فيها أن النبى سبى ( صفية بنت حى بن أخطب ) ودخل بها ، وهى على ذمة زوج . بل إنهم لمراعاة الحال فى أسواق النخاسة وضرورة فحص الجوارى عند البيع جعلوا عروة الجارية ما بين السُّرّة والركبة ، هذا بينما قاموا بتعليب الحرائر فيما اسموه بالحجاب ، والذى تحول فى العصور التالية الى نقاب .

 4 ـ ولم يلبث الانغلاق الفكرى أن إنتقل الى العراق فى العصر العباسى الثانى بسبب ظروف سياسية ، أشرنا اليها فى بحث هنا عن ( الحنبلية ـ أم الوهابية ـ وتدمير العراق قى العصر العباسى الثانى ) . ونؤكد هنا على عامل هام هو أن الدعوة العباسية التى سبقت قيام الدولة العباسية قامت على الدعوة الى ( الرضى من آل محمد ) أو ( المهدى ) الذى يُعيد العدل المفقود الذى كان فى عصر الدولة الاسلامية بقيادة النبى محمد عليه السلام . وهنا ظهر لأول مرة مصطلح ( السُّنّة ) بمعنى منهج العدل الذى كان عليه خاتم النبيين عليه وعليهم السلام ، والذى أضاعه الأمويون . كانت المعارضة للأمويين لا تخلو من مثقفين متدينين اشهرهم من  الحسن البصرى وابراهيم النخعى وابراهيم التيمى وسعيد بن جبير  وسعيد بن المسيب . وبرزت حركة فكرية معارضة أسموها ( القدرية ) تستنكر تبرير الظلم الأموى بأنه قدر الاهى لا يجوز الاعتراض عليه . وقادها معبد الجهني الذى قتله الحجاج وغيلان الدمشقي الذى قتله هشام بن عبدالملك .  

 5 ـ بسقوط الظلم الأموى ومجىء العباسيين إستبشر أولئك المثقفون ببزوغ عهد من العدل ، ولكن فوجئوا بظلم اشد وسفك للدماء قام به أول خليفة عباسى أسمة نفسه ( السفاح ) وتوسع فيه أخوه أبو جعفر المنصور . هذا الانقلاب الخطير أطاح بما تبقى من عقل لبعض أولئك المثقفين المتدينين ، فظهرت مجموعات (البكائين ) الذين جعلوا اساس دينهم ( البكاء ) ، وقد عرضنا لهم فى بحث منشور هنا . ثم أدت ظروف سياسية عباسية محضة الى تولى الخليفة المتوكل الذى جعل الأحاديث دينا رسميا اسماه ( السنة ) وإحتضن فقهاء السنة فظهر السنيون المتشددون ( الحنابلة ) الذين دمروا العراق لاحقا . يهمنا من هذا أن الحنابلة أحيوا المدرسة السنية المتشددة التى خلقها مالك ، ثم فصّلها ومنهجها الشافعى .

6  ـ  وحتى بداية العصر العباسى كانت لا تزال هناك بقية من المدرسة الليبرالية للمعتزلة ، كان أبرز أعلامها الجاحظ ت 255 ، والذى كان معاصرا لابن حنبل ت 241 وللبخارى ت 256 ، وصورة المرأة مُحتقرة فى أحاديث البخارى ، كما أن ابن حنبل فى كتابه عن أحكام النساء يكاد يدفن المرأة تحت التراب . وقابلهم الجاحظ بمؤلفاته ( الليبرالية ) ، ومن دهائه أنه كان ينتقى ما يؤيد وجهة نظره من الروايات ليرد عليهم بنفس منهجهم . ونعرض لوجهة النظر الليبرالية للجاحظ .

ثانيا : عرض لرسالة ( القيان ) للجاحظ :

1 ـ يهدى الرسالة الى رفاقة الذين ذكر أسماءهم ووصفهم ب : (المستمتعين بالنعمة والمؤثرين للذّة المتمتعين بالقيان وبالإخوان المعدين لوظائف الأطعمة وصنوف الأشربة والراغبين بأنفسهم عن قبول شيء من الناس أصحاب الستر والستارات والسرور والمراوءات‏.‏ ) وأيضا الى خصومه الفقهاء المتزمتين ، وقد وصفهم فقال ( إلى أهل الجهالة والجفاء وغلظ الطبع وفساد الحسّ‏.).!. وبعث السلام الى (  من وفق لرشده وآثر حظَّ نفسه وعرف قدر النعمة فإنّه لا يشكر النعمة من لم يعرفها ويعرف قدرها  )  أى من البداية يجعل الجوارى المغنيات ( القيان ) نعمة .

2 ـ ويبدو أنه جدل إستحكم ، وأضطر الجاحظ لأن يدلو فيه بدلوه ، لأنه يقول :  ‏ (  وقد كُنّا ممسكين عن القول بحجّتنا فيما تضمَّنه كتابنا هذا اقتصاراً على أن الحقَّ مكتفٍ بظهوره مُبينٌ عن نفسه مستغنٍ عن أن يُستدلَّ عليه بغيره.. وعلمنا أنّ خصماءنا وإنْ موّهوا وزخرفوا غير بالغين للفلج والغلبة عند ذوي العدْل دون الاستماع منّا ..  إلى أنْ تفاقم الأمر وعيل الصَّبر .. لأنّا خفنا أن يظنّ جاهل أنَّ إمساكنا عن الإجابة إقرار بصدق العضيهة وأن إغضاءنا لذي الغيبة عجز عن دفعها‏.‏ فوضعنا في كتابنا هذا حُججاً على من عابنا بملك القيان وسبَّنا بمنادمة الإخوان ونقم علينا إظهار النِّعم والحديث بها‏.‏ ) وهنا يبين سبب تأليفه رسالة (القيان ) .

3 ـ ويبدأ الرد الجاحظى بمكانة ( الأُنثى ) التى إعتبرها الفقهاء المتزمتون مجرد حيوان للجنس ، فقال : (  إنّ الفروع لا محالة راجعةٌ إلى أصولها والأعجاز لاحقةٌ بصدورها والموالي تبعٌ لأوليائها  .. والفلك وجميع ما تحويه أقطار الأرض وكلُّ ما تُقلُّه أكنافها للإنسان خولٌ ومتاعٌ إلى حين‏.‏ إلاّ أنّ أقرب ما سُخِّر له من روحه وألطفه عند نفسه ‏"‏ الأُنثى ‏"‏ فإنّها خُلقت له ليسكن إليها وجُعلت بينه وبينها مودّة ورحمة‏.‏ ووجب أن تكون كذلك وأن يكون أحقَّ وأولى بها من سائر ما خُوِّل إذْ كانت مخلوقةً منه‏.‏ وكانت بعضاً له وجزءاً من أجزائه وكان بعض الشيء أشكل ببعض وأقرب به قُرباً من بعضه ببعض غيره‏.‏ فالنساء حرثٌ للرجال كما النبات رزقٌ لما جُعل رزقاً له من الحيوان‏.‏ )

4 ـ ثم يرد على الفقهاء بأسلوبهم فيقول : ( ..  وكلُّ شيءٍ لم يُوجد محرَّماً في كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمباحٌ مُطلق ‏.‏).

5 ـ ثم يضع الجاحظ يده على أساس الموضوع ، وهو الغيرة عند الفقهاء ، الغيرة (على النساء ) بدافع التملك ، يقول : ( ولم نعلم للغيرة في غير الحرام وجهاً . ) أى لا دخل للغيرة بالتحريم ، وإن كانت الأساس لدى الفقهاء فى تحريم الحلال .

6 ـ ويستدعى الجاحظ روايات التاريخ فى الرد على الحجاب ، والذى كان يشمل فصل النساء عن الرجال ، وحرمانهن من المشاركة فى الحياة العامة ، يقول الجاحظ : (  فلم يكن بين رجال العرب ونسائها حجابٌ ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفَلْتة ولا لحظة الخُلْسة دون أن يجتمعوا على الحديث والمسامرة ويزدوجوا في المناسمة والمثافنة ويسمَّى المولع بذلك من الرجال الزِّير المشتَّق من الزيارة‏.‏ وكلّ ذلك بأعين الأولياء وحضور الأزواج لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المنكر...  فلم يزل الرِّجال يتحدثون مع النساء في الجاهلية والإسلام حتَّى ضُرب الحجاب على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصَّة‏.‏ وتلك المحادثة كانت سبب الوصلة بين جميلٍ وبثينة وعفراء وعُروة وكثيِّر وعزَّة وقيسٍ ولُبنى وأسماء ومقِّش وعبد الله بن عجلان وهند‏.‏ ثم كانت الشرائف من النساء يقعدن للرِّجال للحديث ، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية ولا حراماً في الإسلام‏.‏ )  .

واستشهد الجاحظ بروايات عن عمر والحسن وابن الزبير ومعاوية فيها الرجل يلتقى مع زوجة آخر بعلم الزوج ورضاه ،  ويقول : (  فلو كان محادثة النساء والنَّظر إليهنَّ حراماً وعاراً لم يفعله ولم يأذن فيه المنذر بن الزُّبير ولم يُشرْ به عبد الله بن الزُّبير‏.‏ ) ثم يصل الى القول بأنه : ( وهذا الحديث وما قبله يُبطلان ما روت الحُشويّة من أنَّ النظر الأوَّل حرام والثاني حرام لأنَّه لا تكون محادثةٌ إلاَّ ومعها ما لا يحصى عدده من النَّظر‏.‏ ). ونلاحظ هنا وصفه لعلماء الحديث بالحشوية ، وهو وصفهم الذى كان سائدا وقتها . وقال : (  ودعا مصعب بن الزُّبير الشَّعبيَّ وهو في قُبّةٍ له مجلَّلةٍ بوشى معه فيها امرأته فقال‏:‏ يا شعبيُّ من معي في هذه القبّة فقال‏:‏ لا أعلم أصلح الله الأمير‏!‏ فرفع السِّجف فإذا هو بعائشة ابنة طلحة‏.‏ 
والشعبيُّ فقيه أهل العراق وعالمهم ولم يكن يستحلُّ أن ينظر إن كان النَّظر حراماً‏.‏ .. ولم يكن يُعدم من الخليفة ومن بمنزلته في القدرة والتأتِّي أن تقف على رأسه جارية تذبُّ عنه وتروِّحه وتعاطيه أخرى في مجلسٍ عامٍّ بحضرة الرجال‏.‏ ) .

7 ـ بعدها دخل فى موضوع الجوارى ، فقال : (  ثم لم يزل للملوك والأشراف إماءٌ يختلفن في الحوائج ويدخلن في الدواوين ونساءٌ يجْلسْن للناس مثل خالصة جارية الخيزران وعتْبة جارية ريطة ابنة أبي العباس وسُكَّر وتركيَّة جاريتي أمِّ جعفر ودقاق جارية العبَّاسة وظلوم وقسطنطينة جاريتي أم حبيب وامرأة هارون بن جعبويه وحمْدونة أمّة نصر بن السِّنديِّ بن شاهك . ثم كنّ يبرزْن للناس أحسن ما كنَّ وأشبه ما يتزيَّنَّ به فما أنكر ذلك منكرٌ ولا عابه عائب‏.‏ ولقد نظر المأمون إلى سُكَّر فقال‏:‏ أحُرَّةٌ أنت أم مملوكة ؟ قالت‏:‏ لا أدري إذا غضبتْ عليَّ أمُّ جعفر قالت‏:‏ أنت مملوكة وإذا رضيتْ قالت‏:‏ أنت حُرَّة‏.‏ قال‏:‏ فاكتبي إليها السَّاعة فاسأليها عن ذلك‏.‏ فكتبتْ كتاباً وصلته بجناح طائرٍ من الهُدَّى كان معها أرسلتْه تعلم أمَّ جعفرٍ ذلك فعلمت أمُّ جعفرٍ ما أراد فكتبتْ إليها‏:‏ ‏"‏ أنت حُرَّة ‏"‏‏.‏ فتزوّجها على عشرة آلاف درهم ثم خلا بها من ساعتها فواقعها وخلَّى سبيلها وأمر بدفع المال إليها‏.‏ ) .  

8 ـ ثم يستخدم المنطق فى حواره مع الفقهاء ، فالعانس تبرز للرجال فكيف يحرمون عليها هذا وهى شابّة . يقول : ( والدَّليل على أنَّ النَّظر إلى النساء كلِّهنَّ ليس بحرام أنَّ المرأة المعنَّسة تبرز للرِّجال فلا تحتشم من ذلك‏.‏ فلو كان حراماً وهي شابَّةٌ لم يحلَّ إذا عُنِّستْ ولكنَّه أمرٌ أفرط فيه المتعدُّون حدَّ الغيرة إلى سوء الخُلق وضيق العطن فصار عندهم كالحقّ الواجب‏.‏ )

9 ـ ثم ينتقل الى تناقض آخر عندهم فى التفريق بين الحُرّة والجارية ، يقول : ( وكذلك كانوا لا يرون بأساً أن تنتقل المرأة إلى عدّة أزواج لا ينقلها عن ذلك إلاّ الموت ما دام الرجال يريدونها‏.‏ وهم اليوم يكرهون هذا ويستسمجونه في بعض ويعافون المرأة الحرّة إذا كانت قد نكحت زوجاً واحداً ويلزمون من خطبها العار ويُلحقون به اللَّوم ويعيِّرونها بذلك.  ويتحظَّون الأمة وقد تداولها من لا يُحصى عدده من الموالي‏.‏ فمن حسَّن هذا في الإماء وقبَّحه في الحرائر‏!‏ ولمَ لمْ يغاروا في الإماء وهنَّ أمّهات الأولاد وحظايا الملوك وغاروا على الحرائر‏.‏ 
ألا ترى أنَّ الغيرة إذا جاوزتْ ما حرّم الله فهي باطلٌ . ) .

10 ــ ثم دخل فى (القيان ) :( .. ولم تزل القيان عند الملوك من العرب والعجم على وجه الدَّهر‏.‏ وكانت فارس تعُدُّ الغناء أدباً والرُّوم فلسفةً‏.‏وكانت في الجاهليّة الجرادتان لعبد الله بن جُدعان‏.‏ وكان لعبد الله بن جعفر الطّيار جوارٍ يتغنَّيْن وغلاكمٌ يقال له ‏"‏ بديع ‏"‏ يتغنَّى فعابه بذلك الحكم بن مروان فقال‏:‏ وما عليَّ أن آخذ الجيِّد من أشعار العرب وأُلقيه إلى الجواري فيترنَّمن به ويشذِّرنه بحلوقهنَّ ونغمهنّ‏!‏‏.‏وسمع يزيد بن معاوية الغناء‏.‏ واتَّخذ يزيد بن عبد الملك حبابة وسلاَّمة وأدخل الرجال عليهنَّ للسَّماع ...  ثم كان الوليد بن يزيد المتقدِّم في اللَّهو والغزل  ــ والملوك بعد ذلك ـ  يسلكون على هذا المنهاج وعلى هذا السبيل الأوّل‏.‏ وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن تناله الخلافة يتغنَّى‏.‏ ).

11 ـ وردا على تحريمهم الشعر والغناء قال : (  فإذا وجب أنّ الكلام غير محرَّم فإنّ وزنه وتقفيته لا يوجبان تحريماً لعلّة من العلل‏.‏وإنّ الترجيع له أيضاً لا يخرج إلى حرام‏.‏ وإنّ وزن الشعر من جنس وزن الغناء وكتاب الموسيقي وهو من كتاب حدّ النُّفوس تحدُّه الألسن بحدًّ مقْنع وقد يعرف بالهاجس كما يعرف بالإحصاء والوزن‏.‏ فلا وجه لتحريمه ولا أصل لذلك في كتاب الله تعالى ولا سنّة نبيِّه عليه السلام‏.‏ فإن كان إنمّا يحرِّمه لأنه يُلهى عن ذكر الله فقد نجد كثيراً من الأحاديث والمطاعم والمشارب والنَّظر إلى الجنان والرَّياحين واقتناص الصيد والتشاغل بالجماع وسائر اللذات تصدُّ وتُلهى عن ذكر الله‏.‏ونعلم أنّ قطع الدَّهر بذكر الله لمنْ أمكنه أفضل إلاّ أنّه إذا أدَّى الرجل الفرض فهذه الأمور كلُّها له مباحة وإذا قصَّر عنه لزمه المأثم‏.‏ ولو سلم من اللَّهو عن ذكر الله أحدٌ لسلم الأنبياء عليهم السلام‏.‏) 
 12 ـ ثم يدخل الجاحظ  الى التهوين من تفحّص الجارية عند شرائها ، وبعد كلام طويل عن معايير الجمال والحُسن يقول :  ( وكذلك مكالمة القيان ومفاكهتهنَّ ومغازلتهن ومصافحتهنَّ للسَّلام ووضع اليد عليهنَّ للتَّقليب والنظر حلالٌ ما لم يشبْ ذلك ما يحرم‏.‏ وقد استثنى الله تبارك وتعالى اللَّمم فقال‏:‏ ‏"‏ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاَّ اللَّمم إنّ ربَّك واسع المغفرة ‏"‏‏.‏ قال عبد الله بن مسعود وسُئل عن تأويل هذه الآية فقال‏:‏ إذا دنا الرجل من المرأة فإنْ تقدَّم ففاحشة وإنْ تأخَّر فلممٌ‏.‏ وقال غيره من الصَّحابة‏:‏ القبلة واللَّمْس‏.‏وقال آخرون‏:‏ الإتيان فيما دون الفرج‏.‏وكذلك قال الأعرابيّ حين سئل عمّا نال من عشيقته فقال‏:‏ ما أقرب ما أحل الله مما حرَّم الله‏!‏‏.‏

13 ـ ثم يرد على أحاديثهم فى منع الخلوة فيقول : ( فإن قال قائل‏:‏ فيما روى من الحديث‏:‏ ‏"‏ فرِّقوا بين أنفاس الرجال والنِّساء ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ لا يخْلُ رجلٌ بامرأة في بيتٍ وإن قيل حموها إلا إنَّ حموها الموت ‏"‏ وإنّ في الجمع بين الرِّجال والقيان ما دعا إلى الفسق والارتباط والعشق مع ما ينزل بصاحبه من الغُلمة التي تضطرُّ إلى الفجور وتحميل على الفاحشة وأنَّ أكثر من يحضُر إنمّا يحضُر لذلك لا لسماع ولا ابتياع‏.‏ قلنا‏:‏ إن الأحكام إنّما على ظاهر الأمور ولم يكلِّف الله العباد الحكم على الباطن والعمل على النيَّات فيُقضى للرجل بالإسلام بما يظهر منه ولعلّه ملحد فيه ، ويُقضى أنّه لأبيه ولعلّه لم يلدْه الأب الذي ادَّعى إليه قطّ إلاَّ أنّه مولود على فراشه مشهورٌ بالانتماء إليه‏.‏ )  

اجمالي القراءات 8732