ملك اليمين : تحرير الرقيق بين تشريع الاسلام وتجربة أوربا والأمريكان
أولا : أوربا تُلغى الرق القديم وتستبدله بإستعباد أبشع وأعمّ واشمل
1 ـ بدأت الثورة الصناعية الأولى ( 1784 ) بإختراع الآلة البخارية . كانت إنجلترة هى الرائدة وتبعتها دول أوربا الغربية . ادت هذه الثورة الصناعية الى تغييرات متنوعة منها البدء فى طريق الاختراعات وميكنة الصناعة ووسائل النقل وميكنة الزراعة وجعلها فى خدمة الصناعة ، هذا مع الاستغناء عن كثرة العمال الزراعيين. وظهرت المصانع الضخمة بعمال أكثر وإنتاج أكبر وبألات لم تكن معروفة من قبل وبتخصص فى التصنيع بدأ بصناعة النسيج وتعداها ، وإستدعى الأمر الحصول على الخامات اللازمة من فحم وقطن وكتان ، فكان الاستعمار الأوربى للعالم القديم فى آسيا وأفريقيا بالاضافة الى تعزيز الاكتشافات فى العالم الجديد (أمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا ) . ولأن إنجلترة كانت هى الرائدة فى الثورة الصناعية فقد اصبحت رائدة الاستعمار .
2 ـ من الناحية الاجتماعية وقع فى أسر البطالة ملايين الفلاحين ، فنزحوا من الريف الى المدن ليعملوا بنسائهم وأطفالهم فى مدن صناعية تضخمت سكانا عاشوا على هامشها ، يقاسون من نوع جديد من السخرة ( الإختيارية ) التى إرتضوها مُرغمين ، يعملون ساعات اطول بأجور أقل مع عدم الرعاية الصحية، والتعرض للقتل والاصابات من الآلات فى المصانع حيث لا وجود لوسائل الأمن الصناعى . وحين يمرض العامل أو تتقطع أطرافه يُلقى به فى الخارج ملوما محسورا .!. وقتها لم تكن لهم نقابات تحميهم من جشع الرأسمالية الجديدة ولا وسائل وقاية من الآلات ، وبدا النضال فى سبيل حقوق العمال بتكوين نقابات وقيام إضرابات وبدء الشيوعية فكرا ثم حركة سياسية أنشأت فيما بعد الاتحاد السوفيتى وسيطرت على الصين وشرق أوربا .
3 ـ فى هذه الظروف تم إلغاء أوربا للرق . فى الواقع تم إلغاء الرق القديم ليحلّ محلّه إسترقاق أفظع ، يضطر فيه الأحرار لقبول العمل سُخرة لكى يعيشوا . الرقيق السابقون كانوا يعايشون من يملكهم فى بيته وفى حقله ، وبينهم علاقات إنسانية ، يحرص فيها المالك على مماليكه حرصه على حيوانات الحقل لديه ، لأن من مصلحته أن يكونوا فى حالة طيبة . أما ( مالك المصنع ) فهو يتعامل مع العمال المسخرين لديه بقوانين تُتيح لهم أن يمصّ دماءهم ويمتصّ جهدهم فى ساعات عمل كثيرة مقابل أجور زهيدة ، ثم هو ليس مسئولا عن مسكنهم أو عن طعامهم أو علاجهم. ثم إذا مرضوا أو إفترستهم الآلات البدائية ألقى بهم الى الشارع . أى إن الثورة الصناعية الأوربية لم تقم بإلغاء الرق بل إستبدلته برق أبشع داخل أوربا نفسها إذ حولت الأحرار الفقراء الى رقيق من نوع جديد.
4 ـ على أن هذه الثورة الصناعية أدت الى ظهور نوعين جديدين من الاسترقاق :
4 / 1 : الاستعمار ، وبه إسترقت إنجلترة وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وهولندة مئات الملايين من البشر فى الهند واندونيسيا والفلبين وجنوب شرق آسيا ثم بلاد المسلمين . بالاستعمار تم تسخير تلك الشعوب لتعمل فى إنتاج الخامات اللازمة للصناعة الأوربية ، وبه تم سلب كنوزها وخيراتها .
4 / 2 : واسفرت الثورة على الراسمالية الأوربية عن ظهور الشيوعية تحمل شعار العدل للعمال . وتأسست نُظم شيوعية ، إتضح أنها تطرف فى الرأسمالية . الرأسمالية الغربية فى السوق المفتوحة تجعل بضع مئات من اصحاب المصانع واصحاب البنوك يحتكرون الثروة والسلطة، ومن يبتعد عنهم يعيش حرا فقيرا ، أما فى النظام الشيوعى فيوجد شخص واحد يحتكر الثروة والسلطة والبشر أيضا، من ستالين أو ماو تسى تونج الى كاسترو فى كوبا أو حاكم كوريا الشمالية . هنا إسترقاق لشعوب بأكملها يمتلكها شخص واحد ، وكل من عداه مُسخر فى خدمته ، ولا يستطيع أن يتمتع بحريته حتى فى خلوته .!.
ثانيا : تجربة الأمريكان :
نفس الحال فى أمريكا بل هو أفظع واضل سبيلا . لأنه بسبب إلغاء الرق فيها نشبت الحرب الأهلية الأمريكية التى ضاع فيها من القتلى 620،000 ، هذا عدد مهول من الجرحى والمُعاقين من الجنود والمدنيين . ومع كل هذه التضحية فقد كانت هى نفس النتيجة : إستبدال الرقيق الزراعى برقيق صناعى . ونعطى بعض التفصيلات :
1 ـ فى حملته الانتخابية عام 1860 رفع لينكولن شعار تحرير العبيد ، وبفوزه وقبيل تولى منصبه أعلنت 11 من الولايات إنفصالها ، وتأسست الولايات الكونفدرالية الأمريكية تحت قيادة جيفرسون ديفيد . وإعتبر لينكولن هذا تمردا، ونشبت الحرب فى 12 أبريل 1861 . وانتهت الحرب بإستسلام لى جرانت قائد جيش الكونفيدراليين فى 9 ابريل عام 1865 .
2 ـ العامل الالأقتصادى هو السبب فى إلغاء الرق فى أمريكا . قام إقتصاد الولايات الجنوبية على الزراعة ، وخصوصا القطن ، وكان الأرخص لهم إستخدام الرقيق المتوفر فعلا لديهم بدلا من إستيراد آلات من أوربا . بينما تركز إقتصاد الولايات الشمالية على الصناعة ، وهى الأكثر تأثرا بأوربا ونهضتها الصناعية ، وإحتاج التصنيع الى أيدى عاملة ، وكانت متوفرة فى الجنوب حيث تكتظ المزارع بالرقيق المخطوف من أفريقيا ، وسواحلها الغربية . لذا كانت دعوة لينكولن تعبر عن تحرير هذا الرقيق لتسخيره رقيقا فى الصناعة الأمريكية.هذا، بغض النظر عن الجدل السياسى والقانونى الذى لا يزال يُثار حول هذا الموضوع ، وليس سوى مجرد ورقة توت تغطى عورة الأطماع الإقتصادية للرأسمالية الأمريكية فى الولايات الصناعية وقتها .
3 ـ أسفر التحرير الشكلى للرقيق أن يقال له للعبد الذى تم تحريره : ( You are free to go) ، (أنت حر فى أن تمضى كيف تشاء ). خدعة كبرى ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب . (فلان ) أصبح حرا أن يمضى كيف يشاء بعائلته بعد أن عاش بهم طويلا فى بيت سيده وحقله ، وحيث كان يضمن لقمة العيش وسقف يأوى اليه . ماذا يفعل الآن ؟ سيهاجر بهم الى حيث المصانع على أمل أن تفتح له أبوابها فى ولايات الشمال . سيجد هناك ملايين غيره جوعى ومشردين ، ولا تسعهم المصانع . إذن عليه ـ حتى لا يموت بأسرته جوعا ــ أن يرضى بالسُّخرة فى المصنع بأجر تافه وعمل شاق وبلا رحمة وبلا عطف ، ثم إذا عجز أو مرض أو تكاسل فلا ضرب ولا تعذيب ، بل الطرد فى الشارع . ثم هناك الأفظع ، وهو أن هذا الأمريكى الأبيض ـ غنيا كان أم فقيرا ـ وبعيدا عن شعارات جيفرسون فى المساواة ـ يحتقر الزنوج ولا يعتبرهم آدميين مثله ، بل كان هناك ــ وقتها ـ جدل حول آدمية الزنوج .
4 ـ وبسبب ثقافة الاسترقاق هذه فقد إستمرت التفرقة العنصرية حوالى مائة عام بعد تحرير العبيد، وتطلب إلغاؤها جهادا من السود ، ثم آزرهم فى القرن العشرين جماعات من حقوق الانسان ، ومنهم قادة من البيض ، وأبرزها حركة الحقوق المدنية فيما بين 1955 : 1968 ، والتى كانت تهدف الى تجريم التمييز العنصرى ضد الأمريكيين الأفارقة وحقهم فى التصويت والمساواة . وأسفر هذا النضال عن قتل الرئيس جون كيندى والمناضل المسالم مارتن لوثر كنج ومالكم إكس. ولا تزال التفرقة العنصرية سائدة فى بعض النفوس حتى الآن فى العداء الكامن بين البيض والسود ، وظهر هذا فى عنصرية البوليس الأمريكى ضد السود ، وفى حركات إحتجاج للسود بسبب هذه العنصرية . هذا يكفى دليلا على أن تحرير الرقيق فى رئاسة لينكولن لم تتعامل مع الأساس ، وهو رفع الظلم وتقرير العدل والمساواة ، بل كان مجرد نقل الرقيق من خانة الى خانة أخرى أبشع واضل سبيلا .
5 ـ فى النهاية حررت أوربا وأمريكا بضع ملايين من الرقيق الذين خطفتهم من أفريقيا ، ولكنها إخترعت رقّا أبشع بلغ ضحاياه من الأحرار مئات الملايين .!. لماذا ؟ لأن الأساس باق ، وهو الظلم . وبينما حارب الاسلام الظلم بكل أنواعه وأرسى العدل فإن أوربا جعلت الظلم دينا سلوكيا تتعامل به مع الفقراء داخلها ومع الشعوب الأخرى خارجها .
ثالثا : عبقرية الحل الاسلامى
1 ـ ليس فقط فى أنه تعامل مع جذر المشكلة ـ وهو الحدّ من الظلم بكل أشكاله ، وتقرير العدل والاحسان : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) النحل )، ولكن بتقرير الحل السلمى جنبا الى جنب مع قيم العدل والاحسان الذى يعلو فوق العدل .
2 ـ قلنا إن الدولة الاسلامية هى الدولة المُسالمة التى لا تعتدى ولا تبدأ بعدوان على أحد ، وبالتالى فلا مجال للإسترقاق أو إتخاذ الأسرى المحاربين رقيقا ، كما أنه محرم اساسا إلحاق أى ضرر بالمدنيين المسالمين . بالتالى فالاسترقاق محظور من المنبع . أما تحرير الرقيق الوافد من الخارج بالشراء فهو مُتاح بل فريضة دينية يقوم بها القادرون من المتقين . وحتى مع بقائه على الرق فهو متمتع بالعدل والاحسان . ليست الحرب حلا مطروحا لإلغاء الاسترقاق ، حتى مع توافر النية الطيبة . إن الحرب فى حد ذاتها مشكلة ، ولهذا فهى إستثناء فى التشريع الاسلامى لمجرد رد العدوان بمثله ثم تتوقف مع توقف العدوان. أى هى عملية جراحية محسوبة للقضاء على مرض سرطانى لا سبيل للتحلص منه إلا بالبتر . فالعدوان هو السرطان ، والقضاء عليه هو بالبتر، فإذا توقف العدوان توقفت الحرب .
3 ـ هذا العلاج الاسلامى أخذ به بعض ضحايا الاسترقاق فى عصرنا الحديث ، من المهاتما غاندى الى مارتن لوثر كنج ثم نيلسون مانديلا . وقد نجحوا بالجهاد السلمى الذى خاطب الضمير الانسانى وعناصر الخير الذى لا تخلو منه نفس بشرية .
4 ــ ولكن هذا العلاج الاسلامى لم ياخذ به ذلك القائد لحركة الزنج فى العصر العباسى . لقد إندلعت ثورة الزنوج الجائعين ــ فى العراق فى العصر العباسى الثانى : (255ـ 270هـ ) ــ إحتجاجا دمويا على الظلم العباسى والترف العباسى . كانت ثروة المترفين وقتها ترجع إلي مجهودات الزنوج وعرقهم.. !فقد نشأ الإقطاع الزراعي من خلال الملكيات الواسعة التي كان يقطعها الخليفة لأتباعه ، وكان من أهم هذه الأراضي مناطق كثيرة من الأراضي البور في منطقة البطائح بالبصرة ، ووقع علي الزنوج العبيد عبء استصلاحها، وتخصص التجار في استجلاب هؤلاء الزنوج إلي جنوب العراق وحول الخليج ، وتكدست بهم هذه المنطقة حيث عملوا في استزراع الأراضي تحت ضرب السياط وسوء التغذية ، يحملون علي البغال الطبقة الملحية التي تكونت بفعل ظاهرة المد من الخليج العربي ويكشفون عن التربة الزراعية تحتها ويقومون بنقل أكوام الطبقة الملحية إلي حيث تباع ، وفي نظير هذا العمل الشاق كانوا يحصلون علي غذاء بائس من تمر وسويق ، في الوقت الذي كان فيه المترفون في بغداد بجانب الخليفة يأكلون طبق ( الجام) وهو لسان السمك ، ويبلغ ثمنه أكثر من ألف درهم!! لذا كانت معسكرات الزنوج وقودا لثورة الزنج التي قادها مغامر مجهول الاسم تسمى باسم علي بن محمد وقد ادعي النسب العلوي والتشيع ودعا للثورة في المنطقة بين الأعراب النجديين ، وانتقل بهم الى جنوب العراق ،بعد أن غيّر دينه من التشيع الى الخوارج ، كى يتحبب الى الزنوج ويتألف ويتودد الى قادتهم . وبين دينى التشيع والخوارج استغل سوء الأوضاع والفجوة الهائلة بين العبيد والفقراء المعدمين في جنوب العراق وحول الخليج وبين المترفين في بغداد حول قصور الخلافة العباسية. وتكاثر أتباعه ولم تتغلب عليه الدولة العباسية إلا بشق الأنفس ، وقد دخل بأتباعه من الزنج البصرة وأعمالها وخربوها وسبوا النساء وأحرقوا ما وجدوه ، وأعقب ذلك الوباء الذي أفني خلقا لا يحصون ، وذكر الصولي إن صاحب الزنج قتل من المسلمين نحو مليون ونصف المليون ، وأنه قتل في يوم واحد بالبصرة نحو ثلاثمائة ألف وكان له منبر في مدينته يصعد عليه يسب فيه الصحابة ، وقالوا أنه كانت تُباع المرأة الهاشمية في معسكره بدرهمين وثلاثة دراهم ، وأنه كان عند الواحد من الزنج العشر من السبايا الهاشميات يطؤهن ويستخدمهن. وانتهت ثورة الزنج الى لا شىء . مع كل هذه الضحايا .!
4 ـ هذا الحل الدموى سقط ، كما سقطت بعده الحلول الأوربية والأمريكية والشيوعية ، والتى إستبدلت إسترقاقا بإسترقاق آخر .
أخيرا :
ولأن الظلم لا يزال عُملة سائدة فإن الاسترقاق لا يزال سائدا فى عصرنا بنوعيه :الرق التقليدى السلفى ، والرق العصرى .