الإنسانية بين الوهم والدين

سامح عسكر في الخميس ٢٨ - يوليو - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

جلس عاطف على الأريكة ممدداً نظره إلى سقف الحجرة، وفجأة رأى خيالاً كالشبح يصعد ويهبط على الحائط..وكأن حركة الشبح تقصده هو بالذات، فاعتقد في البداية أن ذلك من أثر التعب، وقام بغسل وجهه ثم تمدد على الأريكة مرة أخرى..وإذا بنفس المنظر..

اتصل بصديقه ماهر وأخبره بما حدث..فما كان من صديقه إلى أن لبّى الدعوة..ثم دار هذا الحوار:

عاطف: أنت تعلم كم أثق فيك لذلك اتصلت بك..والموضوع كذا وكذا..فقص له ما حدث..

ماهر: جزء من الثقافة هو الخوف من المجهول، وأكثر ما يصيب ذلك المجتمعات المنحطة

عاطف: ماذا تقصد؟

عاطف: أقصد لو أنك في مجتمع أوروبي متقدم وتعايشت بواقعية مع الناس لضاقت معك مساحة التخيل الزائف والأوهام

ماهر: هل تقصد أن ما حدث لي هو أوهام؟؟!...كلا...كلا..إني شعرت به كحقيقة كما أراك الآن..

ماهر: ياعزيزي عاطف ..إصغ إلي جيدا طالما وثقت في، الغالبية العظمى من الناس مثلك..تشعر وتفكر كما تفعل أنت بالضبط..هذا سائد بشري منذ آلاف السنين، حتى في أوروبا المتقدمة لا زالت بعض الجماهير تعيش بهذه الطريقة، هذا تكوين أصيل داخل الإنسان..هو .."الخيال والوهم"..الناتج عن القلق والخوف من المعاناه في عالم ما بعد الموت..

نعم الموت له دخل بما حدث لك..ولكن بطريقة غير مباشرة

تأمّل (جسدي) ذلك..هل تراه جيدا؟..طب هل تعلم ما ورائي الآن؟..ماذا لو أخفيت سكينا وراء ظهري..هل ستعلمه؟..ألا يصبح احتمال أن يكون معي سكين في خاطرك؟..وقتها بماذا ستشعر..أليس بالقلق؟..وقتها ستتخيل قصص وأحداث إذا ما هجمت عليك بالسكين أو أن أرحمك ولا أفعل بك ذلك..وربما تتخيل أنه ليس سكينا فقط..ربما يكون سلاح ناري..أو مقصلة عظيمة..أو ربما قنبلة ناسفة..

في المقابل: لو كان معي أموال وطعامُ لذيذ وشرابُ ممتع..وقررت أن أكافئك به دون أن تعلم..وأخفيته وراء ظهري..أليس احتمال ذلك في ذهنك حاضرا..أليس خيالك مع السكين هو هو سيكون خيالك مع الأموال والطعام؟

عاطف: وضح أكثر ياماهر ..ماذا تقصد..كلامك منطقي..لكن اختلط علي الأمر..

ماهر: أقصد أن فكرة الثواب والعقاب طالما سيطرت على ذهنك ستخاف من المجهول، وتنشغل به للحد الذي قد تساورك الأوهام في رأسك عنه وعن طريقة تصوره..

عاطف: هذه المسألة قد تمس الدين ياماهر، أنت هنا تطلب مني ترك الدين القائم على فكرة الثواب والعقاب الإلهي..

ماهر: ليس كذلك..ولكن أطلب منك عدم الانشغال بها أبدا..أنت في عالم دنيوي..كل الأشياء من حولك مواد..تفكر فيها واعمل على استغلالها لمنفعتك..فكرة الثواب والعقاب أخروية..أي في عالم ما ورائي يغيب عنك بالكلية، يغيب حتى عن عقلك وإمكانية تخيّله، أما اعتقادك بأنها تمس الدين فلكون ثواب وعقاب هذا الدين لديك مجهول..وكل مجهول مصدر للخوف والرعب، لو كنت تطمئن لمصيرك بعد الموت أو رأيت أحد النماذج التي عادت من الموت ما وجهت لي هذا السؤال..

عاطف: تعرف ياماهر وأنا أستمع للراديو هذا الصباح كان يوجد برنامج عن (الثورة) وأن الزعيم طالب (بالحرية) ففكرت أن الحرية ليست فقط مبدأ سياسي ولكن ديني أيضا

ماهر: هذا غير صحيح..الحرية مبدأ إنساني لا هو سياسي ولا ديني، هذا تصرف بشري نابع من إرادة حرة..وعشق للذات، أما من يخلط الحرية بالدين فالله لم يجعلك حراً بحيث تخطئ وتصيب كما يحلو لك، فالأديان حرّمت الخطيئة على الإنسان، وهذا التحريم ليس من الحرية في شئ..لذلك من يخلط بين الحرية والدين يضيق به الحال حتى يرى أفعاله مقدسة..وتتضخم ذاته شيئاً فشيئاً حتى يعبد نفسه ويصبح طاغية وقاتل عتيد..

عاطف: ومن الذي يخلط بين الحرية والدين؟

ماهر: داعش مثلا..هؤلاء أشخاص كانوا طبيعيون جدا..لكن بعد خلطهم بين الحرية والدين تحولوا لوحوش كاسرة، خلطوا بينهما واشتد خلطهم حتى بلغ ذروته، وأصبح الخروج عن رأيهم مضاد لقيم الحرية، لذلك هم عندما يقتلون فهم يدافعون عن حريتهم..مهم جدا فهم نفسية الدواعش..فالموضوع لديهم غير متعلق فقط بالدين..بل بطبيعة أنفسهم وحقيقة شعورهم..

عاطف: هل أفهم من ذلك أن الحرية تتعارض مع الدين؟

ماهر: لا يوجد بينهما قاسم مشترك أو محل للاجتماع كي تسأل هذا السؤال، الحرية كما قلت هي مبدأ إنساني..إذا وفّيت به وعملت له بلغت قيمة إنسانية عظمى تعينك على الإصلاح وتساهم في استمرارية الحياه، أما الدين فهو قيمة أيدلوجية عند الإنسان، إنسانية عند الإله،فالدين الإنساني لا أنا وأنت نعرفه..بل يصعب علي أمثالنا الحصول عليه كونه متعلق فقط بظروف الوحي، لذلك كان الخوض في مسائل الثواب والعقاب ومن يستحق كذا ومن يستحق كذا هو (سلوك سفيه ومجنون) يتعدى على اختصاصات الرب في تقدير الصالح من الطالح..وقد حذر الله من ذلك في القرآن بقوله.." ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا".. [النساء : 123]..بينما أنت لو تفرغت لعملك ولدنياك وتعاملت بإنسانيتك وحرصت على العلم وألا تخلط بين الدين وأي سلوك إنساني وقتها ستكون قد بلغت الحكمة..ووصلت للهدف الذي تدعو له الأديان..

عاطف: أفهم من كلامك أن الإنسانية تعني الواقعية

ماهر: نعم..أن تكون واقعيا فأنت إنسان..لاحظ أن أكثر مجرمي التاريخ كانوا أيدلوجيين يعتقدون بأوهام في رأسهم.."النازية-الخلافة-الفاشية-الشيوعية-الصهيونية-الشريعة"..كل هؤلاء عزلوا عن واقعهم فضاعت إنسانيتهم، بينما ترى أن كلما كان الإنسان واقعيا كلما كان براجماتيا يفعل المصلحة له ولغيره، هذا الجانب مضئ للبراجماتية، فهي من أهم الفلسفات المعاصرة الصالحة لبناء الشعوب..بل لحل الأزمات والتفكير في المستقبل..

في النهاية تصبح المعادلة كالتالي : ( إنسانية + واقعية = دين ) هذا بالنسبة لك كمؤمن، أما الملحد فمعادلته كالتالي (الواقعية = الإنسانية) لذلك تجد الملحد يفضل غالباً التفكير بالمادة والمحسوس..وهو ربما لا يدري أن إنسانيته قد ترضي الرب الذي ينكره..لذا فأنا أتعامل مع الأخوة الملحدين دائما بإنسانيتهم وغايتي أنه لو كان عادلا..فهو لدي مؤمن..

عاطف: نعود للأشباح أنت طالبتني بعدم الانشغال بالثواب والعقاب كي لا أرى أوهام، وأنا أوافقك على ذلك من حيث المبدأ..ولكن توجد مشكلة..ألا يؤثر ذلك على سلوكي بحيث لا أخاف من الله؟

ماهر: ياعزيزي أنت لو حققت مبادئ الإنسانية –وأهمها مبدأ الحرية- تكون قد أرضيت الله، والحرية هنا عن فهم... بحيث لا تتعدى على حريات وحقوق غيرك، مبادئ تحملك على المعاملة بالقسط..وهو نفس فعل الأنبياء..تأمل قوله تعالى:

" وأقسطوا إن الله يحب المقسطين".. [الحجرات : 9]

" إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم".. [آل عمران : 21]

"قل أمر ربي بالقسط "..[الأعراف : 29]

والقسط هو العدل من جذر.."قسطاس"..وهي آلة الموازين، والمدلول يقول بعدالة الميزان كمعيار للبشر ،أي أن الله يأمر بالعدل في الحقيقة..فأينما حققت العدل-الذي هو قيمة إنسانية- تكون قد أرضيت الله

لكن فارق بين أن تكون هذه المبادئ إنسانية أو أن تصبح مبادئ دينية، لو نظرت أنها كمبدأ ديني ستجعل هذا المبدأ سيف مسلط على أي مختلف معك في الدين، لأن الدين الذي تعتنقه ليس هو الدين الإنساني الإلهي الذي أنزله الله على البشر..بل هو نسختك أنت وحدك لا يشاركك فيها أحد..فإذا حكّمت مبدأك الإنساني وقتها ستعتقد أن الآخر ضد إنسانيتك..وهذا سر من أسرار التعصب الديني، المتعصب يدافع عن ذاته وإنسانيته في الحقيقة، والحل فورا أن تفصل بين المبادئ الإنسانية وبين المبادئ الدينية، فإذا رأيت مشترك بينهما فاحمله على الإنسانية فورا ولا تجعل الدين حَكَم وقتها..لأن هذا دينك أنت..وهو دين نسبي سترى الآخر فيه عبارة عن شيطان لا يفعل الخير أبدا..

اجمالي القراءات 9136