التأويل بين المعتزلة واهل السنة
في
الخميس ٢١ - نوفمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً
1ـ المعتزلة هم ارقى فئة فى الطوائف الاسلامية ، اذ كان تعويلهم الاساسى على العقل وان ادى تطرفهم العقلى الى الوقوع فى المزالق. كما ادى اضطهادهم لخصومهم فى عصرهم الذهبى الى وصمة عار. وتسبب اعتمادهم على العقل فوق النقل الى جعلهم مجرد مذهب مؤقت فى تاريخ المسلمين الفكرى , اى انهم لم يتحولوا الى دين كشأن الشيعة والصوفية والسنة .
لم يحاول المعتزلة اصطناع مرجعية دينية مزيفة لهم ، كما فعل الصوفية عن طريق العلم اللدنى ، اوكما فعل الشيعة بالوحى المزعوم للأئمة وعلمهم اللدنى ، أوكما فعل السنة بإختراع الاحاديث ونسبتها الى النبى فيما يعرف بالسنة, او الى الله نعالى فيما يعرف بالحديث القدسى .
ولذلك ظل جهد المعتزلة مجرد اجتهاد عقلى يقبل الخطأ والصواب ويحتاج الى الاقناع والاقتناع فى مجتمع النخبة من المثقفين. اما المذاهب الصوفية والشيعية والسنية فقد تحولت الى عقائد وطقوس وعبادات تتطلب الايمان والتصديق والخضوع والتسليم , وليس امام الانسان الا ان يؤمن بها او يكفر بها ، كشأن نصوص القرآن ذاته . وبالتالى فأن أئمة هذه المذاهب السنية والشيعية والصوفيةا واعلامها تحولوا الى ذوات مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، بايجاز تحولوا الى آلهة فى التدين الواقعى بينما الدين الرسمى المعلن ـ وهو الاسلام ـ يؤكد على أنه لااله الا الله .وطبقا لذلك التدين الواقعى يرتجف المسلم السنى خوفا اذا انتقد احدهم البخارى مع ان البخارى بشر يخطىء ويصيب ، كما يرتعب المسلم الصوفى اذا تعرض الغزالى للانتقاد، ويهتز المسلم الشيعى غضبا اذا هوجم الامام جعفر الصادق . وهذا لان تلك المذاهب الفكرية تحولت فى عقائد اصحابها المسلمين الى اديان من خلال المرجعيةالدينية الزائفة التى اضيفت اليهم . الا اننا اذا انتقدنا واصل بن عطاء او الجاحظ او النظام او العلاًف ، وهم ائمة المعتزلة ومن ارقى العقليات الاسلامية فلن تتحرك شعرة من اى رأس مسلم لان فكرهم الاسلامى ظل فكرا اسلاميا ، ولم يتحول الى دين مزور مثل باقى الافكار لدى باقى المسلمين .
ومن المفارقات المؤلمة ان ارقى ثقافة اسلامية ابتدعها العقل المسلم تجدها فى اقوال المعتزلة بينما تجد افكارا غاية فى الضحالة والانحطاط منسوبة كذبا للنبى عليه السلام تشوه سيرته وتاريخه وتطعن فى الاسلام والقرآن ومع ذلك تحظى بالتقديس وتتداولها الالسن بالخضوع والتسليم دون اى تدبر فى معناها ، لانه طالما ادعوا ان النبى قد قالها فان العقل ينسحب خانعا مستسلما مؤمنا عاجزا عن التعقل مع أن التعقل فريضة اسلامية. او بالأحرى كانت ثم غابت .
كما تجد اغلب الفكر المعتزلى مسجونا فى المؤلفات بعيدا عن الاشتباك مع واقع المجتمع لانه ظل فكر النخبة ، عاش وقتا فى حياة اصحابه ثم انسحب معهم الى اعماق التاريخ والتراث ، بينما ظل الفكر الاخر يحيا فى فى المساجد وعلى المنابر وفى القلوب والعقول لدى من اعتنقه وآمن به لانه تعدى دائرة الفكر الى الدخول فى مجال التدين الواقعى واكتسب ملامح الدين حين نسبوه الى الوحى الالهى عن طريق النبى والائمة المقدسين اى الذين جعلوهم مقدسين .
وهذا هو الفارق بين تأويل المعتزلة وتأويل غيرهم من اصحاب الفكر الذى صار دينا ، فتأويل المعتزلة تأويل عقلى ، بينما التأويل الاخر يحتاج الى مرجعية دينية تسنده وتدفع عنه احتمال النقاش وتقيه شر الأنتقاد. وطالما خرج من دائرة الفكر البشرى وارتفع الى سدة الوحى اللآهى فان مناقشته هى على الأقل بلبلة للعقائد حيث لا تصمد تلك الروايات المفتراة الى أمام أى نقد عقلى ، وحيث تهتز تلك العقائد " وتتبلبل " حين تتعرض لأى ريح ناقدة ، لذلك يجرى دائما حمايتها داخل" صوبات" محوطة بالتهديد والوعيد لكى تقيها شر النقاش اذ لا يمكن أن تصمد بنفسها ويقتنع بها أى مجتمع الا بالقوة وغسيل المخ ومصادرة الأفكار الأخرى. ولذلك يقترن شيوع هذه المذاهب وسيطرتها على مجتمع ما باستنادها الى قوة تقوم باضطهاد وارهاب المخالفين لها وفرضها عليهم بالقوة على أساس أنها الدين الاسلامى الواجب اتباعه ، متناسين القيمة الاسلامية العليا وهى انه لا اكراه فى الدين.أى لا اكراه فى الاسلام نفسه فكيف بفكر بشرى يناقض الاسلام ؟.
2- وبعد هذا الفارق بين المعتزلة وغيرهم نعطى لمحة عن تأويل المعتزلة .
فقد انصب تأويلهم اساسا على الايات القرآنية التى تتحدث عن ذات الله تعالى وصفاته وافعاله والمشيئة والقضاء والقدر . وفى تأويلهم للايات القرآنية حاولوا تنزية صفات الله تعالى من الاتصاف بصفات المخلوقات فاذا كان الله تعالى يقول ( يد الله فوق ايديهم : الفتح 10 ) قالوا ان تأويل اليد هنا يعنى القوة وان قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى : طه 5) لا يعنى الجلوس على العرش وانما يعنى الهيمنة والسيطرة وتمام التحكم فى الملكوت . وفى الايات التى تتحدث عن القضاء والقدر والمشيئة اولوها فى ضوء حرية البشر فى الفعل وفى الترك وان الانسان مخير وليس مسيرا .
وكان المعتزله اقرب الى الفهم الصحيح لهذه الايات لولا بعض الاخطاء .
واخطاء المعتزله يمكن ارجاعها كلها الى سبب اساسى ، هو انهم دخلوا على القرآن الكريم بمصطلحات عصرهم وبأدوات الفكر الاغريقى ، ومن خلال هذه المصطلحات والادوات لم يتيسر لهم الفهم الواعى للقرآن فآخذوا من الايات ما يناسب رأيهم المسبق وما لا يوافق رأيهم قاموا بتطويعه وتأويله ، واكدوا ذلك الدليل المنقول المؤول بدليل عقلى منطقى ...
ونضرب امثلة للتوضيح .
فالمعتزلة اجهدوا انفسهم للاستدلال على وجود الله عز وجل وسط مجتمع يؤمن بالله سواء كان الناس مسلمين او اهل كتاب ، هذا مع ان القرآن الكريم لم يحاول مطلقا ان اثبات وجود الله تعالى ، بل جاء بأدلة عقلية تثبت انه لا اله الا الله ، واقرأ مثلا قوله تعالى ( لو كان فيهما الهة الا الله لفسدتا : الانبياء 22) وقوله تعالى ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله ، اذا لذهب كل اله بما خلق ، ولعلا بعضهم على بعض : المؤمنون 91)
ولانهم جعلوا الفكراليونانى مرجعية عقلية معتمدة لديهم فقد اخذوا عنه ايضا وصف الله تعالى بأنه( قديم ) وهو وصف لا يتفق وتنزيه الله تعالى ، لان وصف القديم يعنى وجود من هو اقدم منه ، وطالما كانوا يحتكمون للعقل فان الله تعالى هو الاحق بالحديث عن ذاته وصفاته . وقد وصف تعالى ذاته فى القرآن بانه ( الاول ) وهذا الوصف هو الأولى عقلا لأن الأول لا يسبقه غيره فى الوجود، لذا كان الأولى بالمعتزلة ان يتبعوا القرآن لا اليونان فى الحديث عن صفات الله تعالى .
وحتى فى تأويلهم فى الايات التى يفيد ظاهرها التشابة بين الله تعالى ومخلوقاته مثل ( الرحمن على العرش استوى ) فانهم أغفلوا المنهج القرآنى بسبب اتباعهم للمنهج الفلسفى اليونانى .فالمنهج القرآنى هو ان تفهم القرآن الكريم بالقرآن ، فالله تعالى هو كما وصف ذاته ( ليس كمثله شىء: الشورى 11) ـ وهى آية محكمة فى هذا السياق ـ اذا فكل اية فى القرآن الكريم يفيد ظاهرها تشابها بين الله ومخلوقاته لابد ان يكون ذلك على سبيل المجاز وليس الحقيقة .
واللغة العربية التى نزل بها القرآن فيها الاسلوب التقريرى الحقيقى القاطع وفيها الاسلوب المجازى الذى يحتوى على الاستعارة والكناية والتشبية . وكما يستعمل القرآن الاسلوب التقريرى القاطع المحدد فى آيات التشريع مثلا فانه يتبع الاسلوب المجازى التصويرى فى الحديث عن الغيبيات التى تخرج عن نطاق الخبرة البشرية ، ولكن بعد ان يقرر بأسلوب قاطع الحقيقة الكلية فى آية محكمة، ومنها هنا فيما يخص ذات الله تعالى أنه جل وعلا ليس كمثله شيء، وكل ماعداه أشياء هو تعالى الذى شيأها أى جعلها أشياء ونحن من ضمن هذه الأشياء.
والباحث المسلم الملتزم بالمنهج القرآنى يبدأ بالتعرف على الآية المحكمة فى سياق موضوعه ثم يفهم من خلالها الآيات المتشابهات التى تفصل الموضوع وتقربه للناس فى أسلوب يناسب مداركهم .على سبيل المثال فان الله تعالىأكد انه ليس مثله شىء من كل المخلوقات ، وأكد ان صفات الخلق من التوالد والأب والابن والزوجية لا تسرى عليه فهو تعالى الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فى ضوء هذا الاحكام القاطع نفهم أن ما يأتى من وصف لله تعالى ليس الا طريقة للتفهيم تستعمل اسلوب المجاز.
أكثر من ذلك فالقرآن يفسر نفسه بنفسه ، يقول تعالى : " ولا يأتونك بمثل الا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " الفرقان 33" ولهذا فان الآيات المتشابهات يأتى أحيانها فى سياقها ما يوضح المراد بحيث يكتفى الباحث المسلم بتتبع السياق او تدبره . وعلى سبيل المثال لو قرأ المعتزلة الآيات التالية مباشرة لقوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) لوجدوا الآيات التالية تحدد المعنى المقصود بالاستواء على العرش وهو تمام التحكم فى الملكوت ،يقول تعالى يشرح الاستواء على العرش ( له ما فى السماوات وما فى الارض وما بينهما وما تحت الثرى ، وان تجهر بالقول فانه يعلم السر واخفى ، الله لا اله الا هو له الاسماء الحسنى ) :طه 5 ،6"
لمدة قرون اختلف الحنابلة والمعتزلة وغيرهم حول معنى الاستواء ، ولا يزال هذا الاختلاف قائما حتى الآن اذ تتمسك الوهابية بتأويلها الذى لا يليق بجلال الله تعالى والذى يشى بتشابهه مع البشر. كما ان المعتزلة اضاعوا جهدهم سدى فى فرض تأويلهم الأغريقى على القرآن دون تدبر القرآن وحده وذاته.
وأكد الله تعالى أن الجنة فى الاخرة لا يمكن ان نعلم عنها شيئا ( فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة أعين : السجدة 17) وهى آية محكمة فى سياقها، ولذلك تخضع لها كل الآيات التى تتحدث عن نعيم الجنة بلغة مجازية وبطريقة تقرب المعنى المراد الى المستمع العربى وقت نزول القرآن والى أى قارىء للذكر الحكيم .
فى اسلوب المجاز يقول تعالى عن نعيم الجنة مستعملا اسلوب التشبيه المجازى :" مثل الجنة التى وعد المتقون فيها أنهارمن ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات : محمد 15" هنا يضرب رب العزة مثلا بالتشبيه لتقريب المعنى المراد، وليس لتقرير حقيقة نعيم الجنة الذى يعلو على أفهامنا وعقولنا.
وظيفة اسلوب التشبيه هو تقريب المعنى وليس الاتيان به على حقيقته، فعندما تقول :" هذه الفتاة كالقمر" فانك تؤكد ليس فقط على جمالها الذى يشبه جمال القمر ولكنك تؤكد ايضا انه لا يمكن ان تكون الفتاة هى عينها ذلك الكوكب القمرى التابع للارض، والا كانت حالتلك العقلية فى مشكلة حقيقية. تقع فى نفس المشكلة اذا توهمت ان الماء واللبن والخمر والعسل فى الآية الكريمة عن أنهار الجنة هى نفس ما نعرفه فى حياتنا الأرضية ، خصوصا وأن الآية الكريمة لم تكتف فقط بالبدء بالتمثيل " مثل الجنة " وانما أضافت خصائص لتلك الأشياء لا نعرفها فى كوكبنا الأرضى ،فماؤنا يأسن واللبن لدينا يتغير طعمه والخمر عند من يعرفها ـ ولست منهم بحمد الله تعالى ـ ليست حلوة الطعم بحيث تكون لذة للشاربين ، والعسل عندنا لا يمكن أن يأتى فى بدايته مصفى نقيا.
ولنفترض اننا نستطيع ان نتحادث مع جنين فى بطن أمه وكل ما يعرفه من الطعام هو ما يأتيه من غذاء عبرالحبل السرى مخلوطا بالدم وغيره. لو وصفنا له طعامنا لاضطررنا أن نشبهه له بالدم حتى يستطيع أن يتخيل مالا يستطيع ادراكه.
ولماذا نذهب بعيدا؟؟
ان كل ما نعرفه ونتذوقه لاتستطيع لغتنا البشرية التعبير عنه أووصفه بدقة فى اسلوب تقريرى محكم جامع مانع. نعرف الفرق بين طعم الاسمك واللحوم ونستطيع ونحن مغمضوا الأعين أن نفرق بين طعم اللوبيا والبازلاء وأن نتعرف على الفوارق الدقيقة فى الطعم بين أجزاء اللحوم والدواجن ، لكن لا نستطيع أن نعبر بدقة عن الطعم الذى نحس به. لا يستطيع بشر أن يصف بدقة نشوته الجنسية او شعوره بالسرور حين يستمتع بلوحة مرسومة أو بلحن موسيقى يطير به الى عنان السماء. أفذاذ الأدباء يلجأون لأساليب المجاز – فى كل اللغات لدرء هذا النقص . افتح أى قاموس ستجد الكلمة الواحدة لها العديد من المعانى لأن لدى البشرالفاظا قليلة لا تستطيع أن تعبرعن كل الأحاسيس والمعانى التى تتوالد وتتغير فى داخل النفس البشرية.
اذا عرفنا هذا عن حياتنا الدنيا فى هذا العالم وكيف لا تستطيغ لغاتنا البشرية أن تعبر عما نحسه وندركه ونتعامل معه فكيف بها فيما لاتعرف ؟ وكيف اذا جاءها وحى علوى يحادثها عن تلك العوالم الغيبية والمستقبلية بتلك الغة البشرية القاصرة العاجزة؟ هنا يكون للمجاز دوره . ولهذا فانك تجد المجاز فى كل لغات العالم ليستر هذا العجز الانسانى ويعالج هذا القصور اللسانى.
والخلاصة ان المعتزلة دخلوا على القرآن الكريم بثقافتهم اليونانية وكان اولى بهم ان يفهموا القرآن بمصطلحات القرآن نفسه ولو فعلوا ذلك لاراحوا المسلمين وانفسهم من شر كبير .
4- الخصومة بين المعتزلة والفقهاء الحنابلة وموقع التأويل فى هذه الخصومة .
وبسبب الانتماء الفكرى للفلسفة الاغريقية - او بتعبير عصرنا الى الثقافة الغربية - فقد اشتعلت الخصومة الفكرية بين المعتزلة والفقهاء واصحاب ما يسمى بعلم الحديث الذين يمثلون الثقافة المحلية ويتعصبون لها ، او الذين عرفوا فيما بعد بالحنابلة او السلفية .
وبدأت معركة بين الطرفين فى موضوع خلق القرآن الكريم الذى اضطهد بسببه احمد ابن حنبل منذ اواخر خلافة الخليفة المأمون سنة 218 هــ
كان الخليفة المأمون متأثرا بالفكر الاغريقى ، وهو الذى انشأ دار الحكمة وشجع الترجمة عن اليونانية . ولذلك اصبح للمعتزلة شأن كبير فى عهده ، واستثمر المعتزلة هذا النفوذ فى ارغام خصومهم الفقهاء واصحاب الحديث على قبول وجهة نظرهم فى خلق القرآن واضطر كثير منهم للاذعان ، وصمم على الرفض احمد ابن حنبل ومحمد ابن نوح فأذاقتهما السلطة العباسية العذاب ، الى ان تولى المتوكل الخلافة واضطرته الظروف السياسية الى التقرب للشارع وقد وقع تحت سيطرة الفقهاء وائمة المساجد وتحالف مع اصحاب الحديث والفقهاء ليستعين بهم ضد مراكز القوى السابقة من العصبيات العربية والقواد الفرس .
والجدير بالذكر ان المتوكل قد ألغى تجنيد العرب والفرس ، واعتمد على شراء المماليك الاتراك بدلا عنهم ، وكان لابد لهذا الانقلاب الخطير الذى قام به من قوة شعبية ودينية تؤيده . ووجدها فى فقهاء الشوارع ، وعن طريق هذا التحالف بينه وبين الفقهاء علا نفوذ المذهب السنى ، واستطاع الفقهاء الحنابلة اضطهاد المخالفين لهم فى الرأى والدين والمذهب ، لذا شهد عهد المتوكل وما تلاه اضطهادا للنصارى واليهود والفلاسفة والشيعة والصوفية وبالطبع ردوا الصاع صاعين للمعتزلة .والعادة أن السياسة اذا تدخلت فى الفكر أفسدته وأفسدت أصحابه .
ونعود الى مشكلة التأويل ونزاع الحنابلة الفقهاء المحدثين مع المعتزلة فى خلق القرآن .
فالمعتزلة بثقافتهم اليونانية استرجعوا نفس القضية القديمة حول الانجيل ، وهل هو قديم مثل الذات الالهية او حادث مخلوق كالبشر ، وهى قضية خلافية فى الفكر المسيحى المشرقى منذ القرن الثالث الميلادى ، ولكن استرجعها المعتزلة فى القرن الثالث الهجرى وداروا بها حول القرآن ، واعتمدوا وجهة النظر العقلانية اليونانية التى ترى ان الكتاب السماوى مخلوق ، واستخدموا نفوذهم السياسى فى ارغام الاخرين على اعتناق فكرهم . وكانت حجتهم فى هذا الرأى هى قوله تعالى ( انا جعلناه قرآنا عربيا : الزخرف 3) اى ان القرآن مجعول اى مخلوق ، وذلك قياسا على قوله تعالى عن خلق آدم وحواء ( وجعل منها زوجها ) اذا فالقرآن مخلوق مثل آدم وحواء . بينما رأى احمد بن حنبل ان القرآن الكريم صفة من صفات الله تعالى اى بتعبيرهم ازلى ولا يكون مخلوقا .
وفى حوار جرى بين الخليفة المتوكل واحمد بن حنبل قال له ابن حنبل ( القرآن كلام الله غير مخلوق لان الله تعالى يقول : "ألا له الخلق والأمر" فجعل فرقا بين الخلق والامر والامر ليس مخلوقا ، لان المخلوق لا يخلق مخلوقا ) أى يرى ابن حنبل أن القرآن باعتباره أوامر الهية علوية تناقض مفهوم الخلق أى المخلوقات.
هى قضية لا ينتهى فيها الجدال لان كل فريق دخل الي القرآن بوجهة نظر مسبقة وبغير ان يفهم مصطلحات القرآن ومستويات الخطاب القرآنى فى الحديث عن القرآن قبل ان يكون قرآنا وحين التنزيل ، وبعد ان اصبح قرآنا مقروءا باللسان العربى . وهو موضوع شرحه يطول ولكن نعطى عنه اشارة سريعة .
فالمعتزلة استشهدوا بقوله تعالى ( انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) وركزوا على هذه الاية لتدعيم وجهة نظرهم بأن القرآن مجعول اى مخلوق ، وتناسوا ان يقرأوا ما بعد الاية وهى قوله تعالى ( وانه فى ام الكتاب لدينا لعلى حكيم : الزخرف 4) فالقرآن الكريم كلام الله تعالى واوامره ونواهية وبلسان الهى لا نعرفه ، وذلك حين كان فى ام الكتاب ، عند الله تعالى ، وبعدها نزل هذا الكتاب الالهى وحمله جبريل فى لغة اخرى ومستوى اخر ، ونقله دفعة واحدة بصفته الكتاب الى قلب خاتم النبيين، وهذا ما حدث ليلة القدر، ثم كانت معانى الكتاب المختزنة فى قلب النبى تنطق ـ فيما بعد وحسب الحوادث ـ قرآنا عربيا فى لسان عربى مبين جعله الله تعالى ميسرا للذكر حتى نتعقله ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر: القمر 17 ) ، ( فأنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا : مريم 97 ) وبغض النظر عن اللسان العربى الذى ينطق به القرآن والذى ننطق به القرآن ، وبغض النظر عن كون هذا اللسان وذلك النطق مخلوقا فان المعانى الاهية ، وهى نفس المعانى والاوامر الالهية فى ام الكتاب وفى اللوح المحفوظ ، وهى نفس المعانى والاوامر والنواهى التى يمكن بها ترجمة القرآن الكريم ,والتى بتطبيقها يمكن النجاة ويكون الفلاح يوم القيامة .
ومن هنا نفهم ان القضية ليست ان القرآن مخلوق او ليس بمخلوق ، وانما قضية اوامر الهية نزلت من غيب السماوات وتم تيسيرها لكى نفهمها ونعقلها ونطبقها ، والقضية الاساسية هى الطاعة لهذه الاوامر وليس البحث فى ما هيتها فى عالم الملكوت الغيبى الخارج عن ادراكنا. فنحن مسئولون عن الطاعة والتطبيق ، وليس عن فهم ماهية القرآن قبل ان يكون قرآنا وكيف نزل وهل هو بصوت او بغيره الى اخر من انشغل به اسلافنا وانهكوا به عقولهم وحياتهم وتخلفوا به عن العالمين – ولا يزال بعضنا على آثارهم يهرعون مختلفين ومتخلفين. !!.
5 ـ موضوعات التأويل بين المعتزلة والسنة:
الأهم مما سبق: ان الخلاف الاساسى فى التأويل بين المعتزلة وبين اهل السنة تركز فى موضوعات التأويل ، والمسموح او الممنوع من تأويله .
وعلى حسب الاصول التراثية فان فى القرآن سمعيات اى غيبيات وعقائد مطلوب الايمان بها مثل ذات الله تعالى وصفاته واليوم الاخر وما قيل فيه وعوالم الجن والملائكة والشياطين ، ثم فى القرآن الكريم "فروع " بعد تلك الاصول الاعتقادية وهى تشمل التشريعات.
وقد اختلف الموقف بين المعتزلة واهل السنة فى التأويل فى هذه الموضوعات .
فالمعتزلة انصب تأويلهم على السمعيات خصوصا فيما تعلق منها بذات الله وصفاته وكان غرضهم نبيلا ، وهو تنزيه الله تعالى مما قد يفهم منه اتصاف الله تعالى بصفات مخلوقاته ، ولذلك فهموا ان الاية تتحدث بالمجاز والتشيبة والاستعارة حين قال (يد الله فوق ايديهم ) فهنا تعنى القدرة والقوة ، وحين قال ( تجرى بأعيينا : القمر 14) –عن سفينة نوح – اى تسير بقدرتنا ورعايتنا ، وحين يقول عن موسى ( ولتصنع على عينى : طه 29) اى رعايتى .
ولم يدخل المعتزلة فى خطيئة تأويل الفروع اى التشريعات رحمهم الله تعالى وغفر لهم. اذ كانوا على صواب فى ذلك فالتشريعات القرآنية جاءت باسلوب تقريرى قاطع وحاسم ومستقيم لا يدع مجالا للاختلاف أو التأويل.
اما اهل السنة فقد وق"احد" هنا وصفا لله تعالى وحده, و يتناقض المعنى لنفس الكلمة حين تأتى وصفا للناس فى نفس السورة"ولم يكن له كفوا أحد"
ـ وفى اللغة العربية هناك درجات للتعريف اقواها المتكلم ـ انا و نحن ـ .,ثم يليها المخاطب { ـ انت و انتم ـ }ثم يكون الغائب اقلها في التعريف ـ {هوو هى ..الخ }. المراد هنا انه يجوز ان يوصف شخص ما بأنه غائب ، وتلك العادة حين يتحدث الناس عن شخص فى غيبته. ولكن هل يصح أن يوصف الله تعالى بالغياب ؟
فى عقيدة الأسلام لا يصح وصف الله تعالى بالغياب لأنه القائم على كل نفس بما كسبت وهو القيوم على كل شيىء. وهنا يأتى استعمال "هو" فى الحديث عن رب العزة بما يناقض معنى الغيبة وبما يؤكد معنى الحضوركقوله تعالى" وهو معكم اينما كنتم: المجادلة 7". اذن هى نفس الكلمة ولكن بمعنى مناقض لمعناها المألوف حين تستعمل فى الحديث عن الله تعالى . والسبب دائما هو فى قصور لغة البشر عن التعبير عما يليق بجلال الله تعالى وقصورها عن التعبير عن عالم الملكوت وعالم الغيب الذى لم يعرفه البشر بعد وليست لهم به خبرة تنعكس على استعمالهم اللغوى.
كان على المعتزلة و اهل السنة معا ان يفهموا القرآن بالقرآن, وهو التدبر أو تلك الفريضة المنسية والتى تعنى ان تسيرـ مخلصا طالبا للهداية ـ دبر الآية القرآنية او خلفها تتبع معناها وتتعقله فى كل القرآن. وهو المنهج العلمى الموضوعى المأمور به فى القرآن وقدغفل عنه السابقون من السنة والمعتزلة وغيرهم.
ولم يكتف اهل السنة بخطيئة رفض الاسلوب المجازى فى القرآن الكريم وهو الواجب اتباعه، وانما اضافوا اليها خطيئة كبرىأخرى وهو استعمال التأويل فى الممنوع ، وهو تحريف معانى النصوص القرآنية التشريعية الواضحة الساطعة التى لا تحتاج الى تأويل. ولانها لا تحتاج فى وضوحها الى تأويل ، اذ لا اجتهاد مع وجود نص – كما يقولون – فأنهم استعملوا لافتات اخرى غير التأويل اى حرفوا تشريع القرآن تحت عناوين بريئة أو تبدو بريئة.
وندخل بعد ذلك على تأويل اهل السنة بمعنى تحريفهم لتشريع القرآن الذى اسندوه للنبى وجعلوا له مرجعية زائفة ومصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان .