أولا : يقول رب العزة جل وعلا : ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) الحشر ) فى تدبر الآيتين الكريمتين نقول : 1 ـ الآيتان مرتبطتان بما قبلهما ، يقول رب العزة جل وعلا ( أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)الحشر) ، والواضح أن رب العزة يتحدث عن وعد من المنافقين بنُصرة اليهود المعتدين ، وقد نبّأ رب العزة مقدما أن المنافقين لن يفوا بالوعد . ثم يأتى ضرب المثل لهما بحالة مماثلة حدثت قريبا ، يقول جل وعلا : ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15).الحشر ). وهنا إشارة لهزيمة قريش فى موقعة بدر ، يقول جل وعلا للمؤمنين يحذرهم ويعظهم بعد إنتصارهم فى ( بدر ) : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) الانفال ) . الشيطان زين لقريش أعمالها ، وحرضهم على القتال والخروج بطرا وفخرا وعُنجهية ، فلما تراءى الفريقان للقتال رأى الشيطان الملائكة التى تؤازر قلوب المؤمنين ، عندها نكص على عقيبه وهرب بعد أن أدى مهمته فى إغواء قريش . ثم ضرب الله جل وعلا مثلا آخر ، يقول فيه رب العزة :( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) الحشر ). وهذا المثل سيأتى تحقيقه يوم القيامة والشيطان مع ( الانسان). ومصطلح ( الانسان ) فى القرآن يعنى البشر الضالين ، والذين سيكون مصيرهم فى النار ، وبعد أن أغواهم الشيطان فى الدنيا سيتبرأ منهم وهو معهم فى النار ، يقول جل وعلا عن هذا الموقف : (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) ابراهيم ) 2 ـ هذا هو التدبر القرآنى والتفسير القرآنى لقول رب العزة جل وعلا :( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) الحشر). ثانيا : فماذا عن هجص القرطبى ؟
( قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ} هذا ضرب مثل للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم. وحذف حرف العطف، ولم يقل: وكمثل الشيطان، لان حذف حرف العطف كثير كما تقول: أنت عاقل أنت كريم أنت عالم. وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر، راهب تركت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها، فزين له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفا أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم، فسجد له فتبرأ منه فأسلمه. ذكره القاضي إسماعيل وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة الزرقي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذكر خبره مطولا ابن عباس ووهب بن منبه. ولفظهما مختلف. قال ابن عباس في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطانِ}: كان راهب في الفترة يقال له: برصيصا، قد تعبد في صومعته سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين، حتى أعيا إبليس، فجمع إبليس مردة الشياطين فقال: ألا أجد منكم من يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء، وهو الذي قصد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي، فجاء جبريل فدخل بينهما، ثم دفعه بيده حتى وقع بأقصى الهند فذلك قوله تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] فقال: أنا أكفيكه، فانطلق فتزيا بزي الرهبان، وحلق وسط رأسه حتى أتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل من صلاته إلا في كل عشرة أيام يوما، ولا يفطر إلا في كل عشره أيام، وكان يواصل العشرة الأيام والعشرين والأكثر، فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا من صلاته، رأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فندم حين لم يجبه، فقال: ما حاجتك؟ فقال: أن أكون معك، فأتأدب بأدبك، وأقتبس من عملك، ونجتمع على العبادة، فقال: إني في شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض أيضا على الصلاة، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده وعبادته قال له: ما حاجتك؟ فقال: أن تأذن لي فارتفع إليك. فأذن له فأقام الأبيض معه حولا لا يفطر إلا في كل أربعين يوما يوما واحدا، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما، وربما مد إلى الثمانين، فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه. ثم قال الأبيض: عندي دعوات يشفي الله بها السقيم والمبتلي والمجنون، فعلمه إياها. ثم جاء إلى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل. ثم تعرض لرجل فخنقه، ثم قال لأهله- وقد تصور في صورة الآدميين-: إن بصاحبكم جنونا أفأطبه؟ قالوا نعم. فقال: لا أقوى على جنيته، ولكن اذهبوا به إلى برصيصا، فإن عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، فجاءوه فدعا بتلك الدعوات، فذهب عنه الشيطان. ثم جعل الأبيض يفعل بالناس ذلك ويرشدهم إلى برصيصا فيعافون. فانطلق إلى جارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخوة، وكان أبوهم ملكا فمات واستخلف أخاه، وكان عمها ملكا في بني إسرائيل فعذبها وخنقها. ثم جاء إليهم في صورة رجل متطبب ليعالجها فقال: إن شيطانها مارد لا يطاق، ولكن اذهبوا بها إلى برصيصا فدعوها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها فبرئت، فقالوا: لا يجيبنا إلى هذا، قال: فابنوا صومعة في جانب صومعته ثم ضعوها فيها، وقولوا: هي أمانة عندك فاحتسب فيها. فسألوه ذلك فأبى، فبنوا صومعة ووضعوا فيها الجارية، فلما انفتل من صلاته عاين الجارية وما بها من الجمال فأسقط في يده، فجاءها الشيطان فخنقها فانفتل من صلاته ودعا لها فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها. وكان يكشف عنها ويتعرض بها لبرصيصا، ثم جاءه الشيطان فقال: ويحك! واقعها، فما تجد مثلها ثم تتوب بعد ذلك. فلم يزل به حتى واقعها فحملت وظهر حملها. فقال له الشيطان: ويحك! قد افتضحت. فهل لك أن تقتلها ثم تتوب فلا تفتضح، فإن جاءوك وسألوك فقل جاءها شيطانها فذهب بها. فقتلها برصيصا ودفنها ليلا، فأخذ الشيطان طرف ثوبها حتى بقي خارجا من التراب، ورجع برصيصا إلى صلاته. ثم جاء الشيطان إلى إخوتها في المنام فقال: إن برصيصا فعل بأختكم كذا وكذا، وقتلها ودفنها في جبل كذا وكذا، فاستعظموا ذلك وقالوا لبرصيصا: ما فعلت أختنا؟ فقال: ذهب بها شيطانها، فصدقوه وانصرفوا. ثم جاءهم الشيطان في المنام وقال: إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف ردائها خارج من التراب، فانطلقوا فوجدوها، فهدموا صومعته وأنزلوه وخنقوه، وحملوه إلى الملك فأقر على نفسه فأمر بقتله. فلما صلب قال الشيطان: أتعرفني؟ قال لا والله قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، أما اتقيت الله أما استحيت وأنت أعبد بني إسرائيل ثم لم يكفك صنيعك حتى فضحت نفسك، وأقررت عليها وفضحت أشباهك من الناس فان مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك بعدك. فقال: كيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة وأنجيك منهم وآخذ بأعينهم. قال: وما ذاك؟ قال تسجد لي سجدة واحدة، فقال: أنا أفعل، فسجد له من دون الله. فقال: يا برصيصا، هذا أردت منك، كان عاقبة أمرك أن كفرت بربك، إني برئ منك، إني أخاف الله رب العالمين. أخيرا: تحليل هجص القرطبى : أترك للأحبة هذا التحليل ليتدربوا على بحث الهجص التراثى فيما يسمونه بالتفسير . وتيسيرا عليهم أُعطى خطوطه العريضة فى هجص القرطبى السابق ، وهو : 1 ـ متاهات االإعراب ( النحوى ) فى الآيات ، 2 ـ اساطير وخرافات يجعلونها دينا بنسبتها للرسول عليه السلام كذبا وزورا . 3 ـ التشكيك فى كتابة القرآن المحفوظ من لدن رب العزة جل وعلا . 4 ـ الاختلافات فيما بينهم فى كل ما سبق .!!. |