أكذوبة فضائل السور

سامح عسكر في السبت ٠٩ - يوليو - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

قلب القرآن يس، الرحمن عروس القرآن، سورة تبارك الذي بيده الملك تُنجي صاحبها من عذاب القبر، سورة الواقعة تُنجي صاحبها من عذاب يوم القيامة، قراءة سورة الكهف عصمة من يأجوج ومأجوج، سورة الدخان تنجي صاحبها من أهوال يوم القيامة، سورة الفاتحة تمنع غضب الله، الشيطان ينفر من سورة البقرة، إسم الله الأعظم في سورة آل عمران، شيبتني هود وأخواتها، النبي لا ينام قبل أن يقرأ سورة الإسراء، سورة الكافرون ربع القرآن، سورة الإخلاص ثلث القرآن، من قرأ سورة الحشر وكّل الله له سبعون ألف مَلَك..

وهكذا فلكل سورة فضل على أخرى حتى إذا أحصيت القرآن كله تجد لكل سورة فضل مخصوص، وإذا أمعنا النظر في هذه الدعوى سنجد أنه تقرير بنقص كلام الله وقصوره، فمثلا عندما يُقال أن سورة الدخان تنجي من عذاب يوم القيامة فهذا يعني أن سائر السور الأخرى أقل فضلا ومنزلة، فإذا قلنا أن عدد السور 114 سورة فهذا يعني أن 113 سورة قرآنية لا تهتم بيوم القيامة أو هي أقل اهتمام..وهكذا..مع أن القرآن كله جاء بالوعد والوعيد بهذا اليوم.

سيقول قائل ولكن ليس المقصود نفي فضائل السور الأخرى، والجواب :أن تقرير فضائل السور هو (منطق تفاضل) وليس (منطق تكامل) فهذا لا ينطبق مثلا على البشر الذي إذا قلنا على أحدهم أنه .."شخص كريم"..لا يعني نفي صفة الكرم عن الآخرين، ولكن لأنه تميز بهذا الخلق استحقها عن جدارة، والسبب أن هذا يُقال لشخص حقيقي أو اعتباري تبعاً لدوره ووظيفته في الحياه، أما القرآن فليس شخصا حقيقيا ولا اعتباريا ..هذا كلام الله..قديم أو حديث هذا شأن آخر، أي أن دور القرآن ووظيفته في الحياه إرشادي وتوجيهي فقط وليس مسئول عن أفعال البشر..يعني في الأخير هو (قيمة) وليس (فعل) أي لا يقال أن القرآن فَعَلَ أو قرر..لأن الفعل والتقرير صفة للفاعل وليست للقيمة..

كلها دعاوى ظهرت بقصد الترغيب في قراءة القرآن في زمن شاعت فيه الأحاديث وأقوال الأئمة على كتاب الله، فانبرى (المُحسنون) لعلاج هذه الظاهرة بالترغيب في قراءة القرآن..وهي بيئة صناعة الأحاديث بشكلٍ عام، أي أن الأحاديث كلها تاريخية تخص ظروف معينة، بمعنى آخر (بنت زمانها) وشيوع فضائل السور كان لهذا الظرف التاريخي، أي وارد أن يتغير الحال ويتجه الناس لقراءة القرآن وقتها لن يكون لفضائل السور أي معنى..لأن الناس وقتها سيتجهون للقراءة (كهدف) لتحصيل الثواب والحسنات..وليست (كوسيلة) للتدبر والفهم..وهذا ما يحدث الآن في زماننا المعاصر كنتيجة غابت على صناع تلك الأحاديث وظنوا أنهم يُحسنون صنعا..

حقيقة توضح كيف نشأت تلك الدعاوى كرونولوجيا..أي بالخط الزمني يمكننا معرفة كيف نشأت أو ظهرت هذه الأحاديث التي ميزت سور القرآن عن بعضها، وهي بكل الأحوال لن تكون في القرن الأول الهجري والسبب أن نفوذ القرآن كان لا يزال باقيا في ذلك العهد..ويمكن إضافة نصف القرن الثاني حيث كان لا يزال نفوذ أهل الرأي شائعا..وهو نفوذ ضد فكرة تقديم الحديث وجعله حَكَم على القرآن التي هي معنى القول بفضائل السور.

بعد انقضاء النصف الأول من القرن الثاني ظهرت سلطة أهل الحديث على استحياء في زمان الإمام مالك، واتجاه تلاميذ أبي حنيفة للتحديث والانشغال بالرواية..إلى أن جاء الشافعي المعروف بنقطة الانتقال إلى (تقديس الحديث) وجعله مصدرا للتشريع..وقتها انشغل الناس بالحديث وشاعت الروايات حتى أصبحت مصدر رزق هام، وبعد أن كانت وظيفة القصّاصّين أقرب ما تكون للاجتماع والتسلية أصبحت وظيفة مقدسة وأقوالهم مصدر تشريع، حينها أهمل الناس القرآن واتجهوا لهذا النوع من العلم.

إن المُخيّلة التي سيطرت على أذهان واضعي أحاديث فضائل السور كانت ترى أن المجتمع في خطر لإهماله القرآن، إضافة لتأثرهم بالبيئة المحلية التي شاع فيها (التدين الشكلي) وهو نوع من التدين يهتم بالقول والشكل لا بالعمل والمضمون، وقراءة القرآن هي (أقوال) لا أفعال..لذلك كانت لأحاديث فضائل السور قبول شعبي كونها ارتبطت بثقافة المجتمع (الشكلية) وفي تقديري أنها لو ظهرت في بيئة متحضرة وعملية وعاقلة ما كان لها أن تنتشر أو تصلنا أخبارها في القرن الحادي والعشرين..

كذلك تأثرت هذه المُخيّلة بصورة الإله البشرية التي تدقق وتهتم بالصغائر، وهي الصورة التي أنتجت بعد ذلك فرية كسب الحسنات من القراءة..والقاعدة الشهيرة.."لا أقول ألــــم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف"..يعني تصوير دقيق لأهمية القراءة وإحصاء الحروف وعدها من الحسنات، وهذه مُخيّلة لم ترَ في حياتها إلها (كونيا كاملا) منزه عن صفات وطبائع البشر، فالله الذي خلق الأرض يهمه إصلاحها، والقراءة المجردة ليست من الإصلاح لأنها في الأخير (قول بلا عمل) كذلك فالعقل المجرد يقول أن الله خالق السماوات والأرض لا يهتم بتقديم الرِجل اليسرى عن اليمنى وقت دخول الخلاء..ولا يهمه وضعية النوم ولا حتى شكل وبياض ثيابك..لأنها في العموم شكليات تخص أصحابها وطبيعتهم الجُسمانية.

وغاية ما نادى به القرآن لإصلاح الأرض هو (العمل) فتكرر لفظ (اعملوا) لبيان أهمية الفعل، كذلك لفظي (عملوا الصالحات) و (عمل صالحا) للفرد والجماعة، حتى عندما تعرض لأهمية القول ذكر.."قولوا للناس حُسنا"..ولم يذكر.."قولو لأنفسكم حُسنا"..والفرق أن القول للناس هو في الأخير (عمل) مقصود به الإصلاح والانتقال من دائرة الذات إلى دائرة الغير، والحض على معاملة الناس بطريقة حسنة.

أما طريقة كسب الحسنات من مجرد القول مع النفس والذات فهي أكذوبة كبيرة دخلت كل الأديان وعرفت (بالتمائم والتعاويذ) أو ما عرفت في الثقافة الإسلامية (بالرُقية الشرعية) أي أن ثقافة التمائم والتعاويذ والرقية الشرعية هي المسيطرة على صناع أكاذيب فضائل السور، وقد انتقلت آليا إلى المجتمع حتى أصبح ثواب قراءة سورة في القرآن أعظم من إحياء نفس أو نُصرة مظلوم، وهو ما تسبب في شيوع الظلم والسذاجة والغباء في مجتمعات المسلمين..

وإليكم هذا المثال:

سورة التوبة عدد حروفها 10 آلاف 800 حرف ، أي بمجرد قراءة سورة التوبة تكون قد حصلت على أكثر من 10 آلاف حسنة، فإذا ضربنا الحسنة في عشر أمثالها يكون لدينا أكثر من 100 ألف حسنة، ومثال السنابل في القرآن يجعل الثواب مضاعف سبع مرات فيكون لدينا 700 ألف حسنة..هذا فقط بقراءة سورة التوبة..فما هو ياتُرى ثواب نصرة المظلوم أو إحياء النفس؟!..أعطونا رقم لنتخيل كما أعطيتمونا هذه الأرقام..ليس هذا فقط بل وبقاعدة.."الحسنة تُذهِب السيئة"..يكون قارئ سورة التوبة لديه فرصة تكفير 700 ألف سيئة وإسقاطها من عليه فورا، فما هو الذنب التي يرتكبه ويكسب به 700 ألف سيئة؟..هذا بالتأكيد ذنب عظيم بل ذنوب كثيرة جدا تذهب فورا بمجرد قراءة سورة..ثم يسألون لماذا شاع الظُلم والقتل في مجتمعات المسلمين..!

في نظرية الفوضى الخلاقة يوجد مفهوم.."حركة الفَراشة"..ومعناه أن الفعل مهما كان صغيرا يمكنه تغيير أو هدم العالَم، فحركة الفراشة مثلا لا تؤثر على بعد سنتيمترات..لكن بمئات الفراشات تؤثر في مسافة أبعد، وبآلاف الفراشات تؤثر في مسافة أبعد وأبعد، وبملايين الفراشات يمكنها التأثير في مسافات أبعد وأبعد وأبعد..وهكذا..ليس هذا فقط بل حركة فراشة واحدة لو تم استثمارها يمكنها (كحركة الأمواج) أن تؤثر ولو بعد فترة زمنية..أي بمجرد حركة أو كلمة صغيرة يبقى مدلولها ونتائجها لتُنتج بعد ذلك رد فعل..ثم رد رد الفعل..وهكذا إلى أن يتحقق الهدف من التغيير..وهذا أسلوب متبع من الغرب في إثارة الفتن والقلاقل بين المسلمين ..حتى أن كلمة هجاء واحدة- لها معناها في التراث- يمكنها استدعاء التراث كله وتشتعل على إثرها حرب مذهبية..وما الفتنة الطائفية الحالية بين المسلمين والعرب إلا انعكاس لهذه السياسة..

وهذا يعني أن استدعاء مفهوم.."فضائل السور"..الآن يعود بنا لظروف نشأته في زمن العباسيين وخصوصا العصر العباسي الثاني الذي انتشرت فيه الحروب المذهبية بين السنة والشيعة، وتفكك المسلمين، واستقلال الدول والشعوب والأعراق عن بعضها..وهذا ما يحدث الآن بالحرف..أي أن هذا المفهوم-فضائل السور- هو عارض سياسي في الأخير مرتبط بحالة تدين شكلي وإفراغ الدين من معناه وشيوع تقديس البخاري وأقوال الأئمة والشيوخ على حساب القرآن..الذي في كثير منه معارض لفكرة فضائل سوره عن بعضها أصلاً ، ويأمر فقط بالعمل، وأن صفة القول بلا عمل هي من صفات المنافقين والأمم البائدة..

إن معنى القول بفضائل السور يمكننا تلخيصه في عدة معاني:

الأول: أنه يجعل من القرآن مجرد تمائم وتعاويذ لا كتاب مُحكم أنزله الله ليدبروا ويعملوا بآياته..

الثاني: أنه يُعلي من قيمة القول على حساب العمل..وهو الإعلاء المرافق دوما لحالات الانفصام الشخصية والعُزلة الشعورية..وهي حالات يعاني منها المسلمين الآن بكثرة..

الثالث: أنه يُشعِر المسلم بحالة اكتفاء مزيفة وخادعة فيظن أنه وبمجرد قراءته للقرآن يكون قد كفّر عن سيئاته وأنه مهما ظلم فباب التوبة مفتوح..فيشرع في ارتكاب المعاصي بهدوء واطمئنان، وبفعل عدة عوامل أخرى في التراث يعتقد أن هذه المعاصي هي حسنات في أصلها فينقلب لديه الباطل حق..ونموذج داعش ممثل لهذا العامل الآن بوضوح..

الرابع: أنه يُعلي من شأن الحفظ والتلقين لا الفهم والإدراك، فالقراءة المجردة ترافقها –في الأعم الأغلب-دعوات بالحفظ، فيظن المسلم أن القراءة والحفظ وسيلة للعلم والحكمة وبالتالي النجاه من النار..وقد أدى ذلك إلى أن يُصبح القارئ والحافظ لكتاب الله بين المسلمين في مرتبة عظمى ومنزلة اجتماعية مميزة..حتى لو كان هذا القارئ والحافظ غبي وساذج وسفيه..بل أحياناً يكون سبّاب وشتّام لكن بقراءته وحفظه للقرآن يصبح من أكابر المسلمين وأعلاهم منزلة..

لكن للإنصاف

في الفترة الأخيرة ظهرت دعوات إصلاحية حتى من بين المقلدين أنفسهم تفطنوا إلا زيف معظم هذه الدعاوى واعتمدوا إلى ترجيحات شيوخ السلفية السعودية بضعف أغلب أحاديث فضائل السور، واعترفوا أنها ظهرت في زمان كان فيه القرآن مهملا..وهو اعتراف مشكور على أي حال، لكن لم يكتمل صنيعهم فصححوا أحاديث وفضائل أخرى ظانّين أنهم بذلك قد يُقنعوا أنفسهم بما رفضوه مقدما..!..وهو شئ غريب أن تعترف –لأول مرة- أن أحاديث وروايات -ذات موضوع موحد- كلها ظهرت لأسباب تاريخية..ثم تكسر هذا الاعتراف بإيمانك بصحة أحاديث أخرى في نفس الموضوع إلا أن هذه الأحاديث ذكرت في كتب مقدسة كالبخاري..وهو الانفصام الذي أقصده وأصاب المسلمين..وأن ما نشأ عليه مسلمي القرن الثالث هو ما يحكم المسلمين الآن في عصر التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي..

أخيراً: إن القول بفضائل سور القرآن هو بخس لقيمة العمل في الإسلام، فمن يقرأ مثلا سورتي الواقعة والدخان حسب هذه الفضائل ليس عليه عذاب يوم القيامة، أو تشفع له هذه السور عند الله..وعليه فالسؤال مباشرة: ما قيمة الحساب إذن؟..وما مصير أفعاله في الدنيا؟..وما قيمة أفعاله أصلا والرجل نال الشفاعة بطرق أخرى غير العمل؟!!..ثم ما معنى أن قلب القرآن يس وعروس القرآن الرحمن؟..ما المطلوب؟!..وما معنى القلب والعروس..وهل هذا يعني أن سورة الرحمن أجمل سورة أو يس أعطف وأرق سورة؟!..إن لوازم هذه الأقوال أكثر شناعة من القول نفسه..

ثم لو كانت لهذه السور فضائل على أخرى لماذا تشفع لموضوعها بالذات، يعني لماذا لا تشفع مثلا سورة الملك ليوم القيامة، والدخان لعذاب القبر؟..فإذا قيل أن الشفاعة والفضل لموضوعها فيعني أن كل موضوع لسورة هو فضل في ذاته وربما شفاعة، وبالتالي أصبح قراءة سورة القدر في العشر الأواخر من رمضان له فضل، أو قراءة سورة سبأ في اليمن له فضل، أو قراءة الأحزاب في الذكرى السنوية للغزوة له فضل..وهكذا..القاعدة فاسدة ويتبعها بالكاد نتائج أفسد وأكثر في التفاهة والكذب، وأؤمن يقينا أن لو كان المسلمون في زمن وضع تلك الأحاديث عقلاء لضربوا رواتها بالأحذية..

اجمالي القراءات 8878