بداية أود أن أبين أو أعرف معنى كلمة الطب الاكلينيكى Clinical Medicine.. المعروف أن علم الطب هو العلم الذى يدرس فى ما يصيب الانسان من الامراض من حيث مسبباتها وأعراضها وتشخيصها وعلاجها بمحتلف الوسائل الدوائية والجراحية وخلافه كالعلاج النفسى والطبيعى .. وعلى سبيل المثال عندما يطلب من أستاذ بكلية الطب أن يقوم بالقاء محاضرة على تلاميذه عن مرض مثل الدرن Tuberculosis فانه يذهب الى المدرج وقد أعد مجموعة من الشرائح slides.. عفوا كان ذلك قديما .. وحديثا ومعه فلاشة عليها ملف باور بوينت يعرضها ويشرح للطلبة المرض بدءا من المسبب وهو ميكروب له مواصفات ميكروسكوبية خاصة ثم يشرح وسائل العدوى ثم كيف يتعامل الجسم البشرى مع الميكروب بعد العدوى من الناحية المناعية .. ما يسمى pathogenesis ثم يشرح الصورة الباثولوجية وهى الصفة التشريحية للعضو (الاعضاء) المصاب ووصفه ظاهريا وميكروسكوبيا ثم الصورة الاكلينيكية وهى الأعراض التى يشكو منها المريض symptomsوالشواهدsignsالتى يكتشفها الطبيب بالفحص السريرى. أما الوسائل التى يتبعها الطبيب للوسول الى هذه الشواهد فهى تبدأ بالمشاهدة inspection والاحساس باليد palpationوالنقر بالاصبع percussionثم الاستماع بالسماعة auscultation... وبعد ذلك يقوم بشرح الوسائل الوسائل البحثية التشخيصية التى تساعد فى الوصول الى التشخيص من معملية وتصورية شاملا الاشعة والموجات الصوتية والمقطعية والرنين المغناطيسى وتسمى فى المجموع investigations.. ويلى ذلك ال prognosis وهو المتوقع لمصير الحالة يعنى نسبة الشفاء ومعدل الوفاة mortalitymorbidity andفى مراحل المرض المختلفة ثم يستعرض وسائل العلاج المختلفة دوائيا وجراحيا .. وبهذا يكونالأستاذ قد غطى كل ما يجب معرفته عن المرض فى هذه المحاضرة فى علم الطب...
أما الطب الاكلينيكى فهو يمكن تشيههه بالجسر الذى يصل بين كلمتين قد يبدو انهما يحملان نفس المعنى وهما disease(مرض) فى ناحية و illness (سقم) فى الناحية الاخرى .. وقد ترجمتها سقم وهو ترجمة مطروحة لجهابذة اللغة للتصمحيص.. ودعونا نبقى فى نفس المثال وهو الدرن فمريض الدرن لا يأتى الى الطبيب ويقول له يا دكتور أنا عندى درن وانما يأتى اليه شاكيا من أعراض كارتفاع الحرارة والعرق الشديد وفقدان الشهية والوزن والسعال الذى قد يكون مدمما .. وهتا يقوم الطبيب باسجواب المريض history takingأى يسأله أسئلة متعلقة بتفاصيل التاريح المرضى والعائلى ويقوم بالفحص السريرى كما شرحنا بالتفصيل ليكتشف الشواهد الدالة على التشحيص signs وهنا يصل الى الاحتمال الاول للتشخيص والاحتمالات الاخرى ..ما يسمى differential diagnosis ويقترح الابحاث اللازمة لتاكيد التشخيص .. هذا هو الطب الاكلينيكى وأرجو أن أكون قد وفقت فى التوضيح..
وقد عرفت البشرية الأمراض منذ بدايتها وشكلت لغزا صعب التفسير على عقل الانسان الأول اذ كيف يكون الشخص سليما وفى صحة جيدة وفجأة يسقط صريعا يعانى ويقضى فترة المرض التى يتبعها اما أن يشفى ويعود الى صحته natural cure أو أن يدركه الموت وكان الحل الوحيد لهذا اللغز من وجهة نظر الانسان الأول أن هذه الأمراض شىء من فوق الطبيعة supernatural ومع نشأة فكرة الدين أوعزالانسان حدوث المرض الى الالهة أى أن الالهة هى التى تصيب انسانا ما بهذا المرض ويكون بالطبع عقابا له على مخالفة ارتكبها .. ويكون من السهل التعرف على المخالفة حيث لا يوجد على الارض انسان لم يرتكب مخلفات حتى من باب انه خاطب أمه بأسلوب غير لائق فأصابته الحمى أو أنه بدأ الطعام دون أو يسمى فأصابه القىء والاسهال. وبناء عليه كان الذين يمارسون مهنة (الطب) هم الكهنة ورجال الدين الذين يقومون بالصلوات واطلاق البخور وعمل التعاويذ الطاردة للأرواح الشريرة فاذا شفى المريض natural cure تكون الالهة قد قبلت القرابين وعفت عن المريض أما اذا مات المريض اذن فتكون الالهة قد قررت القصاص (العادل).
وللأسف لا يزال هذا التخلف موجودا وللأسف أنه ينسب الى رسول الله عليه الصلاة والسلام فيما يسمى الطب النبوى والنبى منه برىء.. ولهذا حديث اخر.
وظل الحال كما هو عليه الى أن جاء جالينوس الفيلسوف والطبيب الاغريقى (Galen 129 – 200 م) الذى سجل ملاحظات على المرضى ووصل الى استتنتاج أنه ليس كل الأمراض فوق الطبيعة supernaturalكالأمراض المعدية مثلا واقترح نظرية فلسفية أكثر منها واقعية مؤداها ن الامراض شىء عام فى الجسم (لا علاقة له بالأعضاء) ينشأ عن اختلال فى سوائل الجسم أو الأخلاط الأربعة التي تقرِّر صحة الإنسان ومزاجه - الدم والبلغم والصفراء والسّوداء وأطلق عليها humoral theory وأنه اذا اسنطاع الطبيب اعادة التوازن الى هذه السوائل يشفى المريض.. وحاول جالينوس ايجاد اسباب منطقية للمرض ولكنه فشل فشلا ذريعا فى شرح مرض الصرع الذى أقر أنه supernatural .. وقد كان يوليوس قيصر العظيم نفسه يعانى من الصرع.. هذا القائد المنتصر البالغ القوة الفارع الطول بينما كان يجلس بين قواده يحتسى نخب انتصاره فى احدى المعارك تأتيه نوبة الصرع فيطلق صرخة مدوية devil’s cryثم يبدأ فى التشنج ويسقط أرضا مقوس الظهر ويخرج من فمه رغوة مدممة نتيجة لعض اللسان وفى الغالب يفقد التحكم فى البول ثم تنتهى النوبة بأن يغرق فى النوم فترة طويلة ثم يستيقظ ناسيا كل شىء كأن شيئا لم يكن..
وصف جالينوس (تشريحا) ولكنه لم يقم بتشريح جثثا بشرية وانما بعض الخراف ووصف دورة دموية (ساذجة) اذا جاز التعبير اذ كان يعتقد فى وجود ثقوب غير مرئية فى الحاجز الذى بين البطينين للقلب.. ظل كتاب جالينوس فى الطب يدرس فى الجامعات لأكثر من ألف عام الى أن جاء عصر النهضة وأصبح تشريح جثث البشر مسموحا به بعد زوال سلطة الكنيسة التى كانت تمنع وتحرم هذا فى العصور الوسطى .. قام اندرياس فيساليوس Andreas Vesalius 1514 – 1564 بكتابة كتاب عن التشريح الحقيقى لجسم الانسان De humani corporis fabrica وكانت هذه هى البداية الحقيقية للطب الحديث فبمعرفة التشريح الصحيح تطور على وظائف الأعضاء ونشأ علم الأمراض حيث بدأ الأطباء فى ملاحظة المرضى وتدوين الشواهد فى حيانهم ثم يقومون بتشريح الجثة بعد الوفاة ما سمى morbid anatomy لمعرفة سبب الوفاة وبدلك هدمت نظرية جالينوس التى ظلت جاثمة على صدر الطب لأكثر من ألف عام بعد ما اتضح أن الامراض تصيب الأعضاء وليس الجسم بشكل عام كما ادعى جالينوس ولهذا يطلق على اندرياس فيساليوس لقب مكتشف الطب الحديث The Founder of Modern Medicine
قبل هذا يجدر الاشارة الى ما قدمه العلماء (العرب) الى الطب فى العصور الوسطى .. وضعت كلمة العرب بين قوسين لأنه لم يكن أحدهم عربيا أقصد من الجزيرة مطلقا وهذا ليس تقليلا من قيمة العرب ولكنه احقاق للحق وأفضل أن أطلق عليهم علماء مسلمون.. .. هؤلاء لهم الفضل فى انهم ترجموا ما كتبه الاغريق وبذلك أنقذوه من الاندثار وأضافوا أفكارا لم تكن موجودة كابن النفيس ووسائل علاج جديدة لا سيما فى علم الجراحة.. وهذا أيضا موضوع اخر قائم بذاته..
حتى ذلك الوقت كان دور الطبيب يقتصر على ملاحظة الحالة بالمشاهدة inspectionوالاحساس باليد palpationوكان التشخيص يتم بعد وفاة المريض وتشريح جثته واشتهر منهم أسماء مثل مورجانى Morgagniوفيرشاو Virchow مازالت اسماؤهم تذكر فى كتب الطب الى الان.
اكتشاف التشخيص بالنقر على الاصابع Percussion
اكتشفه طبيب نمساوى اسمه أوينبروجر Josef Leopold Auenbrugger 1722 - 1809 ولهذا الاكتشاف قصة طريفة حيث كان أبوه يعمل فى صناعة التبيذ ولاحظ الابن أن أباه يستخدم عصا قصيرة فى فحص براميل النبيذ لمعرفة مستوى امتلائها دون أن يفتح الغطاء حتى لا يتغير طعم النبيذ علىأع وذلك بالنقر على البرميل من أسفل الى أعلى فيعطى الجزء المملوء نغمة مكتومة dull note أماالجزء الفارغ فيعطى نغمة رنانة resonant note. يبدو لى أنه كان موسيقيا هو الاخر . فى اليوم التالى طبق الطبيب الصغير الفكرة على المريض الذى شك فى اصابته بارتشاح بلورى على الرئة فاستطاع بذلك تشخيص المرض اثناء حياة المريض دوم الجاجة الى انتظار وفاته ليقوم بتشريحه .. وبدلا من عصا والده استخدم النقر بالاصبع الوسطى لليد اليمنى على الوسطى لليسرى كما هو جار حتى الان فى الفحص الطبى.. نشر أوينبروجر كتابه فى التشخيص بالنقر على صدر المرضى Inventum Novum ولكن هذا الكناب لم يقابل بالاستحسان من الاوساط الطبية الاوروبية فى ذلك الوقت بل ان البعض قابله بالسخرية والاستهجان .. الى ان جاء الفرنسى كورفيزار Jean-Nicolas Corvisart الطبيب الخاص لنابليون بونابرت وكان من اشهر اطباء فرنسا وكانت له شعبية كبيرة بين اطباء اوروبا .. وحدث أن قرأ كورفيزار كتاب أوينبروجر وأعجب به فما كان منه الا أن بعثه للحياة فى مؤتمر طبى كبير جمع كل أطباء أوروبا المعروفين وأعطى الرجل حقه بعد أربعين عاما ولحسن الحظ كان أوينبروجر مازال على قيد الحياة .. بعدها بدأ الأطباء يمارسون هذا (الفن الطبى) ويحسنون فيه وبرع منهم التشيكى جوزيف سكودا Joseph Skoda وهو الشقيق الأكبر للمهندس سكودا مبتكر السيارة المعروفة بنفس الاسم
اكتشاف السماعة الطبية Stethoscope
كان الفرنسى رينيه لينيك René-Théophile-Hyacinthe Laennec 1781 – 1826 من تلاميذ كوفيزار وكان بارعا ومشهورا فى سن مبكرة وهو الذى وصف مرض تليف الكبد الناتج عن ادمان الكحول ومازال ينسب اليه Laennec’s cirrhosisحتى الان .. ولكن الحدث الأهم فى حياة لينيك هو اكتشافه للسماعة الذى خلد اسمه على مر الزمان ولهذا بالطبع قصة طريفة أيضا فمن المعروف أن الأطباء منذ جالينوس كانوا يضعون أذنهم بشكل مباشر على صدر المرضى للاستماع الى صوت أنفاسهم وقلوبهم وصارت عادة طبية رغم قلة أو عدم جدواها .. والقصة كما تروى تقول أن لينيك كان يقوم بفحص احدى السيدات من الطبقة العليا ويبدو أنها أبدت استياءها واعترضت على هذا النوع من الفحص فما كان منه الا ان جاء بقطعة من الورق ولفها على شكل اسطوانة مجوفة واستخدمها فى الاستماع الى قلب السبدة وبعدها أفتتن لينيك بالفكرة وطورها سريعا حيث صنعها من الخشب المجوف وتطورت بعد ذلك الى ان وصلت الى شكلها الحالى الذى صار رمزا للطبيب على مر الأجيال وفى جميع الأنحاء ..
وهنا أذكر أننى فى بداية حياتى العملية بعد التخرج وسنة الامتياز وأثناء كتابة رغبات النيابة كانت رغبتى الأولى أن أكون نائب أمراض جلدية والثانية الأمراض الباطنة .. وعندما استشرت والدى رحمه الله وكان رجلا (درعمبا) أى من خريجى دار العلوم وكان صديقا للدكتور عبدالمنعم المفتى أستاذ الأمراض الجلدية اعترض برقة وذكاء على موضوع الجلدية وقال بعفوية (يعنى تبقى دكتور من غير سماعة ؟؟)
عودة الى لينيك الذى أحب السماعة وصار يقضى معظم وقته فى الستماع الى صدر وقلب المرضى فى المستشفى وكتب كتابين فى علم الاستماع L’Auscultation Mediate وصف فيهما معظم المشاهدات السمعية فى مخلف امراض القلب والصدر والتى ما زالت تدرس حتى الان .. وبالطبع نظرا لمخالطة المرضى فترات طويلة أصيب لينيك بالدرن الرئوى وقضى نحبه فى عمر الخامسة والاربعين.
أرجو أن أكون كتبت شيئا مفيدا وأعتذر منكم ان كنت قد أطلت وأسهبت .. تحياتى