بالأدلة..المسجد الأقصى ليس في فلسطين

سامح عسكر في الخميس ٠٩ - يونيو - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

حين روى المحدثون خبرا عن النبي يقول فيه.."خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعا"..وانتشر الخبر كالهشيم وتم تدوينه في الصحاح حتى أصبح بمنزلة القرآن..لم يكن يدري أصحاب هذا الخبر تأثيره على العقول بتخيل آدم عملاقا لا يقل طوله عن 30 مترا لعدة قرون..حتى يأتي زماننا لنرى حفريات من سبقوا آدم نفسه سواء من أسلاف البشر أو القريبين منه في زمان سومر والفراعنة..وجميعهم كانوا صغار كأجسادنا اليوم..

وهذا يفتح مطعنا على الدين فإما أن النبي كاذب ودينه وهم، وإما أن الراوي نفسه هو الكاذب، وفي ذلك اختلف المسلمون فئة منهم تركت الدين والأخرى فضلت تكذيب الراوي..حتى معايير تصديق وتكذيب الرواه اختلفوا فيها حتى ثار السؤال: ما الضابط على صدق هذه الرواية؟

لن نجيب على السؤال فليس هذا مكانه ولا موضوعه..لكن سنخوض اليوم في قضية مختلفة تخص أزمة الحديث والتاريخ لنكشف بها جانبا أخطر لم ينتبه له أحد من قبل انتباها يوازي اهتمامهم بقضايا أخرى، وسنرى معها أن تاريخ المسلمين ليس بحاجة فقط لإعادة نظر..بل نسف جذري لبعض القواعد والمفاهيم التاريخية التي أسست قدسية لأماكن ودول.

أزمة الرواية في عصور التحديث الشفهي تخطت كونها مجرد خبر بغرض التشريع أو للتوظيف السياسي القائم على المصلحة، بل جاوزت حدا خطيرا وهو اختراع قدسية لمكان في سياق المكايدات السياسية، أي تخطت حاجز المصلحة إلى حاجز الدين..وفي ذلك دلالة أخطر تتعلق بقدسية الدين في نفوسهم، وهل يمكن القول أن الدين في هذا الزمن ليس هو الدين الذي نعرفه اليوم؟..وكيف نتحقق من ذلك؟..وما النتائج؟

عبدالملك بن مروان وعبدالله بن الزبير..أخطر شخصيتين في تاريخ الإسلام مع علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، بل في تقديري أن عبدالملك وابن الزبير تفوقا بتأثيرهما (الجذري) ليس فقط في صراعات السياسة..بل في الصراع الديني الذي حدا بأحدهم أن يبني مسجدا يحج له المسلمون بديلا عن الكعبة ، وهذا تصرف غريب على ثقافة اليوم التي تنظر للكعبة كقدس الأقداس والمحمية بالسلطان الإلهي، وأنه مهما اختلف المسلمون فللكعبة قدسية خاصة ومفهوم وحدوي يلجأ ويحتمي به الجميع، ولكن بعد استعراض هذه الدراسة ربما يتبين لنا شئ آخر..

سنبدأ بالنظرية التاريخية ويتبعها الشرح والاستدلال

"مات يزيد بن معاوية عام 64 هـ فحدث صراع بين خليفته مروان بن الحكم مع عبدالله بن الزبير..
استقل مروان بحكم الشام..واستقل بن الزبير بحكم الحجاز والعراق..
مات مروان بن الحكم وتولى إبنه عبدالملك البيت الأموي وقرر التخلص من الزبير واستعادة مكة
اشتكى الشوام لمنعهم من الحج
قرر عبدالملك بناء مسجد بديل يحجوا إليه وانتزع الفتاوى الخاصة التي أعطت لمسجده قدسية تساوي بينه وبين الكعبة
تسربت هذه الفتاوى على شكل روايات وأحاديث ليتوارثها المسلمون
هذا المسجد البديل هو المسجد الأقصى"..انتهى

ماذا تعني هذه النظرية؟

تعني أن المسجد الأقصى الذي ذكر في آية الإسراء.." سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى"..[الإسراء : 1] تعني مكانا آخر غير الذي شاع بعد ذلك أنه المسجد البديل الذي بناه عبدالملك في فلسطين، وفي ذلك خدعة دينية وسياسية كبيرة تحاشى المسلمون ذكرها خصوصا بعد قيام إسرائيل، فالمسألة حساسة جدا ويمكن القول أن مجرد البحث في هذه القضية يعني.."نصرة إسرائيل"..رغم أن هذا شئ وهذا شئ، فإسرائيل في الأخير دولة احتلال حسب القانون الدولي..وعليه مشروعية المقاومة ثابتة بثبات واقع الاحتلال.

لكن الحديث هنا تاريخي بحت، عُمدتنا فيه الدليل والغرض منه ليس أقل من الحقيقة التي حُجبت قرونا وأدهرا تحت وطأة عبدالملك ونفوذ الأمويين..وآخر بلامعقولية أي قداسة لمبنى حتى الكعبة ، وأن العقل يقبل قداسة الإله فقط دون غيره، وأن الاعتقاد بقداسة المباني يجيز التوسع للاعتقاد بقداسة مبانٍ أخرى أو بِيع ومنازل ليست ذات قيمة إلا عند أصحابها..

تاريخيا المسجد الأقصى بناه عبدالملك بن مروان

يقول ابن كثير: "قال صاحب مرآة الزمان: وفيها ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الأقصى، وكملت عمارته في سنة ثلاث وسبعين، وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة وكان يخطب في أيام منى وعرفة ومقام الناس بمكة وينال من عبد الملك ويذكر مساوئ بني مروان"..(البداية والنهاية: 8/ 308)

ويقول ابن تغري.."وسبب بناء عبد الملك أن عبد الله بن الزبير لما دعا لنفسه بمكة فكان يخطب في أيام منى وعرفة وينال من عبد الملك، ويذكر مثالب بني أمية ويذكر أن جده الحكم كان طريد رسول الله ولعينه، فمال أكثر أهل الشام إلى ابن الزبير فمنع عبد الملك الناس من الحج فضجوا، فبنى لهم القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليصرفهم بذلك عن الحج والعمرة فصاروا يطوفون حول الصخرة كما يطوفون حول الكعبة وينحرون يوم العيد ضحاياهم وصار أخوه عبد العزيز بن مروان صاحب مصر يعرف بالناس بمصر ويقف بهم يوم عرفة"..( النجوم الزاهرة: 1/ 188)

ويضيف ابن تغري.." سنة اثنتين وسبعين: فيها بنى عبد الملك بن مروان قبة الصخرة بالقدس والجامع الأقصى، وقد ذكرناه في الماضية، والأصح أنه في هذه السنة"..(نفس المصدر)

ويقول اليعقوبي.." ومنع أهل الشام من الحج إلى مكة، وبنى قبة الصخرة في بيت المقدس، وعلق عليها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها، بدلاً من الكعبة، وأقام الناس على ذلك أيام بني أمية".. ( تاريخ اليعقوبي 2-261 )

ويقول الدميري.." لما ولي عبد الله بن الزبير الخلافة بمكة، ولى أخاه مصعب بن الزبير المدينة، وأخرج منها مروان بن الحكم وابنه، فصار إلى الشام ولم يزل يقيم للناس الحج من سنة أربع وستين إلى سنة اثنتين وسبعين، فلما ولي عبد الملك بن مروان منع أهل الشام من الحج من أجل ابن الزبير، لأنه كان يأخذ الناس بالبيعة له إذا حجوا، فضج الناس لما منعوا من الحج، فبنى عبد الملك قبة الصخرة فكان الناس يقفون عندها يوم عرفة ".. ( حياة الحيوان الكبرى صـ412 )

وأخيرا يقول ابن تيمية.." لما تولى عبد الملك الشام ووقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة كان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير، فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن ابن الزبير فبنى القبة على الصخرة وكساها في الشتاء والصيف ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير"..( اقتضاء الصراط/ 435، ومجموع الفتاوى: 27/ 12) انتهى

واضح من الروايات اتفاقها على أن الأقصى لم يكون موجودا قبل زمان عبدالملك، وبعضهم حدد السنة التي بُني فيها مع قبة الصخرة وهي 72 هـ، وروايات أخرى تقول أن تتمة البناء كانت في عهد الوليد بن عبدالملك، لذلك عزا البعض بناء المسجد للوليد بوصفه من أتم بناؤه، وهذا هو موضع الشاهد أنه حتى لو كان الوليد هو من بنى المسجد فالإشكال قائم، أين كان الأقصى في فلسطين وقت نزول آية الإسراء؟!

روايات أخرى تقول أن الأقصى كان مُصلى/ مكان للسجود صلى فيه الصحابي عمر بن الخطاب بعد فتح القدس من أيدي الرومان..أي لم يكن بناء المسجد قائم حينذاك، وعلى فرض صحة رواية عمر فتعني أن الإشكال قائم ،حتى لو كان الأقصى مجرد مصلى في زمان عمر فهو يعني عدم وجوده في زمان النبي، وهذا يتعارض مع الروايات الأخرى التي قالت بأن الأنبياء داوود وسليمان من أتما بناؤه، وسنعرف بعد قليل مصدر هذا الكلام..

ملحوظة: يوجد خلط بين لفظي (القدس وبيت المقدس) المؤرخون القدماء لم يعرفوا مدينة إسمها القدس، بل كانوا يطلقون عليها (بيت المقدس) كالواقدي في فتوح الشام ت 207 هـ، ويعقوب الفسوي في في المعارف والتاريخ ت 277 هـ، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه المتوفي عام 281هـ، من هنا جاء الخلط بين المسجد الأقصى وبيت المقدس/ قبة الصخرة ،لفظ المسجد كان يعني به بناء الجامع نفسه، أما بيت المقدس فالمدينة

وأصل تسمية القدس ببيت المقدس عند رهبان اليهود الذين أسلموا ككعب الأحبار ووهب بن منبه، فالمدينة كانت ولا زالت مقدسة في التوراه..وزادت قداستها ببناء الأقصى وقبة الصخرة في العهد الأموي لاستخدامهم في الحج إبان تمرد بن الزبير واستقلاله بالحجاز ومنع الشوام من الحج ودخول مكة..من هنا بدأ النزاع الإسلامي اليهودي عليها..(راجع كتاب تاريخ ملوك حمير للمعافري المتوفي عام 212 هـ ستلاحظ أن كل رواياته عن بيت المقدس يهودية وتنقل قصص التوراه بالحرف)..

المعافري نقل قصص التوراه وأعطاها الصبغة الإسلامية، وهو أول من قال بتأسيس الأقصى على يد النبي داوود وإبنه سليمان، وكتابه في المجمل رواية عن وهب بن منبه، وقلده أبو جعفر البغدادي ت 245هـ في تاريخه المشهور (بالمحبر) ، كذلك فتوح مصر والمغرب لابن عبدالحكم ت 257هـ، وابن قتيبة الدينوري في المعارف ت 276هـ..حتى أن الدينوري خصص فصلا كاملا في كتابه لترجمة بيت المقدس كل رواياته عن وهب، والبلاذري في فتوح البلدان ت 279 هـ، وأبو حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال ت 282هـ، ثم جاء الطبري ليجمع كل ذلك في تاريخ الرسل والملوك ويقرر في بداية كتابه أنه جمع هذه الروايات دون أي مسئولية منه على صدقها، بما يعني أن الطبري كان متشكك في رواياته لكن نقلها للعلم في أكبر وأهم كتاب تاريخ في التراث الإسلامي على الإطلاق..

وملحوظة أخرى: أن الطبري هو أول من أطلق لفظ (القدس) على المدينة بقوله في سياق الحديث عن جالوت.." وكانا إذا جاءت النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن"..(تاريخ الطبري 1/470) وسائر لفظ القدس بعد ذلك عني به في الثقافة المسيحية .."دهن القدس"..أو.."روح القدس"..وهي ألفاظ تعني أنه ربما أطلق إسم القدس على المدينة تيمنا بهذه الثقافة فيما بعد، وكنتيجة لنقل تراث اليهود والتوراه دون اعتبار بحقائق التاريخ

لاحظ أن الحقبة التاريخية التي نتحدث فيها هي (القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي) وهي أشهر حقبة دون بها الحديث والتاريخ والتي عرفت (بعصر التدوين)

لاحظ أيضا أن منشأ قدسية المسجد الأقصى جاءت بثلاثة طرق:

الأول: الخلط بين الأقصى وبيت المقدس بنقل روايات اليهود عن بيت المقدس في سياق الحديث عن المسجد/ الجامع بينما قصد المؤرخون الأوائل المدينة نفسها ولم يعنوا مسجدا في هذا المكان.

الثاني: إقرار رواية اليهود حول بيت المقدس أنه من بناء داوود وسليمان في سياق الحديث عن المسجد، وبالتالي استنتج الورثة والأخلاف أن المسجد الأقصى من بناية داوود، وهو استنتاج قاصر قائم على العاطفة دون مراعاة السياق التاريخي الذي أكده المؤرخون القدماء الذين عنوا المدينة في تراث اليهود وحكايا التوراه فقط دون الحديث عن أية مساجد، واليهود لن ينقلوا قداسة مسجد في مكان هيكلهم لتعارض المصلحة بالعموم.

الثالث: الخلط بين القدس وبيت المقدس والأقصى، وقلنا أن أصل ذلك عند الطبري بنقله تراث اليهود دون تحقيق، وبنفس الطرق السابقة

معلومة: المسجد الذي بناه عبدالملك دمر تماما في سلسلة زلازل أصابت فلسطين في القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري) وأعيد بناؤه في عهد الفاطميين على يد الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله في القرن الخامس الهجري(الحادي عشر الميلادي) أي أن البناء الحالي للأقصى فاطمي لكن رمم في عصور مختلفة منذ عهد المماليك آخرها في عهد الأسرة الهاشمية الأردنية، لكن المسجد وطابعه الفني فاطمي وهو واضح في مأذنته الطويلة المصفحة بقبة صلبة دائرية الشكل وسلالم داخلية، وهو طابع فني تميز به الفاطميون عن أسلافهم وسار على دربهم بعد ذلك المماليك والعثمانيين وصارت سنة لبناء الجوامع في كل بلاد العالم.

أنظر الصورة

http://gulf-up.com/do.php?img=109070


كذلك لا يعني القول بأن الأقصى ليست له قدسية يعني الدفاع عن إسرائيل أو بخس حقوق الشعب الفلسطيني، فما يحدث في فلسطين احتلال ومقاومة كما تقدم ، وكذلك لا يعني إنكار الإسراء، فالإسراء ثابت في القرآن لكن الأقصى فيه لا يعني ما بناه عبدالملك لأن عبدالملك لم يولد بعد..بل عمر بن الخطاب صلى هناك بعد وفاة النبي، فكيف يقول القرآن مسجد أقصى لم يُبنى بعد، وكيف سيعرفه الصحابة ويؤمنوا به ولم يروه قائما أو حتى يعرفوه لمجرد العلم..

والسؤال الآن:

ما الأقصى المذكور في آية الإسراء؟

الجواب: هو مسجد الجعرانة بالقرب من مكة لاعتبارات أربعة:

أولا: الجعرانة مشهورة في التاريخ الإسلامي (بعمرة الجعرانة) وهي إحدى 4 عمرات أتمها الرسول ..يقول المؤرخ يعقوب الفسوي و"خرج من الجعرانة ليلا فاعتمر، ثم رجع فأصبح بها كبائت"..(المعرفة والتاريخ 3/279)..ويقول الفاكهي.."لما فرغ من قتال أهل حنين اعتمر من الجعرانة "..(أخبار مكة 5/33)

ثانيا: المكان له قدسية وأولوية لما حكاه أبو الطيب الفاسي.. "للحرم علامات بينة، وهي أنصاب مبنية في جميع جوانبه خلا حده من جهة جدة، وجهة الجعرانة فإنه ليس فيهما أنصاب"..( شفاء الغرام لأبو الطيب الفاسي 1/74)....وقال أيضا "الإحرام من الحل الذي في جهة التنعيم للمقيم بمكة أفضل من الإحرام من الحل الذي في بقية جهات الحرم، ما خلا الجعرانة، فإن الإحرام منها أفضل عند مالك، والشافعي، وابن حنبل، وغيرهم"..(نفس المصدر 1/380)..وقال أيضا.. "عن يوسف بن ماهك، قال: اعتمر من الجعرانة ثلاثمائة نبي، وصلى في مسجد الخيف سبعون نبيا. 
وبالجعرانة ماء شديد العذوبة يقال إن النبي فحص موضع الماء بيده المباركة فانبجس، فشرب منه النبي وسقى الناس، ويقال: إن النبي غرز رمحه فنبع الماء موضعه، وهذان الخبران في كتاب الفاكهي"..(نفس المصدر 1/386)

ثالثا: المكان به مسجد قال ابن الضياء.." "ومن ذلك مسجد الجعرانة أحرم رسول الله من هنالك"..(تاريخ مكة لابن الضياء الحنفي صـ 184)

رابعا : قرروا أن مسجد الجعرانة هو المسجد الأقصى، قال الأرزقي.. "عن مجاهد أنه اعتمر من الجعرانة، فقال: من هنا أحرم النبي وإني لأعرف أول من اتخذ هذا المسجد على الأكمة، بناه رجل من قريش سماه، واشترى مالا عنده نخلا، فبنى هذا المسجد قال ابن جريج: فلقيت أنا محمد بن طارق، فسألته، فقال: اتفقت أنا ومجاهد بالجعرانة، فأخبرني أن «المسجد الأقصى الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى مصلى ما كان بالجعرانة» قال: فأما هذا المسجد الأدنى فإنما بناه رجل من قريش، واتخذ ذلك الحائط"..(أخبار مكة للأرزقي 2/207)

وقال الفاكهي عن عطاء قال: " من أراد العمرة ممن هو من أهلها أو غيره فليخرج إلى التنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها، وأفضل ذلك أن يأتي وقتا " والتنعيم من حيث اعتمرت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حين بعثها رسول الله مع أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر على أربعة أميال من مكة على طريق المدينة وهما مسجدان. فقد زعم بعض المكيين أن المسجد الأدنى إلى الحرم الخرب هو المسجد الذي اعتمرت منه عائشة ، ولا أعلم إلا أني سمعت أن ابن أبي عمر يذكر ذلك عن أشياخه من أهل مكة أنه هو الصحيح عندهم، وقد زعم بعضهم أنه المسجد الأقصى مفضى الأكمة الحمراء"..(أخبار مكة للفاكهي 5/32)

من أخبار الجعرانة يتبين الآتي:

1- أنها مكان مقدس اعتمر منه النبي ومنزه عن الشرك بدلالة استحباب جمهور أئمة السنة كمالك وابن حنبل والشافعي الإحرام منها..

2- يوجد مسجد بالجعرانة هو الذي اعتمر منه النبي ، ليس بالضرورة أن يكون بناء قائم لأن لفظ المسجد يطلق على (مكان السجود) وليس البناء.

3- هذا المسجد هو المسجد الأقصى تمييزا له عن المسجد الأدنى، وعليه يفهم أن آية الإسراء.."سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى"..يقصد به مسجد الجعرانة.

أيضا فمسجد عبدالملك بن مروان لم يسم مسجدا أدنى للتمييز، فكلمة الأقصى دلالة على البُعد، والأدنى على القُرب، وهذا يعني أن المسجد الذي في فلسطين سمي تيمنا بمسجد الجعرانة الذي ذهبت قداسته عند الأمويين باستقلال بن الزبير بالحجاز، فما الذي منع عبدالملك من تسميته مسجد الجعرانة إلا ذكره في القرآن..

شابت اعتراضات على هذا الكلام خصوصا بعد إثارته –بشكل آخر –على يد الأديب يوسف زيدان، وأبرز من ردوا عليه الدكتور عدنان ابراهيم، وقد استمعت لكلام عدنان ورد زيدان عليه..وفي الأخير كانت مناقشة رائعة تتميز بالأدب والبحث الموضوعي، لكن في اعتراضات عدنان لم أرَ أنه قد حل الإشكالية..بل أعطاها زخما حيث تغاضى عن حلها تاريخيا وأركيولوجيا، حتى باستدلالنا بفن العمارة-وهو فن تاريخي- لم ينتبه إليه الدكتور عدنان، وإن كنت أعذره حيث نشأته الفلسطينية وعاطفته الغنية بحب الأقصى والتعلق به، رغم أن القضية في تقديري تجاوزت حد العاطفة..

الدكتور عدنان أو كل من يؤيد رأيه مطالب بالجواب على هذه الأسئلة قبل الاعتراض:

لماذا القدس كلفظ لم يظهر على المدينة سوى في القرن الرابع الهجري؟..وما أصل التسمية؟..وهل حقيقي أنه لفظ ذو مدلول مسيحي؟

لماذا الحديث عن المسجد تأخر إلى ما بعد زمان الطبري؟..علما أن الحديث قبل الطبري كان عن المدينة وليس المسجد..

لماذا كل رواة التاريخ الذين نقلوا قدسية بيت المقدس مصادرهم يهودية؟

أين الدليل التاريخي الذي يثبت بناء الأقصى قبل زمان عبدالملك بن مروان في غير مصادر اليهود ؟

لماذا ظهر الأقصى في زمن تمرد بن الزبير؟..وماذا لو انتصر ابن الزبير وقضى على الأمويين هل كنا سنرى المسجد فضلا عن قداسته؟

لماذا تلبسون أي حديث عن المسجد تهمة الخيانة رغم اعترافكم أن مشكلة فلسطين سياسية وليست دينية؟

لماذا ذكر المؤرخون مسجدا أقصى في الجعرانة ونقلوا قداسة مكانه في الحج والعمرة؟

هي أسئلة مشروعة والرد عليها واجب، وأؤمن يقينا أن محاور هذه الأسئلة هي ما أثارت الباحثين في شأن هوية الأقصى..ليس انتقاصا أو تعظيما لأحد..أو الاعتراف أو إنكار حقوق أحد..بل لمجرد العلم والبحث، وهي قيمة أخلاقية في الأخير تحمل الجميع على البحث الرصين والحوار الجاد منعا للغش المعرفي أو الخداع الديني والسياسي..

وكذلك يجب الانتباه بأن مصدر قدسية الأقصى هو نفس مصدر (قدسية الشام) التي جاءت بأحاديث نقضتها منذ 4 سنوات، ووصلت لنتيجة أن أحاديث قدسية الشام كان لها أثر بالغ في الحشد للثورة السورية من قبل المتدينين، حتى أن مطلب الجهاد العالمي تحول من (نظريا) لفلسطين إلى (عمليا) لسوريا، وهي مفارقة وضعت سوريا وفلسطين موضع النظر..كان يجب معها البحث عن أصل هذه المفارقة وجذورها التاريخية، وفي تقديري أن من حمل على ربط فلسطين بالجهاد هو نفسه من ربط سوريا بالجهاد..ومنشأ ذلك كما تبين من أحاديث وروايات عبدالملك التي أشاعها لتقديس الأقصى وجعل الحج وشد الرحال إليه مساويا للأجر مع الكعبة..

اجمالي القراءات 84725