مقدمة
كتابة المقال السابق عن ( العُهر الزهرى ) سبّب لى ضيقا ، إذ ذكّرنى بما أكره ، وأرى لزاما علىّ ـ كى تعتدل الكفة ـ أن أخصص هذا المقال فى الاشارة الى عُظماء أزهريين ، كان لهم أثر إيجابى فى النهضة المصرية فى العصر الحديث . وأبدأ بلمحة تاريخية :
أولا : من ( محمد على ) الى ( محمد عبده ) الى ( اهل القرآن ):
1 ـ حين بدأ الوالى ( محمد على ) تأسيس دولته العسكرية فى مصر ، تخلص من المماليك ومن الحامية العثمانية ، وأنشأ جيشا مصريا حديثا ، إحتاج الى صناعات حربية وترسانة بحرية ، وضباط مؤهلين ، وتعليم عسكرى ، وإحتاج الى ارسال بعثات الى أوربا ، وأظهر هذا عبقرية طالب أزهرى هو رفاعة رافع الطهطاوى الذى عاد فأصبح نافذة للإطلاع على الثقافة الفرنسية والأوربية . حاول ( محمد على ) الاقتراب من الأزهر لتحديثه فاصطدم بعقلية الشيوخ ، فتركه وأنشأ تعليما علمانيا بمدارس .
2 ـ على ان النهضة التى أرساها محمد على خبت بسقوط مشروع محمد على السياسى ، ثم بجمود الخديوى عباس ، ولكن أعاد الخديوى إسماعيل هذه النهضة ، فوصلت حدود مصر سياسيا الى منتصف السودان والى الصومال ، وتطورت القاهرة وتم ترصيعها بالقصور والبنايات الحديثة وبرلمان ، وتعليم علمانى توسع وانتشر ، ووصلت اصداء هذا الى الأزهر ، فظهر محمد عبده الشيخ الثائر الكاره للوالى محمد على باشا ، لأنه همّش الطبقة الوسطى التى ينتمى اليها محمد عبده ، وحرمها من حمل السلاح ، وحرمها من ملكية الأرض لأنه إحتكر لنفسه ملكية الأرض ، وجاء اسماعيل برؤية ليبرالية مختلفة تشجع بها محمد عبده .
3 ـ بدأت مدرسة محمد عبده ثورة فى الأزهر وعقليته ، إمتدت من نقد التصوف والاحاديث وإنكار الشفاعة الى إكتشاف الطبيعة المدنية للاسلام وتناقضه مع الدولة الدينية وكهنوتها . كان محمد عبده سابقا لعصره ، وكان منتظرا أن تسود مدرسته فى العصر الليبرالى المصرى ( 1921 : 1952 ) ، ولكن خان رشيد رضا ( السورى ) مبادىء استاذه محمد عبده حين تحالف مع الوهابية وصار عميلا لعبد العزيز آل سعود ، وأنشأ من أجله التنظيمات الوهابية وآخرها ( الاخوان المسلمون ). ولكن ظلت مدرسة محمد عبده تقاوم ، ولكن علو ثم سيادة الوهابية وإنتشار الاخوان المسلمين ما لبث أن اجهز عليها .
4 ـ ثم ظهرت المدرسة القرآنية داخل الأزهر لا تقتصر على ما قال محمد عبده بل تبنى فوقها وتنطلق تكتشف حقائق الاسلام من القرآن مباشرة ، وتضع فاصلا بين الاسلام والمسلمين ، وتعرض تراث المسلمين وتاريخهم وأديانهم الأرضية على ميزان القرآن الكريم ، وتجهر بنقد الأئمة والصحابة والخلفاء الراشدين . وتحملت الأذى والاضطهاد فى ذبحها الأبقار المقدسة للمسلمين ، وتابعها آخرون تشجعوا على نقد البخارى ومناهج الأزهر العتيقة ، فأصبح الانترنت لعنة تطارد الوهابية .
ثانيا : الأوقاف وإستقلالية الأزهر
الأزهر قبل أن يؤممه عبد الناصر كان مستقلا عن الحكومة المصرية ، له ميزانيته الخاصة التى تأتى له من الأوقاف الموقوفة عليه . وهذا يستلزم توضيحا سريعا :
1 ـ كان الأزهر فى العصر الفاطمى مؤسسة رسمية شيعية ، ثم أغلقه صلاح الدين الأيوبى ، وأنشأ بدلا منه خانقاه سعيد السعداء لنشر التصوف السنى بديلا عن التشيع ، ثم أعيد إفتتاح الأزهر فى العصر المملوكى ليصبح ضمن المؤسسات الدينية والتعليمية ، من الخوانق والرباطات والزوايا والمدارس، وكلها تمتلىء بالمدرسين والطلبة والمكتبات .. وكان التعليم فيها حُرا ملتزما بشروط الواقف على تلك المؤسسة أو تلك . وكان الوقف يعنى تخصيص الدخل الناتج من أرض زراعية أو محلات تجارية للانفاق عليها .
3 ـ وكان الوقف نوعين :
3 / 1 : وقف أهلى يستعمله المماليك وأعوانهم طريقا لصون أملاكهم من المصادرة ، حيث كان الصراع السياسى المملوكى المستمر يسفر عن ضحايا من السلاطين والأمراء وتوابعهم. ويستلزم هذا مصادرة أموالهم وممتلكاتهم ، فتحايلوا بجعل أملاكهم وقفا ، ويكون صاحب الوقف هو المتحكم فيه ، ولا يجوز شرعا مصادرة الوقف ، من هنا إنتشرت المؤسسات الدينية فى القاهرة المملوكية ، وهى الآن أهم الآثار التى تزخر بها القاهرة .
3 / 2 : الوقف الخيرى ، والذى يقدمه المحسنون طواعية ، فيخصصون ريع أرض زراعية أو حانوت أو مساكن للصرف على مسجد قائم فعلا أو ضريح مشهور . وكان معظم هذا الوقف الخيرى يتوجه للمساجد القديمة ( جامع عمرو ، الجامع الأزهر ) ولمساجد وأضرحة الأشراف والأولياء الصوفية (الامام الشافعى ، السيدة نفيسة ، مسجد الحسين ، مسجد السيد البدوى ، ثم مسجد السيدة زينب فى العصر العثمانى ).
4 ــ وبسقوط الدولة المملوكية ضاعت الأوقاف التى كانت للسلاطين والأمراء المماليك ، فانتهى دورها التعليمى وأصبحت مجرد مبانى أثرية فى العصر العثمانى ـ وحتى الآن . وبقيت الأوقاف الخيرية على المساجد القديمة ، وأبرزها جامع الأزهر الذى تميز عن غيره من المساجد بعدم وجود ضريح مقدس فيه ، أى كان متخصصا فى الدراسة والتعليم فقط ، فظل يمارس دوره التعليمى فى العصر العثمانى ، ولحقه الجمود بسيطرة الجهل والتصوف فى العصر العثمانى ـ ولنا كتاب منشور هنا عن أثر التصوف الحضارى فى العصر المملوكى فيه التفاصيل . وأتيح لجامع الأزهر أن يقود الثورة المصرية ضد نابليون ، وأصبح شيوخه قادة للحركة الوطنية ، وهم الذين رفضوا ظلم الوالى العثمانى البرديسى ، وهم الذين بقيادة عمر مكرم أوصلوا الضابط العثمانى ( محمد على ) للحكم ، وتمسكوا به وفرضوه على السلطان العثمانى ، وكافأهم محمد على بالتهميش ونفى عمر مكرم وإسكات صوته .
5 ـ رفض الأزهر التجديد فى عصر محمد على ، وتمتع باستقلاليته لأن الانفاق عليه يأتيه من الأوقاف الخاصة به ، وظل هذا سائدا الى أن جاء عبد الناصر الذى حرص على أن يُمسك كل شىء بيده بالتأميم والتمصير ، فضم الأوقاف ( اهلية وخيرية ) الى الحكومة تحت مسمى ( هيئة الأوقاف المصرية ) وألغى القضاء الشرعى وجعله تابعا للقضاء العادى ، وسيطر على الدعوة بوزارة الأوقاف ، وجعل الأزهر مؤسسة ( مدنية ) حكومية ، يقوم بتعيين شيخه وشيوخ إداراته ، وأدخل المواد العلمية واللغة الانجليزية والفرنسية الى مقرراته ، وأنشأ الكليات العملية وكليات البنات اليه . وبهذا فقد الأزهر إستقلاليته ، وصار جهازا حكوميا يعمل طبقا لتوجيهات عبد الناصر .
6 ـ ثم بدأ (الانحلال ) يتسرب الى الأزهر فى عصر السادات مرتبطا بنفوذ أكبر لشيوخه برعاية السادات ( الرئيس المؤمن ) الذى تصالح مع الوهابية والسعودية والاخوان وحارب الشيوعية والعلمانية. ثم وصل فساد مبارك الى الأزهر فتحول الانحلال الأزهرى الى (عُهر ) يقود الأزهر . وهذا ما عشناه وعانيناه ووقفنا ضده . وحين كنت فى الأزهر كان (أمن الدولة ) يتلقى أوامره من (العُهر الأزهرى) ، كما كان (أمن الدولة ) هو الذى يحتضن قيادات الطلبة فى جامعة الأزهر ويؤهلهم للقيادة ويعينهم معيدين ، ثم يقودون الأزهر والأوقاف والإفتاء . وهذا معنى قيادة ( العُهر الأزهرى ) للحياة الدينية المصرية .
7 ـ واشهد أن أولئك القادة العاهرين كانوا ــ وقتها ــ أقلية ، ولكن كانت مسيطرة متحكمة فى قطيع من الشيوخ قد إستسلم لها ، وحين وقفت ضد جهل وفساد العُهر الأزهرى إرتجف هذا القطيع خوفا وهلعا . وأعلم أن الكثيرين منهم يؤمن بصوابية ما يقوله ( اهل القرآن ) .. ولكنه الخوف .
ثالثا : تحية لعظماء الأزهر السابقين من مدرسة الامام محمد عبده :
1 ـ تحية للشيخ ( على عبد الرازق 1888 : 1966 ) ، الذى حصل على العالمية ( الدكتوراة ) من الأزهر ، ولم يكتف بها ، فذهب الى جامعة أوكسفورد ( ليكمل تعليمه ) ، وعاد قاشيا شرعيا ، وكتب كتابه الشهير ( الاسلام وأصول الحكم ) فسحب منه مواشى الأزهر وقتها شهادة العالمية ، ثم صار وزيرا للأوقاف .
2 ـ تحية الى شقيقه الأكبر : ( مصطفى عبد الرازق ( 1885 : 1947 )، الفيلسوف الأزهرى ، المعجب بصوت ( أم كلثوم ) والذواقة للفنون ،خريج السوربون وجامعة ليون ،وقد ترجم للفرنسية كتاب الامام محمد عبده ( رسالة التوحيد ) وهو مجدّد الفلسفة الاسلامية ، بعد أن كان محرما خلال عشر قرون سابقة النظر فيها ، ولقد كان أول أزهرى يتولى وزارة الأوقاف ، بل تولاها ثمانى مرات ، وأصبح شيخا للأزهر عام 1945 . كلاهما ( على ومصطفى عبد الرازق ) ينتميان لوالد ثرى هو حسن عبد الرازق الذى كان يمتلك فى محافظة المنيا 7 آلاف فدان. ، وكان من مؤسسى جريدة "الجريدة" التي دعت إلى الحكم الدستوري والإصلاح الاجتماعي والتعليم، ومن مؤسسي "حزب الأمة".
3 ـ تحية للشيخ ( محمد مصطفى المراغي ) شيخ الأزهر في الفترة من 1928 حتى استقالته في 1930 ثم تولى المشيخة مرة أخرى عام 1935 وحتى وفاته في 22 أغسطس 1945. صاحب مواقف سياسية شهيرة ، وهو الذى إنتقد إنكباب طلبة الزهر على تلاوة البخارى ، ووصفهم بأنهم ( بقر ) فى حديثه مع المستشرق النمساوى ( محمد أسد ) حسبما روى الأخير فى كتابه ( الطريق الى مكة ) .
4 ـ تحية الى الشيخ (محمود شلتوت 1893 : 1963 ) شيخ الأزهر( 1958: 1963 ) والذى حدث تطوير الأزهر فى عهده ، وعايشت هذا التطوير طالبا فى الاعدادى الأزهرى . شارك الشيخ شلتوت في ثورة 1919م بقلمه ولسانه وجرأته.وناصر حركة إصلاح الأزهر ، ففصله مواشى الأزهر ، فعمل بالمحاماة ثم عاد للأزهر مديرا لمكتب شيخ الأزهر المراغى سنة 1935م.
5 ـ تحية الى آخر نقطة ضوء من مدرسة محمد عبده الشيخ د محمد البهى ( 1905 : 1982 )، والذى شرفت بلقائه فى أواخر أيامه ، وقت إضطهادى فى رسالة الدكتوراة . كان داعية للاصلاح الدينى من داخل الاسلام ، وليس تأثرا بالحضارة الغربية . تفوق فى دراسته الأزهرية وحصل على التخصص ثم العالمية . ثمفي سبتمبر 1931م سافر إلى ألمانيا لدراسة الفلسفة مبعوثا من مجلس مديرية البحيرة إحياء لذكرى الشيخ محمد عبده فحصل على دبلوم عال في اللغة الألمانية عام 1934م، كما حصل على الدكتوراة في الفلسفة والدراسات الإسلامية بتقدير امتياز من جامعة هامبورج عام 1936م وكانت رسالته للدكتوراة عن "الشيخ محمد عبده والتربية القومية في مصر". بعد عودته لمصر عمل فى كليات اصول الدين واللغة العربية بالأزهر وفى جامعات أخرى عربية وغربية ، نشر تراث الشسخ شلتوت ، ثم كان أول مدير لجامعة الأزهر وقت صدور تطوير الأزهر وقانونه عام 1961 ، ثم صار وزيرا للأوقاف عام 1962 ، وصدر له 11 مؤلفا .
أخيرا :
أقول : إصلاح الأزهر يستلزم إصلاح مناهجه وقانونه ، وإصلاح الأزهر يساعد فى إصلاح مصر ، وإصلاح مصر يساعد فى إصلاح العرب ، وإصلاح العرب يساعد فى إصلاح المسلمين .
وأقول : إصلاح الأزهر يعنى أن يتطهر من ( العُهر الأزهرى ) الذى يقوده الى أسفل سافلين .