أولا :
1 ـ على العكس من المستبد الشرقى ــ الذى يزعم ـ كذبا ـ إيمانه بالله جل وعلا ورسوله ـ لم يكن النبى محمد عليه السلام فظا غليظ القلب ، فالله جل وعلا غرس فى قلب رسوله الرحمة فكان لينا فى تعامله مع الناس ، يقول جل وعلا :( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) آل عمران ) ، لأنه عليه السلام وهو قائد كان يستمد سلطته السياسية من إجتماعهم حوله فقد كان لزاما عليه أن يستميلهم اليه حتى لا ينفضوا من حوله ، لأنهم لو إنفضوا من حوله لن تكون له دولة ، فهم الدولة ، وهم مصدر السلطة ، وهذا مبدأ اسلامى : أن ( الأمة مصدر السلطات ) . وبهذا المبدأ تقوم الديمقراطيات الغربية ، حيث يتحبب الرئيس للشعب ، ويتنافس المرشحون للرئاسة على كسب ود الناس .
2 ـ يختلف الأمر مع المستبد الشرقى الذى يقوم بقهر وتعذيب الناس ليظل جاثما على صدورهم هو وحاشيته وكلاب حراسته . المستبد لا يستغنى عن التعذيب ، فالتعذيب ـ وليس العدل ـ هو أساس مُلكه . وهو يرى فى التعذيب هيبة له ، أو هيبة للدولة ، لأنه ـ بسلامته ـ هو الدولة . أما الشعب فهو أسير قوته وعبيد إحسانه ، وهو لهم ( الراعى ) وهم له ( الرعية ) . والراعى يملك رعيته من المواشى والأغنام ، وله أن يذبح منها ما يشاء . والفتوى السنية المشهورة تقول : إن من حق الإمام ـ أى الحاكم فى الدولة الدينية ـ أن يقتل ثلث الرعية لاصلاح الثلثين . وإذا بقى الثلثان واستمرت الحاجة للإصلاح فعليه أن يقتل الثلث ، وهكذا قتل كل (ثلث ) حسب الحاجة . هذه الفتوى نشرناها وفضحنا بها الدين السُّنى فى أوائل التسعينيات ، واضطر شيخ الأزهر وقتها ( محمد سيد طنطاوى ) الى الاعتراف بها . وهذا هو تصور المستبد وأعوانه للشعب . خبير إستراتيجى عسكرى لم يدخل حربا خلال حياته المهنية ، سوى حرب الشعب المصرى فتأسست عقيدته العسكرية خلال أكثر من ثلاثين عاما على أن العدو هو الشعب المصرى ـ هذا الخبير العسكرى يدعو السيسى لإعتقال مليون معارض ، وإمرأة أخرى تجهر فى قناة فضائية بأن الشعب المصرى 90 مليونا ولا بأس من التضحية بمليون .
3 ـ المستبد الشرقى يعمل كل ما فى وسعه ليكمم الأفواه ويحظر النقد ، والسيسى أعلن على ملأ العالم أن معايير حقوق الانسان الغربية لا تنطبق على المصريين ، أى للغرب حقوق الانسان أما المصريون فهم أنعام . وسكت المصريون على هذه الاهانة العلنية العالمية والسكوت علامة الرضا . والسيسى تنازل عن جزء من الوطن المصرى ، وقال بكل حزم أن هذا ليس موضوعا للنقاش . لأنه يملك الأرض وما عليها من رعية ، وهو لا يسمح للرعية أن تناقشه فيما يملك فيما يقرر . هل ترضى يا صديقى أن تملك مزرعة مواشى ثم تسمح للأنعام فيها أن تناقشك . أى نقد للمستبد أو لسياسته هو (عيب فى الذات .. ) أو ( تهديد ) أو ( تحبيذ ) على كراهية السلطة ..وعقوبتها تمتد من الحبس الاحتياطى ــ بلا محاكمة ومع وجبات التعذيب ــ الى الحكم بالاعدام . وسائل الاتصال الاجتماعية دمرت السور الحديدى الذى يقيمه الطغاة حول شعوبهم ، ولذا يطاردون هذه (الميديا ) بقوانين مضحكة تصل الى الاعدام .
4 ـ المنافقون فى الدولة الاسلامية بدون هذه الميديا كانوا يلمزون النبى نقدا ظالما له حيث يريدون أخذ الصدقات وهم أغنياء : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) التوبة )، كانوا يلمزونه ظلما ويسخطون عليه ظلما ، وهو عليه السلام بما فى قلبه من رحمة ورأفة كان يتسامح معهم ، بل كان يستغفر لهم ، واستمر يستغفر لهم فى مواقف عديدة إلى أن عاتبه رب العزة فقال له : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) التوبة) ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) المنافقون ).
5 ــ وصلت بهم البذاءة الى إيذاء النبى فقد شجعهم إستغفاره لهم وسكوته عنهم ، فدافع عنه ربه جل وعلا فقال عنهم : ( وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) التوبة ) . هذا من أروع ما قيل من رب العزة فى مدح خاتم النبيين ، ليس فقط فى انه جل وعلا هو الذى يرد عليهم مدافعا عن رسوله ، ولكن أيضا لأنه يصفه بالخير وبالرحمة ــ لمن آمن ــ ثم يتوعد من يؤذيه بعذاب أليم .
6 ــ المستبد الشرقى ظلوم فجور طاغية ، ولكنه لا يسمح لضحاياه بالتأوّه . وعجيب أن رب العزة جل وعلا يبيح للمظلوم أن يجهر بالسوء من القول ـ لأنه مظلوم ، يقول جل وعلا : (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) النساء )، أما المستبد الغشوم الظلوم فيعتبر تأوه الضحية جريمة قانونية .
7 ـ كان عليه السلام فى حياته حريصا على هداية الناس ، يشتد به الحزن شفقة بالمعاندين ، فيقول له ربه جل وعلا : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) الكهف ) (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) فاطر ) وكان يصبر على إيذائهم مع حزنه عليهم فقال له ربه : (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) النحل )، وكان يحزن على من يؤمن ثم يكفر ، فيقول له ربه جل وعلا : (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) لقمان )(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) آل عمران ) (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ )(41) المائدة ). هو عليه الاسلام لا يملك إرغام أحد فى الدين ، ودولته الاسلامية مؤسسة على الحرية الدينية للمواطنين ، أما فى الدولة الدينية الوهابية أو الشيعية فمصير من يخرج عن دينهم هو القتل بأكذوبة ( حد الردة ) .
8 ـ حزنه عليه السلام حرصا على هداية أعدائه الذين كانوا لا يدخرون وسعا فى إيذائه يؤكد أنه كان ــ عليه السلام ـ ذا قلب نبيل . وإذا كان هذا موقفه من أعدائه فهو أكثر رحمة بالمؤمنين معه ، ولقد قال جل وعلا لهم :( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)التوبة ) .
ثانيا :
1 ـ ومن اسف أن من المؤمنين الذين عايشوه وتمتعوا بشفافية قلبه النبيل كانوا يؤذونه، ويتقولون عليه بالإثم فنهاهم رب العزة جل وعلا فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)الاحزاب ). والخطاب هنا ليس للمنافقين بل للذين آمنوا من الصحابة.!
2 ـ ومن اسف أن من المؤمنين الذين عايشوه وتمتعوا بشفافية قلبه النبيل كانوا يؤذونه حتى فى بيته مما إستدعى أن ينزل فيهم ولهم قوله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) الاحزاب ) . الخطاب ليس للمنافقين بل للذين آمنوا الذين كانوا يقتحمون بيوت النبى بلا إستئذان منتهزين دماثة خلقه وحياءه من أن يجرح مشاعرهم ، وهم الذين كانوا يجرحون مشاعره ، ثم كانوا يأكلون عنده ويظلون يتسامرون فيتأذى منهم ويتحرج ويستحى من تنبيههم ، بل كانوا بجسارة ووقاحة يدخلون الى حجرات نسائه ، وطال الأمر فإستلزم نزول الآية الكريمة حتى يكفوا عن هذا الايذاء للنيى عليه السلام .
3 ـ ومن الآية الكريمة نفهم أن هؤلاء الصحابة الذين آمنوا أساءوا ( الصلة ) بالنبى عليه السلام ، فالصلة به يجب أن تكون قائمة على أساس الشرع القرآنى ، الذى يجب أن يسلّم المؤمنون به تسليما وإيمانا وإعتقادا . هذا الشرع القرآنى نزلت به الملائكة كتابا ، فيه صلة النبى بربه جل وعلا ، وفيه الصلة الحقيقية بين النبى والمؤمنين ، وهذا بعض معنى قوله جل وعلا تعليقا على أولئك المؤمنين الذين كانوا يؤذون النبى : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) الاحزاب ) . هم اساءوا فهم الصلة بالنبى وظنوها جلوسا معه وإنتهاكا لخصوصيته فى بيته ومع نسائه ، فجاء التصحيح بأن الصلة بالنبى هى التمسك بالقرآن ، وأن ما يناقض هذه الصلة هو الإيذاء للنبى ، لذا يقول جل وعلا بعدها : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) الاحزاب ).
4 ـ وعجيب أن يكون التعبير فى الآية الكريمة السابقة عن ( الرسول ) وليس النبى ، وقد قلنا أن مصطلح النبى يعنى علاقات النبى بمن حوله فى عهده ، أما مصطلح الرسول عنه عليه السلام فهو يختص به رسولا يتلو القرآن أو الرسالة ويبلغها ، ثم إن مصطلح الرسول بعد موته عليه السلام يعنى الرسالة أى القرآن ، وبه تظل صلتنا به قائمة ومستمره ، إذ نقرأ نفس الآيات التى كان فى حياته يقرؤها ، ونتلفظ بنفس اللفاظ التى كان يتلفظ بها . ولهذا قال جل وعلا فى حكم عام يسرى فوق الزمان والمكان بعد موت النبى عليه السلام : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) الاحزاب ).
5 ـ والسؤال هنا : إذا كان هذا الحكم ساريا فوق الزمان والمكان ـ يعنى ساريا علينا نحن فكيف لنا أن نؤذى رسول الله ، وإذا كان بعض المؤمنين يؤذونه فى حياته بانتهاك حُرمة بيته وبالحديث مع نسائه أو عن نسائه ، فكيف لنا أن نفعل ذلك وقد ماتت نساؤه وقد زالت بيوته ؟
وأقول إن بيت النبى وحرمة نسائه لا تزال باقية معنويا ، والدين السُّنّى بالذات ينتهكها ، فقد آذى النبى فى رسم شخصية له تتناقض مع شخصيته الحقيقية فى القرآن الكريم ، ثم إن أحاديث البخارى مثلا تنتهك حياة الرسول الشخصية مع نسائه فى الغسل وفى المحيض وفى المعاشرة الجنسية ، وقد فضحناهم فى كتابنا ( القرآن وكفى ) المنشور هنا .
6 ــ والغريب أن أحدهم يغضب إذا تكلم الناس عن العلاقة الجنسية بين ابيه وأمه ، وعن التفصيلات الشخصية لأمه . يرفض هذا عن أبيه وأمه ، ولكن يرضى هذا الإيذاء للرسول ونسائه ، بل يعتبر هذا الايذاء دينا . وإذا دفعنا نحن هذا الأذى عن الرسول عليه السلام إتهمونا بالكفر .
7 ـ وفعلا فنحن كافرون بدينهم الأرضى ومؤمنون بالاسلام العظيم دين رب العالمين .