يوم التلاق
هو ذاك اليوم العظيم , هو اليوم المشهود , هو يوم الحساب عطاءً كان أو جزاء , هو اليوم الموعود الذي سيتحقق فيه الوعد بالنعيم أو الجحيم , هو يوم الخلود الذي لا فناء فيه , خلود للنفس و خلود للجنة بنعيمها و لجهنم بجحيمها ,
ابدأ هذا الموضوع بتعريف اللقاء و هو لحظة التواجه و الاقبال , لحظة الحضور و الاستقبال , و اللقاء يتم مع شرط التواجد لذاتين أو لحدثين أو لذات و حدث , و قد يكون اللقاء شعورياً أو حسيّ كلقاء الموت ,
يوم التلاق هو يوم عام لجميع الأنفس ( سواء مؤمنة أو كافرة ) كيوم القيامه و كيوم البعث ( للمؤمن و الكافر ) فهو شاملٌ لجميع الخلق , فماذا ستلاقي هذه الانفس في ذاك اليوم ؟
يوم تجد كل نفس ما قدمت حاضراً أمام أعينها و صوب أبصارها , يوم تلتقي تلك الأنفس بأفعالها و تشاهدها بعينها , هذا ما سنلاقيه أمامنا جميعا ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) 6 الانشقاق ,
و سميّ بيوم التلاق كونه شاملٌ يشمل جميع الأنفس , و لا يقتصر على البعض منها , فلهذا لا أعتقد بأن مفهوم يوم التلاق هو يوم اللقاء بالخالق جل وعلا , كون الأنفس الكافرة لا يمكن لها من ملاقاة الله عز و جل و لا يسمح لها بذلك ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) 15 المطففين ,
فهل من الممكن للمؤمن من لقاء مالك الملك رؤية حقيقية وجه لوجه يوم الحساب ؟ أم سيكون هناك نوع من اللقاء الحسيّ ؟ فلنتدبر ما جاءنا من الحق ,
ينقسم الناس الى مؤمن بالله جل وعلا و الى كافرٍ به , فأما من آمن به فهو ينتظر و يرجو يوم اللقاء بربه جل و علا , و أما من كفر به فهو لا يرجو اللقاء ,
نلاحظ من خلال النص القرآني و جوداً للرجاء متلازماً بلقاء الخالق سبحانه و تعالى في أغلب الآيات التي تتحدث عن هذا الأمر , و كأن الأمر واجبٌ على النفس البشرية الدعاء لخالقها راجيةً منه اللقاء به متضرعةَ له بأن يسمح لها بلقائه , فالرجاء صنفان , صنف يكون بالتمني مع الطلب و التوسل , و الصنف الآخر يكن بالتمني وحده ,
فلقاء الخالق جل وعلا ( أياً كان ماهيته و كيفيته ) هو أمر حتمي , ( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) 2 الرعد ,
نبدأ بمن لا يرجو لقاء ربه :
و هم ثلاثه ( المنافقون و المشركون و الكافرون ) , كلهم لا يرجون لقاء ربهم الحق و اقول الحق ( لان منهم من يرجو لقاء ربه الباطل ) ,
فمنهم لا يرجو ذلك كونه متمسكاً بالحياة الدنيا و بحطامها متناسيا للآخرة غافل عن كل الآيات التي يستدل بها ( إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ) 7 يونس ,
و منهم من تتلى عليه آيات الذكر الحكيم فيرفضها و يتبع ما دونه مبدلا كلام الله بكلام آخر ( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) 15 يونس ,
و عن من نافق من بعد ما عاهد الله ختم الله على قلبه بالنفاق الى آخر حياته ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) 77 التوبة , و هنا المقصود بيوم يلقونه أي يوم يلقون الموت ,
و منهم من قال بكفره و طالب برؤية الملائكة أو برؤية الرب استكباراً و غطرسةً ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ) 21 الفرقان , و هنا نلاحظ الفارق بين طلب الرؤية مستكبراً و بين طلب الرؤية رجاءاً و تذللاً و خضوعاً كما فعل موسى عليه السلام ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) 143 الأعراف , و نرى هذا الأدب و التذلل حين قال ( أرني ) فهي تفيد الرجاء و الاعتراف بأنك أنت وحدك القادر على ذلك , على عكس من لا يرجون اللقاء حيث قالوا ( نرى ) أي بتغطرس و تكبر و ظناً منهم انهم هم المسيطرون على أبصارهم ,
هؤلاء الاصناف الثلاثه المحجوبون عن ربهم في الآخرة لن يتمكنوا من ملاقاته سبحانه , فما لهم سوى ملاقاة ما عملوا في الدنيا من ضلال و طغيان يعمهون فيه كما كانوا يعمهون به في الدنيا ولكن تحت عذاب الجحيم ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) 11 يونس , فلن يرى هؤلاء أي نور و لن يجدوا سوى ما يستحقون من عذاب و ظلام ماكثين فيه أبدا .
أما النوع الثاني , من يرجو لقاء ربه :
فيقول جل و علا ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) 110 الكهف ,
لقاء مالك الملك سبحانه و تعالى يحتاج الى الايمان المطلق به وحده لا شريك له مع العمل الصالح , هذه هي شروط اللقاء به جل وعلا , و لكن يبقى السؤال قائماً عن كيفية و ماهية هذا اللقاء ,
و للاجابة على ذلك لننظر في بعض الآيات التي توضح لنا كيفية و ماهية هذا اللقاء :
في سورة الأنعام الآية 103 و الآية 104 ( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) , هنا الحديث عن ذات الله جل وعلا في الدنيا و التعليل هنا كونه جل وعلا هو الخبير بنا و من لطفه جل وعلا جعل أبصارنا لا تستطيع ادراكه , و يبين لنا في الآية التالية انه جل و علا قد بعث لنا ببصائر و هي آيات الكتاب , فمن اتبع تلك البصائر فقد أبصر و اهتدى و انعكس هذا النور و الهدى على نفسه فتصبح تلك النفس بصيرة , و اما من لم يتبع تلك البصائر فقد ضل و عمي و ينعكس هذا الضلال سواداً على نفسه فتعمى هي الأخرى ,
قلنا أن يوم التلاق هو يوم أن تلتقي كل نفس بعملها الذي قدمته ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) , و قال أيضا عن هذا التلاقي ( أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) 61 القصص فهنا عن لقاء ما وعدنا به الله جل و علا و الله لا يخلف وعده ,
و يوضح الله جل وعلا لمن يرجو لقاء ربه بأنهم سيلاقون أجل الله في يوم التلاق , و أجل الله جل وعلا لنا هو ما أجله لنا من عطاء أي الجنة التي وعد بها المؤمنين ( مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) 5 العنكبوت ,
و يكون الأمر اكثر وضوحا في قوله سبحانه ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) 15-16 غافر , نحن نعلم بأن الخالق جل وعلا ليس كمثله شيء , و هو رفيع الدرجات دليل على سموه و رفعته , و هو ذو العرش دليل قدرته و جبروته , و في الاية التي تليها يبن لنا المولى جل في علاه كيفية يوم التلاق , ففي هذا اليوم يبرز جميع الناس , و البروز هو الخروج مع الظهور , و لكن لمن الخروج و الظهور , الخلق هم وحدهم من سيبرز , و هذا تحديدا بقوله ( يوم هم ) ,
يبقي القول الفصل في قوله ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) 22-23 القيامة , فهل من الممكن ان تكون تلك النظرة مباشره ام غير مباشره !
و في الختام اسأل الله لي و لكم ان نكون ممن قال عنهم ( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ) .
سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا
سبحانك اني كنت من الظالمين