قد نختلف في مصر مع وزارة الداخلية في تطبيقها لقانون التظاهر، لكن من يستهدفون القانون ذاته لا يريدون بالأساس قانوناً، أو يريدونه قانوناً يتيح لهم الثورة وإسقاط النظام. لا يوجد مثل هذا القانون في أي مكان بالعالم. . الفوضويون يمتنعون. . لا أظنني من التقليديين الذين يفضلون الإصلاح البطيء على الثورة، وأظن أن مزاجي وسيكولوجيتي ثورية، لذا سارعت بالالتحاق بثورة 25 يناير2011 ثم ثورة 30 يونيو 2013، ولقد باءت الثورتان بفشل ذريع في كافة المجالات، و"لا محيص" الآن من البديل الوحيد العقلاني غير التخريبي، أن نحاول الإصلاح من داخل هذا النظام، الذي ينشب أنيابه في رقابنا منذ انقلاب يوليو 1952، والذي اتضح جلياً استعصاء الخلاص منه بالثورة. أن نحاول الضغط بالرأي العام ومؤسسات العمل المدني، ليصلح النظام من ذاته، ويطيح بنوعيات الشخصيات الجاهلة الفاشلة التي يلتحف بها، هذا إن تواجد غير هذه النوعية في الساحة المصرية اليباب!!
تختلف محورية "الوطن" عن محورية "المواطنين"، فالوطن كيان اعتباري، يحتاج لمحيط وشعب ودولة وعلم ونشيد. أما المواطنون الذين هم كيان طبيعي بشري، فهم يحتاجون لمحيط يعيشون فيه، ودولة تلبي لهم مصالحهم. إذا كان "الوطن هو المحور"، فالهدف يكون "تعظيم الوطن"، والبحث عن "دور ريادي للوطن"، وتحقيق "هيمنة للوطن" على مواطنيه وعلى أوطان أخرى، أو البحث عن امتداد يوسع من رقعة الوطن. كما يظهر ما يوصف بأنه "مصالح الوطن العليا"، التي لا قبل لعامة الناس بمعرفتها أو بدس أنوفهم فيها. هذا يقود تلقائياً لمحورية الدولة وسيادة أجهزتها ومؤسساتها، وتعظيم وتمجيد رئيسها، الذي يكون لسان حاله يقول "أنا الوطن"، ليكون الشعب "في خدمة الوطن" أو كما يقال "فداء للوطن" ومن ثم "فداء للرئيس"، وكثيراً ما يكون على المواطنين التضحية و"الصبر والصمت" من أجل الوطن. العكس يحدث في "محورية المواطنين"، حيث يكون الوطن والدولة ورئيسها في خدمة المواطن، لتصب كل الجهود في صالح الإنسان، باعتباره صاحب السيادة الأوحد، والقيمة الأثمن والمالك للوطن، والرقيب الأعلى على الدولة ورئيسها.
تعبنا من القول أن المطلوب هو تغيرات جذرية في القاعدة الشعبية والتربة المصرية. . في العادات والتقاليد والقيم والثقافة والسلوك وعلاقات الناس بعضهم ببعض. فهذا وحده هو الكفيل بوصول الأكفاء الجديرين إلى كراسي السلطة، وغير هذا تخبط وسعي للمزيد من الفوضى والخراب. من لديه فكر سياسي أو اقتصادي أو ثقافي، يرى أنه بديل لحالة الخراب والتخريب الحالية، عليه أن يبشر به الشعب ويضغط به على الحاكم، لا أن يخرج ليهتف على الأرصفة مطالباً بسقوط الدولة المصرية. . الكارثة الحقيقية في خواء وهوس المعارضة، فهي التي تمكن الفهلوية والجهلة من أن ينشبوا أظافرهم في عنق البلاد.. . تأبى أذناي الاستماع إلى أي مصري يتحدث عن الحرية، فهو إما أن يكون متاجراً مزايداً، أو تكون الحرية التي يقصدها هي حريته هو، وليس حرية من يختلف معه في الرأي. جميعنا يا سادة ولا أستثني نفسي، نسفه ونخون ونكفر المختلفين، ونود لو استطعنا تعليقهم على المشانق في الميادين العامة كما تعودنا أن نردد. . انسوا الحرية يا سادة فنحن لا نعرفها ولا نحبها ولا نطيقها، وتعالوا نبحث كيف يمكن أن تقاد قطعان من الرعاع، لتكون حياتها أقرب إلى حياة البشر. . الجهل والنفاق والخنوع واستعذاب قيود العبودية من صفات المواطن المصري الصالح!!
واضح من زيارة الرئيس الفرنسي لمصر وما قاله خلالها، أن فرنسا لم تع الدرس مما نالها من الإرهاب، ومازالت باسم البرجماتية تسير بذات المنهج الذي تسير عليه أمريكا منذ عقود طويلة، ونرى الآن بدايات حيودها عنه لإدراكها خطورته. التعامل النفعي قصير النظر مع أنظمة وهابية وفاشية وديكتاتورية تحقيقاً لمصالح اقتصادية. . يدفعون وسيدفعون وسندفع معهم المزيد ثمناً لسياساتهم الحمقاء هذه!!
العالم الغربي غير جاد حتى الآن في التصدي للإرهاب. ربما هو الجهل أو الجبن أو قصر النظر أو هذه جميعاً. قطع دابر الإرهاب ليس فقط بقصف الإرهابيين بالنقابل والصواريخ، ولا هو فقط بتتبع وقطع تمويلاتهم. المطلوب الذي يعزفون أو يخشون من الإقدام عليه الآن هو اتخاذ مواقف قاطعة حازمة من النظم والشعوب والإيديولوجيات المنتجة للإرهاب. هم يتلاعبون بالعصا أو يمسكونها من المنتصف منذ عقود، والنتيجة وبالاً عليهم وليس علينا فقط. . يبدو أنهم ينتظرون أن تتحول إوروبا ومن بعدها مواقع الحضارة الإنسانية كلها إلى أرض خراب!!
يعتمد نظام الحكم المصري الراهن فيما يبدو على اضطرار الجميع لتحمله والتعامل اللين معه مهما فعل. ففي الداخل لا بديل أمام الشعب المصري غير إخوان الإرهاب وما هو أسوأ من سلفيين ودواعش، أو مهاويس اليسار والعروبة والناصرية. وفي الخارج يحتاج العالم مصر بموقعها ووزنها السكاني، كقاعدة مستقرة في منطقة يجتاحها الإرهاب والفوضى. وبالتالي فالمعونات لمصر مستمرة، والصبر على انتهاكات حقوق الإنسان مستمر. . لا يبدو أن هذه المعادلة سوف تتغير قريباً، ويدرك الجالسون على كراسي الحكم أنهم يستطيعون الاطمئنان على كراسيهم، وأن يمدوا أرجلهم على استقامتها بما تنتعل، في وجه كل من يتضرر أو يعترض أو يشمئز.
العالم الغربي الحر يدعم الحكومات المتخلفة بمليارات ويدعم منظمات المجتمع المدني فيها بملايين. ليس هناك منطق إذن في اعتبار الحكومات المتلقية لتمويلات خارجية وطنية، وفي نفس الوقت اعتبار منظمات المجتمع المدني التي تقترف نفس الفعل عميلة!!
إذا صحت رواية أن أمين الشرطة أطلق النار على الرجل لأنه طالبه بثمن كوب الشاي، فلابد أن السيد الأمين لم يغضب من أجل ثمن كوب الشاي ذاته، ولكن لأنه رأى في المطالبة بدفع ثمن ما أخذ إهانة وعدم اعتبار لشخصيته، وأنه هكذا سيفقد حيثيته التي يعيش عليها في المجتمع، كما يفقد وضعه كواحد من فئة تأخذ ما تشاء وتهوى من الناس، الذين يملأ الخوف قلوبهم من سلطان وجبروت أسيادهم. . لابد أن شعوره وهو يطلق الرصاص هو أنه يدافع عن كيانه ووجوده. . قد يجوز القول بأن عملية القتل ذاتها حادث فردي وإن تكرر، لكن مجمل الأمر وكامل ملابساته خطير وعميق في سيكولوجية رجال الداخلية، هذا إن صح ما ذهبنا إليه.
عظماء المصلحين والأبطال عبر التاريخ لم يحققوا إنجازاتهم بقدراتهم الشخصية كما قد يتم تصوير الأمر. فالفضل والعظمة الحقيقية كانت للآلاف والملايين من البشر العاديين، الذين كانوا سنداً وتربة خصبة لفكر وجهد هؤلاء الأبطال. . عبثاً ننتظر البطل والمنقذ والمخلص، مادامت الأرض مستنقعاً للعفن والطفيليات والديدان. . ما يبدو حتى الآن أن مصر حالة ميؤوس منها!!