في مثل هذا الشهر من عام 2011 اندلعت الثورة السورية مطالبة بإقصاء حكم الرئيس بشار الأسد، ولم تمر أيام حتى أعلن الثوار أهدافهم برفع شعارات طائفية وتسليح المتظاهرين ، وتم الاعتراف بتسليح الثورة رسميا منتصف العام بعد أنشقاق ضباط في الجيش السوري كرياض الأسعد وحسين هرموش وتكوينهم لنواة الجيش الحر وخوضهم معارك في تلبيسة والرستن واستقلالهم بحي باب عمرو في حمص.
تبع ذلك دعوات دينية ورسمية وشعبية بالتسليح بحجة خطر إيران أو مواجهة التمدد الشيعي في سوريا، وانتشرت الدعوات في العالم العربي حتى وصلت لأروقة الجامعة العربية، فتم حرمان الدولة السورية من مقعدها في الجامعة واستبداله بممثل المعارضة المدعوم من تركيا ودول الخليج..
جاءت النتائج بسرعة في انتشار الجماعات الإرهابية وظهور داعش وجبهة النصرة ومئات الفصائل الأصولية المتطرفة التي حاربت في سوريا من أجل تحكيم شرع الله ولإعادة سوريا إلى النفوذ العربي والإسلامي..أي أن الأمر لم يقتصر على مجموعات الأسعد وهرموش بل تمدد بفعل النزعة الدينية المرافقة لأعمالهم والتي استقطبت راغبي الجهاد من كل أصقاع العالم.
وبعد استفحال خطر الإرهابيين وتمددهم بالسيطرة على محافظات بالكامل وتهديدهم أراضي ومواطني أوروبا، جاء التدخل الأمريكي ليعلن حربا أمريكية جوية على تنظيم داعش بمساعدة من حلفاء البيت الأبيض، وبعد أكثر من عام على بدء الحرب الأمريكية تمددت داعش وتنظيمات القاعدة ممثلة في جبهة النصرة بسيطرتهم على مزيد من الأراضي، فأدى ذلك إلى تشجيع التدخل الروسي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
جاء التدخل الروسي ضمن إطار يحافظ على هوية الدولة السورية العلمانية، وعلى الجيش السوري كوحدة مستقلة عن أي صراعات دينية، ومن هذا الدافع تجرأت روسيا بإعلان موقفها الذي اتسم بالمنطقية في تناول الأحداث في سوريا مع خطورتها، وهو موقف يتعارض مع موقف أمريكا التي تصر على رحيل بشار الأسد كخيار استراتيحي دون مراعاة لأوضاع المنطقة، أو حتى التفكير في البديل الذي فشلوا –حتى الآن-في إظهاره في ليبيا والعراق، وهو درس تعلمت منه روسيا وكلما جرى الحديث عن إسقاط الأسد يُذكر بوتين خصومه من الأمريكان والأوربيين بجريمتهم في ليبيا والعراق.
هذا هو الخط الزمني للأزمة السورية وقد وصلت الآن في شهر مارس 2016 إلى اتفاق وقف (الأعمال العدائية) برعاية أمريكية روسية، ومفهوم الأعمال العدائية أشمل من مفهوم(وقف إطلاق النار) إذ أن الأعمال العدائية تشمل عدم التحريض السياسي والإعلامي أيضاً، وهو خيار لجأ إليه رعاة الاتفاق بعد وقوفهم-على ما يبدو –على مصدر الأزمة، وهو الشحن الديني والأيدلوجي والسياسي المركب التي تعاني منه أزمة سوريا منذ سنوات.
طيب ما موقف الجامعة العربية من كل ذلك؟
وما المطلوب من بشار الأسد تجاه الجامعة، وماذا نتوقع؟
أولا: الجامعة العربية هي التي اتخذت قرار التدويل بعد تجميد عضوية سوريا على مستوى وزراء الخارجية العرب قبيل قمة بغداد 2012، وقد رعت السعودية وقطر هذا التدويل بضرورة إدراج الحرب السورية ضمن فصول البند السابع.
وقد جاء التدويل كقرار انفعالي على نتائج لجنة الفريق الدابي –المكلفة من الجامعة باستقصاء الأوضاع-والتي شهدت اللجنة في أوائل عام 2012 بأن الجيش السوري والمعارضة شركاء في الجرائم والتجاوزات، مما أدى لموجة غضب خليجية ضد اللجنة واتهام رئيسها بالرشوة أو خضوعه للابتزاز، وعليه تم التنكر لنتائج اللجنة ورفع ملف سوريا لمجلس الأمن.
ثانيا: رفضت روسيا والصين أكثر من مرة قرار التضمين هذا ، وأعلنت كل منهما الفيتو لإفشال أي تدخل دولي عسكري في سوريا والتصميم على دعم الحل السياسي، وفي كل مرة كان يعقد فيها مجلس الأمن تسبقها مجازر منسوبة للجيش السوري للضغط على روسيا والصين وحلفائهما، وهو ما أثار الشك حينها في صحة هذه المجازر وكونها إعلامية لترافقها دوما مع تاريخ أي جلسة للتصويت.
ثالثاً: تم تشكل مؤتمر أصدقاء سوريا مكونا من دول خليجية وأوربية وأمريكية لدعم المعارضة المسلحة ضد الجيش السوري بكل تشكيلاتها، وقد سار هذا الدعم بالتوازي مع دعم الجامعة العربية للمؤتمر وإظهار أن أصدقاء سوريا هو رغبة عربية بالأساس.
رابعاً:عقدت القمة العربية في الدوحة في مارس 2013 وفيها اعترفت الجامعة بممثل المعارضة المسلحة وهو.."الائتلاف الوطني"..الكائن والمدعوم من تركيا، وبالتالي منحت الجامعة مقعد سوريا لممثل الائتلاف في جريمة سياسية تم إبطالها بعد ذلك بعامين في قمة شرم الشيخ وبتوجه صريح مصري بالحياد ودعم الحل السياسي.
خامسا: في قمة الدوحة جاء البيان الختامي بحق الأعضاء في تسليح المعارضة السورية، وهو ما قامت به بالفعل معظم دول الخليج أشهرها السعودية وقطر والإمارات، هذا بخلاف الدعم والتسليح الشعبي والتركي قبل انعقاد القمة، مع العلم أن دول كلبنان والعراق والجزائر رفضوا القرار شكلا وموضوعا..وهو ما يتبين بعد ذلك من موقف نفس الدول من أزمات أخرى.
سادسا: كان يهم أمريكا إنشاء شريط أمني بين سوريا وإسرائيل يحمي الكيان الصهيوني من ملابسات الحرب السورية، وبالفعل قامت على ذلك بإنشاء غرفة عمليات في الأردن لقطع شريط يمتد من درعا إلى القنيطرة بمحاذاة هضبة الجولان، وقد نجح الإرهابيون في احتلال هذا الشريط والفصل بين مراكز الجيش السوري ومراكز الجيش الإسرائيلي.
من هذه النقاط يتبين أن دور الجامعة العربية في سوريا كان لصالح الإرهابيين حصرا، ويعني أنها مسئولة مسئولية مباشرة عن ما آلت إليه الأوضاع من تدمير وانتشار للجماعات وتقسيم الدولة على أسس أيدلوجية، فالجامعة لها موقف سلبي من التدخل الروسي، لم تدعم خشية الخليج، ولم ترفض خشية مصر، وأصبح نبيل العربي بين خيارين كلاهما مر، إما أن يزج بالجامعة في مواجهة مع الروس وبالتالي انشقاق الجامعة وخروج مصر، أو أن يعلن دعمه للروس وبالتالي اتهامه بالخيانة ومصادرة الموقف العربي، الذي تم تأويله مؤخرا حسب الهوى والمزاج السعودي.
اليوم ترتكب الجامعة العربية جريمة سياسية جديدة باجتماع وزراء الداخلية العرب واعتبار حزب الله اللبناني منظمة إرهابية، وقد تحفظ على القرار وامتنع عنه ثلاث دول هي.."لبنان والعراق والجزائر"..وهي نفس الدول التي رفضت قرارات قمة الدوحة 2013، بما يعني أن مواقف الدول الثلاث لا تصب في صالح رأي الجامعة وبالخصوص دول الخليج المتحكم الرسمي في المؤسسة.
مبدئيا فالدول الثلاث- إضافة لسوريا- يشكلون جميعا حائط صد ضد خطط وأطماع دول الخليج بالانفراد بالموقف العربي، وبعضهم يفسر مواقف الخليجيين على أنها تقوم على اعتبارات قبلية ومذهبية، ولو أضفنا سلطنة عمان لهذا الرباعي تصبح الجامعة العربية من الأساس هشة وضعيفة لا نفوذ سياسي لها على الأرض، ولو أضفنا اليمن وليبيا باعتبارهما دول مقسمة بها أكثر من حكومة يبقى الوضع العربي برمته مهلهلا يصبح الحديث باسمه نوع من الدجل والنصب، وفي تقديري أنه ما يحدث الآن وسبب كثير من التخبط والعشوائية وإشعال الحروب العبثية كالتي تجري في اليمن بتورط فاضح للجامعة العربية.
والسؤال الآن في سوريا
كم نسبة الشعب التي تدرك دور الجامعة في تدمير بلادهم؟..وما حقيقة موقفهم من الانتماء للأمة العربية بالأساس؟..وما البديل للجامعة في وجدان السوريين؟..مع العلم أن الشعب السوري في أكثريته بات رافضا للحرب بغض النظر عن المسئول عنها، ويتمنى من اليوم أن ينتهي الجميع منها ويعود اللاجئون والمهجّرون في أبشع كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية.
رغبة السوريين بالعودة هل هي خيار عربي يتبناه قادة الجامعة؟
حتى الآن لم يصدر قرار واحد أو بالإشارة من قادة الجامعة العربية والمسئولين بها عن ضرورة أو كيفية عودة اللاجئين، لأن مناقشة هذا الأمر يعني حتمية الحل السياسي الذي أصبح رفعه مجردا يهدد أحلام وأطماع دول الخليج بالانفراد بالقرار السوري، وهو ما لا تسمح به روسيا وإيران، وبصمود الجيش السوري طوال 5 سنوات من الحرب بات من الصعب تحقيق هذه الأمنيات، وهذا يعني أن المستفيد الوحيد من عودة اللاجئين هو النظام السوري ممثلا في حكومته برئاسة بشار الأسد، وكل حديث عن اللاجئين لم يعد يصب في الحشد ضد الجيش السوري كما كانت عليه الأوضاع أول 3 سنوات من عمر الأزمة.
الآن وبعد استفحال أزمة اللاجئين وتهديدها للأمن الأوروبي أصبح الحل السياسي في سوريا أمن قومي للأوربيين أنفسهم، وكذلك التهديد السعودي والتصعيد الخليجي في لبنان يشعر الأوربيون بالخطر من هجرة مليون لاجئ سوري في لبنان فيما لو اشتعلت حرب خليجية لبنانية في أي لحظة، لأن المعركة هنا لن تكون بين دول الخليج وحزب الله كفريق سياسي، بل ستأخذ الحرب كل مقومات الحرب السورية من حشد مذهبي وربما تدخل روسي إن لزم الأمر.
إن القرار الخليجي ضد لبنان بقطع المعونة أو سحب الاستثمارات أو قطع العلاقات أو اعتبار حزب الله إرهابي، كلها تعني في الأخير احتمالية اندلاع حرب خليجية ضد لبنان في أي وقت، وفي تقديري أن الاحتمال ضعيف لأسباب تتعلق بجغرافيا لبنان وارتباطها بالأزمة السورية، أو لقوة حزب الله العسكرية التي ربما يمتلك وسائل دفاع جوي جيدة تمكنه من تغيير المعادلة المعروفة مسبقا، فدول الخليج لا تملك سوى الطيران، وامتلاك الحزب صواريخ ضدها يعني فشل خيار الحرب ضد الحزب مقدما.
وبغض النظر عن احتمالية الحرب في لبنان فالتصعيد فيها يعني تهديد للشرق والجنوب السوري، وإن حدثت ستكون بمباركة عربية من الجامعة، وبالتالي على الرئيس الأسد ومسئولي الدولة في سوريا الاختيار بين بقائهم في منظمة معادية لهم وهي الجامعة العربية، أو الانسحاب منها بعد افتضاح أمرها أنها مجرد كيان مسخ لتحقيق مصالح دول الخليج ذات التركيبة المذهبية والقبلية المتخلفة، والتي لم تعد قادرة على مسايرة الحضارة فتتورط بأموالها وسلاحها يمينا ويسارا دون اعتبار للنتائج.
مناقشة أمر الانسحاب من الجامعة العربية في رأيي هو الثمرة الكبرى التي ربما تشجع دول أخرى كالعراق ولبنان والجزائر على تحقيق نفس الخطوة، وهو اتجاه لو حدث ربما يحدث انهيار تام في الجامعة وتفككها بعد 70 عاما من إنشائها وثبوت فشلها على كل المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، فتاريخ الجامعة نفسه غير مشجع ولم يثبت من فكرة إنشائها أي مصلحة للعرب سوى تأزيم وتعقيد الخلافات بين الشعوب العربية التي وصلت لأوجها اليوم، وبات من الضروري مناقشة أمر الجامعة من عدمه وليس مجرد الانتماء الشكلي لها.
لكن السؤال الهام: ما البديل ؟..وما الشكل التي تبدو عليه الدول العربية بعد تفكك وانهيار الجامعة؟..وهل سيعود ذلك بنا للذاكرة قبيل اتفاقية سايكس بيكو؟..وما مصير الثقافة العربية بعد هذا الانهيار؟..وهل بالفعل توجد ثقافة عربية؟..وهل يتم استدعاء الثقافات المحلية وتاريخ الشعوب؟..وهل يتم إعلاء الهويات الوطنية على الانتماء اللغوي؟..وهل العالم سيدعم هذه الخطوة أم سيأسف لها باعتبار أن الجامعة كانت تمثل لديه شكل من أشكال التواصل؟...وهل التواصل سيتحقق بعد هذا الانهيار؟
الإجابة ربما نناقشها مستقبلا ونبحث عن أدوار للعرب خارج إطار الجامعة الفاشلة، ولكن حتما بقاء الجامعة من عدمه أصبح قرار الشعب السوري نفسه، والذي في تقديري لو اتخذه الرئيس الأسد -كقرار مدروس وإعلان قوي ومنطقي- سيشجع كثير من الدول على اتخاذ نفس الخطوة لتنتهي نكبة من أكبر النكبات في تاريخ المسلمين والشعوب القاطنة في المنطقة العربية بأكملها.