ملحقات التغريبة :
أولا : سمات الشخصية العبرانية (Hebrew`s Profile)
بالرجوع إلى ملف العلوم الإنسانية والتي لمستها سورة يوسف سوف نجد أنها تنقسم إلى مجموعة من الفضائل، أيضا تشير إلى مجموعة أخرى من الرذائل واستنبط معظمها من تصرفات بني إسرائيل ( إخوة يوسف ) وهي بذاتها تشكل في معظمها السمات التي تصف بحق الشخصية العبرانية !!
وسوف نتناول كل منها على حدة مع الإشارة إلى الآيات التي تصف مثل هذه الرذائل، والتي تكاد من فرط صدقها، وعمق الوصف فيها، أن تستنطق الأحرف صارخة مستنكرة، بأنها رذيلة مرزولة غير مستحبة، وأنها مستهجنة لا يختلف فيها إثنان، وذلك على مر الأزمنة والعصور، ومهما تقادمت العهود بها، فقد يحدث أن تكون فعلة ما مستهجنة في عصر، ثم يأتي من بعد ذلك زمن تال لا تكون فيه ذات الفعلة مرزولة، لكن هذه الرذائل من الصعب أن تسري عليها هذه القاعدة، فهي دوما مستهجنة مرزولة كان ما كانت الحياة، وكان ما كانت الأزمان.
ثانيا : الأخلاق غير الحميدة ( المذمومة الفاسدة )
1. رذيلة الحسد
2. رذيلة الحقد
3. رذيلة البغضاء
4. رذيلة التخاذل
5. رذيلة الكذب
6. رذيلة الرعونة
7. رذيلة الجحود
8. رذيلة الغرور
9. رذيلة العصيان
10. رذيلة الظلم
11. رذيلة الكيد
12. رذيلة الفصال
13. رذيلة ادعاء العلم
14. رذيلة عدم النهي عن المنكر
15. رذيلة عدم تبجيل واحترام الكبير
16. رذيلة الخطأ والخطيئة
17. رذيلة غبن الآخر
18. رذيلة عدم قبول الآخر
19. رذيلة ثقافة التبرير
20. رذيلة التناجي والمناجاه
21. رذيلة ثقافة رد الفعل وليست ثقافة منع الفعل
22. رذيلة رمي الآخر بالباطل
وسوف نبدأ في تناول هذه الرذائل واحدة إثرأخرى لكنه ليس بالترتيب التي جاءت علية وإنما بترتبب ورودها في الآيات التي تدلل عليها وبنفس ترتيب توارد هذه الآيات في السورة، ذلك مع الإشارة إلى الكلمات التي تفصح بحق عما يعبر عن تلك التصرفات المستهجنة والتي كان عليها إخوة يوسف، والتي من أجلها وصمت بأنها من الرذائل غير المستحبة في التعاملات بين البشر وبعضهم البعض، فما بالك في أنهم لم يقترفوها إلا مع أقرب الناس لهم، بل وتربطهم رابطة الأخوة والأبوة والدم، مما حدا بنا أن نصنف هذه التصرفات بأنها التعبير الدقيق عما أسميناه الإدارة الطالحة وهو ما نعني به إدارة ناجحة لكن الهدف منها فاسد خبيث.
سمات الشخصية العبرانية
كلمات الآية ( 8 )
{إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) }
هذه الآية تتكون من أربعة مقاطع :
المقطع الأول : {إِذْ قَالُوا...."
وهي تفيدالنجوى فيما بينهم، وهي من الشيطان ، وفيها الغيبة ، والنميمة ، والغل ، والضغينة ، والكيد ، ووسوسات الشيطان مفتوحة ومستمرة ودائمة.
المقطع الثاني : "....لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا..."
وهي تفيد الحقد والحسد والشعور بالإضطهاد ، وإحساس زائف بالظلم، وهذا الإحساس هو الأخطر، لأنه أهم من الظلم الإحساس به، لكنه إحساس غير حقيقى، ولا يوجد إلا في مخيلتهم، وقد صورته لهم نفوسهم الضعيفة، وأحاسيسهم الخبيثة، وجاء نطقهم لهذه العبارة بمثابة من يود إظهار نفسه أمام نفسه وأمام الآخرين بأنه مظلوم.
المقطع الثالث : "....أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ......"
وهي تفيد المغالطة ، وقلب الحقائق ، والكيل بمكيالين، فالطبيعي أنهم ولأنهم عصبة، مما يوحي بتجمعهم وقوتهم، فهم أقوى وأعتى، مما حدا بالأب إلى حنوه على الصغار يوسف وأخيه ، فطبيعة الأب - أي أب - أن يحنوا على أولاده الصغار حتى يكبروا، ويرنو إلى ولده المسافر حتى يعود، ويرجو التوفيق للمتعثر من أولاده، ويدعو للمريض حتى يشفى، ويشفق على الفقير حتى يغنيه الله.
المقطع الرابع : "..... إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) }
وهي تفيد سوء الأدب، وعدم البر يالأب، وعقوقهم لأبيهم، ووصفه بما ليس فيه، وتعني جحود المشاعر، وقسوة القلب، وتحجره إزاء أبيهم، ثم على يوسف وأخيه.
وقد ورد في هذا المقطع كلمة " ضَلَالٍ مُبِينٍ " والمقصود هنا ليس بالطبع ضلال العقيدة، أو البعد عنها، لكنه الضلال في حسبهم، وهو البعد عن مطلوبهم وعما يشتهون وما يريدون وعما يرومون ويرغبون.
كلمات الآية ( 9 )
{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) }
وهذه بدورها تتكون من ثلاثة مقاطع :
المقطع الأول : { اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ..."
وهي تفيد الرعونة والتسرع، بالبدء باقتراح القتل أولا ،ثم النفي في أراضي قاحلة بعيدة موحشة، لا زرع فيها، ولا ضرع ، ولا مغيث، حيث يقابل حتفه لا مراء، ولا أمل في نجاته، وهي بذلك تعني الجرأة على القتل، للتخلص ممن هو ليس مرغوبا في وجوده، أيضا الإقدام على أشر الشرور واستسهالها.
المقطع الثاني : ".....يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ...."
وهي تفيد الأماني الكاذبة التي يتمنونها، والوعود البراقة التي يرجون تحقيقها، ويتوقون إليها، ويتوقعون الحصول عليها ، بأي طريقة ( الغاية تبرر الوسيلة )
المقطع الثالث : ".....وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
وهي تفيد المغالطة مع النفس، والطمع في الحصول على رضا المتلقي بادعاء الصلاح، أو مجرد التطبع به، بعد إختفاء الحائل الذي يرونه بقلوبهم المريضة التي يكسوها السواد، وبأفكارهم البغيضة، أنه يحول بينهم وبين ما يريدون، وهي حيلة شيطانية يسول بها إبليس اللعين وقبيله، إلى نفوسهم الملوثة القيام بالشر، ثم بعدها تأتي - في تصورهم - التوبة ويكون الصلاح، ولا يكون إلا الخير وإصلاح الأمور.!!
كلمات الآية ( 10 )
{ ..... إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
وهذه الكلمات توحي بالظهور بمظهر الأخيار الصالحين المصلحين لأمور الدنيا، والعاملين على صالح المجتمع ، ولو بتخفيف حدة العمل المفترض القيام به، وهي أيضا خطة إبليسية، فإن رأى العبد مصرا على القيام بطاعة م، ولم يستطع أن يصرفه عن آدائها، دله على طاعة أخرى لكنها أقل في درجتها وفي أجرها، فمثلا إن قام المرؤ لآداء فريضة الصلاة بعد النداء على وجوبها، وسوس الشيطان بأنه قد صار لك زمن لم تطمأن فيها على أخبار الوالدين، وهي طاعة وتجزى بها خيرا، أو لم تعود صديقك المريض ولو بالسؤال عن أحواله بالهاتف وهي الأخرى طاعة تجزى بها خيرا، لكنهما أقل في الأجر من آداء الفرض في وقته.
كلمات الآية ( 11 )
{ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)}
وهذه الآية ذات مقطعين
المقطع الأول : { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ..."
وهي تفيد المراوغة والمراودة الناعمة في البداية لكسب التعاطف، واكتساب ثقة المتلقي، وذلك حتى تنطفئ بداخله كل موانع التحذير، وحاسات الحذر.
وهي تعني أيضا السعي إلى الفساد والإفساد، والخطأ المحسوب والذي يبدو من مظهره أنه خطأ غير مقصود، والمفترض ألا يكون عليه حساب أو لوم.
المقطع الثاني : "...وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) }
وهو ما سوف نضمه لكلمات الآية التالية.
كلمات الآية ( 12 )
{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) }
وهذا يبدو إستمرارا للمراودة الناعمة ، واستخدام الألفاظ ذات الوقع الطيب
"...وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) } ، "..... وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) }
والتي تغري باستحثاث نوازع الأمل نحو تطبيع المشاعر وتطييبها على النحو الذي يرجوه المتلقي من مجتمعه، ونحو مجتمعه.
كما يعني عجز الآيتين عن عدم الوفاء بالعهود والمواثيق، فقد تعهدوا بحفظ يوسف، والنصح له، ومع أن الأب نبههم بألا يكونوا عن يوسف غافلين، ولما أعطوه موثقهم، قام بتسليم يوسف إليهم، وقد بيتوا له الغدر .
كلمات الآيات ( 13 ) & ( 14 )
{ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) }
وهي تفيد المناورة والإلتفاف والمراوغة، وتفنيد مزاعم المتلقي، واستخدام ثقافة التبرير، وإزالة مخاوفه من المحاذير التي يخشاها أو يتصور وقوعها، باستخدام العبارات المطمئنة، والكلمات المؤكدة على سلامة الطوية، بحيث يملأه اليقين بحسن النوايا، ويقتنع بأن شكه ليس في محله، وعليه أن يكون مطمئنا لحسن تصرفهم.
كلمات الآية ( 15 )
{ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) }
وهي تفيد التسرع، وتعجل التنفيذ دون روية، مما يدل على غباء إداري، وعدم تبصر جبلي، كما تعني الإجماع على مقارفة الشر والإصرارعليه.
كلمات الآية ( 16 )
{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) }
وهي تشير إلى استحداث الموقع، واستخدام كافة المؤثرات الضوئية "...عِشَاءً ..."
والصوتية "... يَبْكُونَ...." ، والقدرة على تشرب الحدث وامتصاصه، وإخفاء التعبيرات الحقيقية، والظهور بمظهر البراءة والنصوع.
كلمات الآية ( 17 )
{ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) }
والمقطع الأول من هذه الآية { ... قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ...."
وهي تفيد اختلاق الكذب، وتراكيب الخداع، واستجلاب أرفع درجات المكر في محاولة مستميته لكسب الموقف بأي وسيلة.
أما المقطع الثاني ويأتي في عجزها {.... وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) }
[ يكاد المريب أن يقول خذوني ]
هي ما تنضح به هذه الكلمات، وتنطق به، وتفصح عنه، وهي تفيد القدرة على تلوين المشاعر، وإظهار المظهر غير المكنون من الخبر، وإظهار الظاهر من الأمر غير الذي يبطنون.
كلمات الآية ( 18 )
{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) }
المقطع الأول من هذه الآية {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ....."
وهي تفيد تجنيد كل الإمكانيات، وتحفيز كل الملكات، بما يفيد موقفهم ويدعم كذبهم.
تعقيب :
من آيات الله التي يقدمها ليعقوب، أنهم جاؤا بالقميص سليما دون أن يتمزق، وسهل على نبي الله يعقوب ملاحظة ذلك، فأي ذئب هذا الذي يلتهم صبيا دون أن يمزق قميصه ،
أيضا كان تلطيخ القميص من الخارج "..عَلَى قَمِيصِهِ.." مما يعني أن الدم نشع من الخارج إلى الداخل، والمفروض أن يكون العكس.
المقطع الثاني من الآية "....قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا..."
بعدما تيقن نبي الله يعقوبمن الإستقراء المنطقي للأقوال والأفعال، وما يقدمونه من دفوع باطلة ودلائل فاسدة وأدلة مغلوطة كاذبة، استدل منها على أن أولاده قد جانبهم الصدق، وأرجع ذلك إلى تسويل النفس وتهوينها الأمر عليهم، فالنفس آمرة بالسوء أمَارة به .
واستخدمت نفس التكوينة اللفظية بذاتها في موقف مماثل، وبين نفس المتحاورين، وفي ذات الموضوع مع إختلاف طفيف وكان في شخصية الكيان الضائع، ففي حزمة الآيات التي هي بين يدينا، كان المقصود بالحديث الدائر هو شخص نبي الله يوسف، أما الإستعمال الثاني لنفس اللفظة فقد ورد في الآيات من (81) إلى (83)
{ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)}
حيث كان شقيق يوسف، هذه المرة هو شخص الكيان الضائع، والتلميح في الموضعين يشير إلى إتهام صريح بأنهم يسمعون نفوسهم المريضة، بل يستمعون إلى نداءاتها الشريرة الملحة.
المقطع الثالث وهو يقع في عجز الآية " .. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) }
جاء الحق بلفظة "..مَا تَصِفُونَ .." في موضع لفظة أخري هى .. ما تقولون..
ذلك لأن القول لابد وأن يكون صادقا، مما يفيد بأن نبي الله يعقوب شعر أنهم لا يقولون الحقيقة، فهم كاذبون بالفطرة، خادعون بالسليقة، لكن الله يوقعهم في أخطاء منطقية تفضحهم وتكشف كذبهم، وتفصح عن نواياهم.
لكن الحق أورد في هذا المقام لفظة "..مَا تَصِفُونَ .." ، ذلك لأن الوصف يمكن أن يحتمل النقص أو النسيان، كذلك يمكن أن يحتوي الكذب والبهتان، وبهذه الصفة يكون استخدام الوصف أدق وأشمل من استخدام القول، وكان نبلا من نبي الله يعقوب وحياء منه، من أن يرميهم بالكذب وتعمد إخفاء الحقائق، فكان أن جاءت "..مَا تَصِفُونَ ..".
وقد أجرى الحق استخدام نفس اللفظة في موضع أخر من السورة على لسان نبي الله يوسف حيث دمغ بها قول إخوته
{ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) }
فهم هنا قدموا بأنفسهم باقة من الرذائل المرزولة، جاء في مقدمتها الغيبة، فهم يغتابون شخصا ليس بحاضر هذا الجمع، ولا يملك الدفاع عن نفسة ودفع التهمة عنها، ثم أنهم بهتوا ذلك الغائب ووصفوه بما هو ليس فيه، والثالثة أنهم تبرؤوا من قرابتهم له وأنكروا صلتهم به، وقطعوا كل علاقة تربطهم بالمتهم، فقالوا "...أَخٌ لَهُ..." وكأنهم يريدون القول إننا لا نعرف هذا المتهم، وهذا الفرع من العائلة هو الفرع السئ الذي يقترف السوء
وأنه هو وأخوه، قد احترفوا داء السرقة، وفي هذا ظلم وافتراء وجحود، وفيه التخلي عن مؤازرة المتهم، كان هذا على إفتراض أن التهمة الموجهة إلى أخيهم كانت تهمة حقيقية.
ثم جاء عجز الآية بجعل حزمة ما تلفظوا به يدخل كله في دائرة الوصف، مما يوحي بأن كلامهم مكذوب، وحديثهم شائن لهم، وكان تملصهم من الفعلة، يدل على الخسة والنذالة، وعدم مؤازرة الرفيق والصديق، فما بالك بالأخ والشقيق.
ثانيا : البعد الإستراتيجي لعلماء بني إسرائيل :
{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}
تلقف حكماء بني إسرائيل، بنود الحكمة الثلاث المشار إليهن في الآية (55)، وكعادتهم في تحريك الأشياء والأقوال طبق إرادتهم وما يرون أنه سيزيد من مصالحهم، وزيادة مساحة سيطرتهم وتحكمهم في رقاب البلاد والعباد، ليس عن خيرية فيهم ولكن عن طبيعة سوداوية في أعماقهم، وتشكيك عنصري ترسخ في أذهانهم، بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وهذا بالطبع بعيد كل البعد عن الحقيقة، بل فيه مجافاة لها، إلا أنهم يروجون لذلك، ويطنطنون به، يساعدهم في ذلك وسائل إعلامهم العالمة الدارسة القوية، ويقوي من آثارها التخلف الفكري المزري والذي نحن المسلمون عليه .
صار ذلك ديدنهم، وخطتهم الإستراتيجية المثلى، فهم يتعلمون جيدا، بل ويعلمون أولادهم الحذق والإتقان، وبذلك يملكون أحد أطراف الملك، ومن ثم يقومون بدفع أبنائهم إلى مناطق الثروة والسلطة، فيتحسسون طريقهم إلى المراكز القيادية بعلمهم وبإتقانهم لأعمالهم، والمحافظة الظاهرية على إيفائهم بالعهود والعقود، إلى أن يصلوا أو يصل واحد منهم إلى أحد المراكز القيادية.
لكنهم أثناء ذلك يحرصون دائما على ألا يكونوا في موقف الصدارة، ولا في مكان متخذو القرارات، حيث الأضواء دائما مسلطة على المسؤل الأول - ملكا كان أو رئيسا - هم يحرصون على أن يكونوا دائما في الظل، يشاركون في صنع القرار وتوجيه صانع القرار، وليس لهم أن يظهروا في الصورة، يحركون الأمور وحسب الظاهر إلى مصلحة المؤسسة، ولا تغيب أعينهم أبدا عن مصالحهم.
ما أن يحدث هذا، إلا ويتنادون إلى تسكين ذويهم معهم المسلحين بالعلم وبالخبرات المتعددة، فما يلبثوا إلا وقد صارت الأمور إليهم، بعد أن يخلقوا شبكة متداخلة من مصالح القوم ومصالحهم، مما يعني أن أي إضرار بوجودهم أو بمصالحهم سيكون له تأثير مباشر على مصالح القوم اللذين هم فيهم، حينئذ ...تتغير القوانين طبقا لما يرونه أكثر مناسبة لهم، وما يزيد من مكاسبهم المادية، ويزيد أيضا من شدة إطباقهم على مقدرات البلاد والعباد.
هذه هو خطهم الإستراتيجي العام، وهذه هي خطتهم المثلي ، وذلك من اليوم الذي أصدر فيه نبي الله يوسف توجيهه المسبب ، وندائه التاريخي الأزلي
{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) }
وأعود للتأكيد بأن نبي الله يوسف إنما قالها من جانب الخيرية، ولم يذهب فكره أبدا لهذه التحولات الخبيثة والتي ابتدعها حكماء بني إسرائيل، وصاروا يطورونها ويحسنون من آدائها، إلى أن بلغوا بها مرتبة عالية، أخزاهم الله.
واستمرارا للمنهجية التي برع حكماء بني إسرائيل في تفهمها وتشربها في قلوبهم، من توجيهات أنبيائهم، والتي عادة ما تكون وليدة لموقف، أو لتوجيه النصيحة، أو أخذ الحيطة والحذر، والأصل فيها كلها هو الخيرية والمقصد الصالح، والتي يتسم بها كل رسل الله وأنبيائه في توجهاتهم وتوجيهاتهم، ونداءاتهم التاريخية، ثم لا يلبث هؤلاء - حكماء بني إسرائيل - أن يحيلوها إلى إستراتيجية عامة وخطة دائمة، ذلك بعد أن تصاغ فيما يشبه نفس الألفاظ التي استخدمها أحد أنبيائهم، لكن مقصدها يكون في الإتجاه المعاكس تماما، بما يناسب رغبتهم في إذلال العالم وتسخير الناس إلى أن يكونوا عبيدا لهم، وهي ليست تلك العبودية النمطية القديمة، لكنها عبودية من نوع جديد وأطرزة متقدمة، بعدما يحكموا قبضتهم على مقدرات الخلق ومأكلهم ومشربهم، وأموالهم واقتصادياتهم، بل يذهبون إلى أكثر من ذلك، وذلك بفرض الوصاية وخنق حرية الحركة وتقييد اتخاذ القرارعلى الشعوب التي يلقيها حظها العاثر في طريقهم، والتي يجب وأن تتحرك ضمن أطر محددة، لا تخرج عنها، ولا تملك منها فكاكا، مما يزيد الطين بلة، فلا هي بمستطيعة الإفلات من قبضتهم والتي سبق وأن أحكموها في رقاب العباد، ولا هي قادرةعلى تغييرالوضع، والذي يصب دائما في زيادة مصالح بني إسرائيل وفي تعظيم تحكمهم أكثر وأكثرفي مصائر هذه الشعوب.
ودليلنا فيما سبق وأشرنا إليه آنفا هو تلك الكلمات النورانية التي وردت في آيات سورة يوسف، والتي سوف نستعرضها، ملقين الضوء على ما بها من النصائح الخيرية ومن المقاصد الصالحة، ثم نعرج إلى ما أحالوه إليه حكماء بني إسرائيل، ليكون إستراتيجة عامة تعتنقها أجيالهم إلى أن تقوم الساعة :
تشير كل من هذه الآيات، واقع الأمر، إلى واحدة أو أكثر من الخلق غير القويم، والذي أصبح يشكل سمات الشخصية العبرانية، وليس ذلك فحسب بل صار جزءا لا يتجزأ من بروتوكولات حكماء بني إسرائيل ومن أساسيات الإستراتيجية العامة التي تحكم منهجهم في الحياة وتصرفاتهم عبر الزمن.
كلمات الآية ( 61 )
{ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) }
وهي في مقطعها الأول تفيد اللجوء إلى الحيلة، والإلتفاف، والمداورة، لمراودة الشخص الذي يوقعه قدره العاثر في براثنهم ، وذلك لإ قناعه بما يريدونه أن يقتنع به
والمراودة لا تعني المحاولة الأولى فقط، لكنها تعني عدة محاولات، مع تغيير المدخل وتعديل المقدمات، واختيار اللحظة المناسبة من كافة وجهات النظر - النفسية والزمنية والمكانية بل والمناخية - لبدء تلك المراودات.
أما مقطعها الثاني والذي جاء في عجزها "....وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ...."
وهي تعني شدة الإصرار على المراودة، حتى الوصول إلى المراد، ومما يزيد الإحساس بشدة درجة الإصرار هو ظهور حرف لام التأكيد في مستهل الكلمة، مما يعني أنهم جادون في ذلك الفعل، مصممون على المحاولة، وتكرار المحاولة مرات متعددة، ولن يردهم عن غيهم إلا الحصول على موافقة المتلقي الأب الشيخ.
كلمات الآية ( 63 )
{ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) }
جاء بدأ كلمات الآية .. فَلَمَّا.. ، أي بحرف الفاء الدالة على التعاقب مع التعجيل أو مع الفورية، مما يعني التسارع والرغبة السريعة الملحة في إنهاء ما يرجونه، ويوحي أيضا بأنهم بمجرد ما أن وصلوا إلى ديارهم فقد هرعوا إلى أبيهم، واستعملوا معه أسلوب المباغتة، واستثارة الفضول في نفس المستقبل لكلامهم، فقد أشاروا إلى ما يدفع المتلقي للتساؤل عن السبب الذي منعهم من الكيل أو يمنع الكيل منهم، واستعمال كلمة ...مُنِعَ مِنَّا... تعني بأنه يوجد عائق ما، أو شرط مانع فيهم، هم بالذات، ولا يخص غيرهم، هذا المانع لن يمكنهم من معاودة الكيل.
طبعا هم نجحوا في إستثارة عجب ودهشة الأب وحيرته، ووصلوا إلى تعظيم هذا الإحساس عنده، حتى صار يتلهف لمعرفة السبب في ذلك، ولما تيقنوا من بلوغ أبيهم هذه الدرجة من التشوق وإعمال الفكر عندها ألقوا بصاعقتهم
...فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا..
ثم زينوا هذه البلوى، بأنهم يضمنون بهذا معاودة الإكتيال، ثم أضافوا - من فرط كرمهم ..!! - أنهم سوف يحافظون عليه من الهوام السابحة في الأجواء المحيطة من أن تصيبه، وفي هذا التصريح الأخير يظهر التحايل واضحا، فهم يسمعوه من العبارات المطمئنة، ما يود أن يسمعه.
كلمات الآية ( 65 )
{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) }
توحي كلمات هذه الآية باستخدام النصيحة العرفية، من الأمثال العربية التي تقول
[ أطرق الحديد وهو ساخن ]
فمما أوحي بضرب هذا المثل في هذا المقام، هو الإحساس الذي وصل إليهم ببدء ميل الأب نحو الموافقة، وعلى الفور تم تقديم المغريات التي تجهز على البقية الباقية من مقاومته
"......قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ...."
ثم بدأ أسلوب الترقيق،بالإشارة إلى أنهم إنما يفعلون ذلك من أجل الأهل والعشيرة" وَنَمِيرُ أَهْلَنَا"
ثم بعدها معاودة التأكيد على أنهم واضعو أخاهم المقصود، في أعينهم، من شدة تأكيدهم الحفاظ عليه، والحرص على سلامته "...وَنَحْفَظُ أَخَانَا.."
ثم يأتي بعد كل ذلك وتلك، ثالثة الأثافيألا وهي إنتهاز الفرصة المتاحة أمامهم بالحصول السهل على كيل إضافي دون تعب يذكر أو دون مقابل تقريبا !!
"...وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ...."
كلمات الآية ( 66 )
{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)}
هذه الكلمات تبين مدي حرص نبي الله يعقوب علي تنبيههم إلى أهمية الإيفاء بالعهود، والإلتزام بالمواثيق، وسوف نلاحظ تسرعهم في الموافقة للتعجيل بالإستجابة لمطلبهم، وهذه تؤخذ على إخوة يوسف ولسوف نضيفها إلى سمات الشخصية العبرانية عند الحديث عنها، لكن ما يعنينا الآن ليس هو إلتزامهم بهذا العهد الذي قطعوه على أنفسهم من عدمه، لكن الذي يعنينا هو ما صارت إليه هذه الإتفاقية من كونها صارت بندا رئيسيا وعمودا أساسيا في إستراتيجيات حكماء بني إسرائيل، فهم سريعو الإستجابة إذا ما كان هناك تناد للعهود، بل وسريعو الإقتراح بعقد المواثيق إذا ما إقتضت مصالحهم ذلك، وفي ذات الوقت سريعو نقض هذه العهود، سريعوا ضرب الحائط بهذه المواثيق وإعطاء ظهورهم لها، صار ذلك ديدنهم وسرهم - الذي لم يعد سرا - بعدما تكشف منهم وعبر آمـــاد طويلة، أنهم لا خــلاق لهم، ولا عـــهد لهم، ولا إلاً ولا ذمة.
كلمات الآية ( 67 )
{ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) }
حين قيلت هذه الكلمات إعتبرت في مجال العلوم الإدارية أنها واحدة من النظرات الإدارية السديدة، وغاية أبوية شديدة الإحكام، حيث شكلت ضرورة أمنية، وحلا لإشكالية تأمينية، بألا نضع البيض كله في سلة واحدة، فلا يصح مثلا عند سفر إحدى الفرق الرياضية أن تسافر كلها على متن طائرة واحدة، بل يتفرق الفريق والمشرفين والإداربين إلى عدة مجموعات بحيث تسافر كل مجموعة منها على حدة، فإن حدث مكروه لإحداها، شكل ذلك نصف مصيبة، لكن أن يضيع الفريق كله في ضربة واحدة تلك هي المصيبة الكاملة.
تلقف حكماء بني إسرائيل تلك النصيحة ونفذوها لكنها على طريقتهم، بأن جعلوها من باب الحيطة والحذر من مغبة التفاخر بالكثرة، وعدم إظهارالغلبة، وانعدام استعراض القوة، والعمل على الظهور دائما بمظهر القلة القليلة المستضعفة، وانعدام الحيلة، وشدة المسكنة.
كلمات الآية ( 70 )
{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) }
جاءت كلمات هذه الآية مشيرة إلى إيماء الله لنبيه يوسف، بعمل تلك المسرحية، نظرا لإحكامها، وأنها كانت السبيل الوحيد للإبقاء على شقيق نبي الله يوسف إلى جواره، كانت الخيرية مقصده، وكان الخير في ركابه.
تلقف حكماء بني إسرائيل هذه الفعلة والتي تنضح بالخير، وتحولت في أعرافهم إلى إستسهال إفتعال أحداث وأقوال غير صحيحة ، والقاء التهم الملفقة بإحكام، وحرفية منضبطة، ومن تمام الأوراق والوثائق المحبوكة بعناية العارفين الخبراء - والتي غالبا ما تكون ملفقة مزورة - هذه التهم التي سوف تلقى جزافا على برئ لا يملك أمامهم حولا ولا قوة، ذلك للحصول على مصلحة منه، هذه من ناحية، ومن الناحية الأخرى تجعل من هذا المتهم البرئ عبرة لمن تسول له نفسه التفكير - ولو بمجرد الهم به - في المطالبة بحق مشروع له لديهم، وكأن لسان حالهم يقول أن بوابات جهنم سوف تفتح على من يظن أنه يمكن له أن يأخذ منهم حقه المسلوب منه.
كلمات الآية ( 74 )
{ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) }
عندما أفصح معاونو يوسف بهذه الكلمات كان غرضهم استخلاص الحكم العبراني من أفواه إخوة يوسف - وهو بأن يصير السارق عبدا للمسروق منه لمدة عام كامل - وفي هذا رفع للظلم من مغبة توقيع عقاب عرفي محلي بقوانين البلدة، أو ما جاء ذكره على أنه قانون الملك
{...كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ....."
وهي في ذاتها كانت خطوة نحو الخير، وهي عدم توقيع عقوبة من أي نوع على الشقيق المتهم البرئ، وكذا كانت لإكمال خطة إستبقاء هذا الشقيق إلى جوارنبي الله يوسف.
لم يقف حكماء بني إسرائيل بالحدث عن مراده الخيري، بل جعلوا منه نبراسا، وهدفا يرتجى، وهو أنه لا ضير مطلقا في استخدام المراوغة والإلتفاف للحصول على المغنم الأكبر، والذي يتوافق مع الهدف الأبعد...!!
كلمات الآية ( 76 )
{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}
حيلة لطيفة ومداعبة خفيفة، هي تلك التي أمر نبي الله يوسف غلمانه باتباعها لإكمال مسرحية إستخراج سقاية الملك من راحلة أخيه، هو كان يعلم يقينا أنها في وعاء أخيه لأنه هو الذي أمر بدسها هناك، وواضح من تكرار الكلمة ذاتها
".....ْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ...."
أنه أجرى التفتيش على مرحلتين ففي المرحلة الأولى، صار التفتيش في أوعية الإخوة ولما إنتهي من تفتيشهم جميعا - فيما عدا رحل أخيه - ، وإمعانا في المداعبة أظهر أنه قد إكتفى بما كان قد فتشه فعلا، وأنهم براء من التهمة، حينها صاحوا جميعا، أنه ولابد من تفتيش الوعاء الباقي وهوكان بذاته وعاء أخوه، حتى تكون البينة كاملة، وتمنع قليلا لكنهم ألحوا في ضرورة تفتيش الوعاء المتبقي، لتكون البراءة الكاملة، حينها إستخرجها من وعاء أخيه ويدل على ذلك استخدام النص للآداة التي تعني التعاقب مع التراخي " ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا " قبل التكرار الثاني لكلمتي " وعاء أخيه ".
كان الأمر لا يحدو أن يكون إلا مداعبة لإكمال مسرحية قام نبي الله يوسف بتنسيق خطواتها ووضع كلمات حوارها وإخراجها، وحتي تزامن خطوات الوقت والحركة فيها، بل أضفى عليها موسيقاها التصويرية، كل ذلك كان غرضه الوحيد هو الخيرية، وكان الحدث بذلك خطوة، لابد من تنفيذها قبل أن يكشف يوسف عن نفسه لإخوته ويستدعي معهم أهلهم أجمعين، إلى منعتي الإطعام من الجوع، والأمان من الخوف.
أخذ حكماء بني إسرائيل هذه الحادثة، وطوروها إلى أن تصبح واحدة من حيل البحث الجنائي، وأسلوب من الأساليب الملتوية لإجراء التحقيقات، وهو بأن تأخذ بالحيطة والتدبر، والظهور بمظهر البراءة والسذاجة والنمطية الروتينية، لكي تتخدر أعصاب الضحية، وتظن أنها أفلتت من العقاب، ثم بعدها وفجأة تأتي المباغتة للحصول على الدليل الدامغ، والذي لا يكون معه مهرب ولا فكاك من إثبات التهمة على المتهم.
كلمات الآية ( 77 )
{ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) }
فهم هنا قدموا بأنفسهم باقة من الرذائل المرزولة، جاء في مقدمتها الغيبة، فهم يغتابون شخصا ليس بحاضر هذا الجمع، ولا يملك الدفاع عن نفسة ودفع التهمة عنها، ثم أنهم بهتوا ذلك الغائب ووصفوه بما هو ليس فيه، والثالثة أنهم تبرؤوا من قرابتهم له وأنكروا صلتهم به، وقطعوا كل علاقة تربطهم بالمتهم، فقالوا "...أَخٌ لَهُ..." وكأنهم يريدون القول إننا لا نعرف هذا المتهم، وهذا الفرع من العائلة هو الفرع السئ الذي يقترف السوء
وأنه هو وأخوه، قد احترفوا داء السرقة، وفي هذا ظلم وافتراء وجحود، وفيه التخلي عن مؤازرة المتهم، كان هذا على إفتراض أن التهمة الموجهة إلى أخيهم كانت تهمة حقيقية.
ثم جاء عجز الآية بجعل حزمة ما تلفظوا به يدخل كله في دائرة الوصف، مما يوحي بأن كلامهم مكذوب، وحديثهم شائن لهم، وكان تملصهم من الفعلة، يدل على الخسة والنذالة أثناء الشدة والملمات، وعدم مؤازرة الرفيق والصديق، فما بالك بالأخ والشقيق.
وكلمات هذه الآية تدل على التصرف السريع، والتملص الأسرع، والنكوص عن تقديم العون، والتخلص من الشبهة بل من مجرد الشبهة، ولو بإلقاء التهم جزافا وبالكذب على الآخرين، وخاصة إن كانوا غائبين، ولا يملكون الدفاع عن أنفسهم في مواجهة التهم المنسوبة إليهم زورا وبهتانا.
كلمات الآية ( 78 )
{ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) }
تتكون هذه الآية، واقع الأمر من أربعة مقاطع كل منها يشير إلى واحدة من الخلق غير القويم، والذي أصبح يشكل سمات الشخصية العبرانية، وليس ذلك فحسب بل صار جزءا لا يتجزأ من بروتوكولات حكماء بني إسرائيل ومن أساسيات الإستراتيجية العامة التي تحكم منهجهم في الحياة وتصرفاتهم عبر الزمن.
أول هذه المقاطع هو { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ...."
وهو ما يعني إضفاءصفات التفخيم والتعظيم على الشخصية الحاكمة، كنوع من التقرب والترقق والزلفى، فقولهم أيها العزيز، وهو صفة أو لقب لم يكن يوسف قد بلغها بعد - ذاك الحين - ، وهو توجيه بتفخيم أي شخصية وندائها بما تصبو نفسها إليه من منصب، أو تتوق إليه من مكانة، حتى يمتلكه الزهو، وتنتفخ أوداجه غرورا وصلفا، حينها يسهل توجيه قياده نحو ما يبغون.
المقطع الثاني هو "...إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا..."
يشير هذا المقطع في معناه العام إلى التبرأ تماما من هذا المتهم، ونفي أي صلة قرابة به، فقولهم إن له أبا .. ، بدلا من قولهم، إن أبانا شيخا كبير.. ، تعني النكوص على العقبين حين تتأزم الأمور، وهذا ينبأ عن الغدر، والتخلي عن الناس في أحلك الأوقات، وأحرجها في الوقت الذي يكونون فيه في أمس الحاجة إلى التعبيرالمشجع، والعبارة اللطيفة، والكلمة الحانية،وكان تملصهم من الفعلة، يدل على الخسة والنذالة، وعدم مؤازرة الرفيق والصديق، فما بالك بالأخ والشقيق، وهذا توجيه بإعتناق النذالة، إذا لم يكن في غيرها مهرب.
أما المقطع الثالث وهو "...فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ..."
وهذا الجزء من الآية يومئ إلى ماهم عليه من قدرة علىالفصال بل هو الفصال المستميت للحصول على المأرب بأقل الخسائر، حيث رسخ في أذهانهم، أن أي واحد منهم سيكون عند الأب أقل في الأهمية من الإبن الأصغر، وهو تصور مريض وفكر مشوه غير لائق، فكل الأبناء عند الآباء سواء، والذي يدلل على ذلك القول الذي جاء على لسان نبي الله يعقوب "... عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
معلمة أخرى نود إلقاء الضوء عليها، وهي أننا لو إفترضنا - جدلا - موافقة يوسف على الإستبدال، وأخذ أحدهم مكان المتهم، لنشأ خلاف بينهم، فأيهم هذا الذي سوف يضحي بنفسه في سبيل إنجاء من يظنونه سارقا.!! ؟؟
رابع هذه المقاطع هو "....إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ "
وفي هذه عودة لما جاء به المقطع الأول من إضفاء صفات العظمة والفخامة على الشخصية الحاكمة، وهم في هذه الصفة بالذات كانوا صادقين، لكنهم لم يقولوها من باب التصديق عليها، لكنهم قالوها من باب المداهنة والتملق حتى وإن كانت صادقة، فهم لم يقصدوا معناها، وإنما إنصب القصد على ما وراء هذا المعنى، ألا وهو الزلفى والتملق.
وأخيرا يظهر في خلفية الصورة العامة لهذه الآية، الشعور الدفين بالذنب لما سبق واقترفوه، وتسببوا في ضياع يوسف ، ولا يريدون أن يزيدوا الطين بلة، بأن يكونوا سببا في ضياع الآخر.
وبعد هذا العرض المفصل لسمات الشخصية العبرانية نستطيع أن نلخصها فيما يلي :
صفات بني إسرائيل ( سمات الشخصية العبرانية )
(Hebrew`s Profile)
1. النجوىفيما بينهم، وهي من الشيطان
2. الغيبة، والنميمة، والغل،والضغينة، والكيد .
3. الحقد والحسد والشعور بالإضطهاد، وإحساس زائف بالظلم.
4. المغالطة، وقلب الحقائق، والكيل بمكيالين.
5. سوء الأدب، وعدم البر يالأب، والعقوق.
6. جحود المشاعر، وقسوة القلب، وتحجره.
7. الرعونة والتسرع.
8. الأماني الكاذبة، ( الغاية تبرر الوسيلة ).
9. المغالطة مع النفس.
10. المراوغة والمراودة الناعمةفي البداية لكسب التعاطف، واكتساب ثقة المتلقي، وذلك حتى تنطفئ بداخله كل
موانع التحذير، وحاسات الحذر.
11. السعي إلى الفساد والإفساد، والخطأ المحسوب والذي يبدو من مظهره أنه خطأ غير مقصود، والمفترض ألا
يكون عليه حساب أو لوم.
12. المراودة الناعمة، واستخدام الألفاظ ذات الوقع الطيب، والعبارات المطمئنة.
13. الطمع في الحصول على رضا المتلقي،بالظهور بمظهر الأخيار الصالحين .
14. عدم الوفاء بالعهود والمواثيق.
15. تبيت الغدر.
16. المناورة والإلتفاف والمراوغة، وتفنيد مزاعم المتلقي.
17. استخدام ثقافة التبرير.
18. التسرع، وتعجل التنفيذ دون روية، مما يدل على غباء إداري، وعدم تبصر جبلي.
19. الإجماع على مقارفة الشروالإصرارعليه.
20. استحداث الموقع المناسب للمفاوضات .
21. استخدام كافة المؤثرات الضوئية والصوتية للتأثير على المجتمعين.
22. القدرة على تشرب الأحداث وامتصاصها.
23. إخفاء التعبيرات الحقيقية، والظهور بمظهر البراءة والنصوع.
24. اختلاق الكذب، وتراكيب الخداع، واستجلاب أرفع درجات المكر.
25. القدرة على تلوينالمشاعر.
26. إظهار الظاهر من الأمر غير الذي يبطنون.
27. تجنيد كل الإمكانيات، وتحفيز كل الملكات، بما يفيد موقفهم ويدعم كذبهم.
28. اللجوء لإستخدام الأسلوب الوصفي لأن الوصف يمكن أن يحتمل النقص أو النسيان، كذلك يمكن أن يحتوي
الكذب والبهتان.
29. اللجاجة وتكثير العبارات ذات المعاني الممطوطة والتي تؤول إلى أكثر من معنى، دون أن نقف لها على معنى
محدد.
30. الدخول في دوامة المفاوضات، وتشتيت المطالب.
31. تمييع المواقف، وإطالة المباحثات على قدر الإمكان.
32. الظلم والإفتراء والجحود.
33. التخلي عن الوقوف مع من يلجأ إليهم.
34. الخسة والنذالة، وعدم مؤازرة الرفيق والصديق.
35. الحيلة، والإلتفاف، والمداورة.
36. شدة الإصرار على المراودة.
37. التسارع، للكسب السريع والمغنم العاجل.
38. إستخدام أسلوب المباغتةأثناء الحوار، إستثارة العجب والدهشة والحيرة في نفس المفاوض
39. تزيين المصائب، وتهوين البلوى.
40. التحايل، وإسماع المفاوض من العبارات المطمئنة، ما يود أن يسمعه.
41. [ أطرق الحديد وهو ساخن ]
42. تقديم المغريات التي تجهز على البقية الباقية من مقاومة المفاوض.
43. الحرص على الحصول على مغنم إضافي دون تعب يذكر أو دون مقابل تقريبا !!.
44. سرعة الإستجابة إذا ما كان هناك تناد للعهود.
45. وسرعة تقديم الإقتراح بعقد المواثيق إذا ما إقتضت المصالحة ذلك .
46. سرعة نقض العهود، وضرب الحائط بالمواثيق، إذا تعارضت مع مغانمهم.
47. الحيطة والحذر من مغبة التفاخر بالكثرة، وعدم إظهارالغلبة، وانعدام استعراض القوة.
48. العمل على الظهور دائما بمظهر القلة القليلة المستضعفة، وانعدام الحيلة، وشدة المسكنة.
49. إفتعال أحداث وأقوال غير صحيحة، والقاء التهم الملفقة بإحكام، وحرفية منضبطة.
50. استخدام المراوغة والإلتفاف للحصول على المغنم الأكبر، والذي يتوافق مع الهدف الأبعد...!!
51. الفُجر في الخصومة وجعل الخصمعبرة لمن تسول له نفسه التفكير - ولو بمجرد الهم به - في المطالبة بحق
مشروع له لديهم، وكأن لسان حالهم يقول أن بوابات جهنم سوف تفتح على من يظن أنه يمكن له أن يأخذ منهم
حقه المسلوب منه.
52. الحرص على الظهور بمظهر البراءة والسذاجة والنمطية الروتينية، لكي تتخدر أعصاب الضحية، وتظن أنها
قد كسبت الموقف، ثم بعدها وفجأة تأتي المباغتة ، للحصول على ما لا يكون معه مهرب وليس منه فكاك، مما
يضطره للتراجع والتخلى عن بعض مطالبه إن لم تكن كلها.
53. التصرف السريع، والتملص الأسرع، والنكوص عن تقديم العون، والتخلص من الشبهة بل من مجرد الشبهة
، ولو بإلقاء التهم جزافا وبالكذب على الآخرين.
54. إضفاءصفات التفخيم والتعظيم على الشخصية الحاكمة، كنوع من التقرب والترقق والمداهنة والزلفى .
55. إعتناق النذالة، إذا لم يكن في غيرها مهرب.
56. الفصالبل هو الفصال المستميت للحصول على المأرب بأقل الخسائر، وأكبر المكاسب.
57. الحرص على الظهور أمام الأغراب عنهم بأنهم متآلفين متماسكين، وحقيقة الأمر أن قلوبهم شتى، وفيما بينهم
وبين بعضهم لا تجد إلا الحقد والضغينة والحسد.
ويتضح لنا مما سبق عرضه أن أسس القيادة الإدارية للشخصية الإعتبارية ( إخوة يوسف ) إعتمدت على إجادة إستخدام كل ما يبعد عن الفضائل والأخلاق الراقية القويمة، بل يقترب ويمس ويتغلغل - وإن شئت الحقيقة - يمت بكل أواصر القربى للرذائل والأخلاق غيرالفاضلة، ولا أكون مغاليا حين أذكر أن هذه التصرفات كانت توصيفا لهذه الرذائل وتحقيقا لها، والأكثر إستيعابا لمفاهيمها، والأوسع إعمالا لمضامينها، خاصة تلك التي تكرس الميكيافيلية الوصولية ( الغاية تبرر الوسيلة )، وممارسات الخطأ المدروس، ثم طرق الحديد وهو ساخن، وهي تركز الضوء على طبيعة هذه الشخصية، وتلخص في كلمات موجزة
ماذا يمكن لهذه الشخصية أن تقوم به من تصرفات...!! ؟؟
تعليق أخير :
إلا أننا نود أن نضيف تعليقا أخيرا قبل أن نغادر هذه الصحبة المباركة من آيات الله في كتابه وفي خلقه، وهو أن السمات والصفات التي إستنتجت من السرد الوصفي لتصرفات وأقوال إخوة يوسف لم تقف عند تلك الأزمان الموغلة في القدم، وإنما توارثتها أجيالهم، وصارت دينهم وديدنهم، وصاروا يعلمونها لأبنائهم لاحق عن سابق، ومع تمسكهم العنيف بهذه السمات، وتشربهم القلبي لهذه الصفات، انتقلت مع أجيالهم إلى أن جاء نبي الله موسى[1] بالشريعة التوراتية النورانية ، لكن بعضهم - الكثير للأسف - تجاوز ما في هذه الشريعة من تعاليم الرحمة والسلام، واستمر على ضلاله القديم ملتصقا بتعاليم متوارثة تزداد تكريسا للمادية الجامدة القاسية، وتعميقا لحب الذات وعدم قبول الآخر.
الشاهد أن تردد ذكر بني إسرائيل، في كثير من مواقع الذكر الحكيم، يظهر كثرة عدد أنبيائهم، بل تشير بعض الآيات إلى تواجد بعض هؤلاء الأنبياء معا وفي ذات الوقت
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَابِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) } سورة يس
وأشار أيضا إلى قتلهم أنبياءهم بغير حق
{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}
وأيضا
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) } سورة البقرة
وما نود أن نشير إليه أن الظهور القوي لبني إسرائيل في القرآن، لم يظهر تمسكهم الشديد باعتناق صفات الشخصية العبرانية فحسب، بل أضافوا عليها في ثلاثة أبعاد متاحة ( العدد والعمق ومساحة الممارسة ) ، ويكون والأمر كذلك ما من بد لتتبع هذه الصفات في مجمل آيات الكتاب المبين لكي تكتمل الصورة الذهنية لهذه الشخصية، أرجو من الله أن يكون في الأجل بقية لإكمال هذه الدراسة، أو يأذن لأحد البحاثة القرآنيين بإكمالها، حتى يتسنى تجسيد سمات هذه الشخصية، ووضع ذلك كله في الإعتبار حين التعامل معها عقودا، ومواثيقا، وتطبيعا، ومهادنة، ومعاملة، وبيعا، وشراء، وقربا، واقترابا، وتقربا، وصداقة، هذا إن جاز لنا أن يكون لنا في هذه الكلمة نصيب.
اللهم قد بلغت اللهم فاشهد ،،،
[1]تكرر ظهور إسم نبي الله موسى 136 مرة في 34 سورة وهو التكرار الأعلى في كليهما
تكرر ذكر بني إسرائيل 41 مرة