هل هم نبي الله يوسف بإمرأة العزيز ؟
قضية الهم شرائح الإصرار الأربعة عشر

محمد خليفة في الثلاثاء ٠٩ - فبراير - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

إمرأة العزيز : مدير ناجح وهدف مشين

ورد ذكر إمرأة العزيز أول ما ورد، على أنها زوجة الرجل الذي إبتاع يوسف، ولم يشر وقتها إلى كونه عزيز مصر، وأغلب الظن أنه لم يكن وقتها قد تقلد  هذا المنصب، بل كان في الطريق الصاعد إليه، أي أنه كان في منصب كبير يؤهله للترقي بعدها إلى أن يكون ذاك العزيز

{  وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ........(21) }

وفي هذه الآية يشير هذا الرجل لزوجته على إكرام  هذا الغلام وحسن تربيته لأنه يأمل في الإنتفاع منه (في الحرس الخاص، أو يكون أحد المعاونين له في العمل، أو المساعدة في أعمال المنزل ) أو كانت الأخرى باتخاذه ولدا بالتبني مما يشير إلى أنهما كانا لم ينجبا بعد.

شئ آخر نود أن نلفت النظر إليه هو أن الصياغة القرآنية في هذه الآية ذكرت أن الرجل قال "..لِامْرَأَتِهِ.." ولم يقل لإحدى زوجاته، مما يدل على أنها كانت الزوجة الوحيدة، وهذا يبدو مستغربا، فعادة أهل ذلك الزمان كانت إتخاذ أكثر من زوجة، فضلا عن السراري والجواريوالخليلات، مما يرمي بظلال من الشك على فحولة الرجل ، فأغلب الظن أنه كان يفتقد القدرة على إتيان النساء (عنين )،لذا أشار باحتمال تبني هذا الغلام واتخاذه ولدا، وهذه وحدها سوف تفسر بعضا من مواقفه المتخاذلة تجاه إتخاذ بعض القرارات الحازمة في المواقف العصيبة.

كان في هذا الذي سقناه لمحة مبتدأة عن هذه الزوجة، وعن أول ظهورها في السياق، لكنها بعد هنيهة سوف تطل برأسها بل وبكيانها كله في أول مواجهات يوسف مع ابتلاءات المكانة الجديدة، أي في مواجهة مشروعها المخطط جيدا - إداريا - للحصول عليه، ولسوف نعاين نوعا ملحا من الإصرار ومن تتابع شرائح هذا الإصرار مترسمين بعضا من سمات وخطوات المدير الفعال.

تحديد الهدف أو الحلم المأمول

كان الهدف هو يوسف، وبالتحديد مقارفة الفاحشة معة، أغلب الظن أنها كانت بعد صغيرة عندما أتى يوسف إلى البيت، وكانت لا تزال ترفل في سني عمرها الوردي، وكانت قد تركت منذ قليل وقت مراتع طفولتها، حيث كانت تخاطب الدمي وتتخذ منها صويحباتها، وجاء يوسف فحسبته دمية حية تلهو بها، كبرت هذه اللعبة بين يديها وبحنوها، صارت رجلا يمتلأ رجولة وشبابا، فضلا عن وجه صبوح يتلألأ جمالا، ذو بسمة خلابة تأسر قلب كل من يراها، وثنايا وضاءة تأخذ بلب كل من عاينها، كان كل هذا بين يديها وصنيعتها، كانت تظن أنها وحدها لها الحق فيه فهو ملك يمينها، وليس من حق أحد أخر أن يكون له الخيار فيه.

بدأ هذا الكيان يتغلغل في أعماقها فيسري في دمها، ويأسر روحها " .. قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا.."، وبدأ الشيطان في نسج خطة محكمة،  في خطوات محددة، موحيا لها بأن يوسف لن يعصي لها أمرا، وأن به من الوجد ما يفوق الذي عندها، وشرعت وعلى الفور في التنفيذ...

{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)}

 

  شرائح الإصرار الأربعة عشر :

ونبدأ في استقصاء شرائح الإصرارالأربعة عشر التي وردت في الآيات من (23) إلى (33)

1.                      "   وَرَاوَدَتْهُ " أي أنها هي البادئة بالمراودة، وليس هذا فحسب، بل أن الصيغة تشير إلى أنها قد بدأت المراودات منذ زمن بعيد، فبدأت بالهمس واللمز وفي ترقق الحديث، في مرات عديدة وفي أوقات متباينة وأماكن مختلفة، لعله يلين أو يبدي أي نوع من الإستجابة، ولما لم تجد، بادرت إلى الهجوم المباشر.

2.                     " ..الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا.." أي أنه آمن تماما، فأصعب ما يواجه المتسافدين هو توافر المكان الآمن، لكي يلتقوا بعيدا عمن يمكن أن يشي بهم، ودائما ما تحرص المرأة من جانبها على ذلك، فوقع افتضاح أمرهما سوف يقع بكليته عليها أما الرجل ففي المجتمعات الذكورية يحتسب جرمه دائما أخف من جرم المرأة، وغالبا ما يتغاضى الطرف عنه، أما وقد حدث بالمنزل، مما يستتبع أن تكون هي بنفسها من أمنت المكان، وأخلته من الخدم  واطمأنت تماما إلى أن كل شئ على ما يرام، ويكون الأمر على ما تهوى.

3.              " ..وَغَلَّقَتِ.." ولمزيد من تأمين مسرح العمليات فأنها َغَلـَّقَتِ .. ، لم يرد النص أنها أغلقت بما يعني لم تكتفي بإغلاق الأبواب أي مجرد غلقها أو ردها، وإنما ولمزيد من التأمين فإنها قامت بتأكيد هذا الإغلاق بالمزاليج والمفاتيح، حتي يصعب على من يروم الدخول عليهم فجأة, ولا يزعجهم أحد في خلوتهم.

4.              "..الْأَبْوَابَ .."  جاء النص بالأبواب جمعا، وأقل الجمع ثلاثة، لأنهم لو كانا بابين لجاء النص ( وَغَلَّقَتِ الْبَابَين ) ، أوكانت بابا واحدا لورد النص ( وَغَلَّقَتِ الْبَابَ ) ، لكن ورودها على هذه الصورة ( وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ ) تعني أنهم ثلاثة على أقل تقدير، فقد  َغَلَّقَتِ باب حديقة القصر، ثم َغَلَّقَتِ باب القصر، ثم غَلَّقَتِ باب الردهة ثم َغَلَّقَتِ باب الغرفة - مسرح العمليات -، والتي ستشاهد - في حسبها - مطارحاتها للغرام.

5.              "..وَقَالَتْ.." مسكينة أنتياامرأة العزيز، وليس هذا رحمة بها لكنها سخرية منها، لقد تعدت كل الخطوط الحمراء، وضربت صفحا بكل ما يعنيه حياء الأنثى، فالأنثى لا تقول أبدا، هي توحي، وتتدلل، وتتثنى، وتلمح، وتهمس، وتغمز، وتلمز، وتترقق، وتترقرق، وتتمايل، وبرسائل عينيها، وارتعاشات بدنها، وبإيحات جسدية لكنها أبدا لاتقول، ومعنى أنها " َقَالَتْ "  أنه قد بلغ بها السيل الزبى، لقد شارفت الهلاك تهتكا، وانتابها سعار الرغبة، وتمَلَّكها عواء الطلب، فمضت لا تلوي على شئ سوى أن يأخذها هذا الماثل أمامها.

6.              "..هَيْتَ لَكَ.." لقد أثارت هذه الكلمة جدلا بين ثلاثة تخريجات                                         

           أ)   أنها ترقيق لكلمة أخرى هي هِئت لك بكسر الهاء، أو بما يعني هُيئْت لك بضمها        وهي من التهيؤ، أو أخذ كافة الإستعدادات لهذا اللقاء بتهيئة الجسم بإزالة الشعر الزائد من جميع أنحاء الجسم، وبتهذيب الأظافر، وبالإستحمام، وبالتعطر بتدليك الجسم بأنواع متباينة من الزيوت العطرية الفواحة، وبجلاء الأسنان وانبعاث روائح طيبة منها، وبارتداء رقيق الثياب الحريرية الناعمة والتى تظهرمن المفاتن  أكثر مما تخفي، وتزجيج الحواجب،  وبتكحيل العينين،  بما يوحى   بحَوَريهما ونجلاوتيهما وتسبيل الشعر واطلاقه مسترسلا وتحريراً  لكل ما يعقصه موحيا بالكثير من الإنطلاق  وواعدا بالعطاء. 

         ب)   أنها كلمة من كلمات اللغة المصرية القديمة - لغة أهل ذاك الزمان - ، وتتشابه في  نطقها مع قرينتها العربية، وهي تعني أنني ملك يمينك ، أو جاريتك ... -  ولست بسيدتك -  بل خادمتك وسبيتك وأسيرة لحظ عينيك، إفعل ما تشاء بي، ياسيدى وتاج رأسى، فستجدني طوع أمرك، ورفيقة دربك.

 ويقال أيضا أن معناها الإصطلاحي في تلك اللغة - المصريه القديمة - أنها كلمة تقولها الأنثى عندما تأتيها الرغبة في أن يطأها رجلها، أو تمتلكها رغبة ملحة في أن يواقعها ذكر، وكانت نساء ذلك الزمان لا يجدن حرج في قولها أو الإفصاح عن رغباتهن، فهي كلمة عادية متداولة بين نساء السوقة والدهماء،  وحين تقولها إمرأة ذات مستوى رفيع،  فإنما تقولها تشبها بأقوال وهمسات الجواري حين يكن في ذاك الموقف، أو بما يعني أنها تضع نفسها في مرتبة السراري، بل أقل درجة، فهي الطالبة المتدلهة الراغبة بقوة في ذاك الشئ.

           جـ ) أنها تقال - حين تقال - تصاحبها تربيتة خفيفة رقيقة بكفها الذى يكاد ألا يلمس كتفه، وصوت غانج منغوم مبحوح لا يكاد يبين من          فرط رقته وضعفه، محمل بكل مافي جعبة المرأة من دلال وتشجيع ودعوة كأنها تنهره على أنه لم يأخذ هو بطرف المبادرة، وكأن لسان حالها يقول عاتبا : تبًا  لك... ألا ترى ما بي من وجد ومن عشق ومن رغبة فيك، هل عميت عيناك عن ملاحقة جمالي ومراقبة لفتاتي، ألا ترى هذا القد الممشوق الذي ينتفض شوقا إليك.. ..  ، يالك من أبله.. غر لاتفهم لغة العين ولا تسمع ضربات القلب الذي هو بك مفتون  فهلا سمعت النداء ؟ .                                                             

            لكنه مع التهيئة الجسدية ، لابد وأن يكون هناك قرار نفسي ينبع من أعماقها بمنح نفسها ليوسف، بل إن هذا القرار لابد وأن يكون سابقا لعمليات التجميل والإعداد والتي قامت بها فعلا، وإلا لانتفي السبب في قيامها بأي منها ، فإنه يصبح غير ذي موضوع أن تقوم بهذا كله على سبيل التسلية أو لقطع الوقت، أو بمعنى آخر هي كانت تُتَمِم تجهيزات مسرح العمليات وتعده لتنفيذ هدفها الأول وحلمها الملح.

د  )  فماذا كان رد يوسف على هذا النداء الراغب ؟؟

" ...قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ         .."  في هذا المقطع من الآية يكابد  يوسف بشريته ويقاوم فحولته ونداءات الشباب فيه، فصاح بصوت أراد به أن يظهره قويا غالبا على أمره فصاح بها وكأنه يلجأ   إلى ذاته فيتعلق بها قائلا   " معاذ الله  " هي - أي إمرأة العزيز - في مفهومها لا تعرف كنه هذه الكلمة فهي لا تعرف الله كما يعرفه يوسف، حيث تمثل لها هذه الكلمة مجرد ظلال قديمة باهتة لبقايا ديانات الوحدانية التي نادى بها نبي الله أدريس ومن بعده نبي الله ورسوله إبراهيم، وأغلب الظن أنها إن جرت على فمها فتكون من باب العادة والكلام المتوارث، لكنها لا تهزها ولا تثنيها، فهي بالنسبة لسيدة الدار لا معنى لها . 

           إذاً .. كانت الصيحة  " معاذ الله "  من يوسف ليوسف، كانت بمثابة تنبيها لنفسه ليفيق ..!! ثم .. بعد هنيهة لايتعدى زمانها خفقة القلب، أردف "  إنه ربي أحسن مثواي  " وهذه أيضا إستمرارا للحديث من يوسف إلى يوسف، فمرة اخرى يذكر نفسه أن ربه خالقه قد تكرم عليه فأكرمه غاية الإكرام، فضلا عن أن هذا النداء موجه لها أيضا، إن كان يوسف يروم به سيد هذا البيت وسيده، الذي أوصاها منذ بضع سنين بإكرام مثوى الصبي الغريب، فكأنما يهزها بكلماته لتفيق مما هي فيه،  ويشدد عليها بلفتاته، مذكرا إياها بأن زوجها هو رب هذا البيت، وهو يحسن معاملته وأحسن منها معاملتها، مثل هذا الزوج لا يستحق منا نحن الإثنين أن نفعل فيه هذا الذى ترومين، كان يردد هذه الكلمات بلسانه،  ويلهج بها صدره، وعيناه ترجوانها أن تتسمع رجاءاته، لكنها غائبة عن الوجود فرب مستمع والقلب في صمم.

7.            { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا...}وقضية الهم هذه قضية ليست سهلة، فقد إختلف فيها الفقهاء أيما إختلاف، وسوف نفرد لها دراسة فرعية خاصة بها عقب إنتهائنا من تعديد شرائح الإصرار الأربعة عشر والتي نحن بصددها.

        بدأت هذه الآية بالإشارة إلى كون أنها - امرأة العزيز - هي التي بدأت بالهم، هو على الأرجح هم الفعل، فبعد تلك المقدمات  والتهالك الذي سقناه في الآية السابقة لم يكن من المعقول أن يكون يوسف هو البادئ بالهم، وإن كان النص قد أشار إلى أنه أيضا هم بها لكنه هم من نوع آخر سوف نفرد له وكما أسلفنا فقرة بذاتها.

        كانت قد بدأت مرحلة ما بعد البداية، بعد إنتهاء مرحلة المقدمات، إنتقلت بذهنها إلى مرحلة التنفيذ، وداخلها عواء الرغبة، وسعار الأنثى الطالبة، تغربت عيناها وتلاحقت أنفاسها محملة بصهيد جمرات صدرها، والتهبت وجنتاها بألوان النار في قلبها، جف الحلق وتوقف الريق عن الجريان، وكبرت خفقات القلب لتسع الكون، وصار وجيبه مثل قرع طبول عظام، ووصلت إلى منطقة اللاعودة، بل دلفت إلى حدائق النيران.

8.  " وَاسْتَبَقَا الْبَابَ "   تقدمت - امرأة العزيز -  نحو يوسف لافتراسه، وحين كانت على وشك الإمساك به،  ما راعها.. إلاأنه سبقها إلى باب الغرفة ليعالج مزاليجه على عجل، ثم الباب الذي يليه فالذي يليه، وانطلقت في أثره تلهث من وراءه يحثها إصرار الصائد، وصعوبة تصور إمكان إفلات الفريسة، ويحدوها مشاعر متباينة متناقضة، بين الأمل فيه، و خيبة الأمل منه .

كانت لاترى منه إلا ظهره الهارب، فامتدت يدها على قدر طاقتها، فأمسكت بتلابيب طرف القميص، تشبثت بها بكل ما لديها من حنق وغل، وجذبتها إليها[1] ، فانشق القميص شقا طوليا      "  وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ

9.  " وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ "

     لم يكن يعنيها أن قميصه قد إنشق، فهي تريده بدونه، ولم يكن في حسبانها إلى أي مناطق القصر قد وصلا، كل الذي كان يعنيها هو الوصول اليه واللحاق به فهي آخذته في أي مكان   آخذته ..آخذته..!!

    ونجح يوسف في إختراق كافة أبواب القصر وهي على أثره لاهثة، لكنها هناك وعند الباب الأخير  - ذلك أن النص قد أبدل الأبواب في الآية(23) بكلمة الباب في الآية قيد البحث -  كانت تنتظرها مفاجأة صادمة مروعة.

      { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) }

    كانت امرأة العزيز في حالة يرثى لها من الهياج والغضب، وإن شئت من الغيظ، وكانت مبعثرة الشعر والمشاعر، يعلوا وجنتيها احمرار معروق متخاذل، ويحدودها إحساس هائل بالمهانة والصغار، فليس أصعب على المرأة من عرض نفسها على رجلها أو من حسبته هي أنه رجلها،  ولا تقابل إلا بالرفض، طعنة هائلة في أنوثتها وكبريائها، لا تستطيع أعصابها أن تتحملها، ولا تغتفرها المرأة أبدا، ولا تنساها ما بقيت في الحياة.

     ثم كانت ثالثة الأثافي بلقاء زوجها لدي الباب، وعلينا أن نلاحظ أنهذه الآيه تبدأ بـ ( واستبقا ) وتبدأ الكلمة الأولى بالأداة  " و"  مما يعني مرور وقت ليس بالقصير في المراودة والنقاش وفى محاولاتة لإثناءها عما تريد، ولما لم يجد منها إستجابة لعقل ولا لروية، ولا إستماعاً لتحذير أو إرجاعا لتذكير، إنطلق هاربا منها ومن إصرارها الشديد ومن نفسه مخافة أن ينساق وراء ضعفه البشرى فيمنحها ما تريد منه.

   كان السباق بين يوسف متمثلا فى الطاعة في أعلا طبقاتها، وبينها ممثلة للمعصيه  في أدنى دركاتها، فكان

     سباقا حميميا بين الطاعة والمعصية، وكلما وصل إلى باب وفتح مزاليجه، التى سبق وغلـَّقتها هى، إنتابها جنون من فكرة أن يهرب منها بعد الذي فعلته وخططت له وقالته، كان معنى أن يهرب منها أنه يطعنها فى كبريائها، فالمرأه دائما هى المطلوبة لا الطالبة، فما بالك بها طالبة ملحة متذللة هانت عليها نفسها فأهانتها بالقول وتنازلت عن كبريائها بالطلب الصريح ثم بعد ذلك كله تخيب مساعيها ...     إن هذا لن يكون؟

      تنازعتها هذه الأراء وعواء الرغبة يمزق جسدها، وموجات الغضب تتعالى فى كل خلية من خلاياها، وكلما نجح يوسف في إجتياز أحد الأبواب كلما زاد جنونها وانتفض الجسد بأعلى طاقاته ودفاعاته ممدا لها بقوة بدنية خارقة تجعلها تتشبث بقميصه لترده إلي داخل الدار وبين صد ورد وهروب وتشبث تمزق القميص الذي كان يرتديه يوسف من الخلف - مع أنه يصعب علي الرجل القوي أن يفعل ذلك في حالته الطبيعية -  حدث ذلك وكانا قد وصلا إلي الباب الأخير، والذي منه النجاة ليوسف وهو بذاته قطع الأمل والرجاء فيه لها، وعنده كانت تنتظرها مفاجأة من العيار الثقيل.

      " وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ "   هي متوهجة الوجنات، منكوشة الشعر، متصلبة الأطراف، حالها يدل عليها وهو - أي يوسف -  يقف لاهثا مطأطأ الرأس، ممزق الثياب من الخلف، ولم يكن في ذلك الزمان ملابس داخلية، فتمزق القميص سوف يعرض ظهر يوسف عاريا، وقد يكون به خربشات من تأثير أظافرها وقوة قبضتها علي طرف القميص الأعلي.

10.  استعادت المرأة رباطة جأشها بسرعة - هذه ظاهرة في عموم النساء جدير بأن يحسدها الرجال عليها -  ثم وفي مناورة هائلة للي الحقائق قلبت المنضدة على رأس يوسف -  وهذه ظاهرة أخرى تختص بها النساء فهن يكفرن العشير ولا تهتم إلا بحل مشكلتها هي أولا ثم فليذهب الجميع إلى الجحيم -  لقد قدمت لتوها يوسف كبش فداء لفعلتها، فبعد تفكير وامض ألقت بالتهمة علية " قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا .."

      مما يزيد الطين بلة، أن نرقب في هذه المرأة المتفحشة تهالكا، المتوحشة هجوما، القدرة الفائقة على الإحتفاظ برباطة الجأش، ومن  الحذق في التصرف، وسرعة البديهة، والتماسك، والوثوق في النفس، مع عدم التردد وانتفاء اللجلجة في الرد، وأسلوب إدارتها للأزمة الطارئة، كل ذلك وأكثر منه مع بقاء الهدف من يوسف ملحا في ذهنها ،

      ألا ترون معي أن هذه المرأة من وجهة النظر الإدارية تعد أنموذجا للمدير الناجح ..! ، وذلك بغض النظر عن خبث الهدف ..؟

11.   إلا أنها واستمرارا لشرائح الإصرار في ذهنها، إقترحت عقابا يهدئ من روع الزوج في شرفه المثلوم، وفي ذات الوقت يبقى لها يوسف حيا، بل وتحت الطلب، فقد جرت العادة على أن عقاب خائن الأمانة هو القتل أو الصلب أو الحرق حيا، أو في أقل تقدير ينفى إلى خارج البلاد، لكنها وفي ذكاء  تحسد عليه أشارت على الزوج  "...  إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) "

كان هذا يعني ببساطة أن يظل يوسف حيا، فالسجن قريب وتستطيع أن تخرجه في أي وقت شاءت، أما إقتراحها الثاني بالعذاب الأليم، فهو لن يعدو أن يكون بضع جلدات بالسوط ، وهي تعلم أن يوسف شاب وقوي ومن الممكن تحمله للعذاب خاصة وهي تملك رشوة الجلاد،  مما سيكون معها توقيع العقاب نزهة في قارب بالنيل،
إذاً.. هي لا زالت تريده وحتى في أحلك المواقف - مثل الذي هي عليه الآن - وهي لا تنسى ذلك بل تكرس له وتجهز له إنتظارا لجولة قادمة.

12.  ومما يزيد الطين بلة على ما فيه من بلة، أن نراقب أسلوب تلوينها لصوتها ولنظراتها حتى تزيد من حجم وعمق  التأثير على المتلقيين والمشاهدين،  فكيف يمكن أن نتصورحالتها ومدى تجبر صوتها وعنفه، وحجم الشرر الذي تقذفه عينيها أثناء تحويل الأنظار عن فعلتها -  والتي تشير كل الملابسات إليها - إلى إلقاء التهمة كلها على يوسف..؟   

وعلى العكس من ذلك، نستطيع أن نلمح حال يوسف، وإشارته الضعيفة الواهنة، وصوته المتخاذل المحمل بإحساس الخزي -  من التهمة البشعة الظالمة التي حاكتها المرأة بإقتدار تحسد عليه وهو منها براء -  والتي يحاول بها أن ينفي التهمة عن نفسه قائلا                "  قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ..."

نجحت امرأة العزيز فيما رمت إليه من إبدال النظرة إلى الموقف، فقد هزت اليقين في جرمها في نفس زوجها، وأحسبه كان يريد ذلك، بل كان هو ما يتمناه في قرارة نفسه، ونجحت أيضا في إنهاء هذا الموقف من مسرح العمليات، فقد أطفأت الأنوار عن هذا المشهد، وتبدد المشاركون فيه، وهدأ الحال، وبردت فظاعة الفكرة، وتراخت قسوة المنظر، وهذا التصرف أيضا يحسب لها من حيث أنه يضيف إلى رصيدها كمدير فعال نقاطا كثيرة، فقد كان من المتوجب أن تتبدد هذه اللقطة آنيا، وكان ما يشاهده الزوج أثقل من أن يثقل بالشرح والتبرير، والإنتقال إلى مشهد مختلف في الزمان والمكان والإنفعالات، كان ضرورة يحتمها ذكاء المرأة وحسن تصرفها

                {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ

             وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)}

       لقد انتقلت الأحداث برمتها إلي حيث يتحدث النص عن وجود حكيم، أو هو قاض يلجأ إليه في الملمات، وفي فض المنازعات وفي الفتوى وحل الخلافات، وعبر عنه النص أنه "شاهد" ثم أضيفت له مواصفة خاصة بأنه لم يكن غريبا عنها ، بل كان من أهلها .

 أحسب أن إختياره بهذه الصفة جاءت من قـِبـَل (طرف) العزيز، من حيث كونه ميَّالا لتبرئتها، لكنه خاب ظنه، فقد كان الرجل - الشاهد - ذا فكر ثاقب وألمحية سديدة، ومع أنه لم يحضر الواقعة، وإنما رويت إليه، بدليل أنه جاء بالإحتمالين " إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ.." ، " وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ.."فهو لم يشاهد شيئابعينيه، ومع أن الصفة " شاهد " تستلزم التواجد والحضور والمشاهدة، إلا أن تغطيته لكافة إحتمالات وقوع الحدث، كان فيها الكفاية، وكأنه قد عاين الموقف والذي يمكنه من إصدار فتواه.

        إننا سوف نلاحظ أنه لم ينسى أن المتهمة تمت له بصلة القرابة، فجاء في فتواه إحتمال صدقها - وبالتالي برائتها - أولا، ثم أعقبة الإحتمال الثاني، والذي يقضي ببراءة يوسف، كان دليل الإدانة والذي بنى عليه حكمه هو القميص، أو هو على الأحرى أسلوب واتجاه تمزق هذا القميص...!! ،

        استخدم النص لفظ  " قدّ " في التعبير عن أسلوب التمزيق[2] وهو ما يعني أنه شق طوليا، لكن الفيصل كان في إتجاه هذا الشق - من الأمام أم من الخلف - وموضعه، وبدأ كما أسلفنا بالحكم الذي يكون في صالحها

          { إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ }والذي يؤيدصدق ادعاءها، ثم أعقب ذلك بأن جاء    بعكس المفهومالأول

            {  وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)   }
جاء الحكم على هذه الصورة بمثابة الصاعقة على المنتظرين شبهة البراءة، أو بالتحديد أصاب شخص العزيز في مقتل، فقد كان يرجو أن تتبرأ زوجته من تهمة الخيانة، مع أن الشواهد كلها تؤيد هذه النظرة  لعيب خـَلقي فيه " فهو عنين " ، وزوجته لا زالت بعد صغيرة جميلة، ويوسف شاب لم يكن هناك أملح منه ولا أجمل منه مملوء بالفتوة والرجولة، وكان المنطقي أن يحدث ذلك، ولو كان قد حدث دون أن يفتضح أمرهما على الملأ - مثلما حدث - أغلب الظن أنه كان سيغض الطرف عنه طالما أنه لم يعرف بالأمر كائن ، إنما ما اضطره للتحرك هو الإبقاء على بقية من ماء وجهه قد يشينه البعض بها أو يعايروه بأنه لم يتخذ أي إجراء حاسم فيما حدث واكتشفه بنفسه.

ونود أن نلفت النظر إلى أن هناك تسمية خاصة ألصقت بهذا القميص[3] ألا وهي قميص البراء، حيث جاءت تبرئته من كون القميص قَدْقُدَّمن دبر.

الشئ الآخر الذي نود أن نلفت النظر إليه، هو أن عبارة {..وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) }كانت بمثابة بداية لفتح محضر- مع استعارة المصطلح الذي تستخدمه الجهات الأمنية عند بدء تسجيل وقائع حدث ما - ، مع أن الظاهر أنه حكما قاطعا، وقد أفتى به لمن إرتضوا تحكيمه، إلا أنه كان حُكما على ورق ولم يجر تفعيله، إلا فيما بعد في موقف سوف نتطرق إليه لاحقا .

13.       وسامالكيد

        { فَلَمَّا رَءا قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) }

فبعد شهادة الشاهد من أهلها وعند تفحص الدليل المادى على إدانة المرأة وبراءة يوسف وهو أن القميص ممزق من الخلف " قُدَّ مِن دُبُرٍ "إجتمع له الدليل المادي على إدانة المرأة - وهو علي يقين به-  فهو عنين أى ليس له فى النساء من شيء فهو لا يأتيها كما يأتي الرجال النساء، وهو يعلم من نفسه ذلك ويعلم في نفسه تقصيره في حقها المشروع لها.

 

لم تُشر الآيات إلي ذلك، لكنها إستنتاج منطقى لما جاءت به الكلمات، ونضحت به التصرفات فهو لميغضب لكرامته، ولا قال شيئا بل إستقبل الأمر بهدوء مستغرب عادى جداً، وبعث فى إستشارة القاضى قريب المرأة في ملابسات الحدث، ولا يقوم بمثل هذا الفعل إلا ديوث يقبل السوء علي أهله ومن أهله، ففي نفسه ميل إلي تبرئتها ولو جاء الدليل قاطعاً على إدانتها،  فهو يستجلب لها العذر على ما إقترفت بل ذهب إلي أكثر من ذلك فقد علق على صدرها وساما بأن ما قامت به يعد من الأعمال العظيمة.

 

فقوة المرأة تكمن فى مخزون الكيد لديها، وإستخدامه حين الحاجة إليه، فلما رءا أن هذا الإستخدام قد تعاظم إلي حده الأمثل وصفه بالعظمة   "  إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ".

ليس فى الأمر تقريظاً ولا تقريعاً ولا تعنيفاً، وإنما تهنئة لها علي هذا الإستخدام الأمثل للكيد، ولها أن تتيهبفعلتها على قريناتها، وقد وصف كيد المرأة هنا - كيدكن عظيم -  في حين أن الحق ذكر في سورة النساء الآية 76   

{ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ

                  إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) } النساء

 

إن كيد الشيطان كان ضعيفاً، ويعني ذلك أن كيد الشيطان بكل عدواته للإنسان وكل توعده له بسوقه إلى طريق الضلال وإرشاده إلي مدارك المعصية، هذا الكيد وصف بأنه  " كَانَ ضَعِيفًا "، والأداة " كان " هنا لا تعبر عن حدث تم في الزمن الماضي،  أو حال وقوعه كان في الماضي،  وإنما تعبر عن إقرار تأكيدي بحقيقة هذا الكيد.

أي أن المعنى المقصود ليس أن كيد لشيطان كان ضعيفا ثم أصبح قويا، بل كان ضعيفا واستمر على ضعفه وسوف يستمر على ذلك الضعف.

 

         وتعالوا معي لنضع تصورا للأحداث بالصوت وبالصورة والتزامن والحركة والتعبيرات( سيناريو ) ، لما يمكن أن يكون من تصرفات يكون قد قام به العزيز المطعون في كرامته..

        تمطع العزيز، ومضى يبحث عن القميص المحتفظ به في مكان أمين، ولم يفرده في عجل بل في تكاسل متعمد، كان يدرك جيدا أن القميص قد من دبر، بل أنه - أغلب الظن - هو الذي نقل معلومة قطع القميص من الظهر للشاهد الذي هو من أهلها فماذا كان العزيز ينتظر..؟

        هل كان ينتظر أن يتغير مكان القطع من الخلف إلى الأمام ؟        

        هل توقع مثلا أن يكون نظره قد إختل أثناء معاينة الحادثة آن وقوعها ؟

        هل تحدث معجزة ويلتئم القطع من تلقاء نفسه ؟    

 

        التساؤلات كثيرة ..والأماني أكثر، ولكن... تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن، لقد عاين القميص وهو يتمني ألا يفعل، ويرجو ألا يشاهد، لوثوقه مما سيجد، وليقينه بما سيواجه، وكان لا بد مما ليس له بد، 

          { فَلَمَّا رَءا قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ... }

        أي أنه أخيرا، وأخيرا جدا، وبعد معاناة غير قليلة، رأي القميص، ورأي أنه قَد قُد من  دبر، وثبت بما لا يدع مكانا للشك أن امرأته خاطئة ، فما هو التصرف ؟

        إنه لابد وإنه كان قد قدح زناد فكره لوضع إجابة لهذا التساؤل ؟ ، فقد أجاب على الفور  
           
{ فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) }      

أحسب أن حرف الفاء الذي استهلت به الآية، وهو ما يعني التوالي مع التعجيل، جاء ليدلل على سرعة القول والتعقيب، وليس على سرعة معاينة القميص...!   

         لقد أجاب على التساؤل بسرعة - ليغطي ضعفه وحيرته في إتخاذ إجراء حاد - بأن أشاد بفعلتها، فبدلا من توبيخها على أقل تقدير، بل وتعنيفها إذا إختار البديل الأعلى درجة، قام بتعليق تاجٍ على رأسها، وقام ليصف مخزون الكيد في صدرها، بأنه جد عظيم،  ياله من عقاب..!، جاء بردا وسلاما على قلبها، ومَنْ مِنَ النساء من لا تفرح، بل وتتيه عُجبا بنفسها، وتنتشي جزلانة بأفعالها، بأن يوصف كيدها بأنه عظيم ..!؟  

       

                                      

        كل ما فات من أقوال وأفعال .. كوم[4]  ، وعلى الرغم من غرابته، وعلى الرغم من فتحه للآه مدي الفم، إلا أن الذى تلاه كوم آخر أعجب منه وأغرب ..!


  لقد إلتفت العزيز إلى ناحية يوسف، أو استدعاه من مكمنه ، وأشار عليه ناصحا إياه بأن يغض الطرف عما حدث، ولا يتتعتع بالكلام ، ولا يذكر ما حدث لأحد، وأنه يستحب أن يخزن الحادثة  -  جملة وتفصيلا -  في جانب غير مطروق من الذاكرة، بل الأفضل لجميع الأطراف أن تمحى هذه اللقطة من التذكر والمراجعة، هكذا في لطف وسهولة ويسر .        " يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا..."        

اكتفى العزيز بهذا التوجيه وفقط ليوسف، ولم يفكر في إبعاده عن القصر إلى قصر آخر مثلا، وكم هي كثيرة قصور الأثرياء، أو ترحيله إلى مزرعته أو لإحدى مزارعه، أو إبعاده بأي صورة أخرى يراها مناسبة لوضع يوسف، فما أعبث من وضع النار بالقرب من الحطب،         وما أقسى من أن تندلع النار والماء قريب.       

        وعودة إلى زوجته، والتي ترصعت بوسام الكيد فوق صدرها، ولا زالت تنتظر المزيد، ولقد أتاها بالمزيد، فقد ترك لها يوسف بالقرب منها، وعلى الأكثر حدد إقامته في مكان معين لا يتركه إلا بإذن ..!  

        لم يقرر الرجل بأن الإذن بالخروج يكون منه هو شخصيا، بل تركه مفتوحا، وكما سوف نرى بعد قليل أن إذن المغادرة كان يصدر منها، هذا بالإضافة إلى توبيخ كان أقرب إلى التدليل منه إلى العتاب أو المساءلة، إذ أردف قائلا {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ[5] }


وهنا يجب الإلتفات إلى أنه حين ناداها ناصحا، صنفها بين الخاطئين، ولم يضعها مع الخاطئات، وذلك تخفيفا على نفسه، وتهوينا لوقع المصيبة عليه، فتصنيفها مع الخاطئات يرفع من وقع نسبتها إلى الخاطئات، أما نسبتها إلى الخاطئين( الوعاء الذي يجمع فيه الخاطئات من النساء مع الخاطئين من الرجال وهذا المجموع هو بالتأكيد أكبر بكثير من الخاطئات وحدهن) لذا فنسبته إلى المجموع الأكبر يقلل جدا من العدد الدال على النسبة العددية.


مثال عددي : لو فرضنا أن عدد الخاطئين في مجتمع ما هو 100 حالة؛ وكان بينهم عشرة خاطئات مما يعني أن خاطؤ الرجال 90 حالة، ، فإن دار الحديث عن إحدي الخاطئات العشر فكأنها تمثل حالة واحدة من عشرة حالات، وتكون بذلك نسبتها 10% من مجموع حالات الخطأ الأنثوية، أما نسبتها لجموع الخاطئين فسوف تمثل 1% فقط ، يعني مجرد واحد بالمئة يالها من نسبة ضئيلة يحتسبها اللاهي نسبة يمكن التغاضي عنها وحسبانها كأن لم تكن.

 

14.       ونأتي إلى نهاية شرائح الإصرار الأربعة عشر، فبعدما تقول النسوة عليها بأنها راودت ولازالت تراود فتاها الذي ملأ حبه قلبها حتى أنه مس شغاف القلب[6]  ، فقامت بعده بإعداد       كمين لهن واعتدت لهن مُتَّكَأً ، وجهزته التجهيز المناسب للغرض المقام من أجله المؤتمر، حيث يعتبر تصميمها للمكان وتجهيزاته في تناسبه للغرض الذي أقيم من أجله علامة هامة في علوم التخطيط والإدارة والعلاقات العامة والدعوة إلى عقد المؤتمرات، ولاحقا سنأتي لتفصيل كل منهم على حدة   ، إلا أننا نركز البحث الآن، كما سبق وأسلفنا على شرائح الإصرار، حيث تبدو الشريحة الأخيرة منها واضحة جلية في الآية

       { قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) }

        يال تفحشك يامرأة ،        ويال الفـُجر الذي تتفجر به كلماتك ، هكذا وأمام نسوة من طبقتك...!!!

        أهكذا يمكنك أن تتكشفين وتكشفين عن هدفك الفاسد وغرضك الوضيع ؟

        نعم إن لك الحق كل الحق بعدما قلن ما قلنه، وفعلن ما فعلنه،  وأخذت منهن الإذن ممهورا بتوقيعهن جميعا بدمائهن - بالموافقة على فعلتك التي فعلت، وعلى ما سوف تفعلين -   لأن تقولي ما تشائين، لكن أنَى لك أن تصلي إلى ما تبغين فأمامك عبد من عباد الله المُخْلَصين .

        وتبقى قضيتان تمسان امرأة العزيز في صراعها الدؤوب لتنفيذ ما تراه مناسبا من الإجراءات والتصرفات ، لتحصل في النهاية على ما تتصور أنه حقها في الحياة ، أو على الأقل ترى فيه حقها من يوسف



[1]
تذكر المراجع الطبيه أن إنفعالي الخوف والغضب - اللذان يعتريان الإنسان بشكل طارئ أو مفاجئ -  أو يكونا تناميا للمشاعر والأحاسيس، فإن الخالق قد جهز الجسم بما يناسب هاتين الحالتين ومن جاء علي مثيلتيهما، فإن الغدة الكظرية فوق الكلوية تدفع الي الدم بهرمون الأدرينالين ويتزامن معه تزايد ضربات القلب مما يزيد من سرعة تدفقه في العروق، ويزداد ضغط الدم ليناسب حالة الضيق الحاصلة في الشرايين، بما يعني سريان كميات أكبر من الدم، ويقوم الكبد بضخ سكر الجليكوجين وهو سكر حيواني مخزن في الكبد جاهز للحرق في الخلايا فورا، واستخراج االطاقة الآنيه مما يجهز عضلات الجسم لبذل المجهود المضاعف عدة مرات عن الحاله الطبيعية.

كما يقوم بإفراغ خلايا العرق مما بها تمهيدا لتكوين عرق جديد ناتج عن حرق السكر في خلايا العضلات وإخراج نفايات هذا الحرق عن طريق عرق الجلد وهكذا يكون الجسم مستعدا ولحظيا لمواجهة ما أملته عليه الظروف فالنبض يتعالي والرئتان تتهدجان لدفع مزيد من الأكسوجين اللازم لحرق السكر ويتصبب الجسم بحبات العرق والغريب أن حالة الخوف وهي إحدي الحالات التي يقوم فيها الجسم بكل ما سبق ينتج عنها عرق بارد يسمي عرق الخوف تستطيع بعض الحيوانات التي تتمتع بحاسة شم قوية( مثل الكلب ) فيقوم بالهجوم علي صاحب هذا العرق، أيضا ، الخيل إذا شمت رائحة عرق الخوف، تقوم فورا بنفض راكبها من فوقها حيث تشعر أنه خائف من هذا الامتطاء.

أما حالة الغضب، فتتم معها كل الخطوات التي سبق ذكرها، مع فارق بسيط هو أن الجسم يكون متوهجا والملاحظ أن القوة الناشئه والمتولدة عن حركة العضلات في هاتين الحالتين، تكون أضعاف القوة في الحالة العادية، وحاولت بعض الأبحاث قياسها فوجد أنها بين أربعة أمثال إلي عشرة أمثال القوة المسالمة وهي تلك القوة المقاسة في الظروف العادية.

 

[2]  يقال في اللغة العربية " قد "  الشئ  عندما يكون القطع طوليا ، أما " قط " فإنما تعني قطع الشئ بسرعة عرضا

     ويقال " مزق " الشئ أي أحدث تخرقا فيه ، أما " خرق " فتعني مزق الشئ وجوبه       معجم المقاييس في اللغة

[3]  ثلاثة هي القمصان التي ظهرت في سورة يوسف

   أولـهم  قميص البـلاء   وهو القميص الذي عاد به إخوته إلى أبيهم بعد أن لطخوه بدم كذب ، وورد مرة واحدة

  { وَجَاءُوا عَلَىقَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}

 

   ثانيـهم  قميص البـراء   وهو القميص المقدود من الظهر وكان هذا دليل براءة يوسف ، وورد أربعة مرات

 {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَقَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَقَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)}

 

   ثالثهـم  قميص الشـفاء وهو القميص الذي أرسله يوسف ليلقوه على وجه أبيه فيرتد بصيرا ، وورد مرة واحدة بصورة مباشرة

 {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) }

 وورد بصورة غير مباشرة مرة واحدة أيضا {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُأَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)

 

 

[4]  يطلق لفظ  " كوم " على كل ما يتراكم بشكل هرمي عند تجميع الأشياء فوق بعضها، ويستدل به على كثير التجميع وتباينه للأشياء والأفعال والأقوال

[5]  يجب التفرقة بين الخاطئ والمخطئ

   الخاطئ   : هو من يعرف حدود منطقة الصواب ، ويتعداها إلى منطقة الخطأ ، عامدا ومتعمدا

  المخطئ   : هو من لايعرف حدود منطقة الصواب ، لكنه يتعداها إلى منطقة الخطأ عن غير عمد

[6]  شغاف القلب هو قشرة جلدية رقيقة شفافة تحيط بالقلب من جميع جوانبه، وجاء في الذكر الحكيم " قد شغفها حبا " ، أي أن حبه قد ملأ قلبها تماما حتى لامس شغاف القلب، وهو دليل على فرط زيادة الحب

اجمالي القراءات 8722