يقف العرب الآن على مفترق طرق بعد معاناتهم من الإرهاب وتداعياته من تقسيم الدول وانتشار الفكر المتطرف، ونتائجه جلية في حروب مذهبية تحدث تحت عناوين مختلفة في سوريا والعراق واليمن، إما أن يختاروا بين السلام والعدل والتسامح وبين أن يستمروا في نفس سياساتهم القديمة -ما قبل عصر الثورات- والتي أفرزت الوضع الحالي من شيوع الكراهية والاستقطاب المجتمعي والدولي..
فالحروب الدينية هي نتاج منظومة كاملة من الفساد الإداري والتعليمي والثقافي، كلها علامات لواقع عربي بائس يعاني من التخبط والازدواجية، ففي الوقت الذي يرفعوا فيه شعار الحرية يقعون تحت طائلة الاستبداد وما نتائج الثورات إلى نموذج حي على سوء التغيير، وعندما يرفعون شعار الفضيلة يقعون في مستنقع الانحراف الخلقي والإباحية والشذوذ، وما انتشار ظاهرة التحرش والشذوذ الجنسي-بأنواعه-إلا انعكاس لما يعاني منه العربي من الكبت والوحدة..حتى أصبح مجرد رفع الشعار تحذيرا بوقوع ضده والانحراف أكثر عن مقاصده..
هذا الوضع لم يعد ممكنا تحمله في مناطق، وإن حافظ البعض على وجوده في مناطق أخرى، لكن في الأخير لا وجود للعرب كمنتِج حضاري وثقافي وسياسي دولي، ودورهم منذ عقود هو مجرد كيان استهلاكي ومصدر للمواد الخام وتنفيذ توجهات القوى الكبرى.
وتاريخ تدخل هذه القوى في المنطقة العربية منذ زمن الاستعمار، بدءا من تجنيدهم في الجيوش التركية والانجليزية في الحرب العالمية الأولى، مرورا بأحداث الثورة العربية الكبرى وتشكيل ممالك نجد والحجار والأردن، ثم تجنيدهم أيضاً في جيوش دول التحالف ضد النازية والفاشية..انتهاءا بحرب اليمن في الستينات كان العرب فيها الغائب عن القرار والحاضر كأدوات لتشكيل مراكز القوى كما يراها أقطاب الصراع في الحرب الباردة..
حتى تاريخ العرب في غزو الشعوب والدول ليس مشرفا، ولا يختلف عن تاريخ دول الاستعمار في ذلك ، من عنف وقسوة ومجازر تميزوا بها في القرون من السابع إلى العاشر الميلادي، بعدها أصبحوا خدم وتابعين لمستعمرين جدد من تركيا ثم أوروبا، وحتى الآن لا يقدرون على اتخاذ أي قرار مصيري يتعلق بهم قبل موافقة الدول الكبرى ، وهذا يعني أن استقلالهم في أواخر القرن العشرين كان شكليا، ولا يعدو كونه انسحاب جنود بينما يبقى القرار الغربي نافذا ومؤثرا إلى حد بعيد..
كانت هذه رؤية نقدية لواقع عربي لابد منها لوضع النقط على الحروف في أي مسألة بحثية تخصهم، وأنا هنا أكتب ليس بصفتي مواطنا عربيا بل بصفة الباحث المتجرد عن نموذج أفضل في التكوين والعلاقة.
فعندما أقول تحديات علاقة ما يعني أن ثمة صعوبات تعتريها، وفي رأيي أن الصعوبة في علاقات السياسة بالذات تعني مسئولية كل الأطراف عن عرقلة هذه العلاقة، وهو ما سيتبين في السطور القادمة من رؤية تكوينية ونقدية تشمل الجميع، وتضع يدها على الجُرح في تسليط مباشر للضوء على العيوب والأمراض لعلاجها.
البداية..كانت ظهور إسرائيل كقطب إقليمي في المنطقة، ظهرت معها دعاوى مضادة للصهيونية شملت التحريض على الدين اليهودي بالمجمل، ولم ينتبه المحرضون –وقتها-أن اليهود العرب سيتضررون من أفعالهم، وقد جاءت النتائج سريعة على شكل أمواج هجرة يهودية من مصر والعراق واليمن والمغرب العربي، إما إلى إسرائيل وإما إلى دول غربية يبحثون فيها عن الأمان، كذلك لم ينتبه المحرضون للفارق بين الصهيونية كحركة عنصرية ، وبين اليهودية كدين شأنه كشأن أي دين آخر به مساحة من العفو والتسامح كما يتضمن نفس المساحة من العنف والكراهية.
كانت ردود الأفعال مباشرة بدعوى اتحاد إسلامي أو عروبي يقاوم إسرائيل، وشاع وقتها ضرورة تنصيب ملك مصر كخليفة للمسلمين في محاولة لاستدعاء لغة السياسة في العصر التركي، لكن فشلت بعد زوال الأتراك كقطب دولي عالمي، لم يعد حينها التركي نموذجا ولا دعوته قدوة يُمكنها الدفاع عن نفسها فضلا عن دفاعها عن المسلمين، كذلك للتغيرات في شبه الجزيرة العربية والأردن وتكوين ممالك على أساس قبلي كل ذلك وقف حائلا ضد هذه الدعوة..
لكن جاء البديل..
حاول العرب تشكيل مجلس تعاون إقليمي فيما بينهم على أمل التصدي لإسرائيل، وقد نجحوا في ذلك قبل 70 عاما، وتمت توسعته ليشمل تعاوناً لغويا تحت عنوان.."جامعة الدول العربية"..لكن وعلى مدار السبعين عاما لم يظهر هذا المجلس بدوره الإنمائي والسياسي الفاعل ، وظهر كمجرد كيان شكلي يجمع ذوي المصالح، بيد أنه لم يؤثر في الجولات الأربعة للصراع العربي الإسرائيلي، وكذلك في حروب لبنان وغزة، وأخيرا فشل فشلاَ ذريعاً في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، وظهر على حقيقته أنه كيان سياسي يخدم فئة معينة من العرب دون أن يكون له تأثير خارج مبنى المجلس الكائن في شارع جامعة الدول وسط القاهرة الكبرى.
وما يحدث الآن من حروب عربية عربية إلا نموذج حديث لفشل هذا المجلس ، وانحرافه عن مقاصده بتوحيد العرب.. بعد تورطه في تحقيق مصالح خاصة لأمراء الخليج أجملها في التالي:
1-استدعى الناتو لضرب ليبيا وإسقاط معمر القذافي، فكانت النتيجة تقسيم الدولة وانتشار الإرهاب والجماعات الدينية.
2- دعم المعارضة المسلحة في سوريا بتخصيص مقعد الدولة لها واجتماعات دورية للدعم السياسي والإعلامي.. وكان على وشك استدعاء الناتو أيضا، فكانت النتيجة لا تختلف عن ليبيا، تقسيم الدولة وانتشار الإرهاب والجماعات.
3- دعم العدوان السعودي على اليمن وإسقاط الحوثيين، فكانت النتيجة تقسيم الدولة إلى شمال وجنوب وتدمير مؤسساتها بالكامل، وانتشار القاعدة وسيطرتهم على عدة محافظات، وأكثر من 30 ألف شهيد أكثرهم مدنيون سقطوا جراء القصف.
ناهيك عن ما حدث في العراق من سكوت المجلس عن غزوه وإسقاط بغداد بدعوة إسقاط صدام حسين، فذهب صدام وجاءت رياح الطائفية النتنة قسمت الشعب العراقي إلى فرق دينية وعرقية، ومجازر يومية وانتشار الإرهاب.
كل هذه في الأصل حروب عربية عربية تسبب فيها هذا المجلس الكائن بشارع جامعة الدولة بالقاهرة ورئيسه الحالي نبيل العربي، الذي أصفه بأقل قادة المجلس حنكة وسياسة، وضعيف إلى حد الحماقة، سقط معها أي ادعاء للحديث باسم العرب بعد ظهور خلافاتهم على السطح التي وصلت أحياناً لمستوى العداء، وظهر أن العرب في المجمل يميلون لمصالحهم المتعلقة برغبات وأيدلوجيات القوى العظمى، ودور المجلس انحصر مؤخرا في الدعاية أو تبرير هذه السياسات..
والآن تجدد الحديث باسم العرب مرة أخرى.. لكن هذه المرة ليست ضد إسرائيل ولكن ضد إيران..في محاولة لاستعادة روح الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي، هذه الحرب التي خلفت أكثر من مليون ونصف المليون قتيل ودمار شامل في كلا الدولتين وتخبط أدى بعد ذلك لاحتلال الكويت وما أتبعه من حصار العراق االذي تسبب في قتل أكثر من مليون عراقي ، وانتهى بغزو العراق وسقوط بغداد ليبدأ فصلا جديدا في الصراع ..لكن هذه المرة تحت عناوين دينية وصراع السنة والشيعة.
وفي تقديري أن هذا الصراع الطائفي لا يمكن فصله عن طبيعة ونتائج الحرب العراقية الإيرانية -والمعروفة إعلاميا بحرب الخليج الأولى-ففي المنطق أن المقدمات الخاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة، فالعرب الذين دعموا العراق تحت عنوان.."مقاومة الاستعمار الفارسي"..هم أنفسهم الذين أشعلوا الحرب المذهبية الآن تحت عنوان.."مقاومة المد الشيعي"..رغم أن حرب العراق وإيران كانت لدوافع سياسية وأطماع صدام حسين في التمدد داخل أراضي إيران على الضفة الشرقية لشط العرب..!
واليوم يتكرر نفس الخطأ..ولكن ليس ضد إيران.. ولكن لقمع الوجود الشيعي العربي هذه المرة، الذي طفا على السطح بعد ظهور حسن نصر الله في لبنان..بيد أنه صراع عربي عربي في المضمون لكن يأخذ بعدا عربيا إيرانيا لمجرد الحشد، ويعني ذلك أن أي دعوة للتصعيد ضد إيران هي في حقيقتها دعوة للتصعيد ضد شيعة العرب بالأساس..وهو ما أجملته في دراسة سابقة تطالب بإعادة النظر في العلاقات مع إيران على أساس عدم الفصل بين تلك العلاقات والتوترات المذهبية.
فالشيعة العرب ينظرون لإيران كجزء من تكوينهم الديني، وحارسة الوجود الشيعي بالمجمل مهما اختلف بعضهم معها، إلا أن الإقرار بأهمية إيران جاوز حد الاعتراف وأصبح شيئا بدهيا..لذلك عندما يحدث تصعيد ضد إيران-سواء كان خليجيا أو غيره-فهو تصعيد ضد الشيعة العرب بالأساس مهما حاول البعض نفي ذلك، لأن النفي حدث كمجرد تمني وليس تحليل لواقع معاش..
ومثلما حدث الخرق الاجتماعي بهجرة يهود العرب يطالب البعض الآن بتكرار التجربة مع شيعة العرب، مع الفارق أن اليهود كانوا عشرات الآلاف، أما شيعة العرب فهم أكثر من 40 مليون عربي، وأي محاولة لإقصائهم تعني تدمير العديد من المجتمعات، وأكثرهم مجتمعات الخليج الذي يصل معدل الشيعة فيهم إلى الثلث وإلى النصف والأغلبية أحيانا..وهذا تحذير من دعاوى المتطرفين الآن بدمج التصعيد مع إيران بالتصعيد ضد الشيعة، كونه يساهم في تقسيم وهدم الدول بشكل رهيب وسريع.
لكن تبقى في الأخير علاقة العرب وإيران -لو صح التعبير- رهينة لأبعاد ثقافية وسياسية ودينية يتفرع منها ستة مناظير هي حلقة الوصل والمعيار، ومن خلالها يمكن فهم التحديات، على أن العلاقة ليست محصورة فيما يظن البعض أنها سياسة، بل هي علاقات متشابكة ومعقدة أجملها في التالي:
أولاً: المنظور القومي..وهو أحد المناظير التي أشعلت حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، وتم إعلان صدام حسين من خلاله حارسا للبوابة العربية الشرقية، وميزة هذا المنظور في الحشد كبيرة لكلا الاتجاهين..حيث يجمع كل من لديه خلاف مع إحدى الطائفتين ضد الأخرى..فالفرس مثلاً يجمعهم منظور قومي آري مع البلوش والأكراد والأوزبك والأفغان والأرمن وعديد من القوميات الأخرى في القوقاز إضافة للجرمن الألمان والطاجيك..جميعهم يملثون عرقاً آريا يمتد من الهند شرقا إلى وسط أوروبا غربا وسوريا والعراق ولبنان جنوبا..
أما العرب فهم ليسوا عرقا بمعنى الجنس ولكن قومية بمعنى اللغة والثقافة، والحشد على أساس ذلك ينجح-غالباً-باستعادة الروح الثورية العروبية في زمن عبدالناصر، ولكن بعد عبدالناصر ضعفت هذه الروح بعد إعلاء الهويات الوطنية والأجناس العرقية بديلة لها، حتى الثقافات المحلية لم تعد تعترف بالعروبة كإطار يجمع دولهم في شكل ما، ومطالب كثير من الأمازيج في إقليم المغرب العربي نموذج، ناهيك عن مشاكل الأكراد والأرمن والسريان في سوريا والعراق ولبنان..كذلك الأفارقة في السودان والصومال الذي أدى لتقسيم السودان إلى دولتين إفريقية وعربية في الأخير..حتى مصر ظهر فيها من ينكر عروبته ويعتز بمصريته..
هذا يعني أن المنظور القومي مرهون بعلاقات العرب الحقيقية في الخليج مع إيران، فشعوب الخليج هي من يمكننا تسميتهم عرب على الحقيقة، وإشارة ذلك أن الشعوب المنضوية تحت لواء الجامعة العربية الأخرى وتتحدث نفس اللغة لا يجمعهم نفس الرابط الروحي مع شعوب الخليج..وإن اجتمعوا في مصالح أخرى سنناقشها تبعاً لمنظورها الخاص..
ثانيا: المنظور المذهبي..وهو الذي أشعل الحرب الجارية الآن في العراق وسوريا واليمن، وجميعها حدثت تحت عناوين مثيرة كمقاومة المد الشيعي والإيراني..وكان مرشحا ليمتد إلى لبنان لولا وقفة حزب الله على الحدود وتصديه مع الجيش السوري للمسلحين، لذا أتفهم غضب البعض من تدخل حزب الله كون هؤلاء يساعدون على نشر رقعة الحرب الطائفية بالأساس، مع العلم أنها لو امتدت للبنان ستشمل إبادة حقيقية لكل أطياف المجتمع اللبناني من المسيحيين إلى الشيعة..حتى السنة اللبنانيون المعارضين سيشملهم العداء أيضاً.
وهذا المنظور هو أخطر المناظير إيمانا بالعنف والجريمة ، ونظرة الشعوب من خلالها تُحدث أزمات على الفور يمكن تطورها لحروب، وفي التاريخ صراعات من هذه النوعية كصراع البروتستانت مع الكاثوليك في أوروبا، وصراعات إسلامية قديمة بين السنة والشيعة أيضاً كصراع البويهيين مع السلاجقة، والعثمانيين مع الصفويين، حتى الحروب الصليبية كانت طائفية على نفس المنَهَج عدا أن الأخيرة حدثت تحت عنوان ديني وليس مذهبي..
العرب في معظمهم على المذهب السني، وعلى الطريقة الصوفية سلوكا، لكن مؤخراً -ومنذ 40 عاما- انتشرت الوهابية المتطرفة لتشمل دول وشعوب الخليج والشام والعراق وشمال أفريقيا لتحدث نقلة نوعية في طبيعة وتماسك السنة، انقسموا من خلالها لجماعات مقاتلة وجهادية ومذاهب شتى في العقيدة كلها متخبطة ومتناقضة لا تؤمن بالدولة والعصرية، وما أزمات الربيع العربي إلا انعكاس لأزمات المجتمع السني بالأساس، هذا المجتمع الذي سمح بانتشار الوهابية هو نفسه من يحاربها الآن بدعوى.."الإخوان وداعش والقاعدة "..ولجهل أكثرية السنة بهذا المذهب وتاريخه فصلوا بين رؤيتهم للسعودية وبين الوهابية، رغم أن التحالف السعودي الوهابي ممثل في أكثر من كيان للدولة السعودية نفسها، أشهرها دار الإفتاء وكبار العلماء وإدارة الحرمين، إضافة للجامعات السعودية والتعليم الحكومي الذي يتبنى المذهب الوهابي الديني كنظام تعليم.
أما إيران فأكثريتهم على المذهب الشيعي وعلى الطريقة الأصولية التي تسمح بالبحث والاجتهاد..بخلاف طريقة الإخباريين التقليدية للأئمة الإثنى عشر..وطريقة إيران في المذهب سمحت لمراجعهم بابتكار نقلة نوعية في المذهب الشيعي وهي.."ولاية الفقيه"..وتعني حلاً دنيويا لمشكلة الإمام الغائب-وهو الإمام المهدي الإثنى عشر-التي تسمح بانتخاب الشعب لخليفة هذا المهدي المنتظر، وكعادة أي رؤية دينية جديدة يظهر لها معارضين من نفس النسق، وهذا يفسر معارضة شديدة لبعض مراجع الشيعة لمبدأ ولاية الفقيه، وكثير منهم يعارض سياسات إيران الداخلية والخارجية..ولكن كما قلت..جميعهم-وإن اختلفوا مع إيران-إلا أنهم يرونها جزء من كيانهم الشيعي وحارسة ضرورة للمذهب بعد سيادة أعدائهم من الوهابية الذين يسمون عُرفاً في التاريخ الإسلامي.."بالناصبة"..
حتى منطقة الأهواز –العربية-التي تشكل جانباً من صراع العرب مع إيران هي ذات أكثرية شيعية، عمل صدام من قبل على كسب ولائهم-بصفتهم عروبيين-أو على الأقل تحييدهم لكن فشل في الأخير، وتسبب سوء تقدير صدام بإبادة فرقة عسكرية له بعد دخولهم حدود الأهواز-شهادة ضابط عراقي محارب في جيش صدام وصديق عندي على الصفحة-وهذا يدل أن دعاية العرب ضد إيران ليست ناضجة وينقصها حُسن النوايا، لا سيما أن من نظر إليهم صدام في إيران كحلفاء ظهروا كأعداء، وأن الدعاية القومية لم تفلح في التأثير على شعب يرى دولته الحاضنة الدينية له بالأساس..
ثالثاً: المنظور الاقتصادي..وهذا من أهدأ المناظير التي تحكم علاقة العرب بإيران، لكن مؤخراً بدأ التوتر يخيم على هذا المنظور بعد انخفاض سعر النفط..وثبوت تورط السعودية في ذلك أملا بإلحاق الضرر بالاقتصاديين الروسي والإيراني..كذلك بعد الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى ورفع الحظر عنها بدأ صراع من نوع جديد في المنطقة..ولكن في تقديري أنه صراع براجماتي سيؤدي في الأخير إلى التعاون للمصلحة مهما كابَرَ المُخطئون.
مبدئيا أكثرية دول الخليج تقيم علاقات اقتصادية مع إيران..وهذه من مفارقات الصراع بين ضفتي الخليج، فالإمارات وعُمان وقطر والكويت يقيمون علاقات مالية وتجارية مع إيران، وأعظمهم الإمارات التي يبلغ التبادل التجاري بين البلدين إلى حدود 30 مليار دولار سنويا، وهذا رقم كبير يخدع كل من أراد التصعيد مع إيران ويظن أن الإمارات قادرة على ذلك ، خصوصاً وأن إيران تتحكم عمليا في مياه الخليج ويمكنها تعطيل حركة الملاحة فيه ، وهذا لو حدث سيتوقف إنتاج النفط في الخليج برمته، وأظن أن حكماء الخليج يدركون ذلك..عدا أن حزب الصقور الذي يتحكم في السعودية والإمارات الآن لا يدرك ذلك أو يعتقد بتدخل قوى إقليمية ودولية لنجدته..
كذلك في شمال أفريقيا ..تونس والجزائر يقيمون علاقات اقتصادية مع إيران ويبلغ التبادل التجاري بينهم أرقاما جيدة ستتضاعف حتما بعد رفع الحظر الأمريكي والأـوربي منذ أسبوع، ناهيك عن سوريا والعراق ولبنان فالعلاقات الاقتصادية تبلغ مرحلة.."التعاون الاستراتيجي"..كذلك مصر يوجد تبادل تجاري واقتصادي لم ينقطع بعد قطع السياسة، وفي مصر قائم بالأعمال إيراني لتنظيم هذه العلاقات..
وهذا يعني أن المنظور الاقتصادي بين العرب وإيران ليس أزمة في حد ذاته، ومن هذا المنظور يمكن تحسين العلاقة، ومن يدرك عالم ما بعد الحداثة ربما يرى طابعا استهلاكيا نما واستعظم أثناء وبعد الحروب العالمية، فالقيمة العظمى الأن لم تعد الإنتاج..بل المصلحة لاستهلاك منتجات عصر الصناعة، وقد تأثرت كل مظاهر عصر الإنتاج الحداثي -كالشك والأيدلوجيا- لصالح قيم ما بعد الحداثة كالمصلحة وحقوق الإنسان، وهو ما جعل العالم الآن يؤمن بقيمة واحدة عليا وهي الديمقراطية لإنجاز قيم ما بعد الحداثة.
لكن طبيعة النظام الإيراني الأيدلوجية تقف حائلا لبلوغ عصر ما بعد الحداثة وبالتالي يؤثر بالسلب على انفتاحها الاقتصادي، لكن القيادة الإيرانية الحالية يبدو أنها أقل تشددا من القيادة السابقة، وطبيعتها إصلاحية تحمل رؤى تنويرية سمحت لهذا البلد بالتواصل مع الغرب والشرق مؤخرا بعد رفع الحصار..
رابعاً: المنظور السياسي..وهو محكوم بتوجهات إيران بعد الثورة الإسلامية في نهاية القرن الماضي، فقبل الثورة كانت إيران موالية لأمريكا وتطبع مع إسرائيل، كذلك نظامها كان ملكياً ليبراليا يؤمن بالتواصل على أساس المنفعة، أي أنها كانت تعيش عصر ما بعد الحداثة-إلى حد كبير- أما العرب فكانوا يرفعون شعارات العروبة والقومية التي استهلكت من قدراتهم الكثير، ولم يؤمنوا بالتسامح في نطاقه القومي ، وأكثرهم –ولا زالوا-ملكيات وجمهوريات مستبدة، حتى بعد عصر الثورات لم يتغير شئ وكأن الاستبداد السياسي جزء من طبيعة العرب.
بعد الثورة تحولت إيران لنموذج أصولي ديني بحت..وصارت الدعوة للمذهب الشيعي ترافق أي دعوة للثورة على نفس الطريقة الإيرانية، وهو ما آمنت به بعض الجماعات السنية كالإخوان المسلمين، فقد رأوا في نموذج إيران يستحق النظر والاعتبار كنموذج ناجح، وهذا يعود بالأساس لطبيعة الإخوان الثورية كونهم رافد وهابي في مجتمعات السنة، ولكن بشكل أكثر حداثة من الوهابية نفسهم..
وهذا ما جعل المَلَكيات العربية تخاصم إيران وترى في نموذجها الديني دعوة للثورة عليها، وهذا يفسر موقف ممالك الخليج من إيران قبل وبعد الثورة، ظلت معها بلاد فارس خطرا يهدد دول الخليج ليست كشعوب..ولكن كسلطة سياسية تحكم باسم القبيلة..وإن كان المعنى نفسه موجود في إيران فهم يحكمون باسم الدين والمذهب، لذلك اتصف صراع الخليج مع إيران بالتناقض وسوء النوايا والترصد من الطرفين..وإن كانت المصالح الاقتصادية تغلبت في الأخير وأدت لاعتبار أن ثورة إيران في الخليج ليست ثورة مال..لأن المال موجود..وممالك الخليج في إيران ليست ممالك قوة..لأن القوة أيضاً موجودة..وهذا شعور عام منتشر في الخليج..أن ميزان القوة متكافئ تماما ولا يجرؤ أحد من الطرفين على إشعال الموقف أو حسمه لصالحه..
لذلك أرى أن المنظور السياسي أيضاً ليس خطيرا يحكم توجهات الطرفين، فالبراجماتية تحكم العرب وإيران..وأستثني من ذلك ما حدث مؤخرا من قطع علاقة السعودية وبعض الدولة المتحالفة معها علاقتهم مع إيران، فهذا القطع في الأخير ينم عن سوء نوايا مسبقة أو ضعف واستسلام للضغوط، خصوصا لو حدث هذا القطع بين الجيران، فالسياسة مع الجار أولى وأهم من البعيد، وفي تقديري أن قطع السعودية علاقتها بإيران هو جزء من سياسة آل سعود للسيطرة والهيمنة بعد تضاؤل النفوذ الأمريكي في المنطقة، بيد أن لو كان لأمريكا اليد الطولى قبل ذلك سترد واشنطن بالنيابة عن الرياض، أيا كان شكل هذا الرد..لكن معنى انفتاح الغرب على إيران ورفع العقوبات والتدخل الروسي في سوريا..شكل في الأخير ضغوط على الأسرة المالكة في السعودية..وظهر بسرعة على شكل قرارات متسرعة ومتهورة أعلنت فيها السعودية حربها على اليمن وتهديد بشار الأسد والسعي لتشكيل تحالف سني طائفي..والله أعلم ما هي الخطوة الأخرى.
لكن أكيد أن التصعيد السعودي الأخير يأتي بهدف إثبات الذات والرد على المشككين، خصوصا وأن الصورة المشاعة عن جيوش الخليج أنها جيوش ضعيفة..والمشكل أن ضعفها ظهر واضحا في حرب اليمن، أي أن الإشاعة طلعت حقيقة، وحرب اليمن في الأخير هي منعطف خطير في السياسة السعودية أعطت انطباعا عنها أكثر عدوانية وطائفية..بعدما حاول الملك الراحل .."عبدالله بن عبدالعزيز"..إصلاح هذه السياسة ومد جسور التواصل رغم القصور الذي شاب حياته في الفترة الأخيرة.
تحدي المنظور السياسي لا يمكن فصله عن الأوضاع الداخلية في كلٍ من دول الخليج وإيران بالخصوص، والعرب وإيران بالعموم، فدول الخليج لا تعطي مساحة للشيعة العرب للتعبير عن أنفسهم كما ينبغي، وتصادر حقوقهم كما يحدث جليا في السعودية والبحرين، كذلك في إيران وإن كان للسنة حق التعيين كمحافظين ووزراء ومستشارين، إلا أنه لا يحق لهم التعيين في مجلس الخبراء المتعهد بانتخاب المرشد العام ، ولا للترشح لرئاسة الجمهورية، والسبب يعود لدستور الدولة الذي يؤمن فقط بالمذهب الشيعي كحاكم..وهذه نقطة الاستدراك الأهم على إيران تجعلها في الأخير لا تؤمن بالتعددية ولا تداول السلطات.
وهذا يعني أن تطور هذا المنظور مرهون بإصلاحات داخلية على ضفتي الخليج، أما في علاقة إيران مع مصر بالخصوص فهي محكومة لما تراه مصر بدعم إيران للإخوان، وهذا حقيقي..فعلا إيران تدعم جماعة الإخوان وترى في نموذجها الديني والسياسي استنساخا لتجربة ولاية الفقيه، لكن مؤخراً وبعد الحرب السورية يبدو أن الإيرانيين بدأوا في إعادة النظر..فما ظهر من سلطة الإخوان والرئيس مرسي لم يكن مشجعا لهم، بيد أن الإخوان ساروا في فلك أمريكا وقطر وتركيا ضد الأسد وبدعوى المذهب أيضاً..وهذا ما كنت أحذر منه وأرى أن السياسة الإيرانية في دعم الإخوان في منتهى الطفولية والسذاجة، فالإخوان هي جماعة طائفية صرفة ومذهبها وهّابي متشدد، ونظرة الإيرانيين لهم كانت باعتبار قيم الثورة على الاستعمار، ودعم محور الممانعة وشعارات المقاومة التي رفعها الإخوان حينا من الزمن.
كذلك فإيران تنظر لمصر كما كانت ترى السادات مجرد متعاون مع الصهيونية العالمية وترى في نظامه عميلا ضد الإسلام، وبعد مجئ مبارك لم تتغير النظرة كثيرا..لكن حاولت إيران مد جسور الثقة على استحياء..وإصرار مبارك على قطعها أدى لتغاضي إيران عن رغبتها في التعاون، لكن وبعد ثورة يناير رمت إيران بكل ثقلها في محاولة لاستعادة علاقتها بمصر، ونجحت في ذلك في زمن مرسي لكن كانت ردود الأفعال إعلامية ودينية وسياسية عنيفة، أولا لانتشار التحريض الوهابي ضد الشيعة وإيران، ثانيا لارتباط الإخوان بمشروع أصولي ضد الهوية المصرية وسذاجتهم في القيادة، كانت النتيجة انتشار التحريض والعنف ضد الشيعة بوصفهم عملاء لإيران، وما حادثة قتل زعيم شيعة مصر الشيخ حسن شحاتة في هذا التوقيت إلا انعكاسا لأزمة مصرية إيرانية تجلت في شكل عنف طائفي حذرت منه في دراسات سابقة وقلت أن العلاقة مع إيران هي علاقة ضرورة للتسامح وليست مجرد نداء للترفيه، ويجب أن يدعو لذلك كبراء الدولة المصرية نفسها-ساسة وشيوخ-لقطع الطريق على المتربصين.
خامساً: المنظور العسكري والأمني..وهذا المنظور فاعل ونشط في كل من سوريا والعراق ولبنان واليمن وقطاع غزة، لكنه سلبي في دول شمال أفريقيا، وينحصر في الجانب الأمني في دول الخليج عدا السعودية والبحرين..
وبتوضيح أكثر فإيران علاقتها عسكرية مع سوريا وغزة بصفتهم يحملون قيم العداء للصهيونية والممانعة ضد الاستعمار، وكذلك العراق بصفتهم من يحمل المشروع نفسه على المستويين الديني والشعبي وإن كان المستوى السياسي لم يصل بعد للهدف المرجو، ومع لبنان واليمن بصفتهم من يحتضنون أكثر وأهم جماعات سياسية مقاومة في البلاد..حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، كلاهما مشروع واحد وطبيعة تكاد تكون واحدة أيضاً، مع الاختلاف الديني هذا إمامي وهذا زيدي، وكل هؤلاء منضوون تحت لواء.."شيعة العرب"..التي تحاول السعودية مؤخراً إقصائهم بوصفهم خطرا ثوريا عليها.
وحرب اليمن مؤخراً كما أشعلها السعوديون بدافع المذهب..أشعلوها أيضاً بدافع الأمن بدعوة حماية الجنوب، والمثير أن قطر-وهي إحدى دول العدوان على اليمن-تقيم علاقات أمنية وعسكرية مع إيران، وفي نفس الوقت تحارب في اليمن بدعوى التصدي للخطر الإيراني ، وهذا يعني أن المنظور الأمني في علاقة إيران بدول الخليج متناقض وغير واضح يدل على أن الرغبة في التملك والإقصاء بالازدواج مع المصلحة هي المتحكمة في سياسات دول الخليج الآن.
أما على مستوى إيران فهي ترفض تدخل السعوديون في الأهواز وبلوشستان بدعوى السنة والعروبة، بينما تتدخل في الأحساء والقطيف بدعوى الشيعة والمظلومية، وهذه معايير أيضاً متناقضة، لذلك فالمنظور الأمني في تلك التحديات أو من أكثر المناظير غموضا، وفي تقديري أن سبب هذا الغموض عائد بالأساس للطبيعة الأيدلوجية والفلسفة الدونية التي تحكم توجهات الطرفين في الخليج.
أما على مستوى دول شمال أفريقيا فهذا المنظور سلبي، أولا لبعد المسافة ، ثانيا لاختلاف طبيعة هذه الدول والشعوب عن طبيعة الشعب الإيراني المؤدلجة في معظمها ضد قيم الاستعمار، عدا أن هذه القيم موجودة-إلى حدٍ ما- في الجزائر التي أصفها بقلعة المقاومة في المغرب العربي، كذلك وجود هذه القيم في مصر بالوراثة من زمن عبدالناصر لم يشفع بوجود تعاون عسكري وأمني لغلبة المنظور السياسي بين البلدين، وكذلك بعد انتشار الوهابية بمصر أصبح من الصعب وجود تعاون من هذا النوع..
سادساً: المنظور الثقافي..وفيه يمثل العرب بعدة ثقافات منها العربية الخليجية والمصرية والمغاربية والشامية والعراقية..أي أنها عدة ثقافات تحت عنوان لغوي واحد ، وكذلك إيران تتعدد فيها الثقافات لكن أكبرها وأشهرها الفارسية، والعلاقة بين الأدب الفارسي والعربي قديمة، والجذور متشابهة والطبيعة كذلك..
لكن ربما الأدب الفارسي هو الأقدم بحكم تأثيره الواضح في ثقافة وخيالات العرب، وقصص من أمثال ألف ليلة وليلة والشاهنامة وكليلة ودمنة حاضرة في أذهان العرب حتى صارت لديهم كأنها عربية، رغم أنها فارسية المنشأ والمحكى أيضا، حتى شخصياتها فارسية، وملامحها أقرب للأساطير اليونانية والهندية ..ومثل هذا النوع من الأدب فائق الخيال ودقيق التشخيص وعميق المعنى، فأدى ذلك لانتشاره وتأثر الشعوب به ومن ضمنهم العرب.
كذلك والعكس صحيح..فمنذ الغزو العربي لبلاد فارس في القرن السابع تأثر الإيرانيون بالغزاه، وكانت الأبجدية العربية في اللغة الفارسية هي أشهر وأهم التأثيرات العربية في الشعب الإيراني، ووضح تأثر كاتب الشاهنامة باللغة العربية رغم أن أصل الكتاب باللغة الفارسية ،أي أن هناك علاقة ثقافية تجمع العرب بإيران وتأثيرات متبادلة مما يمكن للشعبين تفاهماً بشكل ما.
لكن ما يعترض هذا التفاهم هي الصورة السيئة للمجوس في المخيلة العربية، فالقرآن حين تحدث عن ديانة إيران القديمة أطلق عليها لفظ.."مجوس"..وهو لفظ له وقع سئ في النفس العربية، رغم أن الإسم المتداول لهذه الديانة في إيران هو.."الزرادشتية"..لكن القرآن نزل بلغة العرب وثقافتهم فأطلق المجوس على الزرادشتيين لجهل العرب باللفظ الأخير، أي أن القرآن لم يتحدث عن ديانة إيران القديمة بموضع ذم أو أنها تعني ما وقع في نفوس العرب، لكن ذكرها كان بموضع التقرير والحديث عن كل الديانات السابقة والمعاصرة للإسلام.
كذلك يعيق هذه العلاقة نظرة الفرس للعرب الاستعلائية والعكس ، وعندما أقول نظرة استعلائية فهي صفة عامة في كل الشعوب، الجميع ينظر للآخر نظرة احتقار ولنفسه بالدونية والتميز، ومنشأ ذلك احتلال الفرس للعرب في زمن الدولة الساسانية، ثم احتلال العرب للفرس بعد ذلك، وصراع الموالي الذين جاء أكثرهم من بلاد فارس في زمن الأمويين والظلم والقمع الذي تعرضوا له، صحيح حاول العباسيون علاج هذه المظالم والعدل مع الموالي بصفتهم عنصر من عناصر الثورة العباسية، لكن حدث ذلك في فترة مؤقتة عادت المظالم بعد ذلك وبشكل أوسع مما كانت عليه.
أي توجد خلفيات تاريخية ورواسب أثرت بشكل واضح على العلاقة، ولكن السؤال، هل كان هذا التأثير في زمن الشاه؟!..ولماذا تقارب العرب مع إيران في زمنه بينما حدث الخلاف بعده؟
الإجابة في تقديري أن الثورة الإسلامية في إيران قامت باستدعاء الروح الفارسية المختلطة بثورة كربلاء الدينية، وهو شعور شبيه ما شعر به المصريون في ثوراتهم على مبارك والإخوان، ففي الثورة على مبارك استدعى المصريون الروح المصرية ، وبما أن المساجد كانت قيمة فاعلة امتزجت هذه الروح بشعورهم الديني، وفي ثورة يونيو استعادوا أيضاً نفس الروح ولكن هذه المرة بإعلاء قيم التسامح والوحدة ضد الإخوان الذين رأى فيهم المصريون مشروعا لهدمهم وتفكيك دولتهم على أسس دينية.
وعند ذكر شعور كربلاء وإعلان الثورة بروح الفرس تُصبح ردة الفعل من الخصوم منطقية، وأول النتائج مباشرة حرب عراقية إيرانية كان الإيرانيون فيها فُرساً تذكروا أيام الموالي ومظالم العرب وبني أمية ، بينما العراقيون كانوا عرباً تذكروا أيام الاستعمار الفارسي المختلط بحربهم مع الصفويين كجزء من الجيش العثماني.
وهذا يعني أن الجانب الثقافي والتاريخي حاضر بقوة في السياسة، لذلك طرحت هذا المنظور كتحدي يناقش تلك العلاقة ، وأطالب من خلاله أن يصبح هذا المنظور أداه للتقارب كما كان –ولا زال- أداه للخصومة.
فالصورة المنطبعة في الذهن عن الآخر تعني أنه.."مخادع -جشع –همجي"..تقريبا هي صورة الآخر بالكلية، ومركزها في العقل الباطن بيد أن كل إنسان يظن نفسه مركز الكون وهو عنوان الفضيلة، تبدأ هذه الصورة في الزوال فور نقد الذات وإعلاء قيم التسامح والعفو، لذلك فالتسامح عند العرب والإيرانيين يعني تقاربا حتميا، بخلاف ما يحدث الآن من تبرير للعدوانية والطائفية بعدوانية الآخر، وهذا يعني أن التسامح في كلا الجهتين مزيف.
كان هذا عرضاً للتحديات كما أراها، واختصرتها في ستة مناظير هي حلقة الوصل بين الشعبين، ولا تعني أنها رؤية مطلقة، لكن تصلح كمقدمة لمراجعة العلاقة بين العرب وإيران، كذلك فهي ليست نهائية فالأحداث تتغير كل ساعة، ولكنها تحوي جذور العلاقة من المنشأ وإمكانية فهمها ضمن مناظير تصلح كأُطر تُناقش من خلالها مواضع الخلاف والاتفاق.
لكن في النهاية أحذر وكما حذرت في الدراسة السابقة بعنوان.."التقارب مع إيران ضرورة لتفادي أي فتنة مذهبية"..أن أي تأخير في مراجعة العلاقات بين العرب وإيران يعني مزيد من الأزمات والحروب والطائفية، وأنها ستطول العرب حصرا بوصفهم متعددي الهويات والقوميات والمذاهب، وكذلك لغياب الديمقراطية والمحاسبة وحقوق الإنسان ، يعني أن أي مظالم تحدث سيتم إفراغها بلباس مذهبي أو قومي لحشد الدهماء، ولن يشفع وقتها للبعض حديثه باسم التعايش..لأن التعايش عند العرب والمسلمين ثبت أنه مجرد شعار يسقط مع أول امتحان..