كتاب ( الخضر بين القرآن الكريم وخرافات المحمديين )
كتاب ( الخضر.. ) كاملا

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢٥ - يناير - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

هذا الكتاب

بدأ الأمر بسؤال من استاذة جامعية قرآنية  عن قتل العبد الصالح للغلام فى قصة موسى  ، فكتبت مقالا بعنوان ( وما فعلته عن أمرى ) ، ثم توالت أسئلة فتوالت المقالات تحت عنوان ( تدبر قرآنى فى قصة موسى والعبد الصالح ) . ثم جاءت فكرة متابعة الموضوع ، ليكون كتابا عن الخضر بين القرآن الكريم وخرافات المحمديين . يكون فيه ما سبق نشره من المقالات هو الباب الأول من الكتاب . ثم يكون الباب الثانى عن صناعة اسطورة الخضر فى العصر العباسى الثانى بين السنيين والصوفية ، ثم تطور هذه الصناعة للخضر فى العصر المملوكى فى الباب الثالث  ثم فى العصر العثمانى فى الباب الرابع . ثم الخاتمة.  

 فهرس كتاب ( الخضر بين القرآن الكريم وخرافات المحمديين )

هذا الكتاب

الباب الأول : تدبر قصة موسى والعبد الصالح فى القرآن الكريم 

الفصل الأول : وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي

الفصل الثانى : المنهج القصصى

الفصل الثالث : تحديد المصطلحات  

الفصل الرابع : الوحى التوجيهى وانواع من التدبر : الايجاز بالحذف ، الجملة الاعتراضية ، حول نقل الاقوال البشرية فى القرآن الكريم ،  المجاز ، اختيار اللفظ  ،  

 الفصل الخامس : الحتميات

الفصل السادس : بين موسى ومحمد عليهما السلام

الفصل السابع :  ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) صدق الله العظيم

الباب الثانى : صناعة اسطورة الخضر فى العصر العباسى الثانى

الفصل الأول : هجص  البخارى عن الخضر

 مقدمة الباب الثانى :

 الفصل الأول : هجص  البخارى عن الخضر

 الفصل الثانى  : هجص أبى حامد الغزالى عن ( الخضر ) فى ( إحياء علوم الدين )

 الفصل الثالث :   هجص الخضر عند ابن الجوزى 

الفصل الرابع  :  هجص الخضر فى مؤلفات التاريخ الحولى

الفصل الخامس : لماذا هو هجص ؟

 

  الباب الثالث  : صناعة اسطورة الخضر فى العصر المملوكى  

الفصل الأول : لمحة عن هجص الخضر فى العصرين المملوكى والعثمانى

  الفصل الثانى : لمحة عن إختلاف هجص الخضر فى دينى السنة والتصوف فى العصر المملوكى

الفصل الثالث :  هجص الخضر عند ابن تيمية  

الفصل الرابع  : هجص الخضر عند ابن القيم    

الفصل الخامس  : هجص الخضر عند ابن كثير

الفصل السادس : هجص الخضر فى مؤلفات ابن حجر العسقلانى  ت 852

 

الباب الرابع : هجص الخضر فى العصر العثمانى

 الفصل الأول : هجص الخضر فى هجص الشعرانى  (898 – 973 ) 

الفصل الثانى :  هجص الخضر فى كتاب (الميزان الخضرية ) للشعرانى

 

خاتمة : الخضر والكشوف الجغرافية وحالة المحمديين المُزرية 

 

  

 

الباب الأول : تدبر قصة موسى والعبد الصالح فى القرآن الكريم 

الفصل الأول : وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي

الفصل الثانى : المنهج القصصى

الفصل الثالث : تحديد المصطلحات  

الفصل الرابع : الوحى التوجيهى وانواع من التدبر : الايجاز بالحذف ، الجملة الاعتراضية ، حول نقل الاقوال البشرية فى القرآن الكريم ،  المجاز ، اختيار اللفظ  ،  

 الفصل الخامس : الحتميات

الفصل السادس : بين موسى ومحمد عليهما السلام

الفصل السابع :  ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) صدق الله العظيم   

الباب الأول : تدبر قصة موسى والعبد الصالح فى القرآن الكريم 

الفصل الأول : وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي

  جاءنى هذا السؤال مرارا بصيغ مختلفة ، واجيب عليه فى هذا المقال :

السؤال هو : ( قال الله جلا وعلا :(فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال اقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا ) الكهف 74 ثم قال :(وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفر ) الكهف :80 السؤال:هل يجوز أن تكون هناك عقوبة قبل وقوع الجريمة ؟  نرجو التوضيح ولكم جزيل الشكر.

وأقول :

 1 ـ الأحكام الشرعية لا تؤخذ من القصص القرآنى ، فالقصص القرآنى هو للعبرة والعظة وانه لا إله إلا الله ، ومنهج القصص القرآنى تبعا لذلك هو عدم الاهتمام بالتفاصيل التى تخص تحديد المكان والزمان واسماء الأشخاص . أما منهج التشريع الاسلامى فى القرآنى فهو موضوع آخر ، وأكثر تعقيدا .

  2 ـ العقوبة تالية للجريمة فى التشريع الاسلامى القرآنى .

عن الجرائم يضع رب العزة القواعد التالية : (  وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) النساء) فى القواعد الثلاث هناك جريمة حدثت ، فمن يرتكب سوءا ثم يستغفر الله جل وعلا يغفر له الله جل وعلا . والمجرم هو وحده الذى يتحمل عاقبة جريمته . ثم إن الذى يرتكب جريمة ثم يتهم بها بريئا  فهو يتحمل البهتان والاثم معا ، أى عقوبة مضاعفة عند رب العزة جل وعلا . هذا فى التعامل مع رب العزة .

فيما يخص العقوبات عن جرائم الزنا والقذف للمحصنات وقطع الطريق والسرقة والقتل :

فى البداية تأتى الجريمة وإلتصاقها بمن ارتكبها ، ثم تكون العقوبة تالية لارتكاب الجريمة ، إذا لم يعلن المجرم توبته . ونراجع معا قوله جل وعلا عن جريمة الزنا : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (2)  النور).

 وعن جريمة قذف المحصنات بلا برهان مثبت يقول جل وعلا : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) النور ).

 وعن جريمة قطع الطريق يقول جل وعلا : (  إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) المائدة ) .

وعن جريمة السرقة يقول جل وعلا : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) المائدة ) .

وعن جريمة القتل يقول جل وعلا  : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) البقرة  ).

3 ـ وحتى فى القانون الوضعى العادى فى دولة القانون فى النظم الديمقراطية ليست هناك عقوبة تسبق جريمة إفتراضية لم تحدث بعد . هذا لا يوجد إلا فى النظم الاستبدادية التى يمتلىء تشريعها فى العقوبات بصياغات قانونية هُلامية مطّاطة تعاقب الناس على التفكير لتهدىء مخاوف  المستبد وظنونه وهواجسه . وإمام المستبدين فى عصرنا هو فرعون موسى الذى إضطهد بنى إسرائيل مقدما ، يذبح أبناءهم المواليد الذكور ويستبقى الاناث . فعوقب بأن قام بنفسه بتربية موسى الذى كان تدمير فرعون وملكه وقومه على يديه .

4 ـ يولد الانسان مخلوقا بريئا طفلا يستحوذ على حب من يراه . ثم ينمو ويتأثر بمجتمعه وظروفه فيتحول  (خلقا آخر )، ربما يكون مصلحا إجتماعيا أو فعالا للخير مثل غاندى ومارتن لوثر كنج ونيلسون مانديلا  ، وربما يكون زعيم عصابة ، أو يتطور ليصبح وحشا  زعيم ثورة أو مؤسس دولة . يتوقف هذا على نشأة الانسان ومدى إستجابته للظروف ، وإختياراته نحو الخير أو الشّر. الطفل اليتيم هو الأكثر إحساسا  بالافتقار للحنان والرعاية والأكثر عُرضة للقهر . بعض اليتامى شبوا فى مُعاناة وجعلتهم ينتقمون من مجتمعهم ، وكان منهم طُغاة عاقبوا مجتمعاتهم على معاناة اليُتم مثل هتلر وصدام حسين ، وبعض اليتامى إرتفع فوق معاناته فأصبح فعالا للخير نافعا للمجتمع . ولهذا يؤكد رب العزة على رعاية اليتيم .

وعموما فالمجتمع المُسلم الحقيقى  ــ القائم على الحرية والعدل وحفظ حقوق الانسان وكرامته والذى لا يتحكم فيه كهنوت أرضى ــ  ينشأ أطفاله فى مستوى افضل . بينما تفرز المجتمعات المؤسسة على القهر والاستبداد أطفالا أبرياء كبقية أطفال العالم ثم لا يلبثون أن يتحولوا الى النمط السائد من الأخلاقيات المعوجة من كذب ونفاق واستحلال ، والمتفوق فى هذه الشرور هو الذى يصل الى دائرة الحكم وحاشية السلطان ، وأكثرهم وحشية وأسوؤهم هو الذى يصبح طاغية .

 وهكذا كان السفاحون الذين قتلوا ملايين البشر وأقاموا مذابح لبنى قومهم وللآخرين . هولاكو كان طفلا وديعا وكذلك كان تيمورلنك و ستالين وهتلر وموسولينى وعبد العزيز آل سعود  وماو تسى تونج وعبد الناصر وصدام حسين والقذافى ومبارك وعمر البشير و زين العابدين بن على وعلى عبد الله صالح ..والقائمة لا تنتهى . كل منهم كان طفلا وديعا فى لفافته . لو تم قتل الطفل محمد بن عبد الوهاب المولود فى نجد لنجا الملايين من وباء الوهابية . لو قُتل الطفل ماوتسى تونج لنجا من القتل والتعذيب ملايين الصينيين فى الثورة الثقافية وغيرها . ولو قتلوا الطفل أدولف هتلر ما كانت الحرب العالمية الثانية ودمار أوربا ، ولو قتلوا الطفل المولود صدام حسين لنجا العراق وأهله مما حدث ويحدث الآن .

ولكن من يعرف إن هذا المولود البرىء سيكون هتلر أو هولاكو أو تيمورلنك أو ماوتسى تونج أو صدام  او القذافى ؟

5 ـ الذى يعلم الغيب هو الله جل وعلا وحده.

والله جل وعلا لا يُطلع على بعض غيبه إلا بعض رسله، يقول جل وعلا :( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ  )(179) آل عمران )،

بعض الأنبياء أوتى العلم ببعض الغيب مثل يوسف عليه السلام الذى قال لصاحبيه فى السجن ( لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) يوسف ) ومثل عيسى عليه السلام الذى أعلن لقومه :( وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ (49) آل عمران ) .

وبعض الأنبياء لم يؤت علم الغيب مثل نوح القائل  لقومه: ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ  ) (31) هود ) ومثل ابراهيم الذى لم يتعرف على الملائكة الذين تجسدوا بشرا وأتوا يبشرونه باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب . ظنهم بشرا فأسرع يقدم لهم عجلا مشويا ، ومثله لوط عليه السلام ظن نفس الملائكة بشرا فخاف ان يعتدى عليهم قومه المُصابون بالشذوذ : (  هود 96 : 83 ).

خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام أمره الله جل وعلا أن يعلن ـ مثل نوح ـ أنه لا يعلم الغيب : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّقُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) الانعام ). وعن موعد قيام الساعة والعذاب الذى ينتظر الظالمين أمره ربه جل وعلا مرتين أن يعلن أنه لا يعلم ذلك الموعد : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) الجن )، وأيضا : (  قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)الاعراف  )، وامره ربه جل وعلا أن يعلن أنه لا يعلم ما سيجرى فى المستقبل بالنسبة له أو لغيره ، وانه ليس متميزا عمن سبقه من الرسل وأنه مُتّبع للوحى ومجرد نذير مبين : ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) الاحقاف ). وإذا كان هذا حال النبى محمد عليه السلام فغيره أولى .

وبالتالى فلا يمكن أن تقول إن هذا الطفل أو ذاك الشخص سيرتكب جريمة ونعاقبه عليها مقدما لأننا لا نعلم الغيب ، ولأن هذا الزعم كفيل بإبادة ملايين الأبرياء . ونرجو ألا تصل هذه الفكرة الى المستبد الشرقى فى عصرنا البائس فيتصرف مثل سيده وإمامه فرعون موسى  .

6 ـ لو رجعنا الى قصة موسى مع العبد الصالح لعرفنا أن ذلك العبد الصالح كان نبيا أعطاه الله جل وعلا العلم ببعض الغيب ، وهو الذى ورد فى القصة فيما يخص خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار . فى كل ما فعل هذا النبى العبد الصالح كان مأمورا بالوحى وبالوحى أعلمه الله جل وعلا تلك الغيوب ، وأرسله ليقابل موسى ليتعلم منه موسى أن لا يندفع فى تصرفاته . إذ أن نشأة موسى فى قصر فرعون وعلم موسى بأنه ينتمى الى بنى إسرائيل الذين يتفنن فرعون فى إضطهادهم ـ جعلته يتوقع الخطر ويتحسب مقدما بهواجسه لأى فعل ، فكان سريع الغضب ، ومحتاجا لمن يعلمه التريث والصبر . وكانت هذه مهمة هذا الرسول الذى لا نعرف إسمه . والذى إفترى الصوفية له إسما هو ( الخضر ) وإفتروا أنه (ولى ) صوفى حىّ لا يموت وجعلوه إلاها فى المملكة الصوفية الخرافية ، على نحو ما شرحناه فى كتابنا عن التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية ، ومنشور حلقاته هنا . كما أننا خصصنا حلقتين فى برنامج ( فضح السلفية ) عن اسطورة الخضر عند البخارى وغيره .

يهمنا هنا أن هذا الرسول العبد الصالح قالها لموسى عليه السلام : (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) الكهف  ). الله جل وعلا أخبر ذلك النبى بغيب مستقبلى يخص هذا الغلام ، والله جل وعلا هو الذى أمر هذا النبى بقتل ذلك الغلام . وفى قتله رحمة به وهو الخير له . فكل إنسان مصيره الموت فى الموعد المحدد والمكان المحدد سلفا ومقدما .

 ولو مات فى براءته فهو الأفضل له . وفى النهاية فكل الحتميات ومنها الموت ( موعده ومكانه ) ترجع للخالق جل وعلا ، مهما كره المستبدون .!!.

 

 

 

 

 

 

الفصل الثانى : المنهج القصصى

يقول جل وعلا :( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (72) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82))الكهف ) .

أولا : منهج القصص القرآنى :

1 ـ عدم تحديد الأسماء . لم يذكر إسم الفتى :( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ) ولم يذكر إسم النبى العبد الصالح: (  فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) .وإن كنا نفهم أنه رسول نبى ، لأنه يوحى اليه ، ولأن الله جل وعلا علمه علما من لدنه.  ولم يذكر إسم الغلام (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ ) ولا أسماء اهل القرية الذين رفضوا ضيافتهما (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا )  ولا أسماء المساكين : (  أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ ) ولا إسم الملك (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ  ) ولا أسماء  أبوى الغلام المقتول : (  وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ) ولا أسماء الغلامين اليتيمين ولا إسم والدهما الصالح : (  وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ).

2 ـ عدم تحديد الزمان ، فلا نعرف بالتحديد العصر الذى عاش فيه موسى ، ولا عصر فرعون موسى .  وإن كنا نفهم أن هذه القصة حدثت بعد خروج موسى بقومه من مصر ،

3 ـ عدم تحديد المكان : لا نعرف مكان حدوث القصة ، إلا أننا نفهم أن اللقاء تم على الساحل ، أى كانوا وقتها على سواحل سيناء ، البحر الأحمر أو المتوسط . ولا نعرف إسم القرية ولا موضعها (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ  )

4 ـ ترك فجوات فى الاحداث . فقد انتقل موسى وغلامه من مكان الى آخر ، وانتهى دور فتى موسى بعد لقاء موسى بالعبد الصالح . وبينما ذُكر الحوار بين موسى والعبد الصالح عند لقائهما ثم بعد تنقلهما من مكان لآخر إلا إن هناك السكوت عن ظروف هذا التنقل من البر الى السفينة ثم منها بعد خرقها الى البر والتنقل فى البر من مكان الى آخر. علاقات متشابكة حدثت فى هذا المكان وذاك ، لم يهتم رب العزة بذكرها. وذكرها ضرورى فى تسجيل التاريخ ، وللتسجيل التاريخى منهجه فى تحديد الزمان والمكان واسماء أبطال الأحداث . ولكن منهج القصص القرآنى مختلف لأنه يركز على العظة والعبرة  .

ثانيا : العبرة والعظة :

عدم الاهتمام بالتفصيلات السابقة كان للتركيز على العبرة ، وحتى تتحرر الحادثة التاريخية من أسر الزمان والمكان الى ( قصة ) للعظة والاعتبار يستفيد منها القارىء فى كل زمان ومكان . وأهم العبر فى هذه القصة :

1 ـ شخصية موسى الانسانية : ويمكن أن نرى مثيلا لها فى حياتنا اليومية من أى إنسان عاش ظروفه ، حيث نشأ فى قصر فرعون الرهيب الذى لا يتردد فى ذبح الأطفال وصلب الرجال وتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف . نشأ موسى فى ظل هذا الفرعون  الوحشى عالما بجرائمه مع قوم موسى ، نشأ وهو يرى زوجة فرعون نفسها ( المؤمنة ) تدعو ربها أن ينجيها من فرعون وعمله وقومه الظالمين: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) التحريم  ) ، وفيما بعد كان الأمير الفرعونى المؤمن يكتم إيمانه خوفا من فرعون : (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) غافر ) ظل ينصح قومه الى أن يأس فقال لهم : (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) ) وكادوا أن يوقعوا به لولا أن أنجاه الله جل وعلا من مكرهم : (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) غافر )  . فى قصر هذا الفرعون نشأ الطفل موسى يحسُّ بالخطر ويتوقعه ، ويتصرف بسرعة دفاعا عن نفسه، لذا قتل المصرى خطأ ، وكاد أن يبطش بآخر ، وعندما عاد من ميقاته مع ربه جل وعلا ووجد قومه يعبدون العجل إشتعل غضبه وألقى الألواح المكتوب فيها الوحى وكاد أن يبطش بأخيه هارون: (  وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) ، (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)  الأعراف ) (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) طه  )  . كان لزاما أن يتعلم موسى الصبر وعدم الاندفاع . فكان هذا اللقاء التعليمى مع العبد الصالح . ونظن أنه كان بعد إتخاذ بنى اسرائيل العجل وذلك الغضب الهائل الذى تملك موسى .

ومن قراءة القصة نتعلم نحن أيضا عدم الاندفاع فى التفسير وفى رد الفعل ، بل لا بد من التروى وتعقل الأمر ، ونتعلم أن الأمور ليست بظواهرها .

2 ـ  ، ونتعلم أن الحتميات التى يرجع تدبيرها لرب العزة جل وعلا لا مفرّ منها ولا سبيل لتعليلها وتفسيرها . ومثلا عن تدبيره جل وعلا فى قضائه وقدره قال جل وعلا يخاطب موسى : (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40 ) طه ) كل شىء حدث لموسى كان بقدر، من الوحى لأم موسى الى إيصال الوليد الرضيع موسى ليقوم فرعون نفسه برعايته ، الى خروجه الى مدين ثم رجوعه منها والوحى المباشر له عند الشجرة المباركة فى جبل الطور . وفى هذا القدر تدخل الأشخاص فى تطبيق هذا القدر بما فيهم فرعون نفسه الذى جعله رب العزة سخريا ، سخره لتنشئة موسى ، وكان موسى سبب هلاك فرعون وقومه وجنده وآله ونظام حكمه . وفى هذه القصة نفسها يقول العبد الصالح يفسّر ما فعله وأنه بأمر الله جل وعلا وليس بدافع شخصى منه : (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ).

3 ــ ثم نفهم عدم تقديس الأنبياء وعدم عصمتهم . هذا هو موسى بشخصيته الانسانية الذى أوقعه إندفاعه فى كثير من الأخطاء ، ومع ذلك فقد وصفه ربه جل وعلا بمناقب عالية . قال جل وعلا عنه : ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164) النساء ) وكان جل وعلا يُناجيه وجعله مقربا له جل وعلا ، ويكفى التمعن والتدبر فى قوله جل وعلا عن موسى:(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً (53) مريم ) وصفه رب العزة جل وعلا بانه كان مخلصا بفتح اللام ، أى نقيا ، وأنه جل وعلا قربه يناجيه ، بل إنه جل وعلا استجاب لرغبة عبده موسى وجعل أخاه هارون نبيا معه . أى إستجاب رب العزة لدعاء موسى ووهبه أخاه هارون نبيا . موسى دعا ربه فقال : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) طه ) (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) الشعراء ) (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً (36) الفرقان  ) . ثم هل هناك أروع من قول الله  جل وعلا لموسى فى خطاب مباشر له : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) طه ) .

4 ــ ومن خلال هذا يجب أن يكف ( المحمديون ) عن تفضيل ( محمد ) عمن سبقه من الأنبياء ، فما قاله جل وعلا لموسى فى حياة موسى لم يقله جل وعلا لمحمد فى حياة محمد . أليس كذلك ؟

5 ــ العبد الصالح : مع أنه كان نبيا يعيش بالقرب من موسى ، وارسله الله جل وعلا ليتعلم منه موسى إلا إن إسمه ليس مذكورا فى هذه القصة التى كان بطلا لها . والله جل وعلا لم يقص علينا كل قصص الأنبياء فى القرآن الكريم : ( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ً (164) النساء ). وبعض الأنبياء جاء قصصهم بدون أسمائهم وبدون ذكر إسم قريتهم:(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) يس) ومع هذا فقد صنع المحمديون إسما زائفا لهذا النبى هو ( الخضر ) وجعلوه وليا صوفيا يحقق لهم زعمهم بأن الولى الصوفى أعلى شأنا من النبى طبقا لقول ابن عربى :

مقام النبوة فى برزخ     فوق الرسول ودون الولى

ثم صنعوا لهذا ( الخضر ) حياة أبدية خالدة لا يموت بل ينتقل من مكان الى مكان يستجيب للداعى إذا دعاه فيما يزعمون . هذا مع أن الله جل وعلا قال لخاتم المرسلين أنه ( ميّت ) (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) الزمر ) وقال له جل وعلا : (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (35) الانبياء  )

وكان أبوهما صالحا

إهتم الصوفية أيضا بوالد الغلامين اليتيمين ووصفه بأنه كان صالحا ، وصنعوا المثل الشعبى المصرى ( التقوى تنفع الذرية ) . وهو رأى صحيح فيما يخص الدنيا فقط ، لأن الله جل وعلا يقول : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) النساء ). أى أن من يتقى ويحافظ على تقواه حتى الموت فإذا ترك ذرية صغارا ضعافا فإن الله جل وعلا يرعاهم . وفى المقابل فإن الفاسد الذى يجمع المال السُّحت ويُكاثر فى الأموال والأولاد يكون أولاده وتكون امواله نقمة وعذابا له فى الدنيا ويموت كافرا بما جمع . يقول جل وعلا يخاطب النبى عن أثرياء المنافقين :( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) التوبة). أما فى الآخرة فسيفر كل منا عند البعث والحشر من أخيه وامه وأبيه وصاحبته وبنيه (فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) عبس ) لن تدخل الجنة إلا بعملك ، ولن تدخل ذريتك الجنة إلا بعملها ، يقول جل وعلا : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) الطور) القاعدة يوم القيامة أن كل نفس ستكون رهينة بعملها : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) المدثر ). وليس هناك وقتها أنساب (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ (101) العبرة بميزان العمل :( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) المؤمنون ) ، لذا يأمر الله جل وعلا المؤمنين مقدما وبخطاب مباشر لهم بالانفاق فى سبيله قبل ان يأتى اليوم الآخر المختلف عن يوم الدنيا ، فإذا كان فى الدنيا واسطة وصداقة وشفاعة فلن يكون هذا فى يوم الدين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ (254) البقرة  ). أين هذا من خرافات المحمديين فى أساطير الشفاعة ؟ 

 

الفصل الثالث : تحديد المصطلحات

   من هو العبد الصالح تحديدا : ( عبدا من عبادنا ) فى قول الله جل وعلا : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65))

( ا ) ليس ملكا من الملائكة

 قد يُقال أن هذا العبد الصالح كان ملكا من الملائكة . وهذا خطأ فى تصورى للأسباب التالية

1 ـ نحن لا نرى الملائكة فى صورتها الحقيقية البرزخية طالما لا نزال أحياء على الأرض نسعى . نرى بعضها عند الاحتضار ، وعندما نراها يأتى اليقين بالموت ، ولا يمكن أن نعود بعدها للحياة . هناك إثنان من الملائكة تسجل وتكتب أعمال كل فرد موكلة به : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) ق ) يوم القيامة يتحولان الى سائق وشهيد وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) ق )  ، ويراهما الفرد منا يومئذ بعد أن زال عنه الحجاب أو الغطاء البشرى وهو الجسد الأرضى الذى يحجب عنا الآن رؤية البرزخ وعوالم البرزخ من الجن والشياطين ..والقرين . لذا سيقال : (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)(  لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) ق ) . حسب علمنا فإن الوحيد من البشر الذى رأى ملكا عظيما على حقيقته البرزخية كان خاتم النبيين عليهم جميعا السلام ، وهذا ليلة الاسراء ، حين نزل الروح جبريل من مستواه البرزخى ورآه محمد عليه السلام بفؤاده ـ أى قلبه ـ وعند التلاقى فى ليلة القدر التى هى ليلة الاسراء كان إنزال القرآن كتابا مكتوبا مرة واحدة فى قلب النبى محمد عليه السلام. والتفاصيل هنا فى كتاب منشور عن ليلة القدر هى ليلة الاسراء . بدون ذلك نكرر : نحن لا نرى الملائكة فى صورتها الحقيقية البرزخية طالما لا نزال أحياء على الأرض نسعى .

2 ـ بعض البشر رأوا بعض الملائكة ولكن فى ظروف خاصة إستدعت تجسد هؤلاء الملائكة بشرا وقيامهم بمهمة خاصة فوق طاقة البشر ثم أن هذه الملائكة تقول للطرف الآخر أنهم ملائكة . حدث هذا مع مرور الملائكة على ابراهيم فى طريقها لتدمير قوم لوط . ظنهم ابراهيم ضيوفا من البشر (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) هود) خاف منهم فأعلموه بحقيقتهم وبمهتمهم وبشروه وزوجه باسحاق ثم يعقوب . وساروا الى لوط فجعلوه فى موقف عصيب خوفا عليهم من شذوذ قومه لأنه ظن الملائكة بشرا : (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) هود ). وعندما إقتحم بعض قومه بيته قالت الملائكة للوط تخبره بحقيقتها : (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)هود).قامت هذه الملائكة بتدمير قوم لوط . أى هى ظروف خاصة إستدعت تجسد هؤلاء الملائكة بشرا وقيامهم بمهمة خاصة فوق طاقة البشر ثم أن هذه الملائكة تقول للطرف الآخر أنهم ملائكة .

نفس الحال مع إرسال الروح جبريل عليه السلام يحمل كلمة ( كن ) الى مريم العذراء ، يقول جل وعلا : (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً (19) مريم ) تمثل لها بشرا سويا وأعلمها بمهمته التى لا يستطيعها بشر . النبى صاحب موسى كان بشرا ، وما قام به يستطيع أى بشر فعله . وإذا كان يعلم بعض الغيب فهو من الأنبياء الذين يوحى اليهم ببعض الغيب .

( ب ) هو عبد من الأنبياء الممدوحين بأنهم ( عبادنا ) ( عبدنا ) ( عبده ):

وطالما أن (( عبدا من عبادنا ) لا تعنى ملكا من الملائكة ، إذن فهو رسول من الرسل ونبى من الأنبياء ، خصوصا وأنه أوتى العلم ببعض الغيب ، وتلقى أوامر بوحى سماوى . وعرضنا لهذا من قبل . ولكن نتوقف هنا مع مصطلح (عبدا من عبادنا ) ، وهو من أوصاف الرسل الأنبياء فى القرآن الكريم ، يؤتى به فى معرض المدح والتكريم للنبى الرسول  ( عبدنا ) ( من عبادنا ) ( عبده ) أى بضمير يربط النبى بربه إكراما لهذا النبى . ونتتبعه فى القرآن الكريم عن أنبياء الله ، كالآتى :

1 ـ عن كل الرسل قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ (172) الصافات ) وصفهم ب ( عبادنا ).

2 ـ فى سورة الصافات قصص لبعض الأنبياء ، يأتى مدح أحدهم بأنه من المحسنين وأنه من ( عبادنا المرسلين ) مع تحيته بالسلام من رب العزة . نقرأ عن نوح : ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) الصافات ) وعن ابراهيم : ( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) الصافات ) وعن موسى وهارون : ( سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) الصافات ) وعن ال ياسين : ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) الصافات ) .

3 ـ يذكر الله جل وعلا مجموعة من الأنبياء ويمدحهم بنفس الوصف ( عبادنا ) : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ (45) ص ) وقال جل وعلا عن نوح ولوط عليهما السلام ( عبدين من عبادنا ) : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) التحريم ).

4 ـ وصف بعض الأنبياء تكريما بأنه ( عبده ) أو ( عبدنا ):

4 / 1 : عن ( محمد ) عن الاسراء به عليه السلام حيث تلقى القرآن الكريم كتابا ،  يقول جل وعلا : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) الاسراء ). وليلتها تلقى وحى القرآن الكريم مكتوبا فى قلبه أو كتابا فى مطبوعا فى قلبه،وهو موصوف وقتها  وعندها بأنه ( عبده ) :( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) النجم ). ولأن الكتاب القرآنى تمّ نزولا مرة واحدة فقد قال جل وعلا فى مفتتح الكهف سورة المكية : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) ) النبى محمد عليه السلام ممدوح هنا بأنه ( عبده ) . ونفس الحال فى السورة المكية الفرقان:(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1)).وتوالى نزول القرأن الكريم بعدها متفرقا فى مكة والمدينة ( قرآنا ) مقروءا . وفى المدينة قال جل وعلا يخاطب المؤمنين : ( هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) الحديد ) . الرسول ممدوح هنا بأنه ( عبده ).

وحين تحدى رب العزة منكرى القرآن الكريم قال لهم جل وعلا : ( وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) البقرة  ). مدحه ربه بوصفه ( عبدنا ). وبالمناسبة فإن ما نزل علي الرسول هو ( سور ) . هل فى البخارى وغيره ( سور ) أو سورة واحدة ..أيها المحمديون ؟ وفى مناسبة موقعة بدر وما نزل فيها من آيات قرآنية يقول جل وعلا يخاطب المؤمنين وقتها : (إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) الانفال ) .  مدحه ربه جل وعلا فقال ( عبدنا ).

عن نوح: ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)  القمر )

عن  يوسف عليه السلام : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) يوسف )

عن أيوب عليه السلام : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ص)

وعن زكريا عليه السلام  ( ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) مريم ).

وأخيرا عن النبى صاحب موسى قال عنه جل وعلا :( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا ).

( ج ) : ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا  )

ذلك النبى العبد الصالح آتاه رب جل وعلا رحمة من عنده ، يقول جل وعلا : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65). وهذه الرحمة من لدن الله جل وعلا هى الرسالة السماوية التى نزلت على هذه النبى الرسول . وكل الرسالات السماوية كانت رحمة ، وبهذا جاء الوصف للأنبياء .

1 ـ خاتم المرسلين فى حياته كان رحمة للمؤمنين وكان بهم رءوفا رحيما ، يقول جل وعلا : ( وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) التوبة ) ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) التوبة ) .

2 ـ والقرآن الكريم خاتم الرسالات الالهية هو الرحمة الباقية بعد موت النبى محمد عليه السلام : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)  الانبياء )ووصف الرسالة الخاتمة بأنها رحمة جاء فى قوله جل وعلا : ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) الاعراف ) ، وتتجلى هذه الرحمة عند الانصات للقرآن الكريم ، يقول جل وعلا : ( وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) الاعراف )، وهى رحمة متاحة للناس جميعا لمن شاء الايمان بها ، يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) يونس )، ويتوالى وصف القرآن الكريم بأنه رحمة للمؤمنين به : ( مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) يوسف )( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) النحل ) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)النحل)( وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82) الاسراء )( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) النمل )( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) العنكبوت) ( الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)  لقمان )( حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) الدخان )( هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) الجاثية ).

خاتم المرسلين آتاه الله جل وعلا القرآن رحمة من عنده . وكذلك النبى صاحب موسى آتاه الله جل وعلا رسالة الاهية رحمة من عنده :( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ).

3 ــ الملائكة قد تنزل بالتدمير ولكن الله جل وعلا يرسل النبيين مبشرين ومنذرين ، وليسوا رُسُل تعذيب لأقوامهم . كفار العرب كانوا يطلبون آية حسية و العذاب كراهية فى القرآن الكريم فقال جل وعلا ردا عليهم : (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) الاسراء  )، أى الذى منع إرسال الآيات انها لم تنفع فى هداية الأمم السابقة حتى أن قوم ثمود رأوا بأنفسهم  صخرة تتحول الى ناقة فعقروها ، وأن الله جل وعلا يرسل الايات تخويفا لأنهم حين لا يهتدون بها يحلُّ بهم الاهلاك ، وقد يأتى الاهلاك عن طريق الملائكة . وآخر أية حسية هى المائدة التى طلبها الحواريون ، ووعد الله جل وعلا بإنزالها مع تهديد بهلاكهم إن كفروا بعدها : (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ (115) المائدة ).

كفار العرب طلبوا آية حسية وطلبوا أيضا الاهلاك والعذاب ، كراهية منهم للقرآن الكريم وكفرا به : ( وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) الانفال). كانوا يستعجلون العذاب، فيرد رب العزة جل وعلا  : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) الحج  ) ولكن العذاب الأكبر بعد القرآن الكريم مؤجل لمن يموت كافرا يوم القيامة : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) العنكبوت  ) وليس بإمكان النبى إيقاع العذاب ، وهو الذى يتعرض لإيذائهم ، لذا امره الله جل وعلا أن يقول لكفار مكة أنه على يقين من ربه جل وعلا ومن كتابه الذى يكذبون به ، وانه  ليس عنده العذاب الذى يستعجلونه، ولو كان بيده تعذيبهم لانتهى الأمر: (  قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) الانعام ). وقبل أن يقصّ رب العزة قصة موسى والعبد الصالح جاء الحديث ردا على طلب كفار مكة الاهلاك العام كما كان يحدث للأمم السابقة ، فقال جل وعلا :( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً (56) الى أن يقول جل وعلا عن طلبهم الهلاك والعذاب : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) الكهف ).

( د ) ( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65))

العلم اللدنى من مستلزمات النبوة ، والرسالة الالهية . ليس فقط صاحب موسى الذى قال عنه جل وعلا : (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65)) بل جاء هذا فى القرآن الكريم فى قصص الأنبياء الآخرين .

1 ـ يوسف عليه السلام أبرز هؤلاء الرسل ، آتاه الله جل وعلا من لدنه علما . حدث هذا عندما بلغ مبلغ التكليف والرجوله فى بيت إمرأة العزيز ، وبالطبع لم يكن أحد يعلم كيفية هذا التعليم اللدنى الالهى الذى نزل على الشاب يوسف بن يعقوب فصار به نبيا مرسلا ، يقول جل وعلا عن يوسف : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) يوسف ) . ونفس الحال مع موسى عليه السلام الذى نشأ طفلا ثم شابا فى قصر الفرعون ، يقول جل وعلا عنه : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) القصص ) قصر فرعون المزدحم بالجند والحرس والجواسيس لم يعرف أحد منهم بالعلم اللدنى الالهى الذى نزل على الشاب موسى عليه السلام .

2 ـ وتكرر فى قصة يوسف الكلام عن العلم اللدنى الذى أوتيه من رب العزة . حين قصّ الطفل يوسف على أبيه يعقوب ـ عليهما السلام قال له أبوه يعقوب : ( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) يوسف ) وحين وجد الطفل يوسف ملجأ فى بيت العزيز الذى إتخذه ولدا قال جل وعلا : (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) (21) يوسف ). وفى بيت العزيز نزل عليه العلم اللدنى ، وحين كان يوسف عليه السلام فى السجن قال لصاحبيه : ( لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي )(37) يوسف ). وفى تمام نصره قال موسى شاكرا لربه جل وعلا على نعمائه : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) يوسف ) .

3 ـ يعقوب نفسه أوتى من ربه علما لدنيا ، عرف به مكيدة أبنائه لأخيهم الطفل يوسف : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) يوسف ) . وكان بهذا العلم الالهى يعلم ما لا يعلمه أولاده ، قال عنه جل وعلا : ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) يوسف ) ولما رجع بنوه من مصر وقد إستبقى يوسف أخاه الشقيق معه ، وكان الأبناء لا يعلمون أن أخاهم يوسف هو عزيز مصر ، كان يعقوب هو الذى يعلم وقد إبيضت عيناه حزنا على غيبة ابنه يوسف : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) يوسف ) فوجئوا بأبيهم يذكر يوسف الذى نسيه الأخوة فقالوا لأبيهم : ( قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ (85) ورد عليهم بأنه يعلم ما لايعلمون : ( قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (86) وأمرهم أن يعودوا لمصر بحثا عن يوسف وأخيه إشارة الى الأخ المفقود هو مع أخيهم يوسف : ( يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ (87) يوسف ). وعادت القافلة بخبر العثور على يوسف وأخيه وتحمل قميص يوسف والأب المكلوم فى الانتظار وقد شمّ رائحة يوسف وهو فى مكانه : (وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (96) يوسف  ) قال لهم يعقوب : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ  )

4 ــ وقال جل وعلا عن  العلم اللدنى الذى آتاه لوطا عليه السلام:(وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً )(74)الانبياء ) وقال جل وعلا عن داوود وسليمان وعلمهما اللدنى الخاص بهما : ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) الانبياء ) وقال جل وعلا : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) النمل ). وقال جل وعلا عن العلم اللدنى للمسيح عليه السلام : ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) آل عمران  ) ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ )(110) المائدة ).

5 ــ وحين خدع بعض الصحابة خاتم المرسلين الذى لم يكن يعلم الغيب نزل عليه الوحى القرآنى يخبر بما فعلوا من خيانة ، ويقول له ربه جل وعلا : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) النساء ).

وقال جل وعلا له عن القصص القرآنى  ليوسف عليه السلام : ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)يوسف ) وعن نوح (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)هود  ) وعن مريم : (ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) آل عمران  ) وعن قصة موسى يقول له ربه جل وعلا : (  وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) القصص  ).

القرآن الكريم نزل يكشف غيوبا من الماضى وغيوبا من أسرار المنافقين ومن غيوب المستقبل . والقرآن الكريم هو العلم اللدنى الحقيقى الباقى الذى نزل على نبى لم يكن يعلم الغيب . لذا يوصف القرآن الكريم بأنه ( علم ) و ( حُكم ) من لدن العليم الحكيم . وهذا موضوع شرحه يطول ، ولكن ننتهى الى أن العلم اللدنى الالهى ينزل وحيا على النبى قد يحوى غيبا . وبالتالى فإن صاحب موسى كان نبيا أوتى من لدن رب العزة علما . ( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65)

مصطلحات أخرى :

( الفتى )

1 ــ جاء بمعنى الشاب ( الفتىّ ) فى قوله جل وعلا  عن ابراهيم عليه السلام : ( قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)الأنبياء: 60 ) وعن الفتية أهل الكهف قال جل وعلا : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً)الكهف: 10 ) ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)الكهف: 13 ) .

2 ـ وجاءت بمعنى الخادم ، حين يكون مضافا فى قوله جل وعلا عن خادم موسى : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً  فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً  فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً)يوسف:60 : 62 ).  وفى قوله جل وعلا عن يوسف وهو فى بيت إمرأة العزيز : ( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يوسف:30 )

( الغلام )

1 ـ يأتى بمعنى الطفل المولود ذكرا .

عن تبشير ابراهيم عليه السلام بإبنه اسماعيل ( الغلام الحليم ) قال جل وعلا : ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102 ) الصافات ). وعن تبشير الملائكة ابراهيم عليه السلام بإبنه إسحاق ( الغلام العليم ) قال جل وعلا : (  وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) الحجر  )  (  إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) الذاريات ).

 وعن تبشير الملائكة النبى زكريا بابنه يحيى قال جل وعلا : ( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) آل عمران ) ( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيّاً (8) مريم ). وُصف الطفل المولود يحيى بأنه ( غلام ) .

وقال جل وعلا هن تبشير مريم بوليدها المسيح عيسى : (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيّاً (20) مريم  ). وصفته بأنه ( غلام )

2 ــ ـ ويأتى مصطلح ( غلام ) بمعنى الولد الذكر دون البلوغ ، يقول جل وعلا عن الطفل يوسف بعد أن ألقاه أخوته فى الجُبّ : (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) يوسف  ). وبنفس المعنى جاءت كلمة ( غلام ) فى قصة موسى والعبد الصالح فى قوله جل وعلا :  (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) الكهف  )، (  وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) الكهف ) .  

( الحوت ):

لم يرد فى القرآن الكريم لفظ ( السمك ) بل وصف لحم الأحياء المائية بأنها ( لحم طرى ) (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً )(14) النحل  ). وجاء وصف السمك بالحوت على نوعين :

1 ـ صغير الحجم الذى يكون فى متناول اليد مثل الحوت فى قصة موسى : (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) ، ( قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63). وواضح انه سمك يمكن حمله والانتقال به ، وأنه ظل حيا مع فتى موسى ، فلما نساه قفز الى الماء .

2 ـ وقد يكون حوتا ضخما يبتلع الشخص مثل حوت يونس، يقول جل وعلا : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) الصافات ) قوله جل وعلا (فَالْتَقَمَهُ الْحُوت ) إى إبتلعه مرة واحدة أو لقمة واحدة . وهذه  ــ هى حسبما ـ أعلم طريقة الحوت الضخم فى الأكل ، وتختلف مثلا عن التمساح والثعابين المائية  الضخمة التى تبتلع الضحية قطعة قطعة وبتمهل .

 ( البحر ) :

 يأتى فى القرآن الكريم إسما للبحر وللنهر ، يقول جل وعلا : ( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) فاطر ) . والواضح ان ( البحر ) فى هذه القصة مقصود به البحر المالح .

 (الآثار والقصص ) فى قوله جل وعلا : (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) .

1 ـ  ليس المراد هنا القصص القرآنى مثل قوله جل وعلا (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ )(3) يوسف) وليس المقصود بالآثار عمل الانسان الذى يتم تسجيله وحفظه وكتابته (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) يس  )  ليحمله يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ، كما فى قوله جل وعلا (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) الاسراء  )

2 ـ إنّما المرد هو (قصُّ الأثر ) ماديا . وهناك حرفة قصُّ الأثر وتتبع الخطوات ، خصوصا فى الصحراء.

  ( مساكين ) .

1 ــ يأتى هذا المصطلح وصفا للفقير المحتاج الى أولى الضروريات للحياة وهى الطعام ، وهو يحتاج الى الطعام  أولا بأول . لذا يرتبط المسكين والمساكين بالحث على إطعامهم ، يقول جل وعلا مثلا : (إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) الحاقة ) ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) المدثر ) (كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) الفجر ) (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) الماعون ).

2 ـ ولكننا هنا مع مساكين يعملون فى البحر على سفينة (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ )، لا نعرف إن كانوا يملكونها أو كانوا مجرد عاملين عليها . ولكن المهم أن قوتهم اليومى وطعامهم كان متوقفا على ما يصيدون . لذا كان وصفهم بالمساكين ، مع أنهم يعملون ويتكسبون .    

( ملك )

1 ــ هنا ملك ظالم لا يتورع أن يغصب سفينة يرتزق بها مساكين :(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)، ومع ذلك فرب العزة جل وعلا يعتبره ملكا .

2 ــ وقلنا فى مقالات سبقت أن الناس لو إرتضوا الخضوع وبالخنوع والاذلال ملكا ظالما وإعترفوا به ملكا عليهم فإن الله جل وعلا يعتبره ملكا عليهم . وهذا هو الحال مع ذلك الملك فى هذه القصة ، وكذا نفس الحال مع فرعون الذى زعم الالوهية ، ومع الملك الذى جادل ابراهيم عليه السلام زاعما الالوهية ، وقال جل وعلا أنه أتاه المُلك : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) البقرة ).

3 ــ  وطالما إرتضى الناس بفلان ملكا ظالما فقد إعترف به رب العزة ملكا عليهم . أما إذا أرادوا تغيير ما بأنفسهم من ذل وخنوع الى العزة فإن الله جل يعترف بهذا التغيير (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )  (11)  الرعد  )

 ( قرية / مدينة ) :

1 ــ قلنا فى القاموس القرآنى أن القرية فى المصطلح القرآنى هى المجتمع أو الدولة ، وأن المدينة هى جزء منها . ومن ذلك قوله جل وعلا (  وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) يس ) ثم يقول جل وعلا (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) يس  ). فالبداية بالقرية التى تضم الجميع ، ثم فى التفاصيل أتت كلمة المدينة .

2 ــ نفس الحال هنا : البداية بالقرية ،  فى : (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) أما البيت فكان فى مكان معمور من القرية ـ فى المدينة : ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا   (82)) ).

3 ــ  والعادة أن مصطلح القرية فى العموم يدل على كل المجتمع أو الدولة. وتكرر هذا فى القرآن الكريم ومنه مثلا عن إهلاك القرى فى سورة الاسراء : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (58)).

( أبواه  )

قلنا سابقا أن من المساواة بين الذكر والأنثى وصف الأب والأم بالوالدين والتوصية بالاحسان اليهما دون تفرقة بينهما . والمساواة بين الأبوين فى الميراث (وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)النساء    ) . وجاء هنا وصف الأب والأم بالأبوين (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ).

( صالح ):

1 ــ  لا يصف رب العزة احدا بالصلاح وهو حىّ يرزق ، بل إن النبى فى حياته يدعو أن يلحقه رب العزة يوم القيامة  بالصالحين ، قالها ـ عليهم السلام ـ  ابراهيم (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) الشعراء )  وقالها يوسف عليه السلام : ( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) يوسف)، وقالها سليمان عليه السلام : (  وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) النمل ). والرجل ( المؤمن) والد الفتاتين فى مدين قال لموسى عن نفسه ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (27)  القصص ). لم يصف نفسه بالصلاح لأن المؤمن لا يزكى نفسه .

2 ــ  الله جل وعلا وحده هو الأعلم بخلقه ، وهو الذى يصف بعض الناس بالصلاح بعد موتهم وقفل كتاب أعمالهم ، ولهذا قال عن والد الغلامين اليتيمين الذى مات من قبل : ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ). هذا بينما قال عن أبوى الغلام انهما مؤمنين ( وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) الكهف )  أى لأنهما كانا لا يزالان على قيد الحياة . وهما موصوفان بالايمان . وقد يكون الايمان سلوكيا فقط بمعنى الأمن والمُسالمة ، وقديكون سلوكيا وقلبيا معا . ولكن فى كل الأحوال فطالما يكون الانسان حيا فإيمانه يزداد وينقص تبعا لظروفه ومدى نجاحه فى إبتلاء الحياة ، ولا يتحدد عند رب العزة هل هو صالح أو خاسر إلا بالموت وقفل كتاب اعماله .

3 ــ  ولكن من العادات السيئة فى أديان المحمديين الأرضية وصف النفس والغير بالصلاح وتزكية النفس والغير إفتراءا على الله جل وعلا كذبا . وقد قال رب العزة ناهيا عن تزكية النفس بالتقوى: ( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى (32) النجم  ) وقال جل وعلا عن بعض أهل الكتاب الذين زكوا أنفسهم : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) النساء  ).

4 ــ  الأنبياء العظام يدعو كل منهم ربه جل وعلا ويتمنى (أن يلحقه ربه بالصالحين ) وغوغاء المحمديين يفترون بكل جُرأة أن فلانا ( صالح )..!

 

 

الفصل الرابع : الوحى التوجيهى وانواع من التدبر : الايجاز بالحذف ، الجملة الاعتراضية ، حول نقل الاقوال البشرية فى القرآن الكريم ،  المجاز ، اختيار اللفظ    

الوحى التوجيهى

 1 ـ ينزل وحى توجيهى للرسول النبى قبل وأثناء وربما بعد ( الرسالة السماوية ).

2 ـ وفى القرآن الكريم شواهد على هذا الوحى التوجيهى للنبى محمد عليه السلام ، فى هجرته الى المدينة والأمر بكف اليد عن القتال الدفاعى و موقعة بدر وموقعة الأحزاب وسورة التحريم والثلاثة الذين خُلّفوا فى سورة التوبة . ولكن الذى أنزل على الرسول هو ( سور ) القرآن ، ولا وجود لسور خارج القرآن ولا إيمان بحديث خارج القرآن ، وبالتالى فالايمان بوجود هذا الوحى التوجيهى محصور بما جاء عنه من إشارات قرآنية . لا إيمان بأى كلام أو حديث خارج نصوص القرآن الكريم بإعتباره الرسالة الخاتمة والنهائية ، وهذه الاشارات عن الوحى التوجيهى لخاتم المرسلين جاء على هامش تفصيلات التاريخ المعاصر للنبى محمد عليه، وهو جزء قليل بالمقارنة بالقصص الماضى عن الأنبياء والأمم السابقة ،وهذا القصص القرآن كله ( الماضى والمعاصر ) ليس سوى جزء من القرآن الرسالة العالمية والأخيرة للبشر ، بما فيها من تشريعات وقيم أخلاقية و إشارات علمية . وبهذا يختلف القرآن الكريم عن الرسالات السماوية السابقة .

2 ـ  والرسالات السماوية قبل القرآن الكريم كانت مؤقتة بقومها ورسولها ، لذا كان الوحى التوجيهى منزلته نظرا لظروفه الوقتية المحلية . وأمثلته كثيرة ، منها فى قصة نوح عليه السلام كيفية صُنع السفينة وانه لن يؤمن من قومه أحد إلا من آمن (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)هود) .ومنها تبشير ابراهيم بابنه اسماعيل ، وتبشير زكريا بابنه يحيى .

2 ـ  والوحى التوجيهى سمة بارزة فى قصة موسى عليه السلام الذى ( كلّمه الله تكليما ) : (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164) النساء ). وبدأ الوحى التوجيهى بمولد موسى طفلا مع وحى الله جل وعلا لأم موسى ، ثم تعليم موسى العلم اللدنى وهو فى قصر فرعون ، حيث عرف وضعه ودقّة موقفه وصعوبة وضعه . وكان الوحى التوجيهى يصاحب موسى من حديث رب العزة معه عند الشجرة المباركة فى طور سيناء بالوادى المقدس طوى الى ظروفه مع قومه فى حركته فى مصر وهم تحت ضغط الفرعون ، ومنه مثلا : حين خاف من ألاعيب السحرة : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) طه ) وفى صلاتهم خُفية بمصر: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (87) يونس ) ، وفى هروبهم من مصر خُفية (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) الشعراء ) و فى إستسقائه لقومه وهم 12 قبيلة : (وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ) (60) البقرة ).. وبالوحى نودى موسى لميقات ربه جل وعلا على جبل الطور ، وفيه تلقى الألواح ، الكتاب المُنزّل .وبعده أوحى اليه ربه بما فعله بنو اسرائيل من عبادة العجل إثناء غيابه : (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ (85) طه )  وتتابع الوحى التوجيهى لموسى بعدها، ومنه حين رفض قومه دخول الأرض المقدسة التى كتبها الله جل وعلا فأوحى رب العزة اليه : ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) المائدة ).

ومنه الوحى لموسى أن يقابل هذا الرسول النبى ليتعلم منه موسى الصبر وعدم الانفعال . وبالهذا الوحى تحدد المكان الذى سيقابل فيه موسى ذلك الرسول النبى ، نفهم هذا من هذا الحوار الذى دار بين موسى لفتاه : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) الكهف  ).

 :الايجاز بالحذف :

1 ــ قال جل وعلا (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)الاسراء ). هنا إيجاز بالحذف فى (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ) أى أمرنا مترفيها بالعدل ففسقوا فيها . وقد تعرضنا لهذا فى مقال خاص منشور هنا . الايجاز بالحذف يأتى فى القرآن الكريم كثيرا ، وأنواعه مختلفة حسب نوعية المحذوف ، وله أغراض بلاغية متعددة ، اهمها الاختصار والتركيز على المذكور دون المحذوف  .  وهو موضوع شرحه يطول .

2 ــ ونعطى أمثلة من هذه القصة ، ونضع اللفظ المحذوف بين قوسين: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ ( هذا المكان ) حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ ( سائرا ) حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ ( الحوت ) سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ ( موسى )  لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ ( الفتى )  أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ ( الحوت ) سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ( موسى ) ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) فَوَجَدَا عَبْداً ( نبيا ) مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ ( عبدنا ) إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ ( موسى )  سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قَالَ ( عبدنا ) فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ ( عبدنا ) أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قَالَ  ( عبدنا) أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (72) قَالَ ( موسى ) لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ ( موسى ) أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قَالَ ( عبدنا ) أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75) قَالَ ( موسى ) إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ( عبدنا ) قَالَ ( موسى ) لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قَالَ ( عبدنا ) هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ ( ظالم ) يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ ( سليمة ) غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا ( عندما يكبر ) أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82))الكهف ) 

   الجملة الاعتراضية 

1 ــ الجملة الاعتراضية هى التى يمكن حذفها دون تأثير على السياق ،وهى عكس الايجاز بالحذف . يؤتى بالجملة الاعتراضية لأغراض بلاغية ، وقد تكون لا لزوم لها ومجرد حشو وثرثرة ، فيفسد بها أسلوب الكاتب، لذا فإن الجملة الاعتراضية تعتبر مؤشرا على مدى فصاحة الكاتب ، هل يأتى بها لمجرد الإطناب والتطويل والثرثرة ، ام لهدف التوضيح وبصيغة موجزة جذابة . الجمل الاعتراضية من أوجه الفصاحة القرآنية التى لم تحظ بإهتمام علماء البلاغة القرآنية . ونعطى لها أمثلة قرآنية ـ على أمل أن يتوفر لنا الوقت والجهد لاعداد بحث متكامل عنها .

يقول جل وعلا : (وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) البقرة  ). السياق فى الآية 24 أن يقال ( فإن لم تفعلوا فاتقوا النار ) . جاءت جملة ( ولن تفعلوا ) إعجازا يؤكد التحدى ويخبر مقدما بعجزهم، مع ما تحمله العبارة من سخرية ضمنية .

ويقول جل وعلا : ( قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) الاسراء ). السياق أن يقال ( قل لو كان معه آلهة إذا لابتغوا الى ذى العرش سبيلا ) . جاءت جملة ( كما يقولون ) وهدفها واضح هو عدم الاعتراف بهذه الآلهة .

يقول جل وعلا : (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) الواقعة  ) هنا أروع مثل للجملة الاعتراضية ، إذا جاءت جملة إعتراضية كبرى داخلها جملة إعتراضية أخرى ، مع عدم الاخلال بالفصاحة . السياق أن يقال : ( فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم ....). جىء بجملة إعتراضية كبرى هى آية كاملة  (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76). وهذه الجملة سياقها العادى أن يقال ( وإنه لقسم عظيم ) وجىء بجملة إعتراضية صغيرة هى ( لو تعلمون ). الجملة الاعتراضية الكبرى فى الآية : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ  ) تأكيدا لعظمة القسم بمواقع النجوم . والجملة الصغيرة الاعتراضية داخلها ( لو تعلمون ) ذات دلالة عجيبة وهائلة . وبعض ( ما نعلم ) أن القسم هنا ليس بالنجوم ذاتها ولكن بمواقعها . ولقد علمنا مؤخرا أن الذى نراه هو ضوء قادم من مواقع بعض النجوم وليس منها ذاتها ، لأن هذه النجوم إنفجرت وتحطمت وتحولت الى ثقب أسود وأبيض وتلاشى جُرمها المادى ، ونظرا لبُعدها السحيق ــ  الذى يبلغ ملايين السنوات الضوئية ــ فإن ضوءها هو الذى لا يزال يأتينا بعد زوالها ، وهو يأتينا ليس من النجم الذى زال وانتهى ولكن موقعه القديم . هنا نتعرف على الروعة فى الآية رقم 76  التى جاءت جملة إعتراضية ، وبالتالى نفهم عظمة القرآن الكريم الذى لم نقدره حق قدره . ونعيد قراءة قول الخالق جل وعلا  : (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) الواقعة  ) .

2 ــ فى قصة موسى مع العبد الصالح عليهما السلام جاءت كلمة إعتراضية بالغة الدلالة فى قول موسى له : ( قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)). السياق أن يقول ( ستجدنى صابرا ولا أعصى لك أمرا ). ولكن موسى قال جملة إعتراضية هى ( إن شاء الله ) متوكلا على الله . هو لم يعط عهدا قاطعا ، بل علقه على مشيئة الرحمن لأنه ـ موسى ـ يعلم إندفاعه وعدم قدرته على الصبر والتريث ، فتوسل بمشيئة الرحمن ليكون صابرا ولا يعصى لصاحبه أمرا. وفعلا لم يصبر موسى ، يقول جل وعلا : ( فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (72) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75)) بعدها إندفع غضب موسى يلوم نفسه : ( قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) الكهف )

 حول نقل الاقوال البشرية فى القرآن الكريم

يتردد فى القصص القرآنى نقل أقوال بشرية ، وهى تنقسم من حيث القائلين الى أقول من الأنبياء والمؤمنين وأقوال الكافرين .و تنقسم من حيث تاريخها الى نوعين : احدهما  ماضى ، ينتمى الى الزمن السابق على نزول القرآن الكريم ، ويأتى فى قصص الانبياء ومنها أقوال فرعون موسى و الكفرة من قوم نوح وهود وصالح وشعيب وابراهيم  ، والاخر معاصر ، ينتمى الى عصر نزول القرآن الكريم مما قاله النبى والمؤمنون والمشركون العرب واهل الكتاب . وتنقسم أيضا الى نوعين من حيث الموضوع ، أحدهما جاء فى القصص وما تناثر فيه من حوار ، والآخر جاء حوارا قائما بذاته مع من عاصر نزول القرآن الكريم وعاند وكفر .ومن حيث الموضوع تنقسم أيضا الى نوعين ، منها ما ذكره الله جل وعلا وقام بالردّ عليه مباشرة ، والاخر ذكره الله جل وعلا  دون الرد المباشر عليه لأن الرد واضح وقد تكرر من قبل ومن بعد . وفى موضوع الرد نفسه هناك أقوال لهم قام رب العزة بالرد فيها دفاعا عن النبى و المؤمنين ، وهناك أقوال قام جل وعلا فيها بالرد عن ذاته.  هو موضوع طويل معقد نرجو أن يتسع الوقت لتأصيله . ولكن نعطى أمثلة للتوضيح أورد فيها رب العزة أقوال الكافرين وردّ عليها :

1 ـ الكافرون من أهل الكتاب : (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ  ) ( البقرة 80 : 82 )

(لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ  ) (آل عمران 181 : 182 )

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا  ) (المائدة 64  )

الكافرون  العرب : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)  العنكبوت  ).

2 ـ وذكر رب العزة قول موسى لقومه : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) البقرة ). قول موسى لقومه أن يقتلوا أنفسهم هو رأى خاص به ، وليس تشريعا .

3 ـ ومن قصة موسى مع هذا النبى جاءت أقوال موسى وفتاه وهذا النبى . وترددت فيها  كلمة ( قال ) ليكون القائل مسئولا عن قوله .

   لمحات بلاغية :

  المجاز :

1 ـ فى القرآن الكريم أسلوب علمى تقريرى يأتى خصوصا فى التشريع وغيره ، مثل قوله جل وعلا عن الاسراء (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) (1) الاسراء ). هنا كلمات محددة بالذى أسرى وهو رب العزة (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى  ) ، وبالذى أُسرى به ، وهو (بِعَبْدِهِ ) والبداية للرحلة (مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) والنهاية (  إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) والهدف من هذه الرحلة الليلية (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا  ).

ولكن الاسلوب المجازى من مشاكلة وتشبيه وكناية واستعارة يؤتىبه فى مجالات الدعوة ، ومنها القصص وما يعرف بالسمعيات أى الغيوب التى لم نرها بعد مثل أحوال الآخرة والملائكة ، أو فيما يخص رب العزة جل وعلا الذى يعلو على كل الأفهام . ومنه التعبير عن ملكوت الرحمن بالعرش والكرسى وعن تحكمه جل وعلا فى ملكوته بالاستواء على العرش .

2 ــ  مثلا يأتى أسلوب المشاكلة المجازى فى : ( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) النمل ) (  وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) آل عمران ) (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16)الطارق ) ، أى على ( شاكلة ) الفعل البشرى يأتى الرد الالهى باسلوب المجاز . ومن أسلوب المشاكلة قول عيسى عليه السلام لربه جل وعلا : (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) المائدة ). إضافة النفس لرب العزة أسلوب مجازى جىء به بالمشاكلة . وهناك إستعمالات أخرى لكلمة ( نفس ) مضافة للرحمن جل وعلا على سبيل المجاز ، ومنها قوله جل وعلا : (وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) (وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) آل عمران  ) (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ  ) (12) (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) الانعام  ) ، لا يمكن أن يزعم أحد هنا أن لرب العزة جل وعلا ( نفسا ) بالاسلوب العلمى التقريرى مثل الذى نعرفه من صفات البشر لأن رب العزة يقول (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )( آل عمران 185 ) الأنبياء (35) العنكبوت(57)) ، وهو جل وعلا الحى الذى لا يموت. أى فاستعمال النفس هنا هو بالاسلوب المجازى غير الحقيقى .  وكلمة ( الأعمى ) تأتى فى التشريع بالاسلوب العلمى الحقيقى ( لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ )(61) النور) (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ )(17)الفتح).ويأتى (اعمى) بالاسلوب المجازى بمعنى الضلال فى الدنيا والآخرة ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19)الرعد )( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) الاسراء )  ويستحيل فى ضوء عدل الرحمن ان يكون المصاب بالعمى بالمعنى العلمى التقريرى من أهل النار لمجرد أنه أصابه العمى أو خُلق أعمى . أى فلا بد هنا من التسليم بوجود اسلوب مجازى وأسلوب علمى، ولكل مقام مقال . 

3 ــ من هنا نفهم الاسلوب المجازى فى قوله جل وعلا :( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ   ). ليس الجدار كائنا حيا ( يريد ) شيئا . هنا إستعارة مجازية ، وهو اسلوب مجازى بالغ الدلالة ورائع التعبير عن جدار آيل للسقوط .

4 ــ القائلون بأنه ليس فى القرآن ( مجاز ) يقعون فى ضلال هائل ، فالقرآن الكريم نزل بلسلن عربى مبين . وأسلوب المجاز هو الأبرز فى الشعر العربى قبل نزول القرآن الكريم وبعده ، حتى إنه يقال ( أعذب الشعر أكذبه ) أى عذوبته فى المجاز والمبالغة فيه بدءا من مدح المحبوبة فى الغزل الى المبالغة فى الفخر كقول عمرو بن كلثوم: ( إذا بلغ الرضيع منا فطاما   تخر له الجبابر ساجدينا )  . وبهذه الكذبة الكبرى صارت قصيدته فخرا لقومه من بنى تغلب ومن المعلقات السبع . رب العزة يستعمل اسلوب المجاز فى القرآن الكريم بالصدق لتقريب المعنى للافهام البشرية دون أن ينال المجاز من صُدقية القول .

  اختيار اللفظ :

  1 : يقول جل وعلا : ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63)) عن الحوت فى الآية 61 : (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) ) هنا وصف رب العزة جل وعلا للمشهد ، فبمجرد أن نسيا حوتهما (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ) . الفاء فى (فَاتَّخَذَ ) هى للعطف السريع ، تقول : ( جاء محمد فأحمد ) أى جاء أحمد مباشرة بعد محمد . وهناك العطف بالواو الذى يفيد المصاحبة ( جاء محمد وأحمد ) وهناك العطف ب ( ثم ) وهو الذى يفيد التراخى : ( جاء محمد ثم أحمد ) . من اسلوب العطف السريع  بالفاء قوله جل وعلا عن ( حمل ) مريم بالمسيح كآية من رب العزة : (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً (24) مريم  )  الحمل تلاه مباشرة الاعتكاف فى مكان قصى بعيد ومجىء المخاض ..الخ. الآية 63 : عن قول فتى موسى عن الحوت  :( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبا ) أى يتعجب من تسرب الحوت للبحر ، واستعمل العطف بالواو . لأنه لم يكن شاهدا على ما حدث ، إذ نسى الحوت ( وإتخذ الحوت سبيله للبحر .. يا للعجب .!! ) بينما وصف رب العزة المشهد باستعمال العطف بالفاء أى بمجرد تركهما الحوت تسرب الى البحر .

 2 / 2 : ونرى تنوعا فى إختيار اللفظ فى كلام موسى لصاحبه . الأصل فى موسى تلك النفس الراقية المهذبة ( طالما لا يحس بالخوف والخطر ) . وهو فى تعامله مع هذا النبى كان يتكلم معه فى رُقى هائل ، نلمح هذا فى قوله بكل أدب لنبى مثله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66)). طلب منه بسؤال مهذب أن يكون تابعا له يتعلم منه بعض علمه . لم يستكبر ولم يستنكف أن يطلب التعلم منه بهذا الاسلوب المهذب . وموسى كان مدركا لطبيعته الغاضبة المتسرعة لذلك طلب من ربه جل وعلا أن يكون أخوه هارون مساعدا له : (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) الشعراء ) (قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) القصص  )

 وكان موسى يضبط ردود أفعاله فى حدود الممكن ، حين خرق صاحبه السفينة قال : ( أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) أى شيئا عجبا . ثم إذا قتل الغلام زادت نبرة التعليق لتكون إحتجاجا بالانكار : (( قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ). قالها موسى مستنكرا ، وهو الذى لم ينس كيف تسرّع من قبل فقتل رجلا مصريا معتديا .

وصاحب موسى حذّره من البداية : ( قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) ورد موسى بكل تواضع :( قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) فاشترط عليه صاحبه  (قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) وطبعا وافق موسى على هذا الشرط . وحين إحتج موسى على خرقه السفينة قال له صاحبه يُذكّره : ( قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (72)وردّ موسى برجاء : ( قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) وعندما قتل الغلام وارتفعت نبرة موسى بالاحتجاج قال له صاحبه ( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75)) . المراد هنا فى ( إختيار اللفظ ) أنه فى الاية 72 (( قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (72)) لم يأت فيها بكلمة ( لك ) ، اى كان لوما من صاحبه مهذبا . ولكن فى المرة التالية وجّه له الخطاب بلوم مباشر إستعمل فيها كلمة ( لك ) :( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75)) . 

وهناك مواضيع أخرى تدخل فى موضوع معقد هو الحتميات التى يتعرض لها البشر ، ومنها الموت قتلا ، نعرض لها فى المقال التالى .

 

 الفصل الخامس : الحتميات

 مقدمة :

1 ــ المعضلة الكبرى هى قتل العبد الصالح للغلام خشية أن يكبر ويرهق أبويه المؤمنين طغيانا وكفرا .  . وتعرضنا سابقا تحت عنوان ( وما فعلته عن أمرى ) عن نواحى من هذه القضية أساسها أن العبد الصالح كان نبيا أعلمه الله جل وعلا ببعض الغيب فيما يخص هذه المواقف  الخاصة بالسفينة والغلام والغلامين أصحاب الجدار ، وأنه مُرسل ليفعل ما فعله ، وأنه كما قال ( وما فعلته عن أمرى ) .

2 ــ هنا نناقش الموضوع من زاوية أخرى هى الحتميات ، أو القضاء والقدر ، وهى الحتميات التى لا مفر لكل فرد من مواجهتها ولا بد من وقوعها عليه ، وليس مسئولا عنها يوم القيامة. هو مسئول فقط عن حريته فى الايمان أو الكفر ، فى الطاعة أو المعصية . هذه الحتميات هى الخاصة بالميلاد ( فأنت لا تختار موعد أو مكان ميلادك ، ولا أصلك وأبويك وأقاربك ، ولا تختار ملامح وجهك ولا لونك ، أو حجمك أو طولك أو قصرك ) والحتمية الخاصة بالرزق المقدر لك سلفا ، لو كان الأمر بيدنا ما أصبح فقير فى هذا العالم وما تعرض غنى ثرى للإفلاس ولأصبحنا كلنا بليونيرات ، والحتمية الخاصة بالمصائب من خير وشرّ والتى نُفاجأ بها بها فى موعد لا نتوقعها ولا نتوقعها ، ولذلك فالمؤمن عليه أن يتقبل المصائب من خير أو شرّ ، يصبر ويشكر ، يقول جل وعلا عن حتميتها : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)الحديد ) ويقول جل وعلا عن موقف المؤمن منها : ( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ )(23) الحديد ).

ثم الحتمية الكبرى وهى الموت المقدر سلفا لكل منا موعده ومكانه وكيفيته . وحتمية الموت هى قضيتنا هنا بسبب موضوع قتل العبد الصالح للغلام .

3 ـ هذه الحتميات منها ما يحدث بفعل إلاهى صرف ( 100 % )، ومنها ما يحدث فيه تدخل البشر بتقدير الرحمن وقضائه . ميلاد الفرد ينتج عن علاقة جنسية بين رجل وإمرأة ( سواء كانت شرعية أو زنا ). المصائب قد تحدث بفعل الاهى صرف ؛ فقد تعثر على بئر بترول أو كنز بالصدفة ، أو يُصاب الفرد بمرض من جرثومة سابحة فى الجو أو تتكاثر فيه خلية تكاثرا سرطانيا ، وقد تحدث مصيبة المرض أو الجروح أو الحريق للبيت أو المصنع نتيجة مؤامرة وتدخل بشرى.  والرزق الظاهر يتدخل فيه البشر فى تعاملاتهم الاقتصادية بين البائع والمشترى والمنتج والمستهلك والعامل وصاحب العمل ، وقد يأتى الرزق الخفى ــ وهو الأهم ــ فى الصحة والسعادة والرضى النفسى وراحة البال والنجاة من الحوادث . ثم الموت ـ وهو موضوعنا ـ والذى قد يأتى بفعل إلاهى محض كالمرض ، وقد يكون قتلا خطأ ، وقد يكون قتلا بجريمة مع سبق الاصرار والترصد. ونتوقف هنا مع حتمية الموت .

حتمية الموت :

نتعرض باختصار لبعض القضايا المرتبطة بحتمية الموت :

1 ــ إنه لا مفر منه ، وسيحدث لكل منا موتا أو قتلا فى المكان والزمان المحددين سلفا قبل وجودنا فى هذه الحياة الدنيا . بمجرد ميلاد الفرد يبدأ العد التنازلى لحياته وموعد موته ، فالعُمر محدد لكل فرد سلفا قبل مولده . يقول جل وعلا : ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ )(11) فاطر ) . ومثلا فلو كان العُمر المقدر لى سلفا سبعين عاما بالتمام والكمال فإنه من دقيقة ولادتى فى أول مارس 1949 بدأ العد التنازلى مع أول دقيقة : بقى من عُمرى سبعين سنة إلا دقيقة ، إلا دقيقتان ..الا ساعة ..إلآ يوم ..االا شهر إلا عام .. الى : بقى من عمرى عام .. شهرين ، يومين ساعة ، دقيقة ..ثم يأتى الموت فى موعده وقد تم (إستيفاء) عمرى المحدد لى سلفا ، وقد تم ( إستيفاء ) رزقى المقدر لى سلفا ، وتم (إستيفاء) المصائب المقدرة لى من خير وشر. وتم ( إستيفاء ) عملى من خير أو شر فى كتاب أعمالى . هذا ( الاستيفاء ) هو ( الوفاة ) والتى تأتى مرادفة للموت . ثم يأتى يوم الحساب بتوفية أخرى ، وهو توفية الحساب. عن التوفية المؤقتة بالنوم والتوفية النهائية بالموت يقول جل وعلا  : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى )(42) الزمر )، وعن التوفية القادمة للجميع يوم الحساب يقول جل وعلا  (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) النحل).

2 ـ ولأنه لا مفرّ منه فلا يصح إلا التسليم به قدرا مكتوبا محددا بالزمان والمكان . بعد الهزيمة فى موقعة أُحُد إتّخذها المنافقون فرصة يلومون بها النبى محمدا والمؤمنين . حين زحف جيش قريش نحو المدينة عقد النبى مجلسا للتشاور، هل يخرج لمواجهتهم قبل إقترابهم من المدينة أم ينتظر ليقاتلهم على أبواب المدينة . المنافقون رأوا الانتظار ، والأغلبية قالت بالخروج لمواجهتهم فى الطريق عند جبل (أُحُد ) ، وهو الرأى الأصح عسكريا ، ونفذه النبى ، وحدثت الهزيمة لسبب آخر ، ولكن وجدها المنافقون فرصة فقالوا عن القتلى فى المعركة :لو أطاعونا ما قتلوا ، ورد عليهم رب العزة  : ( الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) آل عمران ) . وبالغ بعضهم واتخذها فرصة للمزايدة السياسية وأن أمرهم لا يُطاع ، فقال عنهم جل وعلا : (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) آل عمران ). أى إن أمر الموت قتلا أو موتا طبيعيا مرجعه لرب العزة جل وعلا المحيى المميت . الرد الالهى الذى يهمنا هو (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ )، اى إن الفرد المكتوب عليه القتل سيذهب بنفسه الى مكان قتله ليلقى حتفه هناك .

3 ـ حتمية الموت قتلا المحددة لبعض الناس لا تعفى القاتل من جريمته ، لأن القاتل فكّر وقدّر ودبّر الأمر ونفّذه ، فهو مؤاخذ بما فكّر وقدّر ودبّر ونفّذ .

4 ـ الفيصل فى ذلك كله أننا لا نعلم الغيب ، ولو كنا نعلم الغيب لاستكثرنا من الخير وما مسّنا السُّوء . وهذا ما أمر رب العزة رسوله أن يقول : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) الاعراف ). ولو كان عليه السلام يعلم الغيب ما حدثت هزيمة موقعة (أحد ) وما حدث هذا القتل لأصحابه . الذى يخطط لجريمة القتل هو لا يعلم الغيب ، بل ولا يضمن إن كان تخطيطه سينجح أو يفشل . ولكن فى كل الأحوال هو مؤاخذ بما يخطط له وبما يفعله . 

5 ـ إذن هناك حتمية الموت بكل انواعه . وفى كل هذا يأتى نسبة الموت لرب العزة حينا فيقول جل وعلا : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا )(42) الزمر)، وتأتى نسبة الموت الى ( ملك الموت ) المخصص لهذه المهمة، يقول جل وعلا : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) السجدة )، وتأتى نسبة الموت للملائكة مساعدى ملك الموت:(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61)الانعام )، ويأتى أحيانا نسبة القتل لرب العزة ، يقول جل وعلا عن موقعة بدر:( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)الانفال ). وتأتى نسبة القتل للشخص سواء كان قتلا خطأ كقوله جل وعلا عن موسى:( فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ )(15) القصص) ونسب موسى القتل لنفسه فقال :( قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) القصص ) وعن العبد الصالح : (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ )(74) الكهف ). وفى أول جريمة قتل فى تاريخ البشرية ، قتل ابن آدم أخاه فكانت أول حرب عالمية أنتجت أول جثة أدمية ، يقول جل وعلا عن القاتل : ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ (30) المائدة ).  قبل أن يركب جريمة القتل ( طوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله ) . هنا مسئوليته عن القرار وعن التنفيذ ، مع أن القتيل محدد سلفا موعد ومكان قتله .

6 ـ فى كل هذا يأتى الابتلاء للبشر ، ونعيد تدبر قوله جل وعلا  عن موقعة بدر : :(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)الانفال ). هو ابتلاء نجح فيه المسلمون فى موقعة بدر فكان إبتلاءا حسنا . وقوله جل وعلا عن موقعة أُحّد : (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) آل عمران). ووصف رب العزة جل وعلا ما قام به فرعون من ذبح أطفال بنى اسرائيل بأنه إبتلاء عظيم من رب العزة لبنى اسرائيل ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) البقرة ) (الاعراف ٌ (141)(ابراهيم (6)).

وفى كل الحتميات التى يتدخل فيها البشر بقضاء الله جل وعلا وقدره يكون بعضنا إختبارا وفتنة لبعضنا ، والمؤمن الناجح فى هذا الاختبار هو الذى يصبر، يقول جل وعلا:( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) الفرقان).

7 ـ هنا نفهم ما جاء فى آيات سورة الكهف عن العبد الصالح :

7 / 1 : يقول : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)) هو الذى أراد أن يخرقها عيبا لها ليحول بين الملك الظالم وإغتصابها . هو نسب إرادة العيب لنفسه ، لم يقل ( خرقتها ) ولكن قال (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا )، هذا مع إنه كان مأمورا من رب العزة بخرق السفينة . لم ينسب فعل ( العيب ) للرحمن أدبا مع الرحمن ، وهذا يذكّرنا بقول ابراهيم عليه عن ربه جل وعلا : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)الشعراء).كان السياق أن يقول(والذى يمرضنى ثم يشفين ). ولكنه نسب المرض لنفسه فقال (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) .

7 / 2 : . جاءه الأمر الالهى بقتل الغلام . وهو ( موت الغلام ) أمر حتمى مقدر سلفا فى موعده ومكانه . ليس مقدرا للغلام أن يكبر ليكون خطرا على أبويه ، بل المقدر له الموت قتلا فى ذلك الوقت فى ذلك المكان . لذا فإن العبد الصالح بعد تنفيذ الأمر بالقتل يعبّر عن وجهة نظره من خشيته أن يكبر الغلام فيكون خطرا على ابويه ومن إرادته أن يرزق والدى الغلام بمن هو خيرا منه ، جاء هذا فى قوله : ( وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81)). 

7/ 3 : إقامة الجدار لحفظ كنز الغلامين اليتيمين كان أمرا لاهيا وإرادة إلاهية ، ولم يفعله العبد الصالح بأمره . قال : ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)).

 هناك مجرم عادى يرتكب الجريمة وينسبها لنفسه . وهناك مجرم كافر فظيع يرتكب الجريمة ويزعم أنها إرادة الله جل وعلا متمسحا بها مبررا جريمته ، وهذا ما كانت تفعله الدولة الأموية ، وعرضنا لهذا فى بحث ( فلسفة الجبرية فى الدولة الأموية ) . وهناك ما هو أفظع هو ما يقوله الصوفية فى عقيدتهم ( وحدة الفاعل ) أى إن الله ـ تعالى عن ذلك ـ هو فاعل الشر والخير بلا تدخل من الانسان . وقد فصلناها فى كتاب الحياة الدينية بين الاسلام والتصوف الجزء الأول . وهناك الأكثر فظاعة هو أن ترتكب الجريمة وتعتبرها عبادة كما يفعل السنيون فى جهادهم وإغتصابهم وسلبهم ونهبهم تحت مسمى الجهاد.

مهما كانت التبريرات والمسوغات فإن الله جل وعلا يقول ( بل الانسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره ) أى أن كل انسان بينه وبين نفسه يستطيع ـ لو أراد ـ أن يتعرف على الصواب بعيدا عن التاويلات والتخريجات ..

الفصل السادس : بين موسى ومحمد عليهما السلام

 مقدمة :

جاء هذا التعليق من الاستاذة داليا سامى  تقول : ( (وقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ  ) .. نفهم من الايات ان نبي الله موسي قتل نفسا بريئة لان الله لم يقل بغير نفس ، ثم نفهم ان تلك الواقعه اورثت الهموم فى قلب النبي موسي فمن الله علية بالهدوء والارتياح .. لولا ان حضرتك قلت يا دكتور احمد ان القصص القرآني لا نستمد منها تشريعات ،  ولكن ما هي الا للموعظة والعبر لتساءلت اين دية القتل الخطأ ؟ واين تعنيف الله لنبية على التسرع والعجله التي اودت بحياة برئ !! وهل قتل النفس اهون من تجاهل اعمي !! التي عنف الله بها نبية محمد (عبس وتولي ان جاؤه الاعمي ) .؟ .. وأقول :

أولا :

1 ـ إن تشريع الدية فى القتل الخطأ جاء فى القرآن الكريم ، ولم يكن موجودا قبل ذلك ، ثم إن الفرعون كان يطبق شريعته الخاصة يذبح الأطفال ويسبى النساء . وكانت مشكلة الشاب موسى وقتئذ هى النجاة بحياته ، علاوة على أن هذا القتل الخطأ كان ضمن الأقدار المقدرة سلفا ، وله موقعه فى حياة موسى ، التى تنقسم الى مراحل متعاقبة : من أحضان أمه الى قصر الفرعون ـ النشأة فى قصر الفرعون ـ القتل الخطأ وهروبه الى مدين ، ثم عودته الى مصر . وفى عودته كلمه ربه جل وعلا عند جبل الطور ليرسله رسولا  لفرعون مهمته إرجاع بنى اسرائيل الى الأرض التى كتبها الله جل وعلا لهم . وقد قال له ربه جل وعلا  عند جبل الطور ، يشير  الى تلك المراحل بإختصار  : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) طه).

2 ــ إلا إن المهم هنا هو المقارنة بين نشأة موسى ونشأة محمد ، والتى يتضح منها الفارق بين العناية بموسى حين قتل نفسا ولوم محمد حين وعبس وتولى . وهذا هو موضوع هذا المقال .

ثانيا : الجذور الاجتماعية للأنبياء :

1 ـ من القصص القرآنى نعلم أن بعض الأنبياء كان ينتمى الى ( الملأ ) و ( علية القوم ) . وبعضهم مثل موسى كان ينتمى الى المستضعفين .

 النبى ( صالح ) عليه السلام كان ذا مكانة فى قومه ( ثمود )، وإحتجّ عليه كبار قومه بهذه المنزلة ، فقالوا له : ( يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) هود).

 النبى شعيب عليه السلام  فى ( مدين ) قال له المستكبرون الملأ من قومه : (  قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) هود ). أى بسبب عائلة أو أسرة أو ( رهط ) شعيب لرجمه الملأ . 

النبى ( محمد ) عليه السلام كان ينتمى الى بنى عبد مناف ، والذين تفرعوا الى  أسرتين قادتا مكة وقريش ، وهما ( بنو عبد شمس بن عبد مناف ـ ومنهم بنو أمية بن عبد شمس ) وبنو هاشم بن عبد مناف . والايلاف الذى تزعمت به قريش قبائل العرب كان يقوم على رعاية البيت الحرام وهذه وظيفة بنى هاشم بن عبد مناف ، وعقد محالفات مع القبائل العربية فى طريق القوافل فى رحلتى الشتاء والصيف ، والتى كان يقودها بنوأميه بن عبد شمس بن عبد مناف . كان محمد طفلا يتيما ولكنه كان من أسرة ينطبق عليها وصف ( الملأ ) . ولقد وقفت الى جانبه معظم أسرته تحميه بزعامة عمه أبى طالب ، حتى قاطعتهم قريش كلها . وتحملت أسرته هذه المقاطعة تعصبا لابنهم ( محمد ) عليه السلام .

يختلف الوضع مع موسى الذى كان ينتمى الى قوم يتسلى الفرعون بذبج أبنائهم ويسومهم سوء العذاب . هذا الفرعون الطاغية أرعب زوجته وجعل أميرا من أقاربه يكتم إيمانه خوفا .. فكيف بشاب ينتمى للقوم المستضعفين يعيش فى كنف الفرعون وتحت رحمته ؟ وكيف إذا كانت إمرأة فرعون نفسها التى تحميه هى التى ترتعب خوفا من فرعون وتدعو ربها تقول (  رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) التحريم )؟

2 ـ من القصص القرآنى نعلم وصف هذا الملأ بالاستكبار ، وطالما آمن المستضعفون فأولئك المستكبرون يكفرون : ( قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) الاعراف ).

وكان من حُجة المسكبرين من آل فرعون كيف يتبعون موسى وهارون وقومهما يعبدون الفرعون وآله : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) المؤمنون )

3 ـ  ونعلم وصفهم بالمترفين ، وهم دائما يكفرون بالحق لأنه يهدد مكانتهم التى تكونت وترسخت بالظلم ، وأصبحت دينا أرضيا ، من الثوابت والتقاليد الاجتماعية المتوارثة وما وجدنا عليه آباءنا ، يقول جل وعلا فى حُكم عام : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) سبأ ) وحدث نفس الحال فى قريش يقول جل وعلا : (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) الزخرف  ) لذا يجعلها رب العزة قاعدة عامة فيقول : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) الزخرف )

4 ــ ومن القصص القرآنى نعلم تأفف الملأ من إتباع الحق لأن الحق بما فيه من عدل سيجعلهم على قدم المساواة مع المستضعفين . قالها قوم نوح لنوح عليه السلام ، يصفون المستضعفين المؤمنين بالأراذل: ( فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) هود  )، (  قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111) الشعراء ) . أى كيف يثقون فيه ويطمئنون اليه وأتباعه من الغوغاء . لذا طلبوا من نوح أن يطردهم من حوله حتى يؤمنوا له ويطمئنوا له ويثقوا به .

ثالثا : موقف الأنبياء  فى الانحياز للمؤمنين المستضعفين

1 ـ ومن القصص القرآنى نعلم رفض نوح عليه السلام طرد المؤمنين بل واجه قومه المستكبرين قائلا  يتحداهم : ( قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) الشعراء  ) وقال يجادلهم : ( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ (31) هود ) أفحمهم بالحجة فقالوا : (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (32) هود ).

2 ـ نفس الحال مع شعيب الذى ( كان ) ذا مكانة فى قومه ، ولكنه لم يساوم  فى قضية المؤمنين المستضعفين معه ورفض الرجوع الى الدين الأرضى لقومه ودعا ربه أن يفتح بينه وبين قومه : ( قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) الاعراف )

3 ـ وكانت العادة بعد هلاك المستكبرين أن يتم نجاة النبى والمؤمنين المستضعفين .

رابعا : موقف موسى عليه السلام

1 ـ موسى الذى تربى على التوجس والخوف وسرعة الانفعال كان متعاطفا مع قومه المستضعفين الذين كانوا ضحية سهلة لأى فرد من قوم فرعون . كان عاديا أن يتسلط أى فرد من آل فرعون على بنى اسرائيل يضربه ، وهذا أول مشهد عاينه موسى حين دخل المدينة على حين غفلة من أهلها . نتدبر هذا الجزء من قصة موسى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) كانا يقتتلان ، أحدهما يهاجم والآخر يدافع عن نفسه خشية القتل ، ورأى الضعيف موسى فإستغاث به ، فوكز موسى الطرف المعتدى فقتله . واستغفر موسى : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)).  تملكه الخوف بعدها وأخذ يترقب ويتوقع العقوبة ، وسار فى المدينة فوجد نفس الرجل المستضعف يتعرض للضرب ويستصرخ طالبا النجدة ، ونقرأ الآيات : ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ (19)). الرجل المستضعف يتوقع الشر ويعيش حالة دائمة من الخوف ، لذا بمجرد أن قال له موسى إنك لغوى مبين تصور أن موسى سيقتله هو فافشى سر القتيل فى اليوم السابق . والملآ الفرعونى طبقات ودرجات ، لذا وصل الأمر الى الملأ المحلى  فتآمروا على قتله ، وحذره رجل من أقصى المدينة ، فهرب :( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) القصص ).

2 ـ جمع موسى بين الخوف والانحياز للمستضعفين من قومه . لم يكن له إختيار فى كونه من بنى اسرائيل ، ولم يكن له إختيار فى تنشئته فى قصر فرعون الطاغية . بعدها كان له الاختيار فى الانحياز للمستضعفين ضحايا فرعون أو أن يكون حسب نشأته ضمن ملأ فرعون وصاحب نفوذ فى القصر الذى تربى فيه . وحينئذ كان سيجد كل الترحيب . ولنتذكر أن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وإصبح من ملأ فرعون . ولا شك أن الفرصة كانت أسهل لموسى وهو ابن للقصر والأقرب الى سيد القصر . إلا أن موسى إختار الانحياز الى قومه فإختار أن يعيش وأن يعايش الخوف الذى يعيش فيه المستضعفون .  وتجلى هذا فى حادث القتل الخطأ الذى وقع فيه بلا قصد . كان من الممكن أن يساعد المعتدى ، أو أن يرفض مساعدة المستضعف الذى يستغيث به ، ولكنه فى لحظة إختيار فارقة تصرف بشهامة فقتل المعتدى دون قصد . لذا نجّاه الله جل وعلا من الغم : ( وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ ) . ( الغم ) شعور مركب من الخوف والقلق والندم والحزن . هذا ( الغم ) تملّك موسى بسبب وقوعه فى جريمة قتل لم يقصدها ، فأنجاه الله جل وعلا منه .

خامسا : إختلف موقف محمد عليه السلام فتعرض للتأنيب

1 ـ إختلف الحال مع خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام . إختار بمحض إرادته التقرب للملأ ، فتعرض للتأنيب  . بل وعصى ربه مرارا ، نهاه ربه فى مكة مرتين عن طاعة الكفار ،( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) القلم )( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) الانسان )  ثم نهاه مرة ثالثة فى المدينة عن طاعة الكفار والمنافقين قائلا له : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) الاحزاب )

2 ــ كان يتحرج من المؤمنين المستضعفين تقربا للملأ المستكبر ، فأمره ربه جل وعلا أن ( يصبر نفسه ) معهم أى أن يرغم نفسه على ذلك ، ونهاه فى نفس الوقت عن طاعة الملآ المستكبرين ، يقول له ربه جل وعلا : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) الكهف ).

3 ــ  لم يفعل ذلك ، بل كان يطردهم فقال له ربه جل وعلا  يحذره أن يكون من الظالمين : ( وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)) وأرشده الى البديل فى كيفية التعامل معهم إذا جاءوا اليه : ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) الانعام )

4 ــ فى هذا السياق الموضوعى  نفهم كيف قال عنه جل وعلا فى البداية يٌذكره : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)) .

أخيرا

لا نقصد إطلاقا تفضيل موسى على محمد عليهما السلام . التفضيل بين الأنبياء مرجعه لرب العزة فقط ، وهو جل وعلا العليم بهم.
وننبه الى أن خاتم النبيين حين كان ينزل عليه الوحى كان لا يزال حيا يسعى ، وكتاب أعماله كان لا يزال مفتوحا ، وتلك الانتقادات كانت فى مراحل مبكرة فى حياته نبيا . وجاءت موازية لآيات أخرى تمدحه ، والعادة أن الله جل وعلا يصف بالصلاح من مات من الأنبياء وقد تحددت درجته ومنزلته .  فالنبى فى حياته يدعو ربه أن يُلحقه بالصالحين ( ابراهيم ــ يوسف ، سليمان ) ثم جاء فى القرآن مدحهم كما فى سور الأنعام والأنبياء و الصافات والنحل . بل إن نبيا مثل يونس تعرض للنقد ثم جاء وصفه فيما بعد بالصلاح كما فى سورة القلم (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (50 )

ودائما : صدق الله العظيم .!!

 

الفصل السابع : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) صدق الله العظيم

مقدمة :

جاءت هذه الرسالة من استاذة جامعية مثقفة محترمة ، أنقلها وأرد عليها : تقول : ( بعد أن قرأت المقارنة التي عقدتها بين موسى ومحمد عليهما السلام وبعد أن قرأت النصوص التي التي فيها تنبيه وتأنيب للرسول الكريم تعاملت مع هذه النصوص بالقبول والرضا ذلك أنها تثبت أن الكمال لله وأن أبناء ادم خطاؤون مهما كانوا . ولكن هناك من ينكر ذلك ويقول هذا لا ينسجم مع قوله  سبحانه وتعالى : "وأنك لعلى خلق عظيم" ولا تنسجم مع قوله سبحانه وتعالى : "وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين" . لذلك فسرت هذه الآيات بما ينفي تنبيه الله سبحانه للرسول الكريم ، فاحدى هذه التفاسير لسورة عبس يقول مفسروا الشيعة أنها نزلت تأنيبا لعثمان بن عفان فما رأيكم؟ ) . وهى فرصة لتوضيح عدة قضايا  ، ونرتبها كالآتى :

أولا : لا عوج فى القرآن الكريم :

1 ـ وصف رب العزة جل وعلا كتابه الكريم بأنه لا عوج فيه . قال جل وعلا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) الكهف   ) (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) الزمر).

2 ـ بتدبر القرآن الكريم يتأكّد الراسخون فى العلم أن القرآن الكريم لا عوج فيه ولا إختلاف برغم ما فيه من تفصيلات وتكرار . هذه التفصيلات وهذا التكرار لو كان فى كتاب من تأليف البشر لوقع فيه إختلاف كثير ، يقول جل وعلا : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)النساء )

3 ـ وعرضنا كثيرا لكيفية تدبر القرآن من داخل القرآن ، فالقرآن يفسر بعضه بعضا (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الفرقان ) وآياته مثانى ، أى يتكرر شرح الاية فى آيات أخرى فيكون بها القرآن الكريم أحسن الحديث (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ ) (23)الزمر ) ، وعليه يكون بيان القرآن بالقرآن ، وتكون آياته ( بينات ) بنفسها قد بينها رب العزة فى داخل القرآن ، بحيث لا يحتاج الأمر سوى التلاوة وعدم الكتم ، يقول جل وعلا يتوعد من يكتمون الحق القرآنى المبين الواضح بيانه بنفسه : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) البقرة) .

وليس الأمر عسيرا فى التدبر القرآنى ، لأن مصطلح ( التدبر ) يحوى فى داخله منهج التدبر . أى أن تسير فى ( دُبُر ) الآية أى خلفها ، أى تكون الآية القرآنية ( أمامك ) بالهمزة المفتوحة أو ( إمامك ) بالهمزة المكسورة ، تبحث الموضوع بلا هوى شخصى أو رأى مسبق تحاول إثباته ، أى تتعرف على مفهوم الكلمة القرآنية من داخل القرآن ، ثم تتبع سياقها المحلى قبل الاية وبعدها فى نفس السورة ، ثم تتبع سياق موضوعها فى القرآن الكريم كله ، وبعد تجميع الايات تفهمها معا ، لو كان فيها متشابه سترى آيات أو آية محكمة تحكم غيرها من الايات المتشابهة ، وفى النهاية تصل الى رأى قرآنى فى الموضوع الذى تبحثه .

ثانيا :أعداء القرآن يبغون القرآن عوجا .

1 ـ هذا التدبر هو ما يقوم به الراسخون فى العلم القرآنى ، أما غيرهم فلهم منهج آخر ، يقول جل وعلا : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7) آل عمران  ). من فى قلوبهم زيغ يدخلون على القرآن الكريم بهذا الزيغ ، يغيرون مفاهيم ألفاظه ، ويلوون معنى الآية لتوافق هواهم ومعتقداتهم وأحاديثهم ، ويتجاهلون الآيات الأخرى التى تتناقض مع هواهم ، فيقسمون آيات القرآن تبعا لأهوائهم وبالتالى ينطبق عليهم وصف الرحمن بأنهم ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)الحجر ). وموعدهم مع رب العزة يوم الحساب : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)الحجر ).

2 ـ هؤلاء ( المقتسمون ) هم الذين يصدون عن القرآن الكريم ـ وهو سبيل الله جل وعلا ـ  يبغونه عوجا ، وهو الذى لا عوج فيه .! . وصفهم رب العزة جل وعلا بالكفر والضلال البعيد ، وتوعدهم بعذاب شديد   يقول جل وعلا  لهم فى هذه الدنيا مقدما : ( وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)ابراهيم ).

ويوم الحساب سيأتى الأشهاد من ( أهل القرآن ) يشهدون عليهم وعلى أحاديثهم الضالة وعلى تكذيبهم بآيات الله القرآنية وعلى صدهم عن سبيل الله القرآنى ومحاولتهم جعله عوجا مستخدمين نفوذهم الدنيوى وتصورهم أنهم معجزون فى الأرض . فى هذا يقول جل وعلا : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (22)هود ). وبعد دخول اهل الجنة الجنة ودخول أصحاب النار الى النار ينادى أصحاب الجنة أصحاب النار : ( أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ(45)الاعراف ). التأكيد وقتها بهذا المؤذن بأن الظالمين الملعونين هم الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا لأنهم إستحبوا الحياة الدنيا ومن أجلها كفروا بالآخرة .

هل تريد أن ترى أمثلة لهؤلاء .. هم آلاف من دعاة الأديان الأرضية يتزاحمون فى القنوات الفضائية والمواقع الاليكترونية ، يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وخلفهم طُغاة ينفقون أموالها ليصدوا عن سبيل الله ، فسينفقون تلك الأموال ثم تكون عليهم حسرة ، يقول جل بأسلوب المضارع يُنبىء بما حدث ويحدث الآن : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)الانفال ).

3 ــ هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله ويتخذونها عوجا هم انفسهم الذين يسعون معاجزين فى آيات الله القرآنية ، توعدهم رب العزة بالجحيم فقال : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)الحج )، وتكرر هذا مرتين فى سورة سبأ ، بأسلوب الماضى : ( وَالَّذِينَ سَعَوْفِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) ) والفعل المضارع للتأكيد على أنه عادة سيئة مستمرة  فقال جل وعلا :( وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)سبأ ).

4 ـ ومن مظاهر سعيهم فى آيات الله معاجزين وصدهم عن سبيل الله يبغونها عوجا تلاعبهم بقوله جل وعلا : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وقوله جل وعلا : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

ونتدبرهما قرآنيا .

ثالثا :  (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) :

1 ـ كلمة ( خُلُق ) جاءت مرتين فى القرآن الكريم ، بمعنى ( الدين ) . والدين نوعان : دين الله الحق الذى يعبر عنه القرآن الكريم ، والدين الأرضى الباطل الذى يعبر عن الثوابت والتراث والسلف وما وجدنا عليه آباءنا .

2 ـ فى قصة قوم (عاد ) مع رسولهم ( هود ) عليه السلام ، دعاهم الى تقوى الله جل وعلا فقال : ( أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) ، وإستمر فى وعظهم فقالوا له :  (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ (137)الشعراء )، أى مهما وعظهم  فهم مستمسكون ب( خُلُق ) الأولين ، أى دين الأولين ، أى ما وجدوا عليهم آباءهم والسلف (الصالح ) عندهم .

3 ـ قبلها جاءت كلمة (خُلُق ) وصفا للقرآن الكريم الرسالة الالهية الخاتمة لدين الاسلام ، دين الحق .فى اوائل ما نزل من القرآن يُقسم رب العزة بالقلم وما يسطّره القلم بأن خاتم المرسلين ليس مجنونا حين نزلت عليه نعمة ربه ، وهى القرآن الكريم ، وأنه عليه السلام بهذه النعمة القرآنية على خُلُق عظيم ، اى على الدين العظيم ؛ الاسلام العظيم . يقول جل وعلا : ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)). وبعدها تتوالى الايات عن الكافرين ممن يتهم الرسول بالجنون لأنه نزلت عليه نعمة القرآن ، بأن الزمن قادم ليُثبت من هو المفتون وأن الله جل وعلا هو الذى يعلم الضالين والمهتدين ، وينهى رب العزة رسوله عن طاعة المكذبين للقرآن الكريم النعمة الكبرى ، يقول جل وعلا : ( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ (8)... القلم ) .

4 ـ أى إن قوله جل وعلا : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍلا تعنى ( الأخلاق ) ولكن الدين العظيم الذى هو القرآن الكريم والدليل هو وصف القرآن الكريم بأنه نعمة الله جل وعلا على رسوله : ( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)).

5 ـ ونتوقف هنا سريعا لمعنى كلمة  ( نعمة ) فى القرآن الكريم، ونقول :

5 / 1 : لا يمكن أن نُحصى كل النعم الالهية : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)ابراهيم )(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)النحل )

5 / 2 ـ من نعم الله جل وعلا الكتب السماوية ، ومنها ما نزل على بنى اسرائيل ، وقد توعّد الله جل وعلا من يبدل نعمة الله بالتحريف والتخريف فقال : (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)البقرة ). وتكرر هذا فى قوله جل وعلا :  ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)ابراهيم ). وهى آيات تنطبق على المحمديين اليوم بالذات ، ونراها تتحقق فى بوار ديار المحمديين .!!

5 / 3 : جاء وصف القرآن الكريم بالنعمة فى أوائل ما نزل فى مكة ، فى سورة القلم ( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)) ، وفى الأمر بنشر القرآن الكريم نعمة الله جل وعلا بالتحدث به : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)الضحى ) . ثم فى أواخر نزول القرىن الكريم بعد أكمل الله جل وعلا دينه وأتم نعمته ورضى لنا الاسلام دينا : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)المائدة ).

المستفاد أن الخُلُق العظيم هو دين الله العظيم وكتابه الكريم. ولا علاقة لذلك بالأخلاق فى مصطلحاتنا .

رابعا : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)

1 ـ فى حياته عليه السلام كان رحمة للمؤمنين من حوله ، وصفه جل وعلا فقال : ( يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ)(61)التوبة  ) وقال أيضا :( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)التوبة ). كان عليه السلام يعيش فى إطار الزمان والمكان المحيط به ، وهو إطار محلى مؤقت ، وانتهى هذا بموته عليه السلام . ولكن القرآن الرسالة الخاتمة بعده هى الرحمة المستمرة الى قيام الساعة ، وهذا معنى قوله جل وعلا :( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)الانبياء ). أى أرسلناك بالقرآن الكريم بالرسالة الالهية المحفوظة من لدن رب العزة رحمة للعالمين فى كل زمان ومكان بعد موتك . لو كان المقصود ب ( رحمة للعالمين ) هو شخص محمد لاستلزم هذا أن يُقال ( وما أنت إلا رحمة للعالمين ) ولاستلزم هذا أن يظل محمد حيا لا يموت وأن يكون موجودا فى كل مكان يوجد فيه البشر والجن من كل العالمين . هذا يعنى كون محمد إلاها مع الله . ولا إله إلا الله ، فهو وحده الحى الذى لا يموت .

2 ـ وكما أنه عليه السلام مُرسل بالقرآن رحمة للعالمين فهو أيضا مرسل بالقرآن نذيرا للعالمين ، يقول جل وعلا : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1)الفرقان ). القرآن مُتاح لمن أراد الهداية والرحمة ، والحرية متاحة ايضا لمن حاول الصّدّ عن سبيل الله ، والله جل وعلا يتوعدهم مقدما ويقول : (  إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) فصلت ) .

3 ـ الرحمة من صفات الكتاب السماوى ، قبل القرآن الكريم . قال جل وعلا عن الألواح التى تسلمها موسى :( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)الاعراف )،أى هى هدى ورحمة للمتقين، وتكرر هذا فى قوله جل وعلا : ( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً)(17)هود )( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً ) (12)الاحقاف )( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)القصص )

( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)الانعام ).

4 ـ تكرر وصف القرآن الكريم بالرحمة والهدى لمن شاء الهدى ورغب فى رحمة الله جل وعلا : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)الدخان )(هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)الجاثية ) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)يونس ) (مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)يوسف  )( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)النحل ) (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) النحل  )( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)النمل )( الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)لقمان ) ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)الاعراف ).

5 ـ وكما يكون القرآن شفاءا ورحمة للمؤمنين به يكون أيضا للظالمين خسارا ، يقول جل وعلا :  (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82)الاسراء ). والخسارة هى فى الدنيا قبل الآخرة . وانظر ما يحدث الآن فى بلاد المحمديين الذين أعرضوا عن كتاب الله فعاشوا فى ضنك برغم ثروات البترول .

أحسن الحديث :

يقول جل وعلا : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) طه)

ودائما : صدق الله العظيم .!!

 

 

 

الباب الثانى : صناعة اسطورة الخضر فى العصر العباسى الثانى

 الفصل الأول : هجص  البخارى عن الخضر

  الفصل الثانى  : هجص أبى حامد الغزالى عن ( الخضر ) فى ( إحياء علوم الدين )

 الفصل الثالث :   هجص الخضر عند ابن الجوزى 

الفصل الرابع  :  هجص الخضر فى مؤلفات التاريخ الحولى

الفصل الخامس : لماذا هو هجص ؟

 

مقدمة الباب الثانى :

فى الباب الأول عشنا مع تدبر لقصة موسى مع العبد الصالح عليهما السلام فى القرآن الكريم. أطلقنا عليه العبد الصالح لأننا لا نعرف له إسما ، ولا نستطيع إيمانيا أن نخترع له إسما ، فإكتفينا  ــ إختصارا ـ بوصفه بالعبد الصالح لأنه الوصف المُستقى من وصف الرحمن له بأنه (عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) الكهف )

نتعرض فى هذا الباب لصناعة اسطورة الخضر فى العصر العباسى الثانى ، حيث لم يكن معروفا قبل العصر العباسى الثانى  ـ حسب علمنا ـ تلك الشخصية الوهمية الخرافية المسماة بالخضر , بدأ الأمر بهحص للبخارى فى ( صحيحه ) ، وجاء الصوفية فأعطوه حياة خالدة ، وبدأ نوع من المبارزة فى صناعة شخصية للخضر بين السنيين والصوفيين ، تألقت فيما بعد فى العصر المملوكى حيث ساد التصوف ، وسادت معها شخصية الخضر لتتحول الى إله كامل الألوهية فى الدين الصوفى فى العصرين المملوكى والعثمانى . نعطى لمحة عن هذا فى البابين الثانى والثالث ، نتوقف فيهما مع المحطات الأساس فى موضوع ( الخضر )

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول : هجص  البخارى عن الخضر

أولا : قبل نقل هذا الهجص نقول :

1 ـ حسب علمنا فإن البخارى هو أول من أطلق إسم ( الخضر ) على العبد الصالح فى قصة موسى ، ونقله عنه  ( مسلم ) فى ( صحيحه ) .

2 ــ كرر البخارى هذا الإفك فى إختراع شخصية (الخضر ) فى عدة روايات ، وزعها ، حتى يستقر فى الوجدان أنها صحيحة .

3 ـ الإفك هنا أن البخارى ينسب لنفسه علم الغيب ، فما حدث فى قصة موسى هو غيب قصّه رب العزة جل وعلا فى القرآن الكريم . والنبى عليه السلام لم يكن فى حياته يعلم الغيب ، وليس له أن يتكلم فيه. وبالتالى فإن كل أحاديث فيها غيبيات يقع إثمها على من صنعها سواء كان البخارى أو غيره . البخارى صنع إسم الخضر ومن خلاله قام بتأويل هذه القصة القرآنية . وإذا إستباح البخارى لنفسه أن يكذب على النبى فقد كان من الأسهل أن يكذب وينسب الى ابن عباس وغيره ، من سلسلة الرواة ، وقد صنع البخارى سلسلة الرواة والعنعنة من عنده ليعطى صُدقية لرواياته الكاذبة .

4 ــ الأفظع من الكذب على النبى هو الطعن فى القرآن الكريم والتشكيك فى حفظ الله جل وعلا للقرآن الكريم ، بأن يزعم أن ابن عباس كان يقرأ آيتين قراءة مختلفة ، يقول : (  فكان ابن عباس يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا. وكان يقرأ: وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين.)

ثانيا : نترككم مع هجص البخارى فى موضوع الخضر :

باب: ما ذكر في ذهاب موسى صلى الله عليه وسلم في البحر إلى الخضر.

باب: ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله.

-3- 216 - باب: { فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا } /61/.

-3- 16 - باب: ما ذكر في ذهاب موسى صلى الله عليه وسلم في البحر إلى الخضر.

-وقوله تعالى: {هل أتبعك على أن تعلمني مما عملت منه رشدا} /الكهف: 66/.

[ش (رشدا) صوابا أرشد به].

74 - حدثني محمد بن عزيز الزهري قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثني أبي، عن صالح، عن ابن شهاب حدث: أن عبيد الله بن عبد الله أخبره، عن ابن عباس:

 أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، قال ابن عباس: هو خضر، فمر بهما أبي بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى، الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه، هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل، جاءه رجل فقال: هل تعلم أحد أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى: عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع، فإنك سلتقاه، وكان يتبع أثر الحوت في البحر، فقال لموسى فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة؟ فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره. قال: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصا، فوجدا خضرا، فكان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه .

 -3- 44 - باب: ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله.

122 - حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا عمرو قال: أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى ليس بموسى بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر؟ فقال: كذب عدو الله، حدثنا ابن أبي كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قام موسى النبي خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن عبدا من عبادي بمجمع البحرين، هو أعلم منك. قال: يا رب، وكيف به؟ فقيل له: احمل حوتا في مكتل، فإا فقدته فهو ثم، فانطلق وانطلق بفتاه يوشع بن نون، وحمل حوتا في مكتل، حتى كانا عند الصخرة وضعا رؤوسهما وناما، فانسل الحوت من المكتل فاتخذ سبيله في البحر سربا، وكان لموسى وفتاه عجبا، فانطلقا، بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبح قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. ولم يجد موسى مسا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به، قال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة؟ فإني نسيت الحوت، قال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصا، فلما انتهيا إلى الصخرة، إذا رجل مسجى بثوب، أو قال تسجى بثويه، فسلم موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟ فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا؟ قال: إنك لن تسطيع معي صبرا، يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه. قال: ستجدني إن شاء الله صابرا، ولا أعصي لك أمرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، ليس لهما سفينة، فمرت بهما سفينة، فكلموهم أن يحملوهما، فعرف الخضر، فحملوهما بغير نول، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر، فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه، فقال موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ قال: ألم أقل لك إنك لن تسطيع معي صبرا؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت - فكانت الأولى من موسى نسيانا - فانطلقا، فإذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذخ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده، فقال موسى: أقتلت نفسا زكية بغير نفس؟ قال: ألم لك إنك لن تسطيعمعي صبرا؟ - قال ابن عيينة: وهذا أؤكد - فانطلقا، حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضفوهما، فوجد فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه، قال الخضر بيده فأقامه، فقال له موسى: لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال: هذا فراق بيني وبينك). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى، لوددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما).

   أخرجه مسلم في الفضائل، باب: من فضائل الخضر عليه السلام، رقم: 2380.

 4448 - حدثنا الحميدي: حدثنا سفيان: حدثنا عمرو بن دينار قال: أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذب عدو الله: حدثني أبي بن كعب: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يارب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا فجعله في مكتل، ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما،واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتنا غدائنا، لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجبا، قال: فكان للحوت سربا، ولموسى ولفتاه عجبا، فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصا، قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوبا، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا قال: إنك لن تستطيع معي صبرا، ياموسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، فقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء، حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة، لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إ مرا، قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكانت الأولى من موسى نسيانا، قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله، إلا مثل ما نقص هذا العصفور منهذا البحر، ثم خرجا من السفينة، فبينا هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى: أقتلت نفسا زاكية بغير نفس، لقد جئت شيئا نكرا، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا، قال: وهذا أشد من الأولى، قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض، قال: مائل، فقام الخضر فأقامه بيده، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، لو شئت لا تخذت عليه أجرا، قال: {هذا فراق بيني وبينك - إلى قوله - ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا}. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير: فكان ابن عباس يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا. وكان يقرأ: وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين.

 -3- 216 - باب: { فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا } /61/.

مذهبا، يسرب يسلك، ومنه: { وسارب بالنهار} /الرعد: 10/.

[ش (سارب...) معناه: سالك في سربه، أي طريقه ومذهبه].

4449 - حدثنا إبراهيم بن موسى: أخبرنا هشام بن يوسف: أن ابن جريح أخبرهم قال: أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، يزيد أحدهما على صاحبه، وغيرهما قد سمعته يحدثه عن سعيد قال: إنا لعند ابن عباس في بيته، إذ قال: سلوني، قلت: أي أبا عباس، جعلني الله فداءك، بالكوفة رجل قاص يقال له نوف، يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل، أما عمرو فقال لي: قد كذب عدو الله، وأما يعلى فقال لي: قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (موسى رسول الله عليه السلام، قال: ذكر الناس يوما، حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله، هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل: بلى، قال: أي رب، فأين؟ قال: بمجمع البحرين، قال: أي رب، اجعل لي علما أعلم ذلك به، فقال لي عمرو: قال: حيث يفارقك الحوت، وقال لي يعلى: قال: خذ نونا ميتا، حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ حوتا فجعله في مكتل، فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كثيرا، فذلك قوله جل ذكره {وإذ قال موسى لفتاه}.يوشع بن نون، - ليست عن سعيد - قال: فبينما هو في ظل صخرة في مكان ثريان، إذ تضرب الحوت وموسى نائم، فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جرية البحر، حتى كأن أثره في حجر. قال لي عمرو: هكذا كأن أثره في حجر- وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما - لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال: قد قطع الله عنك النصب - ليست هذه عن سعيد - أخبره فرجعا، فوجدا خضرا. قال لي عثمان بن أبي سليمان: على طنفسة خضراء على كبد البحر، قال سعيد بن جبير: مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضي من سلام، من أنت: قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدا، قال: أما يكفيك أن التوراة بيديك، وأن الوحي يأتيك؟ يا موسى، إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه، فأخذ طائر بمنقاره من البحر، فقال: والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله، إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر، حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارا، تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل الساحل الآخر، عرفوه، فقالوا: عبد الله الصالح - قال:قلنا لسعيد: خضر، قال: نعم - لا نحمله بأجر، فخرقها ووتد فيها وتدا، قال موسى: أخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا - قال مجاهد: منكرا - قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، كانت الأولى نسيانا، والوسطى شرطا، والثالثة عمدا، قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا، لقيا غلاما فقتله. قال يعلى: قال سعيد: وجد غلمانا يلعبون، فأخذ غلاما كافرا ظريفا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، قال: أقتلت نفسا زكية بغير نفس - لم تعمل بالحنث، وكان ابن عباس قرأها: زكية زاكية مسلمة، كقولك غلاما زكيا - فانطلقا فوجدا جدارا يريد أن ينقض فأقامه - قال سعيد بيده هكذا، ورفع يده - فاستقام - قال يعلى: حسبت أن سعيدا قال: فمسحه بيده فاستقام - لو شئت لا تخذت عليه أجرا - قال سعيد: أجرا نأكله - وكان وراءهم - وكان أمامهم، قرأها ابن عباس: أمامهم ملك. يزعمون عن غير سعيد: أنه هدد بن بدد، والغلام المقتول اسمه يزعمون جيسور - ملك يأخذ كل سفينة غصبا، فأردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها، فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها - ومنهم من يقول سدوها بقارورة، ومنهم من يقول بالقار - كان أبواه مؤمنين وكان كافرا، فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه، فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة، لقوله أقتلت نفسا زكية، وأقرب رحما، هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر). وزعم غير سعيد: أنهما أبدلا جارية، وأما داوا بن أبي عاصم فقال: عن غير واحد: إنها جارية.

4450 - حدثني قتيبة بن سعيد قال: حدثني سفيان بن عيينة، عن عمرو ابن دينار، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البالكي يزعم: أن موسى بني إسرائيل ليس بموسى الخضر، فقال: كذب عدو الله. حدثنا أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قام موسى خطيبا في بني إسرائيل، فقيل له: أي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، وأوحى إليه: بلى،عبد من عبادي بمجمع البحرين، هو أعلم منك. قال: أي رب، كيف السبيل إليه؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فاتبعه، قال: فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون، ومعهما الحوت، حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها، قال: فوضع موسى رأسه فنام. قال سفيان: وفي حديث غير عمرو قال: وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة، لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين، قال: فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى قال لفتاه: {آتنا غداءنا}. الآية، قال: ولم يجد النصب حتى جاوز ما أمر به، قال له فتاه يوشع بن نون: {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت}. الآية، قال: فرجعا يقصان في آثارهما، فوجدا في البحر كالطاق ممر الحوت، فكان لفتاه عجبا وللحوت سربا، قال: فلما انتهيا إلى الصخرة، إذ هما برجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، قال: وأنى بأرضك السلام، فقال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا. قال له الخضر: يا موسى إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه. قال: بل أتبعك؟ قال: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا. فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرت بهما سفينة فعرف الخضر، فحملوهم في سفينتهم بغير نول، يقول: بغير أجر، فركبا السفينة. قال: ووقع عصفور على حرف السفينة، فغمس منقاره في البحر، فقال الخضر لموسى: ما علمك وعلمي وعلم الخلائق في علم الله، إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره، قال: فلم يفجأ موسى إذ عمد الخضر إلى قدوم فخرق السفينة، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها: {لقد جئت} الآية، فانطلقا إذا هما بغلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه فقطعه، قال له موسى: أقتلت نفسا زكية بغير نفس، لقد جئت شيئا نكرا، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا - إلى قوله - فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض، فقال بيده: هكذا فأقامه، فقال له موسى: إنا دخلنا هذه القرية فلم يضيفونا ولم يطعمونا، لو شئت لا تخذت عليه أجر، قال: هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى صبر حتى يقص علينا من أمرهما). قال: وكان ابن عباس يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا، وأما الغلام فكان كافرا.قال سعيد بن جبير: فكان ابن عباس يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا. وكان يقرأ: وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين )) .

انتهى هجص البخارى . وهو هجص لا يختلف عن بقية هجصه فى كل ما كتب .

 

 

 

الفصل الثانى  : هجص أبى حامد الغزالى عن ( الخضر ) فى ( إحياء علوم الدين )

مقدمة :

1 ـ تلقى ابو حامد  الغزالى ( ت505 هجرية ) راية الهجص من البخارى ( ت 156 هجرية ) ، والغزالى وقتها كان ينشىء دينا أرضيا جديدا هو مزيج من التصوف والسنة هو ( التصوف السنى ) ، وهذا تجلى فى كتابه ( إحياء علوم الدين ) وهو الكتاب المقدس لدى الأئمة اللاحقين فى دين  التصوف السنى ، ومنهم الامام النووى القائل : ( كاد الإحياء أن يكون قرآنا ) ، وسمعت شيخ الأزهر الأسبق عبد الحليم محمود يكرر نفس العبارة .

وهدف الغزالى فى كتبه إخضاع الدين السُّنّى لدين التصوف ، ويتجلى هذا فى منهجه  فى ( الإحياء )، فهو يستدل بالأحاديث السنية والتأويلات السنية للقرآن الكريم فى خدمة التصوف ، ويبالغ فى صناعة أحاديث ينسبها للنبى فى هذا الشأن ، ومعظمها يخترعها بنفسه ، لم يقلها أحد قبله ، وغالبا ما يريح نفسه من الإسناد والعنعتعنة فيقول ( بلغنا ) أو ( قيل ) أو ( أوحى الله ) لبعض الأنبياء ، بالاضافة الى حكاياته التى يصنعها وينسبها الى الصحابة والتابعين والزهاد و( الأولياء )، وهو يزايد فيما يكتب على الفقهاء بالورع والعبادات ، وفى خلال هذا كله ينثر بدهاء شديد عقائد التصوف تحت مفاهيم خادعة .

ومن أساليبه فى دعوته الى دينه الصوفى مستغلا الدين السنى أنه إستخدم هجص البخارى عن الخضر . الفارق أن البخارى توقف بالخضر عن عصر موسى وقصة موسى ، ولكن الغزالى أعطى الخضر حياة دائمة خالدة ، جعله يلتقى النبى ـ بعد موت موسى بعدة آلاف من السنين ، ثم جعل الخضر يعيش العصور التالية ، يلتقى الأولياء . وهذه اللقاءات التى صنعها الغزالى كان الهدف منها صناعة المزيد من ملامح الدين الصوفى ( السُّنّى ) بأن ينسب أقوالا الى الخضر ، ويكون فيها الخضر مصدرا تشريعيا لهذا الدين الأرضى السنى الصوفى . والعادة أن كل الأديان الأرضية مؤسسة على الكذب ومزاعم الوحى وأحاديث ما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان .

ونتوقف هنا مع لمحة عن هجص أبى حامد الغزالى فى ( إحياء علوم الدين ) عن الخضر الذى جعله الغزالى خالدا لايموت ..

أولا : جعل حياة الخضر الأزلية ضمن الاعتقادات الصوفية

1 ـ ضمن إعتقاده بأن التصوف هو الأسمى من دين السنة وأنه الذى يعلوه جعل الغزالى من ( الخضر ) شأنا صوفيا يراه فقط الأولياء أصحاب الكرامات والعلم اللدنى وأرباب القلوب والوحى بالهاتف ، ليصادر من البداية حق الفقهاء السنيين فى الاعتراض على وجود الخضر حيا فى عصره . فى ( كتاب آداب السماع والوجد ) فى الاحياء يقول الغزالى : (  وكما يسمع صوت الهاتف عند صفاء القلب فيشاهد أيضا بالبصر صورة الخضر عليه السلام فإنه يتمثل لأرباب القلوب بصور مختلفة وفي مثل هذه الحالة تتمثل الملائكة للأنبياء عليهم السلام إما على حقيقة صورتها وإما على مثال يحاكي صورتها بعض المحاكاة . ). فالولى الصوفى الذى يأتيه الهاتف هو الذى يرى الخضر حسيا كما يرى الأنبياء الملائكة .

2 ـ وفى ( كتاب شرح عجائب القلب .   ) فى الأحياء يقول الغزالى :

( قال حمزة بن عبد الله العلوي : " دخلت على أبي الخير التيتنانى ،وأعتقدت في نفسي أن أسلم عليه ولا آكل في داره طعاما.  فلما خرجت من عنده إذا به قد لحقني وقد حمل طبقا فيه طعام وقال : " يا فتى كل فقد خرجت الساعة من اعتقادك. "  وكان أبو الخير التيتانى هذا مشهورا بالكرامات . وقال إبراهيم الرقي قصدته مسلما عليه فحضرت صلاة المغرب فلم يكد يقرأ الفاتحة مستويا ، فقلت في نفسي : " ضاعت سفرتي . "! . فلما سلم خرجت إلى الطهارة فقصدني سبع فعدت إلى أبي الخير وقلت : " قصدني سبع " ، فخرج وصاح به . وقال : " ألم أقل لك لا تتعرض لضيفاني ؟ " فتنحى الأسد ، فتطهرت ، فلما رجعت قال لي : " اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد وأشتغلنا بتقويم البواطن فخافنا الأسد.! " . وما حكى من تفرس المشايخ وإخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرج عن الحصر، بل ما حكى عنهم من مشاهدة الخضر عليه السلام والسؤال منه ومن سماع صوت الهاتف ومن فنون الكرامات خارج عن الحصر .   )  انتهى

هنا اسطورة كرامة يحكيها الغزالى فى هجصه الصوفى ينسب روايتها لرجل يبدو أنه فقيه يتشكك فى ولاية أحد شيوخ الصوفية هو التيتانى الذى جعله الغزالى يعلم الغيب ، ويأتى بالمعجزات والكرامات ، ومنها التحكم فى  (الأسد )، فصاحبنا ذهب الى الخلاء فوجد أسدا ينتظره ، فرجع خائفا لأبى الخير التيتانى فذهب التيتانى الى الأسد وزجره وذكّره ( أى  الأسد ) أنه نهاه عن التعرض لضيوف التيتانى ( خصوصا إذا ذهبوا للبول والغائط ) فسمع الأسد الكلام وتنحى عن طريق الضيف حتى يتبول ويتغوط فى أمن وسلام . وقال  التيتانى للراوى بعد أن تبول وتغوط  ورجع مستريحا آمنا : (اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد وأشتغلنا بتقويم البواطن فخافنا الأسد  )، إى إنشغلوا باصلاح أنفسهم بالعبادات ، فخافوا من الأسد بينما إنشغل الصوفية بتقويم الباطن ( أى بزعم الاتحاد بالله ) فخافهم الأسد . وينتهى الغزالى من حكايته الاسطورية الى تقرير علم الأولياء بالغيب وأن حكاياتهم فى هذا تخرج عن الحصر ، ويجعل منها مشاهدتهم الخضر . وبالتالى فإن الفقهاء المنكرين لحياته محرومون من رؤيته ، وربما ينتظرهم الأسد وهم فى الخلاء.! .

ثانيا : الرد الغزالى على من أنكر من السنيين الحياة الخالدة للخضر

1 ــ تحسّب الغزالى مقدما لإنكار السنيين على مزاعمه بالحياة الخالدة للخضر ، فإفترى هذه الحكاية . يقول :  ( حديث كرز بن وبرة من أهل الشام عن إبراهيم التيمي أن الخضر علّمه المسبعات العشرة . وقال في آخرها : أعطانيها محمد صلى الله عليه وسلم ... فقلت : " أخبرني بثواب ذلك ." فقال : " إذا لقيت محمدا صلى الله عليه وسلم فاسأله عن ثوابه فإنه يخبرك بذلك. "،  فذكر إبراهيم التيمي  أنه رأى ذات يوم في منامه كأن الملائكة جاءته فاحتملته حتى أدخلوه الجنة فرأى ما فيها ، ووصف أمورا عظيمة مما رآه في الجنة.  قال : " فسألت الملائكة فقلت لمن هذا ؟ فقالوا: " للذي يعمل مثل عملك . " ، وذكر أنه أكل من ثمرها وسقوه من شرابها.  قال قال : " فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سبعون نبيا وسبعون صفا من الملائكة ، كل صف مثل ما بين المشرق والمغرب ، فسلم عليّ ،  وأخذ بيدي . فقلت : " يا رسول الله ،  الخضر أخبرني أنه سمع منك هذا الحديث .! " فقال : "  صدق الخضر صدق الخضر ، وكل ما يحكيه فهو حق ، وهو عالم أهل الأرض ، وهو رئيس الأبدال ، وهو من جنود الله تعالى في الأرض. "  فقلت : " يا رسول الله فمن فعل هذا أو عمله ولم ير مثل الذي رأيت في منامي هل يعطى شيئا مما أعطيته ؟ " .  فقال : " والذي بعثني بالحق نبيا إنه ليعطى العامل بهذا وإن لم يرني ولم ير الجنة إنه ليغفر له جميع الكبائر التي عملها ، ويرفع الله تعالى عنه غضبه ومقته ، ويأمر صاحب الشمال أن لا يكتب عليه خطيئة من السيئات إلى سنة . والذي بعثني بالحق نبيا ما يعمل بهذا إلا من خلقه الله سعيدا ولا يتركه إلا من خلقه الله شقيا . " . وكان إبراهيم التيمي يمكث أربعة أشهر لم يطعم ولم يشرب ،  فلعله كان بعد هذه الرؤيا . ). ونناقش هذه الرواية من حيث السند والمتن .

2 ــ من حيث السند ، أى الراوى للحكاية ، نراه يقول : ( حديث كرز بن وبرة من أهل الشام عن إبراهيم التيمي ). القارىء يتخيل أن ( كرز بن وبره ) رجل من الشام حكى هذه القصة للغزالى فى القرن الخامس الهجرى عن ابراهيم التيمى الذى كان يعيش فى نفس الزمن فى القرن الخامس الهجرى . ولكن الثابت تاريخيا أن ابراهيم التيمى كان يعيش فى العراق فى ولاية الحجاج بن يوسف فى العصر الأموى ، قبل عصر الغزالى بثلاثة قرون على الأقل. وقد ذكره المؤرخ ابن سعد فى ( الطبقات الكبرى 6 / 188 :200 ) فى معرض تأريخه للفقيه الزاهد المعارض ابراهيم النخعى. وكان ابراهيم النخعى رفيقا وصديقا لابراهيم التيمى . ويذكر محمد بن سعد فى تأريخه لابراهيم النخعى أن الحجاج أرسل  شرطيا للقبض على إبراهيم النخعى ، وكان عنده في البيت رفيقه إبراهيم التيمي  ، فجاء الشرطي للبيت يقول: "أريد إبراهيم " ، فأسرع إبراهيم التيمي يقول : " أنا إبراهيم " ، وسار مع الشرطي للحجاج ، وهو يعلم أن المطلوب هو إبراهيم النخعى ، ولكن لم يرد أن يدل علي رفيقه النخعى .!، وجيء به للحجاج فأمر بحبسه بدون تهمة ، يقول ابن سعد  عن المساجين فى ولاية الحجاج : " ولم يكن لهم ظلُّ من الشمس ولا كنُّ من البرد ، وكان كل اثنين في السلسلة ،  فتغير إبراهيم ، ( أى ظهر عليه الوهن والشحوب والمرض ) فجاءته أمه في الحبس  ، فلم تعرفه حتى كلمها .! ، فمات في السجن. مات ابراهيم التيمى فى حبس الحجاج ، وعاش بعده رفيقه ابراهيم النخعى حياة حافلة من الرعب من الحجاج ، ولم يتخلص إبراهيم النخعي من شبح الحجاج إلا عندما بشره صديقه حماد بموت الحجاج ، يقول حماد: " بشرت إبراهيم بموت الحجاج فسجد، وما كنت أري أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت إبراهيم يبكى من الفرح". ومات ابراهيم النخعى   دون الخسمين بعد وفاة الحجاج ببضعة اشهر سنة 96 هجرية . ومات قبله رفيقه ابراهيم التيمى فى سجن الحجاج . وانتشرت قصتهما ضمن تاريخ الحجاج والعراق فى العصر الأموى . وذكر المؤرخ محمد بن سعد تاريخهما فى الطبقات الكبرى.

ومات المؤرخ ابن سعد حوالى 230 هجرية ، بينما عاش الغزالى فيما بين 450 : 505 هجرية . وقد إعتزل معكتفا يكتب ( إحياء علوم الدين ) ويفترى حكايات وأحاديث من دماغه ، ينسبها للأنبياء والصحابة والتابعين مثل ابراهيم التيمى ، وللأولياء الصوفية .  ويصدق عليه قول الله جل وعلا : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) الشعراء  ) . واشهد بناء على دراسة لكتاب الأحياء للغزالى أنه أفّاك أثيم وهجاص لئيم .!

2 ـ من حيث المتن : أى الحكاية نفسها فهى غاية فى العجب ، فاالخضر علّم ابراهيم التيمى (المسبعات العشرة ). وزعم الخضر أنه تعلم هذه المسبعات من النبى محمد عليه السلام ، أى أن الخضر لقى النبى محمدا ولقى ابراهيم التيمى أيضا . وتأكيدا على ذلك فإن ابراهيم التيمى يرى مناما يؤكد له ذلك ، حيث رأى ملائكة الجنة التى حملته للنبى ، لكى يؤكد له النبى صدق الخضر فى روايته قائلا : "  صدق الخضر صدق الخضر ، وكل ما يحكيه فهو حق ، وهو عالم أهل الأرض ، وهو رئيس الأبدال ، وهو من جنود الله تعالى في الأرض. " ، وأن الذى يستعمل هذه التميمة ( المسبعات العشر )   :" إنه ليغفر له جميع الكبائر التي عملها ، ويرفع الله تعالى عنه غضبه ومقته ، ويأمر صاحب الشمال أن لا يكتب عليه خطيئة من السيئات إلى سنة . والذي بعثني بالحق نبيا ما يعمل بهذا إلا من خلقه الله سعيدا ولا يتركه إلا من خلقه الله شقيا ".  وينتهى الأفاك الأثيم أبو حامد الغزالى بقوله عن ابراهيم التيمى :"وكان إبراهيم التيمي يمكث أربعة أشهر لم يطعم ولم يشرب ،  فلعله كان بعد هذه الرؤيا " . أين المسكين ابراهيم التيمى من هذا الافتراء وهو الذى مات ( صبرا ) فى سجن الحجاج ، مات جوعا وعطشا وبردأ. !!

ثالثا : موضوعات ورد فيها هجص الغزالى عن الخضر :

  الدعاء :

1 ـ يخترع الغزالى أدعية يزايد بها على الأدعية القرآنية ، وكأن القرآن الكريم يخلو من الأدعية .!!. وينسب بعض الأدعية للخضر ليجعل له صُدقية . فى ( كتاب أسرار الحج ) فى الإحياء يقول الغزالى : ( وليكثر من دعاء الخضر عليه السلام وهو أن يقول: " يا من لا يشغله شأن عن شأن ولا سمع عن سمع ولا تشتبه عليه الأصوات يا من لا تغلطه المسائل ولا تختلف عليه اللغات يا من لا يبرمه إلحاح الملحين ولا تضجره مسألة السائلين أذقنا برد عفوك وحلاوة مناجاتك). ،

2 ـ وفى ( كتاب الأذكار والدعوات ) يقول الغزالى: (وقال أبو عبد الله الوراق لو كان عليك مثل عدد القطر وزبد البحر ذنوبا لمحيت عنك إذا دعوت ربك بهذا الدعاء مخلصا إن شاء الله تعالى  :: " اللهم إني أستغفرك من كل ذنب تبت إليك منه ثم عدت فيه وأستغفرك من كل ما وعدتك به من نفسي ولم أوف لك به وأستغفرك من كل عمل أرد به وجهك فخالطه غيرك وأستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي فاستعنت بها على معصيتك وأستغفرك يا عالم الغيب والشهادة من كل ذنب أتيته في ضياء النهار وسواد الليل في ملأ أو خلاء وسر وعلانية يا حليم . " ويقال إنه استغفار آدم عليه السلام ، وقيل الخضر عليه الصلاة والسلام  ) . وينسب الغزالى هذا الدعاء لآدم أبى البشر ، كما لو كان الغزالى عاش مع آدم وسمع منه هذا الدعاء ،ثم ينسبه أيضا الى الخضر .

3 ـ  خطورة إفتراء الغزالى فى هذه الأدعية المفتراة ليس فقط فى الصّد عن الأدعية القرآنية ، وليس فقط فى دلالتها على عدم إعتداد الغزالى بالأدعية المذكورة فى القرآن الكريم ولكن أيضا فى أنها تشجع ضمنيا   على العصيان ، فيجعل دخول الجنة  سهلا ميسورا بمجرد قول عبارات وأداء بعض الصلوات والتسبيحات ، وبمجرد قولها يضمن الفرد الجنة مهما فجر وأفسد فى الأرض .

الغزالى يُغفل أن دخول الجنة يستلزم تقوى مستمرة وجهادا وصبرا ، يقول جل وعلا : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) آل عمران ). ويغفل الغزالى أن الجنة لا يدخلها إلا المتقون ، يقول جل وعلا : ( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً (63) مريم ). أى أن يموت الفرد متقيا ، بعد حياة حافلة بإخلاص الدين والعبادة لرب العزة جل وعلا . وليس مجرد عبارات يقوله ثم يضمن بها الجنة كما يقول هذا الأفاك الأثيم . أين إفك الغزالى من قوله جل وعلا عن المتقين أصحاب الجنة : (  إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) الذاريات )

4 ـ فى ضوء ما سبق نفهم إفك الغزالى فى قوله فى : ( كتاب ترتيب الأوراد وتفصيل إحياء الليل )، يقول :  ( وللبيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة بسند ضعيف من قرأ خواتيم سورة الحشر في ليل أو نهار فمات من يومه أو ليلته فقد أوجب الله له الجنة ، وإن قرأ المسبعات العشر التي أهداها الخضر عليه السلام إلى إبراهيم التيمي رحمه الله ووصاه أن يقولها غدوة وعشية فقد استكمل الفضل وجمع له ذلك . )

5 ـ وندعو القارى ليتسلى بهذه الحكايات الغزالية : ( فضيلة جملة الأدعية المذكورة : فقد روي عن كرز بن وبرة رحمه الله ،  وكان من الأبدال ، قال أتاني أخ لي من أهل الشام فأهدى لي هدية ،  وقال  : " يا كرز اقبل مني هذه الهدية فإنها نعمت الهدية . " فقلت : " يا أخي ومن أهدى لك هذه الهدية  ؟ قال : " أعطانيها إبراهيم التيمي . " قلت: " أفلم تسأل إبراهيم من أعطاه إياها ؟ " قال : " كنت جالسا في فناء الكعبة وأنا في التهليل والتسبيح والتحميد والتمجيد ، فجاءني رجل فسلم علي وجلس عن يميني ،  فلم أر في زماني أحسن منه وجها ولا أحسن منه ثيابا ولا أشد بياضا ولا أطيب ريحا منه.  فقلت : " يا عبد الله من أنت ومن أين جئت ؟ فقال : "  أنا الخضر . " فقلت:  " في أي شيء جئتني ؟ " ، فقال : " جئتك للسلام عليك وحبا لك في الله ، وعندي هدية أريد أن أهديها لك . " . فقلت: " ما هي ؟ " قال : " أن تقول قبل طلوع الشمس وقبل انبساطها على الأرض وقبل الغروب سورة الحمد وقل أعوذ برب الناس وقل أعوذ برب الفلق وقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون وآية الكرسي كل واحدة سبع مرات ، وتقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر سبعا ، وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم سبعا ، وتستغفر لنفسك ولوالديك والمؤمنين وللمؤمنات سبعا ، وتقول: اللهم افعل بي وبهم عاجلا وآجلا في الدين والدنيا والآخرة ما أنت له أهل ولا تفعل بنا يا مولانا ما نحن له أهل إنك غفور حليم جواد كريم رءوف رحيم"  سبع مرات.  وانظر أن لا تدع ذلك غدوة وعشية ." .  فقلت: " أحب أن تخبرني من أعطاك هذه العطية العظيمة  ؟ فقال : " أعطانيها محمد صلى الله عليه وسلم . )

( وقال كرز بن وبرة وهو من الأبدال قلت للخضر عليه السلام : " علمني شيئا أعمله في كل ليلة. "  فقال : " إذا صليت المغرب فقم إلى وقت صلاة العشاء مصليا من غير أن تكلم أحدا وأقبل على صلاتك التي أنت فيها وسلم من كل ركعتين واقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة ، وقل : هو الله أحد ثلاثا ، فإن فرغت من صلاتك انصرف إلى منزلك ولا تكلم أحدا ، وصل ركعتين، واقرأ فاتحة الكتاب ، وقل هو الله أحد سبع مرات في كل ركعة ،  ثم اسجد بعد تسليمك واستغفر الله تعالى سبع مرات ، وقل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم سبع مرات ، ثم ارفع رأسك من السجود واستو جالسا وارفع يديك وقل يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا إله الأولين والآخرين يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما يا رب يا رب يا رب يا الله يا الله يا الله ثم قم وأنت رافع يديك وأدع بهذا الدعاء ،  ثم نم حيث شئت مستقبل القبلة على يمينك ، وصل على النبي صلى الله عليه وسلم، وأدم الصلاة عليه حتى يذهب بك النوم  . " فقلت له  : " أحب أن تعلمني ممن سمعت هذا ؟  فقال : " إني حضرت محمدا صلى الله عليه وسلم حيث عُلّم هذا الدعاء وأوحى إليه به ، فكنت عنده ، وكان ذلك بمحضر مني فتعلمته ممن علمه إياه. ".).

6 ـ وندعو القارىء ليضحك على الغزالى فى هذه الرواية : ( دعاء الخضر عليه السلام : يقال إن الخضر وإلياس عليهما السلام إذا التقيا في كل موسم لم يفترقا إلا عن هذه الكلمات : " بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله ما شاء الله كل نعمة من الله ما شاء الله الخير كله بيد الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله. "  فمن قالها ثلاث مرات إذا أصبح أمن من الحرق والغرق والسرق إن شاء الله تعالى  ) ( من حديث ابن عباس ولا أعلمه إلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال يلتقي الخضر وإلياس عليهما الصلاة والسلام كل عام بالموسم بمنى فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه فيفترقان عن هذه الكلمات فذكره ولم يقل الخير كله بيد الله   ). هنا إبتكار جديد ، فليس الخضر وحده الذى يحيا بلا موت بل أيضا النبى إلياس ، وانه هناك وظيفة جديدة للخضر وهذا الالياس ، كلاهما ( يحلق ) للآخر . يعملان بالحلاقة فى غير أوقات العمل الرسمية . ويبقى أن يفتتحا صالونا للحلاقة .!!

فى تشريع السماع

1 ـ إتخاذ حفلات الأغانى والرقص دينا  هو شعيرة صوفية تعرضنا لها بالتفصيل فى بحثنا عن التصوف المنشور مقالاته هنا . ويهمنا هنا أن الغزالى إستخدم هجصه عن الخضر فى تشريع هذا السماع الصوفى ، الذى حرّمه رب العزة حين جعل من ملامح الدين الأرضى أنهم يتخذون دينهم لهوا ولعبا .

2 ـ  فى ( كتاب آداب السماع والوجد ) يقول الغزالى يرد على الفقهاء السنيين منكرى السماع الصوفى : ( وحكى عن بعض الشيوخ أته قال رأيت أبا العباس الخضر عليه السلام فقلت له : " ما تقول في هذا السماع الذي اختلف فيه اصحابنا  ؟.  فقال: "  هو الصفو الزلال الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء . ". وحكي عن ممشاد الدينوري أنه قال : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت : " يا رسول الله هل تنكر من هذا السماع شيئا ؟ فقال : " ما أنكر منه شيئا ، ولكن قل لهم :يفتتحون قبله بالقرآن ويختمون بعده بالقرآن. " .  وحكى عن طاهر بن بلال الهمداني الوراق ، وكان من أهل العلم ، أنه قال : " كنت معتكفا في جامع جدة على البحر ، فرأيت يوما طائفة يقولون في جانب منه قولا ويستمعون ، فأنكرت ذلك بقلبي ، وقلت : " في بيت من بيوت الله يقولون الشعر ".! . قال : فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة وهو جالس في تلك الناحية والى جنبة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وإذا أبو بكر يقول شيئا من القول ، والنبي صلى الله عليه وسلم يستمع إليه ، ويضع يده على صدره كالواجد بذلك،  فقلت في نفسي: " ما كان ينبغي لي أن أنكر على أولئك الذين كانوا يستمعون وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع وأبو بكر يقولز" ، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "هذا حق بحق" ، أو قال : " حق من حق" ، أنا أشك فيه . وقال الجنيد : " تنزل الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواضع : عند الأكل لأنهم لا يأكلون إلا عن فاقة ، وعند المذاكرة لأنهم لا يتحاورون إلا في مقامات الصديقين ، وعند السماع لأنهم يسمعون بوجد ويشهدون حقا . " . ولهذا قال الخضر عليه السلام لما سئل عن السماع في المنام  : " إنه الصفو الزلال الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء . " لأنه محرك لأسرار القلوب ومكامنها .. ) . هذا الأفاك الأثيم لكى يجعل صُدقية للخضر وتشريعه للسماع فإنه ــ الغزالى ـ لا يتورع عن صناعة منامات ينسبها للنبى عليه السلام .

 

 

 

الفصل الثالث :   هجص الخضر عند ابن الجوزى

مقدمة :

1 ــ بعد خمس سنين من موت الغزالى ولد ابن الجوزى عام 510 ، ومات عام 597 ، حيث كان أشهر شخصية (علمية ) فى القرن السادس الهجرى بعد الغزالى فى القرن الخامس الهجرى . يجمع بينهما الافراط فى الكذب وكثرة المؤلفات والكتابة فى الفقه الوعظى ، ولكن تميز الغزالى بأنه مؤسس دين التصوف السنى ، وأنه مبتكر لفقه جديد ، بينما كان ابن الجوزى أكثر تأليفا وأقل إبتكارا ، بالاضافة الى حيرته بين التصوف والسنة ، فهو صريع للتصوف فى غرامه بالمنامات والكرامات . ومع أن ابن الجوزى كان فقيها حنبليا صبغ كتاباته برؤيته الحنبلية المتشددة حتى فى تأريخه كما يظهر فى موسوعته التاريخية ( المنتظم ) ومع أنه أفرد معظم كتابه ( تلبيس ابليس ) فى الانكار على الصوفية إلا إنه كان متأثرا بالتصوف يقدس أولياءه السابقين كالجنيد ورفاقه .وقد نعذره لأن عصره فى القرن السادس قد بدأت فيه مؤثرات التصوف القوية ومنها شيوع الاعتقاد فى وجود الخضر حيا حياة أبدية ، بل كان بعضهم يقرنه بالأنبياء . ونقرأ هذه النادرة لابن الجوزى فى كتابه ( اخبار الحمقى ) الذى ينقل فيه أخبار عصره : ( قال بعضهم‏:‏ مررت على قوم قد اجتمعوا على رجليضربونه ، فتقدمت إلى شيخ كان يجيد  ضربه ،  فقلت‏:‏" يا شيخ ما قصة هذا ؟ " قال‏:‏ " لا تكوننمنهم . هذا رافضي يقول‏:‏ نصف القرآن مخلوق ونصفه لا وليس في القوم خير من النبيوبعده الخضر. " فبادرني الضحك ، فرددته مخافة الضرب ، وقلت‏:‏ " يا شيخ زده فإنك مأجور‏.‏".! ).

2 ــ  بهذا التخبط  تأثّر ابن الجوزى فى كلامه عن الخضر . فهو فى ناحية يعترف بحياته الأبدية وينقل هجص الصوفية عن الالتقاء به ، ومن ناحية أخرى يتناقض مع نفسه فينكر الأحاديث ( النبوية ) التى وضعها الصوفية فى حياة الخضر الابدية، أى يقتصر به على عصر موسى كما جاء به البخارى . وفى الحالتين وقع ابن الجوزى فى الهجص ، غاية ما هنالك أنه إحتار بين هجص البخارى وهجص الغزالى .

3 ــ  ونعرض فى لمحة لهذا وذاك فى كتبات ابن الجوزى  .

 

أولا : ابن الجوزى مع هجص الحياة الخالد للخضر :

1 ـ يذكر ابن الجوزي في تاريخه المنتظم قصة عن الخليفة أبى جعفر المنصور، وقد أسندها إلى رواة على طريقة المحدثين . وابن الجوزي يروي تلك القصة وهو مصدق لها بدليل أنه يذكرها في تاريخه ضمن أحداث عام 148 هـ ، وموجزها أن رجلا كان يدعو الله جل وعلا  فى الحرم يشكو إنتشار الظلم فسمعه ابوجعفر المنصور فاستدعاه ، فقام الرجل بوعظ المنصور وعظا مؤثرا ومطوّلا فأبكى المنصور ، وخرج الرجل فبعث المنصور حارسا يستدعيه ، فجاء الحارس للرجل الواعظ فعلمه الواعظ دعاءا يستجير به عند الخوف من الحاكم الظالم ، وكتب الدعاء فى ورقة ، وعاد الحارس فوجد ابا جعفر المنصور مبتسما وأخبر الحارس أن هذا الواعظ كان ( الخضر ) . وقد ذكرنا هذه الواقعة بالتفصيل فى إحدى مقالات ( وعظ السلاطين ) وهى منشورة هنا . ومعنى أن يذكر ابن الجوزى هذه الحكاية فى تاريخه المنتظم ضمن أحداث عصر الخليفة أبى جعفر المنصور أنه مؤمن بحياة الخضر حتى عصر ابى جعفر المنصور .

 الطريف أن ابن الجوزى  ــ الذى كثيرا ما إنتقد الغزالى ــ هو الذى ينقل نفس هذه الرواية عن الغزالى ، وقد أوردها الغزالى فى ( إحياء علوم الدين ) فى ( كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بدون عنعنة وإسناد فجاء ابن الجوزى فصنع لها إسنادا مطولا من خياله ، وذكر القصة وفى نهايتها : (قال الحارس : فأخذته فوضعته في جيبي ، ثم لم يكن لي همٌ غير أمير المؤمنين، فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه ينظر إلىّ ويبتسم، ثم قال لي: ويلك، تحسن السحر؟  فقلت : لا والله يا أمير المؤمنين. ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ، فقال:  هات الورق.  ثم جعل يبكي، ثم قال: به نجوت، وأمر بنسخه، وأعطاني عشرة آلاف درهم، ثم قال: أتعرفه؟  قلت لا: قال: ذاك الخضر"!!  ) ، والغزالى فى القصة الأصلية فى ( الاحياء ) يقول فى نهايتها : (  ..فأخذته فصيرته في جيبي ثم لم يكن لي هم غير أمير المؤمنين فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه فنظر إلي وتبسم ثم قال ويلك وتحسن السحر فقلت لا والله يا أمير المؤمنين ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ فقال هات الرق الذي أعطاك ثم جعل يبكي وقال وقد نجوت وأمر بنسخه وأعطاني عشرة آلاف ثم قال أتعرفه قلت لا قال ذلك الخضر عليه السلام )...أساتذة فى الكذب ..وفى الهجص لأن دينهم هجص فى هجص ..!!

2 ـ وأفرد ابن الجوزى فى تاريخ الصحابة والتابعين والزهاد وشيوخ التصوف والعُبّاد كتابا خاصا هو ( صفوة الصفوة )، أى جعلهم صفوة الصفوة . وملأه بهجص تضحك منه النساء الثكلى . وضمن هجص الكرامات ورد ذكر للخضر ولقائه ببعض هؤلاء ( الصفوة من الصفوة ) . ونستشهد ببعض هجصه :

2 / 1 : يقول : (  عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وكان مصعب يصلي في اليوم والليلة آلف ركعة ويصوم الدهر قال بت ليلة في المسجد بعد ما خر الناس منه فإذا برجل قد جاء إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم فاسند ظهره إلى الجدار فقال اللهم انك تعلم اني كنت أمس صائما ثم أمسيت فلم افطر على شيء اللهم فإني أمسيت اشتهي الثريد فأطعمنيه من عندك قال فنظرت إلى وصيف داخل من خوخة المنارة ليس في خلقه وصفاء الناس ومعه قصعة فأهوى بها إلى الرجل فوضعها بين يديه وجعل الرجل يأكل وحصبني فقال هلم فجئته وظننت أنا من الجنة فأحببت أن آكل منها فأكلت منها لقم فأكلت طعاما لا يشبه طعام أهل الدنيا ثم احتشمت فقمت فرجعت لمجلس فلما فرغ من أكله اخذ الوصف القصعة ثم أهوى راجعا من حيث جاء وقام الرجل منصرفا فتبعته لأعرفه فلا ادري أي سلك، فظننته الخضر عليه السلام. ). المضحك فى هذه الرواية أن ابن الجوزى الذى عاش فى القرن السادس الهجرى ينسب روايتها الى حفيد عبد الله بن الزبير الذى عاش فى العصر الأموى ، فكيف سمع ابن الجوزى من هذا الراوى . هذا هجص عجيب .!!

2 / 2 : يقول عن خير النساج  : ( قال: سمعت إبراهيم الخواص وقد رجع من سفره، وكان غاب عني سنين، فقلت له: ما الذي أصابك في سفرك? فقال: عطشت عطشا شديدا حتى سقطت من شدة العطش ، فإذا أنا بماء قد رش على وجهي ، فلما أحسست ببرده فتحت عيني ، فإذا برجل حسن الوجه والزي، وعليه ثياب خضر، على فرس أشهب، فسقاني حتى رويت، ثم قال: ارتدف خلفي وكنت بالحاجر. فلما كان بعد ساعة قال: أي شيء ترى? قلت: المدينة. فقال انزل واقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل: أخوك الخضر يسلم عليك.  )

2 / 3 : يقول : (  عمر بن سفيان المنبجي قال: اجتاز بنا إبراهيم الخواص فقلت له: حدثني بأعجب ما رأيت في أسفارك. قال: لقيني الخضر فسألني الصحبة فخشيت أن يفسد علي سر توكلي بسكوني إليه، ففارقته. )

2 / 3 : يقول ابن الجوزى فى ترجمته لداود البلخي هجصا كثيرا منه ما يخص خرافة ( إسم الله الأعظم )  التى شاعت بالتصوف وأنه من يعلمها ويدعو بها تتحق له أمنياته، وأن داود البلخى هذا كان يعلم الاسم الأعظم ، وأنه علّمه لغلام ، وقد قال هذا الغلام للراوى :" إنه يتعاظم علي أن أنطق به ، فإنني سألت به مرة فإذا برجل آخذ بحجرتي ، فقال: سل تعطه، فراعني ذلك وفزعت فزعا شديدا فقال: لا روع عليك أنا أخوك الخضر، إن أخي داود علمك اسم الله الأعظم فإياك أن تدعو به على رجل بينك وبينه نزع فتهلكه هلاك الدنيا والآخرة ....)

2 / 4 : يحكى ابن الجوزى هذا ( الفيلم الخيالى الطويل ) ومن أحداثه أن البطل ( .أبو غسان المؤذن ) قال: "  .. فإذا رجل قد دخل علينا المسجد فسلم وصلى إلى جنب فتح ركعتين وقعد فسلم عليه فتح رسالة، فقال له الرجل: متى عهدك بأبي السري? قال: ما لي به عهد منذ أيام. قال: فقم بنا إليه فإنه معتل.قال: فخرجنا من المسجد وأنا أنظر إليهما حتى مضيا إلى دجلة يمشيان على الماء فقعدت أنظر رجوعهما فجاء أحدهما في آخر الليل فإذا هو فتح فدخلت عليه المسجد فرميت نفسي كأني نائم، فلما أسفر الصبح وصلينا وتفرق الناس قمت إليه فقلت: يا أبا محمد قد قضيت من زيارتك وطرا وقد رأيت الرجل الذي أتاك البارحة وما كان منكما، فجعل يعارضني. فلما علم أني قد علمت الخبر أخذ علي العهود أن لا أعلم بذلك أحدا ما علمت أنه حي، وقال لي: ذاك الخضر . ).

 2 / 5 : فى ترجمة (  محمد بن علي الصوري : " قال : كنت أتمنى على الله أن يريني أبا العباسي الخضر عليه السلام. فلما كان بعد مدة إذا أنا بالباب يدق علي. فقلت: من هذا? فقال لي: أنا الذي تتمناني على الله عز وجل أنا الخضر . فقلت له: الذي طلبناك له قد وجدناه. ارجع إلى حال سبيلك.  ) 

ثانيا : هجص ابن الجوزى ضد الحياة الخالدة للخضر

1 ـ لابن الجوزى  كتاب مشهور فى الأحاديث الموضوعة ، سار عليه الفقهاء السنيون فى العصر المملوكى ، ومنهم الامام الذهبى ( 673 ــ 748 ) ثم ابن تيمية ( 661 ـ 728 ) وابن القيم (691 ــ 751 ) ، ثم السيوطى (  849 ـــ 911 ). قام الذهبى بتلخيص كتاب ابن الجوزى فى الموضوعات ، ونلتقط منه بعض ما أورده ابن الجوزى فى نقض ونقد الأحاديث التى وضعها الصوفية فى حياة الخضر الابدية :

( حديث عبد الله بن نافع عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول الله كان في المسجد فسمع كلاماً من ورائه الحديث فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر ـ كثير متروك )
 ( حديث ابن خزيمة ثنا محمد بن أحمد بن زيد أنا عمرو بن عاصم عن الحسن بن رزين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس -ولا أعلمه إلا مرفوعاً- قال يلتقي الخضر وإلياس كل عام فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويفترقان عن هذه الكلمات بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله وما يصرف السوء إلا الله ما يكون من نعمة فمن الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله الحديث رواه العقيلي أيضاً عن محمد بن الحسن والخضر بن داود قال ثنا محمد بن أحمد بن زيد . الحسن ضعيف )

( حديث بإسناد مجاهيل عن علي مرفوعاً قال يجتمع بعرفة جبريل وميكائيل والخضر فيقول جبريل ما شاء الله وذكر حديثاً فيه طول ونُكر . قال ابن الجوزي هل يجوز لعاقل أن يلقى شخصاً يقول له أنا الخضر فيصدقه )

2 ــ  فى كتابه ( تلبيس ابليس ) أكثر ابن الجوزى فى الانكار على الصوفية ، والرد عليهم ، وتعرض لنقد أبى حامد الغزالى . وفى هذا السياق أنكر بعض مقولاتهم عن الخضر ، وقد إرتدى عمامة الفقهاء الحنبلة .  يقول مثلا عن زعم الصوفية العلم اللدنى : ( ومن الصوفية من ذم العلماء وراى ان الاشتغال بالعلم بطالة وقالوا ان علومنا بلا واسطة ) . وكانت حُجة الصوفية هى إستدلالهم بالعلم اللدنى للعبد الصالح ـ والذى أسماه البخارى من قبل بالخضر ـ وقد جعله الصوفية وليا أوتى العلم اللدنى وبه كان يعلم موسى . ورد عليهم ابن الجوزى فقال : (وأما الخضر فقد قيل أنه نبي ولا ينكر للانبياء الإطلاع بالوحي على العواقب. )

 

الفصل الرابع  :  هجص الخضر فى مؤلفات التاريخ الحولى

 

مقدمة :

1 ــ بدأ التدوين فى التاريخ مع العصر العباسى الأول ، وإزدهر سريعا فى العصر العباسى الثانى وبلغ أوج التميز فى العصر المملوكى ، بتنوع المادة التاريخية ( تاريخ اشخاص (طبقات ) ومدن وأقاليم وتاريخ الأسرات الحاكمة والتاريخ المحلى والعالمى ..الخ ) وبتنوع فى المناهج ( المنهج الحولى والمنهج الموضوعى ) . المنهج الحولى هو التأريخ حسب الحول أو السنة / حيث يذكر المؤرخ أحداث الأعوام عاما بعد آخر مع اختلاف المكان . أما التاريخ الموضوعى فالمؤرخ يتتبع حادثة ما ( موضوعا ما ) يفصله عن غيره ، يؤرخ له من البداية الى النهاية . وهناك مزج بين المنهج الحولى والموضوعى. كتبنا فى هذا كثيرا ، ونشير اليه هنا فى موضوع هجص الخضر ، ونحن نتتبع هذا الهجص فى كتابات التاريخ الحولى .

2 ــ والطبرى هو عمدة التاريخ الحولى فى ( تاريخ الطبرى ) وسار على منهجه آخرون .وبدأ الطبرى تاريخه بخلق السماوات والأرض وخلق آدم وما حدث لأبناء آدم وقصص الأنبياء و الأمم السابقة والحضارات القديمة من الفراعنة الى الفرس والروم ..الخ حتى تاريخ خاتم النبيين عليهم السلام.. وفى كل ذلك إتبع الطبرى المنهج الموضوعى أى يذكر تاريخ القوم من بدايته الى نهايته ثم يلتفت الى قوم آخرين ، وهكذا. حتى إذا جاء الى التأريخ للنبى محمد عليه السلام إتبع التأريخ بالحول ، يؤرخ عاما بعد عام ، وظل متمسكا بالتاريخ الحولى الى ان أتم تاريخ عصره الى قبيل وفاته . فى التاريخ للسابقين ـ قبل عصره كان الطبرى ينقل عن الآخرين ، ثم إذا وصل الى عصره كان ينقل من واقع المشاهدة شاهدا على العصر . فى التاريخ للسابقين من آدم الى عصر خاتم النبيين عليهم السلام كان الطبرى ينقل الخرافات الشائعة فى عصره ، ومعظمها من إفترءات أهل الكتاب والقصاصين والتى ما لبث أن صيغت أحاديث منسوبة للنبى محمد ، عبر صناعة عنعنة وأسانيد لها يزعم الكذابون أنهم سمعوها من فلان عن فلان الخ ..الى النبى ، بعد موت النبى محمد بقرنين وأكثر . 3 ــ المؤرخون السنيون العاملون بنشر الأحاديث ــ وكلها إفتراءات فى نسبتها للنبى ــ ملأوا تاريخهم بهذه الافتراءات والأباطيل ، وقد جعلوها أحاديث نبوية . هذا بالاضافة الى تخاريف عن خلق السماوات والأرض وخلق آدم ،والله جل وعلا يقول : (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) الكهف  )  صحيح أنهم فى بعض ما يقولون كانوا يعتمدون على بعض آيات قرآنية ، ولكن الأكثر كان إعتمادهم على خرافات يجترءون فيها على غيب الماضى الذى لا يعلمه إلا الله جل وعلا ، والذى كان خاتم النبيين لا يعلم عنه شيئا سوى ما ذكره رب العزة فى القرآن الكريم ، على ما سبق تفصيله .

4 ـ وبين خرافات الماضى التى نقلها الطبرى كان ( هجص ) الخضر . ونستشهد ببعض ما قاله :

 

أولا : هجص الخضر فى تاريخ الطبرى

( ....وكان دخول يعقوب مصر في سبعين إنسانا من أهله وتقدم إلى يوسف عند وفاته أن يحمل جسده حتى يدفنه بجنب أبيه إسحاق ففعل يوسف ذلك به ، ومضى به حتى دفنه بالشأم ثم انصرف إلى مصر . وأوصى يوسف أن يحمل جسده حتى يدفن إلى جنب آبائه ، فحمل موسى تابوت جسده عند خروجه من مصر معه . وحدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال : ذكر لي والله أعلم أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة قال وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها وأن يعقوب بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة ، ثم قبضه الله إليه . قال وقبر يوسف كما ذكر لي في صندوق من مرمر في ناحية من النيل في جوف الماء . وقال بعضهم : عاش يوسف بعد موت أبيه ثلاثا وعشرين سنة ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة . قال وفي التوراة أنه عاش مائة سنة وعشر سنين . وولد ليوسف أفراييم بن يوسف ومنشا بن يوسف ، فولد لإفراييم نون فولد لنون بن إفراييم يوشع بن نون ، وهو فتى موسى . وولد لمنشا موسى بن منشا . وقيل إن موسى بن منشا نبئ قبل موسى بن عمران . ويزعم أهل التوراة أنه الذي طلب الخضرقصة الخضر.  وخبره وخبر موسى وفتاه يوشع عليهم السلام . قال أبو جعفر : كان الخضر ممن كان في أيام أفريدون الملك بن أثفيان في قول عامة أهل الكتاب الأول وقبل موسى بن عمران ، وقيل إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان أيام إبراهيم خليل الرحمن ، وهو الذي قضى له ببئر السبع وهي بئر كان إبراهيم احتفرها لماشيته في صحراء الأردن ، وإن قوما من أهل الأردن ادعوا الأرض التي كان احتفر بها إبراهيم بئره فحاكمهم إبراهيم إلى ذي القرنين، الذي ذكر أن الخضر كان على مقدمته أيام سيره في البلاد ، وإنه بلغ مع ذي القرنين نهر الحياة،  فشرب من مائه وهو لا يعلم ولا يعلم به ذو القرنين ومن معه مخلد ، فهو حي عندهم إلى الآن . وزعم بعضهم أنه من ولد من كان آمن بإبراهيم خليل الرحمن واتبعه على دينه وهاجر معه من أرض بابل حين هاجر إبراهيم منها . وقال اسمه بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. قال وكان أبوه ملكا عظيما . وقال آخرون ذو القرنين الذي كان على عهد إبراهيم هو أفريدون بن أثفيان . قال وعلى مقدمته كان الخضر . وقال عبدالله بن شوذب فيه ما حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالحكم المصري قال حدثنا محمد بن المتوكل قال حدثنا ضمرة بن ربيعة عن عبدالله بن شوذب قال : الخضر من ولد فارس وإلياس من بني إسرائيل يلتقيان في كل عام بالموسم . وقال ابن إسحاق فيه ما حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني ابن إسحاق قال : بلغني أنه استخلف الله عز وجل في بني إسرائيل رجلا منهم يقال له ناشية بن أموص فبعث الله عز وجل لهم الخضر نبيا.  قال : واسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل أورميا بن خلقيا وكان من سبط هارون بن عمران . وبين هذا الملك الذي ذكره ابن إسحاق وبين أفريدون أكثر من ألف عام.  وقول الذي قال إن الخضر كان في أيام أفريدون وذي القرنين الأكبر وقبل موسى بن عمران أشبه بالحق ، إلا أن يكون الأمر كما قاله من قال إنه كان على مقدمة ذي القرنين صاحب إبراهيم فشرب ماء الحياة فلم يبعث في ايام إبراهيم نبيا وبعث أيام ناشية بن أموص، وذلك أن ناشية بن أموص الذي ذكر ابن إسحاق أنه كان ملكا على بني إسرائيل كان في عهد بشتاسب بن لهراسب وبين بشتاسب وبين أفريدون من الدهور والأزمان ما لا يجهله ذو علم بأيام الناس وأخبارهم.  )

 

 ثانيا : هجص الخضر فى تاريخ ( المنتظم ) لابن الجوزى :

1 ـ نقل ابن الجوزى ت 597 ما أورده الطبرى ت 310 ، وزاد عليه تخريفا وهجصا . يقول مثلا :

 ( فصل في اسم الخضر : فأما اسم الخضر فقال كعب الأحبار‏:‏ هو الخضر بن عاميل‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ اسمه أرمياء وقال أبو جعفر الطبري‏:‏ إن هذا ليس بصحيح لأن أرمياء كان في أيام بخت نصر وبين عهد موسى وبخت نصر زمن طويل‏.‏ وقيل‏:‏ هو الخضر بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح‏.‏وقال بعض أهل الكتاب‏:‏ هو خضرون بن عاميل بن أليفرن بن العيص بن إسحاق وإنه ابن خالة ذي القرنين ووزيره‏.‏ قال الطبري‏:‏ إن الخضر هو الولد الرابع من أولاد آدم‏.‏ فصل لم سمي الخضر:   وقد اختلف العلماء لم سمى الخضرعلى قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه جلس على فروة بيضاء فاخضرت والفروة الأرض اليابسة‏.‏ أخبرنا ابن حصين أخبرنا ابن المذهب أخبرنا أحمد بن جعفر حدثنا عبد اللهّ بن أحمد قال‏:‏ حدثني أبي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إنما سمى الخضر خضرًا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء ‏"‏‏.‏والثاني‏:‏ إنه كان إذا جلس اخضر ما حوله‏.‏قاله عكرمة‏.‏وقال مجاهد‏:‏ كان إذا صلى اخضر واختلفوا هل كان نبيًا أم لا على قولين ذكرهما ابن الأنباري‏.‏  ذكر لقاء موسى الخضر عليهما السلام: كان سبب طلب موسى الخضر أن موسى سئل من أعلم أهل الأرض فقال‏:‏ أنا قيل له‏:‏ لناعبد هوأعلم منك يعني الخضر‏.‏أخبرنا عبد الأول بن عيسى أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الداودي أخبرنا عبد اللّه بن أحمد بن حموية أخبرنا الفربري حدثنا البخاري حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار قال‏:‏ أخبرني سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل فسئل‏:‏ أي الناس أعلم فقال‏:‏ أنا أعلم فعتب اللّه عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه‏:‏ أن عبدًا من عبادي عند مجمع البحرين قال‏:‏ يا رب كيف لي به قيل له‏:‏ أحمل حوتًا فتجعله في مكتل فإذا فقدته فهو ثَمَّ‏.‏ فانطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون وحملا حوتًا في مكتل حتى كانا عند الصخرة ووضعا رؤوسهما فناما فانسل الحوت من المكتل فاتخذ سبيله في البحر وكان لموسى ولفتاه عجبًا فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما فلما أصبح قال موسى لفتاه‏:‏ ‏"‏ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ‏"‏‏.‏ولم يجد موسى من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به فقال له فتاه‏:‏ ‏"‏ رأيْتَ إِذْ أوَيْنَا إِلَى الصَخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوت ‏"‏ قال موسى‏:‏ ‏"‏ ذلك مَا كنا نَبْغِي فَارتدَا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ‏"‏ حتى انتهيا إلىِ الصخرة فإذا رجل مسجى بثوب - أو قال بثوبيه - فسلم موسى عليه فقال الخضر‏:‏ وأنى بأرضك السلام فقال‏:‏ أنا موسى فقال‏:‏ موسى بني إسرائيل قال‏:‏ نعم ‏"‏ هَلْ أتَّبُعِكَ عَلَى أنْ تُعلَمِنِي ممَا عُلَمتَ رُشْدًا ‏"‏ فقال‏:‏ ‏"‏ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ‏"‏ يا موسى إني على علم من علم اللهّ علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم علمكه اللهّ لا أعلمه قال‏:‏ ‏"‏ سَتَجدنِي إِنْ شَاءَ الله صَابِرًا وَلا أعْصِي لَكَ أمْرًا ‏"‏‏.‏ فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ليسِ لهما سفينة فمرت بهما سفينة فكلماهم أن يحملوهما فعرفوا الخضر فحملوهما بغي نوْلٍ‏.فجاء عصفور فوقع على  حرف فنقر نقرة ونقرتين من البحر فقال الخضر‏:‏ يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم اللّه إلا كنقرة هذا العصفور في البحر فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه فقال موسى‏:‏ قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها قال‏:‏ ‏"‏ ألم أقُلْ إِنكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ لاَ تؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيت ‏"‏‏.‏وكان الأولى من موسى نسيانًا‏.‏ فانطلقا فإذا غلام يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده فقال ‏"‏ فَانْطَلَقَا حَتى إِذَا أتَيَا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أهْلَهَا فَأبَواْ أنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أنْ يَنْقَض ‏"‏ قال الخضر بيده ‏"‏ فَأقَامَه ‏"‏ فقال له موسى‏:‏ ‏"‏ لَوْ شِئْتَ لاتَخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرًا ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ‏"‏‏.‏قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يرحم اللّه موسى لوددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما ‏"‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ فصل في اختلاف العلماء في حياة الخضر وموته : وقد زعم قوم أن الخضر حيّ إلى الآن واحتجوا بأحاديث لا تثبت وحكايات عن أقوام سليمي الصدور ويقول أحدهم‏:‏ لقيت الخضر‏.‏ فأما الأحاديث فمنها ما يروى عن أهل الكتاب أن الخضر كان مع ذي القرنين وأنه سبق إلى العين التي قصدها ذو القرنين لما وصف له أن من شرب منها خلد في الدنيا فشرب منها فأعطي الخلد لذلك‏.‏ ومنها ما أخبرنا به علي بن أبي عمر الدباس قال‏:‏ أخبرنا علي بن الحسين بن أيوب قال‏:‏ أخبرنا أبو علي بن شاذان قال‏:‏ أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكى قال‏:‏ حدثنا محمد بن إسحاق بن خريم قال‏:‏ أخبرنا محمد بن أحمد بن زيد قال‏:‏ حدثنا عمرو بن عاصم قال‏:‏ حدثنا الحسن بن رزين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال‏:‏ لا أعلمه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يلتقي الخضر وإلياس في كل عام في الموسم فيحلق كل منهما على رأس صاحبه ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات‏:‏ ‏"‏ بسم اللّه ما شاء اللّه لا يسوق الخير إلا اللّه بسم اللّه ما شاء اللّه لايصرف السوء إِلا اللّه ما شاء اللّه ماكان من نعمة فمن الله ما شاء اللّه لا حول ولا قوة إلا باللّه ‏"‏‏.‏ومنها ما روي عن الحسن البصري أنه قال‏:‏ وكل إلياس بالفيافي ووكل الخضر بالبحور وقد أعطيا الخلد في الدنيا إلى الصيحة الأولى وأنهما يجتمعان في كل موسم في كل عام‏.‏ومنها ما أخبرنا به إسحاق بن ابراهيم الختلي قال‏:‏ حدثني عثمان بن سعيد الأنطاكي قال‏:‏ حدثنا علي بن الهيثم المصيصي عن عبد الحميد بن بحر عن سلام الطويل عن داود بن يحيى مولى عون الطفاوي عن رجل كان مرابطًا في بيت المقدس وبعسقلان قال‏:‏ بينا أنا أسير في وادي الأردن إذا أنا برجل في ناحية الوادي قائم يصلي فإذا سحابة تظله من الشمس فوقع في قلبي إنه إلياس النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته فسلمت عليه فانفتل من صلاته فرد عليّ السلام فقلت‏:‏ من أنت رحمك الله فلم يرد عليّ شيئًا فأعدت القول مرتين فقال‏:‏ أنا إلياس النبي فأخذتني رعدة شديدة خشيت على عقلي أن يذهب فقلت له‏:‏ إن رأيت رحمك الله أن تدعو لي أن يذهب عني ما أجد حتى أفهم حديثك فدعا لي بثمان دعوات فقال‏:‏ يا بريا رحيم يا حي يا قيوم يا حنّان يا منّان‏.‏ فذهب عني ما كنت أجد فقلت‏:‏ إلى من بعثت قال‏:‏ إلى أهل بعلبك قلت‏:‏ فهل يوحى إليك اليوم فقال‏:‏ منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فلا‏.‏قلت‏:‏ فكم من الأنبياء في الحياة قال‏:‏ أربعة أنا والخضر في الأرض وإدريس وعيسى في السماء قلت‏:‏ فهل تلتقي أنت والخضر قال‏:‏ نعم في كل عام بعرفات قلت‏:‏ فما حديثكما قال‏:‏ يأخذ من شعري وأخذ من شعره قلت‏:‏ فكم الأبدال قال‏:‏ هم ستون رجلًا خمسون ما بين عريش مصر إلى شاطىء الفرات ورجلان بالمصيصة ورجلان بأنطاكية وسبعة في سائر الأمصار تسقون بهم الغيث وبهم ينصرون على عدوهم وبهم يقيم اللّه أمر الدنيا حتى إذا أراد أن يهلك الدنيا أماتهم جميعًا‏.‏وقد روي أنه كان في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم وروا من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم.  إثبات حياة الخضر‏.‏ومن حديث أنس أن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم بعثه إلى الخضر وقال‏:‏ ادع لرسول اللهّ‏.‏وإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وابن عمر أثبتوا وجوده وإنه رآه عمر بن عبد العزيز ورواه مسلمة ورباح بن عبيدة كلاهما عن عمر بن عبد العزيز‏.‏قالوا‏:‏ ورآه إبراهيم التيمي وإبراهيم بن أدهم وأحمد بن حنبل‏.‏وكل هذه الأحاديث لا تثبت والحديث الذي ذكرناه عن ابن عباس فيه الحسن بن زيد قال العقيلي‏:‏ هو مجهول‏.‏وفي الحديث الثاني السلام بن الطويل قال يحيى‏:‏ ليس بشيء‏.‏وقال البخاري والرازي والنسائي والدارقطني‏:‏ هو متروك الحديث‏.‏وقال ابن حيان‏:‏ يروي الموضوعات كأنه المعتمد لها‏.‏قال‏:‏ وعبد الحميد بن بحر لا يحل الاحتجاج به بحال وداود مجهول والرجل المرابط لا يدرى من هو‏.‏وقد روى مسلمة بن مصقلة إنه رأى إلياس وجرى له معه نحو ما سبق‏.‏وربما ظهر الشيطان لشخص فكلمه وربما قال بعض المتهمين لبعض أنا الخضر وأعجب الأشياء أن يصدق القائل أنا الخضر وليس لنا فيه علامة نعرفه بها وقد جمعت كتابًا سميته عجالة المنتظر بشرح حال الخضر وذكرت فيه هذه الأحاديث والحكايات ونظائرها وبينت خطأها فلم أر الإطالة بذلك ها هنا‏.‏قال أبو الحسين بن المنادي ونقلته من خطه‏.‏عن تعمير الخضر وهل هو باق في الدنيا أم لا فإذا أكثر المغفلين مغرورون بأنه باق من أجل ما قد روي وساق بعض ما قد ذكرنا ثم قال‏:‏ أما حديث أنس فواه بالوضاع وأما خبر ابن عباس فضعيف بالحسن بن رزين وأما قول الحسين فمأخوذ عن غير أهل ملتنا مربوط بقول بعضهم أن الخضر شرب من العين التي قصدها ذوي القرنين موصول بما قيل إنه الرجل الذي يقتله الدجال والمسند من ذلك إلى أهل الذمة فساقط لعدم ثقتهم‏.‏وخبر مسلمة فكلا شيء وخبر رياح كالرياح ثم مد اللّه على السري وضمرة عفى الله عنهما‏.‏وأين كان الخضر عن تبشيرأبي بكر وعمر رضي الله عنهما بالخلافة‏.‏وهذه الأخبار واهية الصدور والأعجاز لا تخلو في حالها من أحد أمرين‏:‏ إما أن تكون أدخلت من حديث بعض الرواة المتأخرين استغفالًا‏.‏وإما أن يكون القوم عرفوا حالها فرووها على وجه التعجب فنسبت إليهم على سبيل التحقيق‏.‏قال‏:‏ والتخليد لا يكون لبشر لقول اللهّ عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون ‏"‏‏.‏وأهل الحديث يتفقون على أن حديث أنس منكر الإسناد سقيم المتن بين فيه أثر الصنعة وأن الخضر لم يراسل نبينا ولم يلقه ولم يكن ممن عرض عليه ليلة الإسراء ولم يدركه ذكر في عهده بالبقاء ولو انه كان في عدد الأحياء حينئذ لما وسعه التخلف عن لقاء رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم والهجرة إليهً‏.‏قال‏:‏ وما أعجب إغراء أهل الضعف بذكر الخضر وإلياس والمعنى منهم بذلك المنتسبون إلى رؤية الأبدال ومشاهدة الآيات‏.‏قال‏:‏ وقد أخبرني بعض أصحابنا أن إبراهيم الحربي بن إسحاق سئل عن تعمير الخضر فأنكر ذلك وقال‏:‏ هو متقادم الموت‏.‏قال وروجع غيره في تعميره وأن طائفة من أهل زماننا يرونه ويروون عنه نقال‏:‏ من أحال على غائب حي أو مفقود ميت لم ينتصف منه وما ألقى ذكر هذا بين الناس ألا الشيطان‏.‏قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ هذا هامة بن الهيم وزريب بن برثملا معمران قيل‏:‏ ومن صحح لهما وجادة حتى يكون لهما تعمير ولو أنهما معروفان لكان سبيلهما في التخليد سبيل سائر البشر بل هذان حديثان دسا إلى مغفلين فرووهما بلا تفقد ولا تمييز‏.‏..فأما بقاء الدجال الأعور فليس ذلك بالطويل لأنه ولد بالمدينة في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم يحيا إلى نزول المسيح عيسى فيقتله‏.‏قال‏:‏ فقد صح لما بينا أن الخضر عبد من عباد اللّه نصب لموسى لأمر أراده اللّه وقد مضى لسبيله فليعرف ذلك وإن سمع من جاهل خلاف ذلك فلا يمارين لأن المراء في ذلك نقص زادنا اللّه وإياكم فهمًا‏.‏هذا آخر كلام أبي الحسين المنادي ومن خطه نقلته‏.‏وقد روى أبو بكر النقاش‏:‏ أن محمد بن اسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإلياس هل هما في الأحياء فقال‏:‏ كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ‏"‏‏.‏)

 

ثالثا : هجص الخضر فى تاريخ الكامل لابن الأثير

قام ابن الأثير ت 630 بإختصار روايات الطبرى فى تاريخه ( الكامل ). وكان أقل نقلا للهجص من الطبرى وابن الجوزى . ننقل بعض هجصه عن الخضر :

( .قصة الخضر وخبره مع موسى:

قال أهل الكتاب: إن موسى صاحب الخضر هو موسى بن منشى بن يوسف بن يعقوب، والحديث الصحيح عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، أن موسى صاحب الخضر هو موسى بن عمران على ما نذكره، وكان الخضر ممّن كان في أيام أفريدون الملك ابن اثغيان في قول علماء أهل الكتاب الأول قبل موسى بن عمران، وقيل: إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكب الذي كان في أيام إبراهيم الخليل، وإنه بلغ مع ذي القرنين نهر الحياة فرشب من مائه ولا يعلم ذو القرنين ومن معه، فخلّد وهو حيّ عندهم إلى الآن، وزعم بعضهم: أنّه كان من ولد من آمن مع إبراهيم وهاجر معه، واسمه يليا بن ملكان بن فالغ بن غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وكان أبوه ملكاً عظيماً، وقال آخرون: ذو القرنين الذي كان على عهد إبراهيم أفريدون بن اثغيان، وعلى مقدمته كان الخضر . .
قال عبد الله بن شوذب: الخضر من ولد فارس، وإلياس من بني اسرائيل يلتقيان كلّ عام بالموسم، وقال ابن اسحاق: استخلف الله على بني اسرائيل رجلاً منهم يقال له ناشية بن أموص، فبعث الله لهم الخضر معه نبيّاً، قال: واسم الخضر فيما يقول بنو اسرائيل إرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران، وبين هذا الملك وبين أفرويدون أكثر من ألف عام.
وقول من قال إن الخضر كان في أيّام أفريدون وذي القرنين الأكبر قبل موسى بن عمران أشبه للحديث الصحيح أنّ موسى بن عمران أمره الله بطلب الخضر، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان أعلم الخلق بالكائن من الأمور، فيحتمل أني كون الخضر على مقدمة ذي القرنين قبل موسى، وأنه شرب من ماء الحياة فطال عمره، ولم يرسل في أيّام ابراهيم، وبعث في أيام ناشية بن أموص، وكان ناشية هذا في أيّام بشتاسب بن لهراسب، والحديث ما رواه أبيّ بن كعب عن النبي، صلى الله عليه وسلم .
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: إنّ نوفا يزعم أنّ الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران، قال: كذب عدوّ الله، حذّثني أبيّ بن كعب عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، قال: إن موسى قام في بني اسرائيل خطيباً فقيل له: أيّ الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إليه، فقال: يا ربّ هل هناك أعلم مني؟ قال: بلى، عبد لي بمجمع البحرين، قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل فحيث تفقده فهو هناك، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثمّ قال لفتاه: إذا فقدت هذا الحوت فأخبرني، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى أتيا الصخرة وذلك الماء، وهو ماء الحياة، فمن شرب منه خلد ولا يقاربه شيد ميت إلاّ حيي، فمسّ الحوت منه فحيي، وكان موسى راقداً، واضطرب الحوت في المكتل فخرج في البحر، فأمسك الله عنه جرية الماء فصار مثل الطاق، فصار للحوت سرباً، وكان لهما عجباً، ثم انطلقا...الخ )

 

 

الفصل الخامس : لماذا هو هجص ؟

 

أولا : لا تقل إنه ( الخضر )

  سألنى أخ عزيز عن الاسم الحقيقى للعبد الصالح ـ طالما أنى أرفض تسميته بالخضر ـ فقلت له :

1 ـ  إن إسم ذلك العبد الصالح  من الغيوب التى لا يعلمها إلا الله جل وعلا ، وقلت إن الغيوب ـ طبقا للقرآن الكريم ـ هى ثلاثة أنواع حسب الزمن ، : أخبار الماضى ومنه قصص الأنبياء ، وأخبار المستقبل ، ومنها ما سيحدث بعد نزول القرآن الكريم فى حياة النبى وبعد موته فى هذه الحياة الدنيا ، ثم أخبار ما سيحدث فى اليوم الآخر من بعث وحشر وعرض وحساب وجنة ونار . ثم الغيب الخاص بوقت نزول القرآن ( أى الحاضر وقت التنزيل ) ومنه ما يخص سرائر أصحابه وما فى قلوب بعضهم من مرض ونفاق . فالله جل وعلا هو الأعلم بايمانهم بعضهم من بعض . وحتى ما يحدث حوله فقد كان عليه السلام لا يعرف الغيب الذى يحدث بعيدا عنه .

وكان الوحى القرآنى ينزل يخبر ببعض الغيوب فى الماضى فى القصص القرآنى ، وكان التركيز على العبرة والعظة ، لذا توجد فجوات فى الأحداث وفى التفصيلات وعدم ذكر للأسماء والمكان والزمان . ومثلا يقول جل وعلا عمّن يتقصّى عن هذه الفرعيات عن عدد اهل الكهف: (  سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) الكهف ). أى طالما لم يذكر رب العزة عددهم فإن الكلام فى عددهم ليس إلا رجما بالغيب .

وحتى فى الواقعة التى يراها الانسان بنفسه ويكون شاهدا عليها فعليه أن يذكر ما يراه حسب علمه ، لأنه لا يرى سوى الظاهر المرئى المسموع ، وليس ما يراه وما يسمعه هو كل الحقيقة ، إذ يظل هناك جزء مخفى لا يُرى ولا يُسمع . ولهذا فإن كبير أخوة يوسف الذى شهد مع إخوته أتهام أخيهم بالسرقة قال لاخوته : ( ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) يوسف ). أى شهدوا بما علموا وبما رأوا ، وما بعد ذلك من غيب فليسوا له بحافظين .

2 ـ إن النبى الذى كان ينزل عليه غيوب الماضى  أمره ربه جل وعلا  أن يقول عن غيب الملائكة ونقاشهم فى خلق آدم : ( ما كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإٍ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) ص). أى لم يكن يعلم حتى نزلت به الآيات . ولم يكن يعلم قصة نوح حتى نزلت فى القرآن الكريم وقال له ربه جل وعلا : ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) هود ) ولم يكن يعلم دقائق ما حدث من أخوة يوسف ، فقال له ربه جل وعلا فى نهاية قصة يوسف وسورة يوسف : ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) يوسف )، ونفس الحال فى قصة موسى ، فلم يكن حاضرا مع موسى فى مدين أو عند جبل الطور ، وقد قال له جل وعلا:( وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا  ) (46) القصص ) ، ولم يكن حاضرا مع بنى اسرائيل حين إقترعوا أيهم يكفل الطفلة مريم : ( ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) آل عمران). لم يكن عليه السلام حاضرا مع أبطال تلك القصص، ولا يعلم عنهم إلا ما أخبر به رب العزة . عليه السلام لم يكن حاضرا وقتها ولم يكن يعلم فكيف بأولئك الذين ملأوا آلاف الصفحات بأخبار عن الأنبياء ما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان ؟

 3 ـ وبالتالى فإن الذى ينسب للرسول أحاديث يُلحقها بالقصص القرآنى إنما يكذّب بالقرآن الكريم ، وذلك الذى يتكلم عن غيوب الماضى فى قصص الأنبياء إنما يرفع نفسه فوق النبى الذى لم يكن يعلم غيب الماضى وغيب الحاضر وغيب المستقبل . ينطبق هذا على كل من أطلق على العبد الصالح إسم الخضر . ولهذا فتمسكا بالكتاب العزيز أرفض أن أتكلم فى غيب لم يذكره رب العزة حتى لا أقع فى تكذيب رب العزة فى القرآن الكريم .

ثانيا : ترفقنا بهم فقلنا ( هجص ) ولم نقل ( كفر )

إعترض بعضهم على وصف أساطيرهم بالهجص ، ورأى أنها كلمة ثقيلة مُجحفة بهؤلاء الأئمة الأعلام . وأقول : هم أئمة وأعلام فى أديانهم الأرضية المبنية على الكذب والافتراء . ووصف ما يفعلون بالهجص هو أخفُّ من وصفه بالكفر . ونسترجع بعض ما قالوه :

1 ــ البخارى : (  عن ابن عباس: أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، قال ابن عباس: هو خضر، فمر بهما أبي بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى، الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه، هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل، جاءه رجل فقال: هل تعلم أحد أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى: عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع، فإنك سلتقاه، وكان يتبع أثر الحوت في البحر ) هل كان البخارى ــ او ابن عباس ــ حاضرا مع موسى وهو (في ملأ من بني إسرائيل، جاءه رجل فقال: هل تعلم أحد أعلم منك؟ قال موسى: لا، )؟ وهل كان البخارى ــ او ابن عباس ــ حاضرا مع موسى وهو يتلقى الوحى من رب العزة ؟ : ( فأوحى الله إلى موسى: بلى: عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع، فإنك سلتقاه، وكان يتبع أثر الحوت في البحر ). ثم هل يكون مؤمنا أم كافرا ذلك الذى يشكك فى القرآن ويضيف للقرآن كلمات ليست من القرآن ، يقول البخارى : (: فكان ابن عباس يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا. وكان يقرأ: وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين.  ).

2 ـ  نفس الحال مع الغزالى ، فى قوله فى الاحياء :   ( حديث كرز بن وبرة من أهل الشام عن إبراهيم التيمي أن الخضر علّمه المسبعات العشرة . وقال في آخرها : أعطانيها محمد صلى الله عليه وسلم ... فقلت : " أخبرني بثواب ذلك ." فقال : " إذا لقيت محمدا صلى الله عليه وسلم فاسأله عن ثوابه فإنه يخبرك بذلك. "،  فذكر إبراهيم التيمي  أنه رأى ذات يوم في منامه كأن الملائكة جاءته فاحتملته حتى أدخلوه الجنة فرأى ما فيها ، ووصف أمورا عظيمة مما رآه في الجنة.  قال : " فسألت الملائكة فقلت لمن هذا ؟ فقالوا: " للذي يعمل مثل عملك . " ، وذكر أنه أكل من ثمرها وسقوه من شرابها.  قال قال : " فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سبعون نبيا وسبعون صفا من الملائكة ، كل صف مثل ما بين المشرق والمغرب ، فسلم عليّ ،  وأخذ بيدي . فقلت : " يا رسول الله ،  الخضر أخبرني أنه سمع منك هذا الحديث .! " فقال : "  صدق الخضر صدق الخضر ، وكل ما يحكيه فهو حق ، وهو عالم أهل الأرض ، وهو رئيس الأبدال ، وهو من جنود الله تعالى في الأرض. "  فقلت : " يا رسول الله فمن فعل هذا أو عمله ولم ير مثل الذي رأيت في منامي هل يعطى شيئا مما أعطيته ؟ " .  فقال : " والذي بعثني بالحق نبيا إنه ليعطى العامل بهذا وإن لم يرني ولم ير الجنة إنه ليغفر له جميع الكبائر التي عملها ، ويرفع الله تعالى عنه غضبه ومقته ، ويأمر صاحب الشمال أن لا يكتب عليه خطيئة من السيئات إلى سنة . والذي بعثني بالحق نبيا ما يعمل بهذا إلا من خلقه الله سعيدا ولا يتركه إلا من خلقه الله شقيا . " . وكان إبراهيم التيمي يمكث أربعة أشهر لم يطعم ولم يشرب ،  فلعله كان بعد هذه الرؤيا . ). 

ونفس الحال مع ابن الجوزى فى قوله : ( محمد بن علي الصوري : " قال : كنت أتمنى على الله أن يريني أبا العباسي الخضر عليه السلام. فلما كان بعد مدة إذا أنا بالباب يدق علي. فقلت: من هذا? فقال لي: أنا الذي تتمناني على الله عز وجل أنا الخضر . فقلت له: الذي طلبناك له قد وجدناه. ارجع إلى حال سبيلك.  )  و ( حديث ابن خزيمة ثنا محمد بن أحمد بن زيد أنا عمرو بن عاصم عن الحسن بن رزين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس -ولا أعلمه إلا مرفوعاً- قال يلتقي الخضر وإلياس كل عام فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويفترقان عن هذه الكلمات بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله وما يصرف السوء إلا الله ما يكون من نعمة فمن الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله الحديث رواه العقيلي أيضاً عن محمد بن الحسن والخضر بن داود قال ثنا محمد بن أحمد بن زيد .   )

3 ـ هو نفس الحال فى كل قصص الأنبياء التى ذكرها الثعالبى وغيره ، وما ذكره الطبرى وابن كثير وغيرهم فى بداية كتبهم التاريخية فى كلامهم عن آدم واقواله وأفعاله وأولاده وماقالوه عن الأنبياء خارج القصص القرآنى .

4 ــ هو إعتداء أثيم على الغيب الالهى ، وجُرأة ممقوتة فى إمتهان الغيب الذى لم يكن يعرفه خاتم النبيين عليه وعليهم السلام ، وتفضيل أنفسهم على خاتم النبيين .

ونتوقف مع هذا كله ، وسميناه هجصا .. بدلا من أن نصفه كفرا .

 

 

 

الباب الثالث  : صناعة اسطورة الخضر فى العصر المملوكى  

الفصل الأول : لمحة عن هجص الخضر فى العصرين المملوكى والعثمانى

  الفصل الثانى : لمحة عن إختلاف هجص الخضر فى دينى السنة والتصوف فى العصر المملوكى

الفصل الثالث :  هجص الخضر عند ابن تيمية  

الفصل الرابع  : هجص الخضر عند ابن القيم    

الفصل الخامس  : هجص الخضر عند ابن كثير

الفصل السادس : هجص الخضر فى مؤلفات ابن حجر العسقلانى  ت 852

 

الفصل الأول : لمحة عن هجص الخضر فى العصرين المملوكى والعثمانى

أولا : هجص الخضر يحيا فى العصرين المملوكى والعثمانى  :

1 ـ سيطر التصوف على الحياة الدينية والفكرية فى العصر المملوكى ، فتحول هجص الخضر الى قضية إيمانية جدلية بين السنيين وشيوخ التصوف . وبهذا الجدل تحولت شخصية الخضر الى ما يشبه الكائن المتحرك الذى يصاحب الناس فى كلامهم وحكاويهم ومناماتهم، وانعكس هذا فى مؤلفات مستقلة عن الخضر ، وعكست بعض عناوين  تلك المؤلفات ذلك الجدل فى حياة الخضر فى العصرين المملوكى والعثمانى ، ومنها : (   الروض النضر في أنباء الخضر لأبي الفضل العراقي   ـ 806هـ  ) (  الخضر للقاضي البساطي   ـ 842هـ ) (  الزهر النضر في حال الخضر لابن حجر العسقلاني ت  852هـ ) و( رسالة فى حياة الخضر ) لابن إمام الكاملية ( 808 ـ 874 ) ، و(  القول المنتصر على المقالات الفارغة بدعوى حياة الخضر للحسين بن عبد الرحمن الأهدل   ـ 855هـ ) و ( حياة الخضر) لعبد الله بن أسعد اليافعي   ـ 768هـ ،  و (  رسالة في الخضر لجلال الدين السيوطي  ـ 911هـ ) و (   كشف الخدر عن أمر الخضر لملا علي القاري الهروي   ـ 1014هـ ) (    القول المقبول في الخضر هل نبي أم ملك أم رسول لأحمد بن محمد بن علي المعروف بالغنيمي   ـ 1034هـ ) ( القول الدال على حياة الخضر ووجود الأبدال لنوح ابن مصطفى الحنفي   ـ1070 هـ  )

 2 ـ الجدل فى هجص الخضر وصل الى السنيين فلم يجتمعوا على رأى واحد ، الحنابلة المتشددون كابن تيمية آمن بهجص البخارى عن الخضر وتوقف به عند عصر موسى ، وحكم بكفر وقتل من يعتقد فى حياة الخضر ، ومن مدرسة ابن تيمية من كان أقل حدة منه مثل تلميذه ابن القيم ، ومنهم من خالفه مثل تلميذه ابن كثير الذى أرّخ للخضر فى تاريخه المشهور( البداية والنهاية ) . ثم هناك أعلام سنيون معتدلون ترددوا وتناقضت اقوالهم  فى حياة الخضر مع ميلهم الى القول بحياته مثل الفقيه السنى الشافعى المؤرخ ابن حجر الذى استرجع حيرة الفقيه الحنبلى العباسى المؤرخ ابن الجوزى. ابن حجر أرخ للخضر  بين الصحابة فى تاريخه المشهور ( الاصابة ) ووضع فيه كتابا خاصا فى الخضر هو( الزهر النضر ..) المشار اليه آنفا ، وعرض له فى سطور مؤلفات أخرى له  . أما شيوخ التصوف فقد بلغ إعتقادهم فى حياة الخضر مبلغ اليقين ، واصبح إلاها فى مملكتهم الباطنية الوهمية .

3 ــ وسنعرض بشىء من التفصيل للخضر لدى الفقهاء السنيين وشيوخ التصوف ، أما فى هذه اللمحة فهى عن الخضر فى بعض المؤلفات التاريخية والأدبية فى العصر المملوكى والحياة اليومية ، وفيها تحول هجص الخضر الى شخصية تاريخية ، يتجول بين سطور التاريخ وفى مجالس السمر كما لو كان شخصا حقيقيا .

ثانيا : هجص الخضر فى المؤلفات التاريخية

1 ـ بالاضافة الى ذكر الخضر فى تاريخ البداية والنهاية لابن كثير و الاصابة لابن حجر  ، يذكر ابن حجر فى تاريخه ( الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة ) ( 2/ 483 ـ 484 ) : (  أن الأقطاب سبعة والإبدال والأيمن وهم النجباء كذلك والأديان أربعة  والغوث يجمعهم وهو يقيم بمكة . والخضر يجول ولا حكم له إلا على أربعة أشياء : إغاثة للهدف أو إرشاد ضال أو بسط سجاة شيخ أو تولية الغوث إذا مات.  والغوث تحكم على الأقطاب والأقطاب على الأبدال والأبدال على الأوتاد فإذا مات الغوث ولى الخضر من يكون قطب بمكة غوثا وجعل بدل مكة قطبا وعين مكة بدلا وبدل مكة رشيدا وهكذا أبدا فإن مات الخضر صلى الغوث فى حجر إسماعيل تحت الميزان فتسقط عليه ورقة باسمه فيصير خضرا ويصير قطب مكة غوثا. وهكذا قال الخضر فى هذا الزمان هو حسن بن يوسف الزبيدى اليمنى .). هذا القول هو إعتقاد الصوفية فى العصر المملوكى ععن ( الخضر ) كدرجة من درجات الكهنوت الصوفى الذى يتحكم فى العالم بزعمهم . ينقله المؤرخ الفقيه إمام الحديث ابن حجر العسقلانى ، دون إنكار.!!

 2 ـ لذا لا نعجب حين نجد المؤرخ القاضى ابن الصيرفى ـ تلميذ ابن حجر ـ يقول فى تاريخه (إنباء الهصر بأبناء العصر ص 485 ) أن شيخ الإسلام سراج الدين العبادى ت 877  ( كان يجتمع بالخضر . ) .وفى (ذيل بن العراقي ) ص 250 : أن قاضى القضاء السباطى 874 كان يدعى الاجتماع بالخضر . وذكر ابن العماد الحنبلى فى العصر العثمانى فى تاريخه (  شذرات الذهب 6 / 290 ) أن الشيخ سليمان بن خالد البسطانى + 786  ( كان يدعى أنه يجتمع بالخضر وله فى ذلك أخبار كثيرة يستنكر بعضها .) ونفس الحال مع الشوكانى فى تاريخه ( البدر الطالع ) (   2 / 244 .)  

3 ـ ونتوقف مع ما ذكره السيوطى ( ت 911 ) من هجص الخضر فى تاريخ ( حُسن المحاضرة ) الذى يؤرخ فيه لمصر والقاهرة على نسق المقريزى فى الخطط المقريزية. المقريزى ( ت 845 ) لم تسمح له عقليته بذكر هجص الخضر ، ولكن السيوطى فعلها . ننقل من كتاب ( حسن المحاضرة ) بعض فقراته عن هجص الخضر . يقول عمّن دخل مصر من الأنبياء والصديقين  : ( وعد الكندي وغيره فيمن دخلها من الصديقين الخضر وذا القرنين. وقد قيل بنبوتهما. والقول بنبوة الخضر حكاه أبو حيان في تفسيره عن الجمهور، وجزم به الثعلبي، وروي عن ابن عباس. وذهب إسماعيل بن أبي زياد ومحمد ابن إسحاق أنه نبي مرسل؛ ونصر هذا القول أبو الحسن بن الرماني، ثم ابن الجوزي. والقول بنبوة ذي القرنين أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص. ودخول ذي القرنين مصر، ورد حديث مرفوع سيأتي في بناء الإسكندرية.
ودخول الخضر غير بعيد؛ فإنه كان في عسكر ذي القرنين، بل أحد الأقوال في الخضر أنه ابن فرعون لصلبه، حكاه الكندي وجماعة، آخرهم الحافظ بن حجر في كتاب الإصابة في معرفة الصحابة؛ فعلى هذا يكون مولده بمصر.) ( وأخرج ابن عبد الحكم عن تبيع قال: إن في الإسكندرية مساجد خمسة مقدسة: مسجد موسى عليه الصلاة والسلام عند المنارة، ومسجد سليمان عليه الصلاة والسلام، ومسجد ذي القرنين، ومسجد الخضر؛ أحدهما عند القسارية، والآخر عند باب المدينة، ومسجد عمرو بن العاص الكبير.) . أى أقاموا للخضر مسجدا فى القاهرة.!

ثالثا : هجص الخضر فى المؤلفات الأدبية المملوكية :( المستطرف مثالا )

 كتب شهاب الدين  أبو الفتح الأبشيهى كتابه الضخم ( ﺍﻟﻤﺴﺘﻄﺮﻑ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻓﻦ ﻣﺴﺘﻈﺮﻑ ) على نسق (الأمالى ) لأبى على القالى ت 365 ، و ( العقد الفريد ) لابن عبد ربه ت 328  . ولكن شتان بين جهل الأبشيهى وعلو ثقافة القالى و ابن عبد ربه . عكس  ( المستطرف ) ضحالة الثقافة فى العصر المملوكى والتى أرهقها التصوف بخرافاته ، ومنها هجص الخضر . ولم يتخلف الأبشيهى عن الركب فروى حكايات متداولة فى هجص الخضر ، هذا الهجص الذى أصبح بالتصوف عقيدة إيمانية . فمن  بعض هجصه أن قوما كانوا فى الحج فمات صاحب لهم ، فلم يجدوا ماءا ، فأتاهم رجل  فطلبوا أن يدلهم على ماء ، ﻓﻘﺎﻝ ﺍﺣﻠﻔﻮﺍ ﻟﻲ ﺛﻼﺛﺎ ﻭﺛﻼﺛﻴﻦ يمينا أن الميت لم يكن صرافا  ﻭﻻ ﻣﻜﺎﺳﺎ ﻭﻻ ﻋﺮﻳﻔﺎ ﻭﻳﺮﻭﻯ ﻭﻻ ﻋﺮﺍﻓﺎ ﻭﻻ ﺑﺮﻳﺪﺍ ﻭﺃﻧﺎ ﺃﺩﻟﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺎء ، فحلفوا له كما اراد ، فساعدهم فى غسله وصلى عليه بعد أن حلفوا له ثلاثا وثلاثين ، ثم إلتفتوا فلم يجدوه ، فعرفوا أنه الخضر.!!  ويذكر قصة طويلة عن شيخ تنصر حبا فى بنت نصرانية وصار يرعى الخنازير لأبيها ، ثم ندم وعاد للاسلام وترك زوجته النصرانية،  فقام الخضر بمبادرة هائلة ، هى أنه جعل الزوجة تسلم وتلحق بزوجها وتتنسك وتتعبد معه ، وماتا معا ورأوهما فى الجنة ، كل ذلك بفضل الاستاذ خضر ..! . ويقول :   ( ﻟﻤﺎ ﺍﺟﺘﻤﻊ ﻣﻮﺳﻰ ﺑﺎﻟﺨﻀﺮ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﺟﺎء ﻋﺼﻔﻮﺭ ﻓﺄﺧﺬ ﺑﻤﻨﻘﺎﺭﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻗﻄﺮﺓ  ﺛﻢ ﺣﻂ ﻋﻠﻰ ﻭﺭﻙ ﺍﻟﺨﻀﺮ ﺛﻢ ﻃﺎﺭ ﻓﻨﻈﺮ ﺍﻟﺨﻀﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﻮﺳﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻭﻗﺎﻝ ﻳﺎ ﻧﺒﻲ ﺍﷲ ﺇﻥ  ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺼﻔﻮﺭ ﻳﻘﻮﻝ ﻳﺎ ﻣﻮﺳﻰ ﺃﻧﺖ ﻋﻠﻰ ﻋﻠﻢ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﷲ ﻋﻠﻤﻜﻪ ﺍﷲ ﻻ ﻳﻌﻠﻤﻪ ﺍﻟﺨﻀﺮ  ﻭﺍﻟﺨﻀﺮ ﻋﻠﻰ ﻋﻠﻢ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﷲ ﻋﻠﻤﻪ ﺇﻳﺎﻩ ﻻ ﺗﻌﻠﻤﻪ ﺃﻧﺖ ﻭﺃﻧﺎ ﻋﻠﻰ ﻋﻠﻢ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﷲ ﻋﻠﻤﻨﻴﻪ  ﺍﷲ ﻻ ﺗﻌﻠﻤﻪ ﺍﻧﺖ ﻭﻻ ﺍﻟﺨﻀﺮ ﻭﻣﺎ ﻋﻠﻤﻲ ﻭﻋﻠﻤﻚ ﻭﻋﻠﻢ ﺍﻟﺨﻀﺮ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﷲ ﺇﻻ ﻛﻬﺬﻩ ﺍﻟﻘﻄﺮﺓ  ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺒﺤﺮ ) ( الأبشيهى :  131 : 132 ، 210 ، 211 )   

  ثالتا : الخضر فى الحياة اليومية  فى العصرين المملوكى والعثمانى

1 ـ الفقيه الصوفى ابن الحاج العبدرى المغربى كتب فى الفقه الوعظى كتابه المدخل ينتقد فيه ــــ من وجهة نظر فقهية ــ أحوال المجتمع المصرى ، يقول فى الجزء الثانى ص201 ، 202 ) :  (  ومنهم من يدعى رؤية الخضر . ثم إن بعضهم يؤكد ذلك باليمن ليكون أدعى بالقبول منه ،  حتى لقد قال بعضهم  : أن الخضر يأتيه كل يوم ويقف على  بابه أو دكانه ويتحدث معه وهو يبيع ويشترى .. وذلك كله تقوّل وافتعال لا أصل له ولا فرع , مع أن هذا لا ينكر إذا وقع من أهله فى محله ). أآ إن الفقيه ابن الحاج يؤمن برؤية الخضر ، ولكن للأولياء الصوفية فقط . والمستفاد أن رؤية الخضر أصبحت هجصا دينيا سائدا يزعمه كل من هبّ ودبّ الى درجة إستوجبت إستنكار الفقيه ابن الحاج المتوفى عام 737 فذكرها فى كتابه ( المدخل ).

2 ـ ولأن هجص الخضر صار جزءا من الحياة اليومية فى العصر المملوكى وجزءا من المعتقدات الشعبية فقد سجلته كتب المزارات التى تخصصت فى ذكر معالم القرافة ومدافن القاهرة وأهم القبور المقدسة التى يحج اليها المصريون ومن يزور مصر من الرحالة والقادمين اليها ، وكانت تلك الكتب تذكر ايضا مشاهير الأولياء وما يقال عنهم من هجص الكرامات ، وبالتالى كان لهجص الخضر مكان بين سطورها يذكرون الهجص عالمين أن الناس تصدقهم مهما قالوا . من ذلك ما يذكره ابن الزيات فى كتابه ( الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة )  ص (  261، 262 ، 153 : 154. 246 ، 317 ، 233   ) عن  أولياء اجتمعوا بالخضر ، قال مثلا : ( كان ابن الكميش يجتمع بالخضر فى غالب الأوقات ، وقد سأله صاحب له أن يجمع بينه وبين الخضر وأن يظهر له الخضر حتى يراه ،  فبلغ الخضر ذلك فواعده إلى يوم الجمعة . فأستعد الرجل وأغلق بابه وتوضأ وجلس يذكر الله وينتظر قدوم الخضر وإذا برجل يدق الباب فقال للجارية أنظري من بالباب فخرجت فوجدت رجلا عليه أطمار ، فقال لها قولي لسيدك رجل يريد الاجتماع بك ،  فأخبرته ، فظنه مسكينا ، فقال لها :  قولي له يأتي بعد الصلاة . ثم أجتمع بعد ذلك بابن الكميش وقال جلست اليوم فى انتظار السيد فما اجتمعت عليه فقال يا نابل التوفيق هذا الرجل الذي خرجت له الجارية وقالت له أرجع . ثم قال له أتريد أن ترى الخضر وعلى بابك الحجاب ؟ فقال:  كل جارية لي حرة لوجه الله تعالى.  وصار إذا دق أحد الباب خرج إليه بنفسه . ). وذكر أنه بادر الخضر إلى مساعدة الحرار حين ساخت رقيته  وسقاه شرابا وقال له:  اشرب يا من يخدم أولياء الله فإن من يخدمهم لا يصبه سوء . فذهب عنه ما كان يده ، وقد دخل عليه الخضر فقال له  : يا أحمد كن منى ودانيا فقلت فمن فى الوجود ودانيا ؟ فقال اثنان واحد بوادي الحجاز والآخر بالخبان فكان ثالثهم ، ودخل عليه مرة فقال له طلعت الشمس فقلت له أي شمس قال شمس الحقيقة .).  وذكر ابن الزيات مجموعة من الأولياء كانوا يجتمعون بالخضر ويتحدثون معه ، منهم ابى السعود بن أبى العشائر ، ومنهم عبد المحسن الوردانى الذى كان بزعمهم يجتمع بالخضر ويصلى معه الخمس صلوات . وقال السخاوى الصوفى كتابه ( التبر المسبوك  233) ان الخضر قد حضر جنازة ابن حجر.

أخيرا

وظل هجص الخضر ملازما للحياة اليومية المصرية بعد العصر العثمانى ، يقول الاستاذ أحمد أمين فى ( قاموس العادات والتقاليد   ص 193 ) ( يعتقد بعضهم انه رأى الخضر يقظة وخاطبوه وخاطبهم ويزعمون أنه شرب من عين الحياة فلم يمت من عهد موسى إلى اليوم . وأن الأولياء الصالحين يرونه جهارا وغيرهم بالغيبيات وإذا ذكروه قالوا عليكم السلام إيهاما بأنه مر عليهم وسلم عليهم .).

ويحتل الخضر مكانة هامة فى روايات الأديب المصرى نجيب محفوظ  المشهور بالواقعية التى تعكس الحارة المصرية و الأجواء الشعبية ، خصوصا روايته ( حديث الصباح والمساء )

 

 

الفصل الثانى : لمحة عن إختلاف هجص الخضر فى دينى السنة والتصوف فى العصر المملوكى

أولا :

1 ـ  الدين الأرضى مملوك لأصحابه ، هم الذين يضعون عقائده الايمانية وتشريعاته التعبدية والسلوكية . ولأن مرجعيته لديهم هو الهوى الشخصى للأئمة فهم مختلفون ليس فقط بين الأديان الأرضية المختلفة ، ولكن فى داخل الدين الأرضى الواحد . وهذا ما نلاحظه فى الاختلاف بين دينى السنة والتصوف فى موضوع الخضر .  يتفقون على هجص الخضر فى تأويلهم لشخصية العبد الصالح فى قصة موسى عليهما السلام ، ولكن يوجد الاختلاف الرئيس هو فى حياة الخضر هل انتهت حياته فى عصر موسى كما يرى السنيون أم هو لا يزال حيا لا يموت كما يقول الصوفية .

2 ــ وفى داخل دين السنة المملوكى برزت خلافات حقيقية ، فابن تيمية الحنبلى أكثر حدة فى رفض حياة الخضر الأبدية وفى تقديسة ، ويسارع ـ كعادته ـ الى التكفير السلفى السنى بمعنى الاستتابة والقتل . ويأتى تلميذه ابن القيم برفض أقل حدة . بينما التلميذ المؤرخ ابن كثير يكون أكثر تساهلا فى موضوع حياة الخضر ، بحيث يقترب منه فيما بعد الفقيه السنى الشافعى المؤرخ ابن حجر .

3  ـ فى داخل الدين الصوفى نجد مستويات أخرى من الاختلافات . فالتصوف نوعان : تصوف نظرى فلسفى ، يرفع لواء العقائد الصوفية من الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ( أى إلغاء الالوهية ، والخلط بين الخالق والمخلوقات ) ، وكان الأكثر شيوعا فى بداية التصوف ، ثم بدأ ينكمش بشيوع التصوف ودخول الأكثرية الجاهلة فيه من العوام ، فلم يكن من أعلامه فى  بداية العصر المملوكى إلا ابن عربى وابن الفارض والعفيف التلمسانى وعبد الحق بن سبعين فى القرن السابع الهجرى ثم عبد الكريم الجيلى والقاشانى فى القرن الثامن ، ثم قلة قليلة فى كتابات الشعرانى و على وفا الشاذلى . بدخول العوام فى التصوف انتشرت الطرق الصوفية خصوصا بعد تسيد ( التصوف السنى ) أو ركوب دين التصوف لدين السنة . وظهرت تفرعات هائلة للطرق الصوفية ، وصارت طريقا للشهرة والتكسب والاحتراف الدينى حيث يتمتع الصوفى بكونه مقدسا وتأتيه النذور والقرابين فكانت المزايدة على  هجص الكرامات ومنها لقاء الخضر . كل هذا إنعكس على إختلافهم فى هجص الخضر . فعلى مستوى التصوف النظرى الفلسفى نجد إختلافا بين إثنين من فلاسفة التصوف النظرى دُعاة العقائد الصوفية من الاتحاد ووحدة الوجود ووحدة الوجود ، وهما القاشانى وعبد الكريم الجيلى .

4 ــ القاشانى فى كتابه ( إصطلاحات الصوفية ) والذى يقرر فيه ملامح ومصطلحات الدين الصوفى بعد ظهوره بخمسة قرون يرى ان ( الخضر ) كناية عن البسط ، وأن  النبى الياس كناية عن القبض . ويقول : ( لو ان الخضر  عليه السلام انسانا باقيا من زمن موسى عليه السلام الى هذا العهد او روحانيا يتمثل بصورته لمن يرشده فهذا غير محقق عندى . بل قد يتمثل معناه له بالصفة الغالبة عليه ، ثم يضمحل ، وهو روح ذلك الشخص، أو روح القدس ) ( اصطلاحات الصوفية ص 160 تحقيق د محمد كمال جعفر ). هنا يرفض القاشانى حياة الخضر الدائمة ، ثم يناقض نفسه فيربط ظهوره روحانيا لروح الشخص الذى يراه . أى يجعل حياته دائمة بدوام ( الروح القدس ).

5 ــ أما عبد الكريم الجيلى ( 767 ـ 805 ) فى كتابه ( الانسان الكامل فى معرفة الأواخر والأوائل ) والذى خصصه لشرح عقائد التصوف ، فقد تعرض لهجص الخضر فى قصة خيالية طويلة، يؤول فيها شخصية طبقا لعقيدة وحدة الوجود الصوفية ، فيجعل الخضر صورة الاهية تتجلى فى المخلوقات والمعانى . يقول فى بعض سطورها : ( فلما دخلت هذه الأرض العجيبة وتطيبت من أطياب عطرها الغريبة ورأيت ما فيها من العجائب والغرائب والتحف والطُّرُف ما لا يخطر بالبال ...  ) ثم يدخل مدينة وهمية أطنب فى وصفها الى أن ينتهى الى لقائه بالخضر ، وقول الخضر له عن نفسه : ( أنا الحقيقة العالية والرقيقة المتدانية ، أنا سر إنسان الوجود ، أنا عين الباطن المعبود ، أنا لُجّة الرقائق ، أنا الشيخ اللاهوتى ، أنا حافظ عالم الناسوتى ، أتصور فى كل معنى ، وأظهر فى كل مغنى ، أتخلق بكل صورة ، وأبرز آية فى كل سورة ، وأمرى هو الباطن العجيب ، وحالى هو الحال الغريب ، سكنى جل قاف ، ومحلى الأعراف ، أنا الواقف فى مجمع البحرين ، والغارق فى نهر الأين ، والشارب من عين العين ، أنا دليل الحوت فى بحر اللاهوت ، وأنا سر الغذاء والحامل للفتى ، أنا معلم موسى ، موسى الظاهر ، أنا نقطة الأول والآخر ، أنا القطب الفرد الجامع ، أنا النور اللامع ، أنا البدر الساطع ، أنا القول القاطع ، أنا حيرة الآلباب ، أنا بغية الطلاب ، لا يصل الىّ ولا يدخل علىّ إلا الانسان الكامل والروح الواصل ، وأما من عداه فمكانى فوق مأواه ، لا يعرف لى خبرا ، ولا يرى لى أثرا ، بل يتصور له الاعتقاد فى بعض صور العباد ، فيتسمى باسمى ، ويكتب على خده وسمى ، فينظر اليه الجاهل الغّرّ فيظن أنه المسمى بالخضر ، وأين هو منى ، بل أين كاسه من دنّى . اللهم إلا أن يقال إنه نقطة من بحرى أو ساعة من دهرى ، إذ حقيقته رقيقة من رقائقى ، ومنهجه طريقة من طرائقى ، فبهذا الاعتبار أنا النجم الغرار ، فقلت له : ما علامة الوصول اليك والنازل فى سوحك عليك؟  فقال : علامته فى علم القدرة منزوية ومعرفته فى علم التحقيق بالحقائق منطوية .  ) ( الانسان الكامل ج 2 : 44 : 45 ). المستفاد من هذا الهجص العجيب تأليه الخضر ، وتجليه للبعض .

6 ــ يحتلف هذا عما شاع فى أواسط العصر المملوكى من إعتبار بعضهم الخضر رتبة عليا في مملكتهم الوهمية التى تتحكم فى العالم بزعمهم : " فإذا مات القطب الغوث وَلّي الخضر من يكون (قطباً ) بمكة (غوثاً) ، وجعل (بدل ) مكة ( قطباً ) ، وهكذا أبدا ، فإن مات الخضر صلى الغوث في حجر إسماعيل .. فتسقط عليه ورقة باسمه فيصير خضراً ويصير قطب مكة غوثاً)(ابن حجر : الدرر الكامنة 2 / 483 :  484 . ) . ويختلف عنهم (علي وفا ) الذى  يؤكد أن لكل ولي (خضراً) يمثل روح ولاية ذلك الولي ، طبقا لما ذكره الشعرانى فى ترجمته فى الطبقات الكبرى ( 2 /28 ).    وهذا ال ( على وفا ) المصرى متأثرا بعقيدة ( الكا ) الفرعونية أو القرين الالهى لكل شخص . وتفصيل هذا يخرج عن موضوعنا .

 7 ـ مع هذا ، يتفق جميع الصوفية على حياة الخضر الأزلية وتقديسه وظهوره للأولياء ، وتتشابه قصصهم الخيالية التى يزعمون فيها لقاء الخضر ، وفى ذلك يتناقلون نفس الكذب عن ظهور الخضر مُنقذا مع إختلاف الأشخاص والأماكن والظروف . ومنها ما ذكره ابن عياد الشاذلى مؤلف ( المفاخر العلية ) الذى خصصه فى تقديس أعيان الطؤيقة الشاذلية . يفترى هذا الهجص  عن سيده ( الشاذلي ) ص 11 :   أنه لما دخل مدينة تونس وجد بها مجاعة ، فتمنى وجود مال ليشترى به خبزا للجياع ،  فناداه هاتف فى داخله فحرّك جيبه فإذا فيه دراهم ، فأعطاها للخباز ، فردها الخباز ، وأتهمه بالكيمياء ،( أى بتزوير صناعة الذهب )  فرهن لديه ملابسه وتوجه للباب ، فوجد رجلا سأله عن الدراهم وأخذها وهزها وأعطاها له وأمره بإعطائها للخباز ، فقبلها منه واسترد ملابسه ، وطلب الرجل فلم يجده،  وبعد ذلك وجده فى صلاة الجمعة فسلم عليه  ، وأخبره بما تمناه فى نفسه من إنقاذ الناس فسأله الشاذلي عمن يكون،  فقال " أنا أحمد الخضر كنت بالصين وقيل لي أدرك الولى عليا بتونس فأتيت مبادرا إليك . فلما صلى الجمعة نظر إليه فلم يجده .

8 ـ ومع كثرة الأولياء الصوفية وتنافسهم على المريدين ومزايدة بعضهم على بعضهم فى مزاعم الكرامات ، تنافسوا أيضا فى سبك المزيد من هجص الخضر ، ومنهم شمس الدين الحنفى،  ويذكر عنه الشعرانى (  2 /89 . ) أن الخضر كان  يحضر مجلس شمس الدين الحنفي مرارا فيجلس على يمينه فإن قام الشيخ قام معه وان دخل الخلوة شيعه إلى باب الخلوة )، أى جعل الخضر مريدا للشيخ شمس الدين الحنفى . واشتهر الشيخ النبتيتى ت 917 ، بأنه يجتمع بالخضر . يقول الشعرانى فى الطبقات الكبرى(  2 108 / 109 ):(  كان الشيخ على النبتيتى إذا جاء إلى مصر تندلق عليه الناس يتبركون به ، واشتهر بأنه يجتمع بالخضر ) أى كانت الناس ( تندلق عليه ) لأنه كان مشهورا بإجتماعه بالخضر .وقال ( كان الشيخ على النبتيتى يجتمع بالخضر ، فأسدى عن طريقه نصيحة للشيخ زكريا الأنصاري فقال له ( إذا أرسل تلميذه أو قاصده إلى أحد  من الأمراء أن يقول له عن نفسه :"  زكريا خادم الفقراء يقول لك كذا وكذا .. ) واستدل الشعرانى على صحة ولاية الشيخ النبتيتى بأنه يلقى الخضر ، فقال : ( وذلك أول دليل على ولايته فان الخضر لا يجتمع إلا بمن حقت له قدم الولاية المحمدية . وسمعته يقول : لا يجتمع الخضر عليه السلام لشخص إلا أن جمعت فيه ثلاث خصال فإن لم تجتمع فيه فلا يجتمع به قط ولو كان على عبادة الملائكة : الخصلة الأولى أن يكون العبد على سننه فى سائر أحواله والثانية ألا يكون له حرص على الدنيا والثالثة  أن يكون سليم الصدر لأهل الإسلام  لا غل ولا غش ولا حسد .) وكرر ذلك الشعرانى فى : لواقح الأنوار 211  )

أخيرا :

1 ــ هذا مع أنه لم تكن للخضر كل هذه الأهمية فى الرسالة القشيرية التى تُعتبر الكتاب المقدس للصوفية ، لم يعرض القشيرى فى رسالته للخضر إلا مرة واحدة ، يقول فيها ص 87 : ( حُكى أن بعضهم قيل له : ما أعجب ما لقيت فى سياحتك ؟ فقال: لقينى الخضر فطلب منى الصحبة فخشيت ان يفسد علىّ توكلى . ). 2 ــ حسب علمنا فإن القشيرى الذى عاش بين ( 376 : 465 ) هو أول من حكى هذا الهجص عن الخضر فى رسالته القشيرية المُتخمة بالهجص ، ولم يهتم أن يفترى لحكايته إسنادا ، أو يُسمّى ابطال القصة ، مكتفيا بقوله: ( حُكى أن بعضهم قيل له )، ومع هذا فقد أعيد إنتاج هذه ( الرواية ) بصيغ مختلفة ، ثم أضيفت لها تلال من الهجايص المختلفة ما بين السنيين والصوفيين ، وكلهم إعتبر هذا الهجص جزءا من الدين ..

3 ــ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .!!

 

 

الفصل الثالث :  هجص الخضر عند ابن تيمية  

خصّص ابن تيمية ت 728 رسالة عن الخضر ( هل مات أو هو حىّ ) بالاضافة الى تعرضه لهجص الخضر فى سطور متفرقة من رسائله الكثيرة . وننصح بالرجوع الى رسائل ابن تيمية المنشورة على الانترنت والتى نقلنا منه بعض أقواله فى هذه اللمحة عن هجص الخضر عند ابن تيمية .

ونضع هذه الملاحظات عن هجص الخضر عند ابن تيمية :

1 ـ إيمانه بأن العبد الصالح الذى إلتقى موسى عليهما السلام إسمه الخضر ، وهذا أساس الهجص . وينبع هذا من إيمان ابن تيمية بصحيح البخارى ، وإعتقاده ان كتاب البخارى وحى الاهى ، ومصدر من أهم مصادر الدين الاسلامى . وابن تيمية بهذا يكفر بقول رب العزة جل وعلا : ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) الاعراف (185)  المرسلات 50  ) وقوله جل وعلا : ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) الجاثية ).

2 ـ إتخذ ابن تيمية من رأيه دينا قاطعا وإعتبر من يخالفه كافرا ، مستحقا للقتل إن لم يتب . يقول : ( وكذلك من اعتقد أن أحدًا من أولياء الله يكون مع محمد صلى الله عليهوسلم، كما كان الخضر مع موسى ـ عليه السلام ـ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه؛لأن الخضر لم يكن من أمة موسى عليه السلام ‏)‏‏.‏وقال فى معرض الرد على تأليههم الخضر وتحرر الولى من الشريعة أسوة بالخضر: ( ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين؛ إنسهم وجنهم‏.‏فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته، فهو كافر يجب قتله‏.‏) وقال : ( من اعتقد أن في أولياء اللّه من لا يجب عليه اتباع المرسلين وطاعتهمفهو كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، مثل من يعتقد أن في أمة محمد صلى الله عليهوسلم من يستغنى عن متابعته كما استغنى الخضر عن متابعة موسى، فإن موسى لم تكن دعوتهعامة، بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مبعوث إلى كل أحد، فيجب على كل أحدمتابعة أمره، وإذا كان من اعتقد سقوط طاعته عنه كافرًا، فكيف من اعتقد أنه أفضلمنه، أو أنه يصير مثله‏!‏‏.‏) ( ومن هؤلاء من يظن أن الاستمساك بالشريعة ـ أمرًا ونهيًا ـ إنما يجبعليه ما لم يحصل له من المعرفة أو الحال، فإذا حصل له لم يجب عليه حينئذ الاستمساكبالشريعة النبوية، بل له حينئذ أن يمشي مع الحقيقة الكونية القدرية، أو يفعل بمقتضىذوقه ووجده وكشفه ورأيه من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وهؤلاء منهم من يعاقب بسلبحاله حتى يصير منقوصًا عاجزًا محرومًا، ومنهم من يعاقب بسلب الطاعة حتى يصيرفاسقًا، ومنهم من يعاقب بسلب الإيمان حتى يصير مرتدًا منافقًا، أو كافرًا ملعنًا‏.‏وهؤلاء كثيرون جدًا، وكثير من هؤلاء يحتج بقصة موسى والخضر‏.‏ ) ( ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنهم الأمر لمشاهدة الإرادة، ونحو ذلككان قوله هذا من شر أقوال الكافرين باللّه ورسوله‏.‏ ).

وفى مواجهته لأتباع ابن عربى القائلين بالحلول والاتحاد والتحرر من أداء العبادات بتأويل ما قيل عن شخصية الخضر وهجصه ، يقول ابن تيمية :( وقد كان عندنا شيخ من أجهل الناس، كان يعظمه طائفة من الأعاجم،ويقال‏:‏ إنه خاتم الأولياء، يزعم أنه يفسر العلم بوجهين، وأن النبي صلى الله عليهوسلم إنما فسره بوجه واحد، وأنه هو أكمل من النبي صلى الله عليه وسلم،  وهذا تلقاهمن صاحب الفصوص،( يقصد ابن عربى )   ، وأمثال هذا في هذه الأوقات كثيرون، وسبب ضلال المتفلسفة، وأهلالتصوف والكلام، الموافقة لضلالهم، وليس هذا موضع الإطناب في بيان ضلال هذا، وإنماالغرض التنبيه على أن صاحب الفصوص ( يقصد ابن عربى )  وأمثاله قالوا قول هؤلاء‏.‏... فأما كفر من يفضل نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكر صاحبالفصوص ـ( يقصد ابن عربى )  فظاهر، ولكن من هؤلاء من لا يرى ذلك، ولكن يرى أن له طريقًا إلى الله غيراتباع الرسول، ويسوغ لنفسه اتباع تلك الطريق وإن خالف شرع الرسول، ويحتجون بقصةموسى والخضر‏.‏ولا حجة فيها لوجهين‏:‏أحدهما‏:‏ أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضراتباع موسى، فإن موسى كان مبعوثًا إلى بني إسرائيل، ولهذا جاء في الحديث الصحيح‏:‏‏(‏أن موسى لما سلم على الخضر قال‏:‏ وإني بأرضك السلام‏؟‏ قال‏:‏ أنا موسى، قال‏:‏موسى بني إسرائيل‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ إنك على علم من علم الله علمكه الله لاأعلمه، وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه‏)‏‏.‏...الثاني‏:‏ أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة، بل الأمور التيفعلها تباح في الشريعة، إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر، ولهذا لما بينأسبابها لموسى وافقه على ذلك، ولو كان مخالفًا لشريعته لم يوافقه بحال‏.)

وعن أتخاذ الصوفية من هجص الخضر حُجة على ترك الصلاة ، يقول ابن تيمية فى كلام طويل ننقل بعضه : (‏وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏بينالعبد وبين الشرك ترك الصلاة‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏العهد الذي بيننا وبينهم / الصلاة، فمنتركها فقد كفر‏)‏‏.‏ فمن لم يعتقد وجوبها على كل عاقل بالغ غير حائض ونفساء، فهوكافر مرتد باتفاق أئمة المسلمين، وإن اعتقد أنها عمل صالح وإن اللّه يحبها ويثيبعليها، وصلى مع ذلك وقام الليل، وصام النهار، وهو مع ذلك لا يعتقد وجوبها على كلبالغ، فهو أيضًا كافر مرتد، حتى يعتقد أنها فرض واجب على كل بالغ عاقل‏.‏..الخ ) ويقول : ( والمقصود أنه ليس في قصة الخضر ما يسوغ مخالفة شريعة رسول الله صلىالله عليه وسلم لأحد من الخلق‏.‏  )

المستفاد أن ابن تيمية إتخذ من رأيه دينا قاطعا ومرجعية يجادل بها الصوفية الذين ربطوا بين هجص الخضر وعقائدهم الاتحادية الحلولية وخصوصا ما زعموه عن سقوط التكاليف التعبدية على الولى الصوفى ( الاله ) طالما يجلس بزعمهم فى ( الحضرة الالهية ) .

  3 ـ ومع هذا كان ابن تيمية متأثرا بالتصوف ورواده الأوائل وومزاعم كراماته ، وقد عرضنا لهذا فى دراسات سابقة ، ولكن نتوقف هنا سريعا مع تناقض ابن تيميه مع نفسه فى موضوع حياة الخضر ، فهو مرة يتقمص زى الفقهاء السنيين وينفى استمرار حياته ، ومرة أخرى ينحنى لدين التصوف ويثبت استمرار حياة الخضر . وفى كل الأحوال فما أسهل عليه أن يحكم بقتل من يخالفه فى الرأى ، بعد أن يتكرم عليه بالعفو عنه لو تاب ، على عادة السنيين السيئة بقولهم ( يُستتاب فإن لم يتب يُقتل ) .! .

 فى نفى حياته ، نقرأ (  وَسُئلَ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن ‏‏الخضر‏‏ وإلياس، هل هما معمران‏؟‏بينوا لنا ـ رحمكم اللّه تعالى‏.‏فأجاب‏:‏إنهما ليسا في الأحياء، ولا معمران، وقد سأل إبراهيم الحربي أحمد بنحنبل عن تعمير الخضر وإلياس، وأنهما باقيان يريان ويروى عنهما، فقال الإمام أحمد‏:‏من أحال على غائب لم ينصف منه، وما ألقى هذا إلا شيطان‏.‏وسئل البخاري عن الخضر وإلياس‏:‏ هل هما في الأحياء‏؟‏ فقال‏:‏ كيفيكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هوعلى وجه الأرض أحد‏؟‏‏)‏‏.‏

وقال أبو الفرج ابن الجوزي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍمِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 34‏]‏ وليس هما فيالأحياء‏.‏ واللّه أعلم‏.‏).

 هنا يستدل ابن تيمية على موت الخضر بحديث البخارى : (‏ ‏لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هوعلى وجه الأرض أحد‏؟‏‏)‏‏.‏

وفى إثبات حياته ، نقرا : ( سُئلَ الشَّيْخُ ـ رَحمَهُاللَّهُ‏:‏هل كان الخضر ـ عليه السلام ـ نبيًا أو وليًا ‏؟‏ وهل هو حي إلىالآن‏؟‏ وإن كان حيًا فما تقولون فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏لو كان حيًا لزارني‏)‏ هل هذا الحديث صحيح أم لا‏؟‏فأجَـاب ‏:‏ ...... ...وأما حياته‏:‏ فهو حي‏.‏ والحديث المذكور لا أصل له، ولا يعرف لهإسناد، بل المروي في مسند الشافعي وغيره‏:‏ أنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم،ومن قال‏:‏ إنه لم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد قال ما لا علم له به، فإنهمن العلم الذي لا يحاط به‏.‏ومن احتج على وفاته بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أرأيتكمليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليومأحد‏)‏ فلا حجة فيه، فإنه يمكن أن يكون الخضر إذ ذاك على وجه الأرض‏.‏ولأن الدجال ـ وكذلك الجساسة ـ الصحيح أنه كان حيا موجودا  على عهدالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو باق إلى اليوم لم يخرج، وكان في جزيرة من جزائرالبحر‏.‏فما كان من الجواب عنه كان هو الجواب عن الخضر، وهو أن يكون لفظالأرض لم يدخل في هذا الخبر، أو يكون أراد صلى الله عليه وسلم الآدميين المعروفين،وأما من خرج عن العادة فلم يدخل في العموم، كما لم تدخل الجن، وإن كان لفظًا ينتظمالجن والإنس‏.‏ وتخصيص مثل هذا من مثل هذا العموم كثير معتاد‏.‏ واللّه أعلم‏.‏).

 هنا نرى ابن تيمية ينفى حديث البخارى : ‏(‏لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هوعلى وجه الأرض أحد‏؟‏‏)‏‏.‏  وفى نفس الوقت يستدل على حياة الخضر بهجص البخارى عن علامات الساعة من ظهور الدجال والجساسة . وابن تيمية بهذا يكفر بآيات القرآن الكريم التى تؤكد أن النبى لا يعلم الغيب وليس له أن يتكلم فيه ولم يكن يعلم موعد الساعة ولا علاماتها .

  

 الفصل الرابع : هجص الخضر عند ابن القيم

أولا :

1 ـ فى كتابه ( المنار المنيف فى الصحيح والضعيف ) ينفى ابن القيم الأحاديث التى فيها حياة الخضر ، يقول بكل جُرأة عن الأحاديث الموضوعة : (   ومنها الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته كلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد  ،  كحديث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد فسمع كلاما من ورائه فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر  ، وحديث يلتقي الخضر وإلياس كل عام  ، وحديث يجتمع بعرفة جبريل وميكائيل والخضر الحديث المفترى الطويل  . سئل إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر وأنه باق فقال من أحال على غائب لم ينتصف منه وما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان   ،  وسئل البخاري عن الخضر وإلياس هل هما أحياء فقال كيف يكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يبقى على رأس مئة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد  )    

2 ـ هذا كلام جميل لولا أن ابن القيم مثل شيخه ابن تيمية حين كان ينفى حياة الخضر مُستشهدا بحديث البخارى (لا يبقى على رأس مئة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد  ). هو حديث يؤكد أن البخارى حين إفتراه كان يضع عقله فى دبره ، ليس فقط لأن النبى لم يكن يعلم الغيب ولا يعلم ما سيحدث له أو لغيره فى المستقبل ، وقد قال له ربه جل وعلا : ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) الاحقاف )، ولكن أيضا لأن هذا الحديث المضحك يقول بفناء البشر بعد مائة عام من عصر الرسول . ووجود البخارى نفسه حيا بعد قرنين وأكثر من موت النبى عليه السلام دليل على بطلان هذا الحديث ، وعلى أنه فعلا فإن البخارى حين إفترى هذا الحديث كان يضع عقله فى دبره . وجاء تلميذه ( مسلم ) فروى نفس الحديث بصورة مختلفة ، وجاء ابن تيمية وابن القيم يستشهدون بهذا الحديث ـ

3 ــ بل حتى فى عصرنا البائس لا يزال يوجد من يدافع عن هذا الحديث دفاعا عن البخارى وحربا لرب العزة جل وعلا ورسوله ، مما يؤكد أنهم جميعا قد إختاروا بمحض إرادتهم أن يضعوا عقولهم فى أدبارهم .وإذا أردت ـ عزيزى القارىء ــ أن تتسلى برؤية هذه المخلوقات التى تفكر بمؤخراتها فانظر الى الدُعاة السلفيين ودفاعهم المستميت عن البخارى . وتمسكا بالانصاف فإن هذه المصيبة ( التفكير بالمؤخرة ) تشمل أيضا دُعاة كل الأديان الأرضية من شيعة وصوفية وكاثوليك وبروتستانت و أرثو ذكس .الفارق أن دُعاة الأديان الأرضية المسيحية يحتفظون بمحاضراتهم داخل كنائسهم وقلما يذيعونها على الملأ ، أما دُعاة الأديان الأرضية من المحمديين فهم يذيعون فى القنوات الفضائية هذا ( الهُراء ) ( بالهاء ويجوز إستبدال الهاء بالخاء ) ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعا ، وأصبح هذا ( الهُراء ) ( بالهاء ويجوز إستبدال الهاء بالخاء ) فضائح يتسلى بها رواد الانترنت واليوتوب .

 الأفظع هو فيما يقترفه دُعاة السلفيين الوهابيين ممن يعبد البخارى ــ أنهم يقرنون خرافاتهم السنية بدعوتهم الى إستحلال الدماء والأعراض ، وتقوم داعش بتطبيق هذا الجهاد السنى السلفى بكل إخلاص  ،ممّا سبّب دمار سوريا وتشريد أهلها ، وبينما يهب الغرب لنجدة اللاجئين السوريين برغم تخوفه من مكائد داعش فإن دُعاة الوهابيين السنيين ـ أتباع البخارى وابن تيمية وابن القيم ــ لا يزالون يسكبون الزيت على النار .

4 ــ نعود الى ابن القيم وموقفه الرافض لحياة الخضر ، ونعيد التأكيد أنه رفض هجص حياته الأبدية ، ولكنه إستشهد بهجص البخارى فى أنه بعد مائة عام سيفنى البشر . والغريب أن ابن القيم كان يحلو له الاستشهاد بهذا الحديث  المضحك ، بحيث كرّر الاستشهاد به ، بما يؤكد أن هؤلاء الأعلام السنيين ـ كان قد أحكم الشيطان سيطرته على قلوبهم فأفقدهم التمييز ، وأزال الفوارق بينهم وبين الأنعام فكانوا أسوأ من الأنعام ، وهذا يذكرنا بقوله جل وعلا عن المشركين : (  أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) الفرقان ) وقوله جل وعلا :(  وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179)  الاعراف  ) وقوله جل وعلا ( أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) الجاثية  )

5 ــ وجود ابن القيم حيا فى القرن الثامن الهجرى دليل حسى على بطلان حديث البخارى ، ولكنه يعيد الاستشهاد بهذا الحديث فيقول نقلا عن شيخه ابن تيمية : ( وأما السنة فذكر حديث " أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مئة سنة منها لا يبقى على ظهر الأرض ممن هو اليوم عليها أحد : متفق عليه ) أى طالما هو حديث متفق عليه بين البخارى ومسلم فليضعوا عقولهم فى مؤخراتهم . ويقول ابن الجوزى : ( وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بقليل ما من نفس منفوسة يأتي عليها مئة سنة وهي يومئذ حية ) . ويُعيد ابن القيم هذا ( البُراز السُّنّى ) بزعم الاجماع فيقول : (  وأما إجماع المحققين من العلماء فقد ذكر عن البخاري وعلي بن موسى الرضا أن الخضر مات وأن البخاري سئل عن حياته فقال وكيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مئة سنة منها لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد  . )

6 ـ  ولكن يبقى أن ابن القيم كان أفضل من شيخه ابن تيمية فى موضوع حياة الخضر ، وهذا لسببين : أن ابن القيم تمسك برفض حياة الخضر بينما قال ابن تيمية بالرأى ونقيضه ، ثم إن إبن تيميه أسرف فى التكفير وقتل من يخالفه فى الرأى وهذا ما لم يفعله ابن القيم .

أخيرا :

1 ـ ما نقوله عن هجص الخضر ليس منفصلا عن الواقع ، فهجص الخضر لا يزال يعيش فى البخارى وابن تيمية وابن القيم ، ومنذ أربعين عاما وقبل أن تتسيد الوهابية كنا ندرس هذا الهجص فى الأزهر فى مقرراته وكتبه الصفراء . وكنا نخجل من إذاعتها ونشرها ونتندر عليها . ثم جاء قطار النفط  السعودى الوهابى السريع فنشر الهجص السنى واصبحت كتب التراث الصفراء أكثر بياضا وأكثر إنتشارا ، وسادت ثقافة داعش الوهابية التيمية السلفية الحنبلية السنية ، واصبح الأزهر بقيادتة الوهابية الداعشية متمسكا بمناهجه الداعشية ، وهو ــ الأزهر ــ  يقوم الآن بسجن من يناقش مؤلفاته ومناهجه .

2 ــ هنا يتحول ( الهجص ) المضحك الى ( هجص ) مؤلم مُقرف !!..

 

 

الفصل الخامس :  هجص الخضر عند ابن كثير

أولا : طُظ فيهم كلهم 

1 ـ وقف المدرس يقول : ( قال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا أيوب بن النجار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏حاجَّ موسى آدم عليهما السلام فقال له‏:‏ أنت الذي أخرجت الناس بذنبك من الجنة وأشقيتهم‏.قال آدم‏:‏ يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني، أو قدره علي قبل أن يخلقني‏.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فحجَّ آدم موسى‏)‏‏)‏‏.وقد رواه مسلم، عن عمرو الناقد، والنسائي، عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن أيوب بن النجار به‏.وقد رواه أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة‏.  رواه مسلم، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق به‏. وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو كامل، حدثنا إبراهيم، حدثنا أبو شهاب، عن حميد، بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏: ‏(‏‏(‏احتج آدم وموسى، فقال له موسى‏:‏ أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة‏.فقال له آدم‏:‏ وأنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته، وبكلامه، تلومني على أمر قدر عليَّ قبل أن أخلق‏. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فحج آدم موسى، فحج آدم موسى مرتين‏)‏‏)‏‏.وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏(‏‏(‏احتج آدم وموسى، فقال موسى‏:‏ يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، أغويت الناس، وأخرجتهم من الجنة‏.قال‏:‏ فقال آدم‏:‏ وأنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، تلومني على عمل أعمله كتبه الله علي، قبل أن يخلق السموات والأرض‏.قال‏:‏ فحج آدم موسى‏)‏‏)‏‏.وقد رواه الترمذي، والنسائي، جميعاً عن يحيى بن حبيب بن عدي، عن معمر بن سليمان، عن أبيه، عن الأعمش به‏. )

وقف الطالب المُشاغب يقول : هذا هجص ..متى تقابل آدم وموسى ؟ وبأى لغة كانا يتكلمان ؟ بالعربية أم بالانجليزية أم بالبرتغالية ؟

قال المدرس : هذا حديث عن النبى

قال الطالب المشاغب : ولكن النبى لم يكن يعلم الغيب

قال المدرس : هذا ما قاله الأئمة البخارى ومسلم وأحمد والترمذى والنسائى والأعمش

قال الطالب المشاغب : طُظ فيهم كلهم .

قال المدرس : أنا أقرأ مما كتبه الامام ابن كثير فى بداية تاريخه ( البداية والنهاية ) عن خلق آدم

قال الطالب المشاغب : طُظ فى ابن كثير . ‏

2 ـ هذه قصة خيالية بالطبع المقصود منها السخرية من أولئك الأئمة الذين أقحموا أنفسهم فى غيوب الماضى يذكرون مُنكرا من القول وزورا ، ثم ينسبونه للنبى محمد عليه السلام ـ والذى كان مأمورا فى حياته أن يعلن أنه لا يعلم الغيب ، ثم مات وبعد موته بقرنين وأكثر نسبوا له هذا ( الهُراء ) ( بالهاء المضمومة ويجوز أن تكون أيضا بالخاء المضمومة ) . وهذا الهجص الذى إفتروه على خاتم النبيين لا يفترق عن الهجص الذى إفتروه على العبد الصالح صاحب موسى عليهما السلام .

3 ـ ندخل بذلك على هجص الخضر الذى أورده ابن كثير فى تاريخه ( البداية والنهاية ) . ونلاحظ أنه أورده فى ( التاريخ ) يعنى أنه يؤمن بأن هذا الهجص الذى ينقله كان تاريخا حديث بالفعل ..ولا داعى لأن نكرر ما قلناه آنفا عن ابن القيم الذى كان رفيقا لابن كثير فى العصر وفى المذهب ..وفى الهجص..!!..

4 ـ نورد بعض ما قاله ابن كثير دون تعليق .. رفقا بالقوارير ..!! 

أخيرا : مقتطفات مما قاله ابن كثير فى هجص الخضر تحت عنوان (  ذكر قصتي الخضر وإلياس عليهما السلام )

1 ــ (  .. وقد اختلف في الخضر في اسمه ونسبه ونبوته وحياته إلى الآن - على أقوال - سأذكرها لك ههنا إن شاء الله وبحوله وقوته‏.‏ قال الحافظ ابن عساكر‏:‏ يقال‏:‏ إنه الخضر بن آدم عليه السلام لصلبه‏.‏ ثم روى من طريق الدارقطني‏:‏  .. عن ابن عباس قال‏:‏ الخضر بن آدم لصلبه، ونسيء ( أآ زيد له )  له في أجله حتى يكذب الدجال.. ،  وقال أبو حاتم  ‏:‏ سمعت مشيختنا .. قالوا‏:‏ إن أطول بني آدم عمراً الخضر، واسمه خضرون بن قابيل بن آدم‏.‏ قال‏:‏ وذكر ابن إسحاق‏:‏ أن آدم عليه السلام لما حضرته الوفاة، أخبر بنيه أن الطوفان سيقع بالناس، وأوصاهم إذا كان ذلك أن يحملوا جسده معهم في السفينة، وأن يدفنوه معهم في مكان عينه لهم‏. فلما كان الطوفان حملوه معهم، فلما هبطوا إلى الأرض أمر نوح بنيه أن يذهبوا ببدنه فيدفنوه حيث أوصى‏.‏ فقالوا‏:‏ إن الأرض ليس بها أنيس وعليها وحشة فحرضهم وحثهم على ذلك‏. وقال‏:‏ إن آدم دعا لمن يلي دفنه بطول العمر، فهابوا المسير إلى ذلك الموضع في ذلك الوقت، فلم يزل جسده عندهم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه، وأنجز الله ما وعده فهو يحيى إلى ما شاء الله له أن يحيى‏.‏ وذكر ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه‏:‏ أن اسم الخضر ‏{‏بليا‏}‏ ويقال‏:‏ إيليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، وقال إسماعيل بن أبي أويس‏:‏ اسم الخضر .. المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن لازد‏. وقال غيره‏:‏ هو‏:‏ خضرون بن عمياييل بن اليفز بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل‏.ويقال‏:‏ هو أرميا بن خلقيا.. . وقيل‏:‏ إنه كان ابن فرعون صاحب موسى ملك مصر.  وقيل‏:‏ إنه كان على مقدمة ذي القرنين‏.وقيل‏:‏ كان ابن بعض من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه‏. وقيل‏:‏ كان نبيا في زمن بشتاسب بن لهراسب‏.  ‏.وروى الحافظ بن عساكر عن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ الخضر أمه رومية وأبوه فارسي‏.‏  وقد ورد ما يدل على أنه كان من بني إسرائيل في زمان فرعون أيضاً‏.  ..‏.قال البخاري رحمه الله‏:‏ حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏‏(‏إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء‏)‏‏)‏‏. ..قال الخطابي‏:‏ إنما سمي الخضر خضرا لحسنه وإشراق وجهه‏.‏

وتقدم أن موسى ويوشع عليهما السلام لما رجعا يقصان الأثر وجداه على طنفسة خضراء على كبد البحر، وهو مسجى بثوب، قد جعل طرفاه من تحت رأسه وقدميه، فسلم عليه السلام‏.‏فكشف عن وجهه فرد وقال‏:‏ أني بأرضك السلام‏؟‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا موسى‏.‏قال‏:‏ موسى نبي بني إسرائيل‏؟‏قال‏:‏ نعم‏.‏ .. قال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو سعيد ابن أبي عمرو، حدثنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا جرير، حدثني أبو عبد الله الملطي قال‏:‏ لما أراد موسى أن يفارق الخضر‏.‏قال له موسى‏:‏ أوصني‏.‏

قال‏:‏ كن نفاعاً ولا تكن ضراراً، كن بشاشاً ولا تكن غضبان، ارجع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة‏.‏

وفي رواية من طريق أخرى زيادة‏:‏ ولا تضحك إلا من عجب‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ قال الخضر‏:‏ يا موسى إن الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها‏.‏وقال بشر بن الحارث الحافي‏:‏ قال موسى للخضر‏:‏ أوصني‏.‏ فقال‏:‏ يسر الله عليك طاعته‏.‏...وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني‏:‏  ..أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا أحدثكم عن الخضر‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏  قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بينما هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل أبصره رجل مكاتب‏.‏فقال‏:‏ تصدق عليّ بارك الله فيك‏.‏فقال الخضر‏:‏ آمنت بالله ما شاء الله من أمر يكون، ما عندي من شيء أعطيكه‏.‏فقال المسكين‏:‏ أسألك بوجه الله لما تصدقت علي، فإني نظرت إلى السماء في وجهك ورجوت البركة عندك‏.‏فقال الخضر‏:‏ آمنت بالله ما عندي من شيء أعطيكه إلا أن تأخذني فتبيعني‏.‏فقال المسكين‏:‏ وهل يستقيم هذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم الحق أقول لك، لقد سألتني بأمر عظيم، أما أني لا أخيبك بوجه ربي بعني‏.‏ قال‏:‏ فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم، فمكث عند المشتري زماناً لا يستعمله في شيء‏.‏فقال له‏:‏ إنك ابتعتني التماس خير عندي، فأوصني بعمل‏.‏ قال‏:‏ أكره أن أشق عليك إنك شيخ كبير ضعيف‏.‏قال‏:‏ ليس يشق علي‏.‏

قال‏:‏ فانقل هذه الحجارة، وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم، فخرج الرجل لبعض حاجاته ثم انصرف، وقد نقل الحجارة في ساعة‏.‏فقال‏:‏ أحسنت وأجملت وأطقت ما لم أرك تطيقه، ثم عرض للرجل سفر، فقال‏:‏ إني أحسبك أميناً فاخلفني في أهلي خلافة حسنة‏.‏قال‏:‏ فأوصني بعمل‏.‏قال‏:‏ إني أكره أن أشق عليك‏.‏قال‏:‏ ليس تشق علي‏.‏قال‏:‏ فاضرب من اللبن لبيتي، حتى أقدم عليك، فمضى الرجل لسفره فرجع، وقد شيد بناؤه فقال‏:‏ أسألك بوجه الله ما سبيلك وما أمرك‏؟‏ فقال‏:‏ سألتني بوجه الله، والسؤال بوجه الله أوقعني في العبودية، سأخبرك من أنا، أنا الخضر الذي سمعت به، سألني مسكين صدقة، فلم يكن عندي من شيء أعطيه، فسألني بوجه الله فأمكنته من رقبتي، فباعني وأخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو بقدر، وقف يوم القيامة جلده لا لحم له ولا عظم، يتقعقع‏.‏فقال الرجل‏:‏ آمنت بالله، شققت عليك يا نبي الله، ولم أعلم‏.‏فقال‏:‏ لا بأس أحسنت وأبقيت‏.‏ فقال الرجل‏:‏ بأبي وأمي يا نبي الله، احكم في أهلي ومالي بما أراك الله، أو أخيرك فأخلي سبيلك‏.‏

فقال‏:‏ أحب أن تخلي سبيلي فأعبد ربي، فخلى سبيله‏.‏فقال الخضر‏:‏ الحمد لله الذي أوقعني في العبودية، ثم نجاني منها‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى السدي‏:‏ أن الخضر وإلياس كانا أخوين‏.‏ وكان أبوهما ملكاً فقال إلياس لأبيه‏:‏ إن أخي الخضر لا رغبة له في الملك، فلو أنك زوجته لعله يجيء منه ولد يكون الملك له‏.‏

فزوجه أبوه بامرأة حسناء بكر‏.‏ فقال لها الخضر‏:‏ إنه لا حاجة لي في النساء فإن شئت أطلقت سراحك، وإن شئت أقمت معي تعبدين الله عز وجل وتكتمين علي سري‏؟‏ . فقالت‏:‏ نعم، وأقامت معه سنة، فلما مضت السنة دعاها الملك فقال‏:‏ إنك شابة وابني شاب، فأين الولد‏؟‏ فقالت‏:‏ إنما الولد من عند الله، إن شاء كان، وإن لم يشأ لم يكن‏.‏ فأمره أبوه فطلقها وزوجه بأخرى ثيبا قد ولد لها، فلما زفت إليه قال لها كما قال للتي قبلها، فأجابت إلى الإقامة عنده‏.‏فلما مضت السنة سألها الملك عن الولد فقالت‏:‏ إن ابنك لا حاجة له بالنساء، فتطلبه أبوه فهرب، فأرسل وراءه فلم يقدروا عليه‏.‏  فيقال‏:‏ إنه قتل المرأة الثانية لكونها أفشت سره، فهرب من أجل ذلك، وأطلق سراح الأخرى، فأقامت تعبد الله في بعض نواحي تلك المدينة، فمر بها رجل يوماً فسمعته يقول‏:‏ بسم الله‏.‏فقالت له‏:‏ أنى لك هذا الاسم‏؟‏ فقال‏:‏ إني من أصحاب الخضر، فتزوجته فولدت له أولاداً‏.‏ ثم صار من أمرها أن صارت ماشطة بنت فرعون، فبينما هي يوماً تمشطها، إذ وقع المشط من يدها، فقالت‏:‏ بسم الله‏.‏فقالت ابنة فرعون‏:‏ أبي‏؟‏ فقالت‏:‏ لا، ربي وربك ورب أبيك، الله‏.‏فأعلمت أباها، فأمر بنقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها فألقيت فيه، فلما عاينت ذلك تقاعست أن تقع فيها، فقال لها ابن معها صغير‏:‏ يا أمه اصبري فإنك على الحق فألقت نفسها في النار، فماتت رحمها الله‏.‏

وقد روى ابن عساكر، .. أن الخضر جاء ليلة فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ويقول‏:‏ ‏‏(‏اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني، وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه‏)‏‏)‏‏.‏فبعث إليه رسول الله أنس بن مالك فسلم عليه، فرد عليه السلام وقال‏:‏ قل له‏:‏ إن الله فضلك على الأنبياء كما فضل شهر رمضان على سائر الشهور، وفضل أمتك على الأمم كما فضل يوم الجمعة على غيره‏.‏ ) ...فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي قائلاً‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن بالويه، قال‏:‏ حدثنا محمد بن بشر بن مطر، قال‏:‏ حدثنا كامل بن طلحة، قال‏:‏ حدثنا عباد بن عبدالصمد، عن أنس بن مالك قال‏:‏ لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدق به أصحابه، فبكوا حوله، واجتمعوا فدخل رجل أشهب اللحية، جسيم صبيح، فتخطى رقابهم، فبكى، ثم التفت إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن في الله عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت، وخلفا من كل هالك، فإلى الله فأنيبوا وإليه فارغبوا، ونظر إليكم في البلاء، فانظروا فإن المصاب من لم يجبر وانصرف، فقال بعضهم لبعض‏:‏ تعرفون الرجل‏؟‏ فقال أبو بكر وعلي : نعم‏:‏ هو أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضر عليه السلام‏.‏ )

 وقال الشافعي في ‏(‏مسنده‏)‏‏:‏ أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين قال‏:‏ لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول‏:‏ إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب‏.‏ قال علي بن الحسين‏:‏ أتدرون من هذا، هذا الخضر‏.‏) .. عن محمد بن المنكدر‏:‏ أن عمر بن الخطاب بينما هو يصلي على جنازة إذ سمع هاتفاً وهو يقول‏:‏ لا تسبقنا يرحمك الله، فانتظره حتى لحق بالصف، فذكر دعاءه للميت إن تعذبه فكثيراً عصاك، وإن تغفر له ففقير إلى رحمتك‏.‏ولما دفن قال‏:‏ طوبى لك يا صاحب القبر، إن لم تكن عريفا أو جابيا أو خازنا أو كاتبا أو شرطيا‏.‏فقال عمر‏:‏ خذوا الرجل نسأله عن صلاته وكلامه عمن هو‏.‏قال‏:‏ فتوارى عنهم فنظروا فإذا أثر قدمه ذراع، فقال عمر‏:‏ هذا والله الخضر الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏  وهذا الأثر فيه مبهم وفيه انقطاع ولا يصح مثله‏.‏

وروى الحافظ بن عساكر ... عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ دخلت الطواف في بعض الليل فإذا أنا برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول‏:‏ يا من لا يمنعه سمع من سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يبرمه إلحاح الملحين، ولا مسألة السائلين ارزقني برد عفوك وحلاوة رحمتك‏.‏ قال‏:‏ فقلت‏:‏ أعد علي ما قلت‏.‏

فقال لي‏:‏ أو سمعته‏؟‏قلت‏:‏ نعم‏.‏فقال لي‏:‏ والذي نفس الخضر بيده‏.‏ قال‏:‏ وكان هو الخضر لا يقولها عبد خلف صلاة مكتوبة إلا غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر، وورق الشجر، وعدد النجوم لغفرها الله له‏.‏

وروى ابن عساكر .. قال‏:‏ إلياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس، ويحجان في كل سنة، ويشربان من ماء زمزم شربة واحدة تكفيهما إلى مثلها من قابل‏. وروى ابن عساكر أن الوليد بن عبد الملك بن مروان، باني جامع دمشق، أحب أن يتعبد ليلة في المسجد، فأمر القوم أن يخلوه له ففعلوا، فلما كان من الليل جاء من باب الساعات فدخل الجامع، فإذا رجل قائم يصلي فيما بينه وبين باب الخضراء، فقال للقوم‏:‏ ألم آمركم أن تخلوه‏؟‏ فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين، هذا الخضر يجيء كل ليلة يصلي ههنا‏.‏... وروى ابن عساكر أيضا‏:‏ أنه اجتمع بإبراهيم التيمي، وبسفيان بن عيينة، وجماعة يطول ذكرهم‏.‏...وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم، وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جداً لا يقوم بمثلها حجة في الدين، والحكايات لا يخلو أكثرها عن ضعف في الإسناد، وقصراها أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم من صحابي أو غيره، لأنه يجوز عليه الخطأ والله أعلم‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا معمر، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا سعيد قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما حديثاً طويلاً عن الدجال‏.‏ وقال فيما يحدثنا‏:‏‏(‏‏(‏يأتي الدجال - وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة - فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس، أو من خيرهم‏.‏ فيقول له‏:‏ أشهد أنك أنت الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه‏.‏فيقول الدجال‏:‏ أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر‏؟‏ فيقولون‏:‏ لا‏.‏فيقتله ثم يحييه، فيقول حين يحيى‏:‏ والله ما كنت أشد بصيرة فيك مني الآن‏.‏قال‏:‏ فيريد قتله الثانية فلا يسلط عليه‏)‏‏)‏‏.‏

قال معمر‏:‏ بلغني أنه يجعل على حلقه صحيفة من نحاس، وبلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه، وهذا الحديث مخرج في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث الزهري به‏.‏  وقال أبو اسحق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الراوي، عن مسلم‏:‏ الصحيح أن يقال‏:‏ إن هذا الرجل الخضر. .. وأما الذين ذهبوا إلى أنه قد مات، ومنهم‏:‏ البخاري، وإبراهيم الحربي، وأبو الحسين بن المنادي، والشيخ أبو الفرج بن الجوزي، وقد انتصر لذلك، وألف فيه كتاباً سماه‏:‏ ‏(‏عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر‏)‏ فيحتج لهم بأشياء كثيرة. ) ..

  2 ــ ..وتكفى هذه الجُرعة من الهجص ..

 

 

 

 

الفصل السادس : هجص الخضر فى مؤلفات ابن حجر العسقلانى  ت 852

  أولا :

1 ـ فى عصر الإزدهار العلمى نبغ المعتزلة فى الفكر الدينى ونبغ أعلام فى الطب والفلسفة والطبيعيات ، من ابن سينا والفارابى والرازى الطبيب وجابر بن حيان والبيرونى ، ومئات العلماء الحقيقيين الذين لم يكتفوا بترجمة التراث العلمى اليونانى والشرقى بل أضافوا له تنقيحا ، وكان عملهم هوالأساس الذى قامت عليه النهضة الأوربية فيما بعد . ولا يزالون حتى الآن محل تقدير عالمى خصوصا فى الغرب .

فى عصر الازدهار هذا كان لأولئك العلماء الأفذاذ مشاركة فى العلوم الفلسفية والمنطق والشريعة بالاضافة الى تخصصاتهم . وفى المقابل كان يوجد للتخلف أتباع ، أُطلق عليهم لقب ( الحشوية ) لأنهم ـ عجزا منهم عن الاجتهاد العقلى ـ كانوا ( يحشون عقولهم ) بأقاويل ينسبونها للنبى محمد عليه السلام ـ بعد موته بقرون ــ ليحصنوا أقوالهم من النقد . وبهذا السند المصنوع تحولت أقوالهم الى ( دين ) ولكنه دين أرضى يمتلىء إختلافا وخرافة وهجصا .

وأدت الظروف السياسية العباسية الى إنحياز الخلافة العباسية ــ فى عصر ضعفها ـ لأولئك ( الحشوية ) بدءا من عصر الخليفة المتوكل ، وهو بداية العصر العباسى الثانى ، فتبدل إسم ( الحشوية ) الى ( السُّنّة )، وشيئا فشيئا تحولت الحشوية الى دين رسمى للدولة العباسية خصوصا مع ظهور دول التشيع ( الفاطمية والقرامطة ). ودفع الثمن التيار المتفتح العقلى العلمى ووقع أصحابه تحت نير الاضطهاد ، فبدا بالانحسار ثم انتهى وتعرض آخر اعلامه وهو الفقيه القاضى الفيلسوف ابن رشد ت 595  للإضطهاد وحرق مؤلفاته . وبهذا تسيّد السنيون الساحة الفكرية ، وأصبح الأكثر جهلا وتزمتا وتعصبا هو الأكثر نفوذا وتسلطا . ولهذا تسلط الحنابلة على الشارع العباسى على نحو ما شرحناه فى كتاب ( الحنبلية ــ أم الوهابية ـ وتدمير العراق فى العصر العباسى الثانى ) والمنشور مقالاته هنا . وإمتد إضطهاد الحنابلة فأبادوا المعتزلة وحولوا أواخرحياة الطبرى الى جحيم .

2 ـ ولم يقتصر الدور التدميرى للسنيين على نسف وتدمير الجهد العلمى والعقلى للعلماء الأفذاذ بل تعداه الى جعل جهلهم دينا ، فوضعوا أحاديث فى الطب والفلك والعلوم تنضح بالجهل ، ووصل جهلهم الى علم التأريخ فكتبوا فى التاريخ الماضى خرافات ، كانوا يبدأون بها كتب الحوليات ، ويجعلون بعض رواياتهم أحاديث ، كما سبق .

3 ـ المشكلة أن هذا الجهل تحول فى العصر المملوكى الى دين مقدس بتقديس البخارى ، وعقد ميعاد لتلاوته وإستظهاره ليالى رمضان من كل عام  . وفى العصر المملوكى كان إعادة كتابة مؤلفات العصر العباسى ، بعد تدمير المغول لبغداد . وعكف علماء العصر المملوكى على العناية بمؤلفات الحديث وخصوصا البخارى وشرحها ، وكان أبرز من شرحه القاضى الفقيه المؤرخ ابن حجر العسقلانى بلقب ( أمير المؤمنين فى الحديث ) .

أضاع ابن حجر هذا وقته وجهده فى هجص البخارى ، مختلفا بذلك عن رفيقه المؤرخ تقى الدين المقريزى ( ت 845 ) الذى أنفق حياته فى أعمال تاريخية أفضل وأكثر إحتراما .

4 ـ ولا أدل على ولع ابن حجر العسقلانى بالهجص من إهتمامه بهجص الخضر . ويبدو هذا الولع فى الآتى :

4 / 1 : أن إبن حجر تفرّد بأن جعل الخضر ضمن الصحابة ، وترجم له فى كتابه ( الإصابة في تمييز الصحابة ). ومع انه نقل عن السابقين ترجمة وتاريخ الصحابة خصوصا ما قام به المؤرخ ابن الأثير فى كتابه ( أُسد الغابة  فى معرفة الصحابة ) وما كتبه من قبل ابن سعد ت 230 فى الطبقات الكبرى ، إلا أنهما ( ابن الأثير وابن سعد ) وغيرهما لم يرتكبا هذه الجريمة الدينية والفكرية التى ارتكبها ابن حجر فى جعل الخضر ضمن الصحابة . ابن الأثير إكتفى فقط بذكر الخضر فى بداية تاريخه ( الكامل ) متابعا للطبرى . أما ابن سعد فلم يكن عصره يعرف ــاصلا ـ هجص الخضر . جاء ابن حجر بعد ابن سعد بأكثر من ستة قرون ليجعل الخضر ضمن الصحابة .

4 / 2 ـ  وقد ذكر ابن حجر لمحة عن اسطورة الخضر وكونه درجة عليا فى مملكة الصوفية الوهمية من القطب وقطب الأقطاب . ذكر هذا فى كتابه ( الدررالكامنة فى أعيان المائة الثامنة ) دون أن ينقده . وقد عرضنا لهذا من قبل .

4 / 3 : ثم أفرد ابن حجر كتابا كاملا ذكر فيه كل ما يعرفه عن الخضر ، وهو كتاب:( الزَّهْرُ النَّضِرُ فِيْ أَخْبَارِ الْخَضِرِ) . لم يأت ابن حجر بجديد فى الهجص ، تابع من سبقه نقلا عنهم ، وحتى تناقض مع نفسه ، فبينما يذكر أن الخضر هو رأس المملكة الصوفية الباطنية (أى  هو إله حى متحكم فى العالم  ) يقول فى كتابه ( الزَّهْرُ النَّضِرُ فِيْ أَخْبَارِ الْخَضِرِ):( والذي تميل إليه النفس من حيث الأدلة القوية خلاف ما يعتقده العوام من استمرار حياته. ) أى ينكر استمرار حياته ..

ثانيا :

عرض سريع للعناوين التى قالها ابن حجر فى هجص الخضر  فى ( الاصابة ..):

أفرد ابن حجر لهجص الخضر عددا من الصفخات فى كتابه (الاصابة فى تمييز الصحابة   ) بما يزيد عن 12 الف كلمة . تحت العناوين التالية : (‏[‏2272‏]‏ الخضر صاحب موسى عليه السلام : ) ( باب نسبه ) ( باب ما ورد في كونه نبيًا ) ( باب ما ورد في تعميره والسبب في ذلك ) ( ذكر من ذهب إلى أن الخضر مات ) ( ذكر الأخبار التي وردت أن الخضر كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعده إلى الآن ) ( باب ما جاء في بقاء الخضر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ومن نقل عنه أنه رآه وكلمه )

ثالثا :

عرض سريع للعناوين التى قالها ابن حجر فى هجص الخضر  فى ( الزَّهْرُ النَّضِرُ فِيْ أَخْبَارِ الْخَضِرِ)

ـ يبدو أن كل هذا الكمّ من الهجص الذى أورده ابن حجر عن الخضر لم يكف ، فكرر نفس   الهجص فى كتابه (الزهر النضر في أخبار الخضر) فى 12686 كلمة . كرر فيها ـ تقريبا ـ  نفس ما ذكره فى كتاب ( الاصابة ). وهو ــ تقريبا ـ ما قاله السابقون من البخارى وابن تيمية وابن القيم وابن كثير . أى لم يأت بجديد .!

رابعا :

 أضاع ابن حجر حياته ينقل هجص السابقين سواء فى شرح البخارى أو فى هجص الخضر . كان يمكن أن يجتهد لعصره فيما يفيد وينفع ، وقد فعل ذلك المقريزى فى رسائله الصغيرة والكثيرة ، وفى موسوعاته التاريخية المتعددة من ( المقفى ) الى ( السلوك ) والتى لم يتحرج فيها عن الهجوم على المماليك وظلمهم . ولكن ابن حجر آثر مهادنة الظلم ومعايشته. وبينما إنتقد المقريزى الصوفية فى كتابه ( الخطط ) وانتقد عقائدهم فى رسالته ( تجريد التوحيد المفيد ) فإن ( الفقيه قاضى القضاة الشافعى ابن حجر )آثر مهادنة الصوفية أصحاب النفوذ . وأمضى حياته يجتر هجص البخارى ويشرحه ويجتر هجص الخضر ويكرره .

خامسا :

1 ـ وحتى لا ينتهى هذا المقال بدون إستشهاد ، ننقل بعض هجص ابن حجر فى كتابه ( الزهر النضر فى أخبار الخضر ) .

2 ــ يقول فى مقدمته : ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ .          الحمد لله المنفرد بالبقاء والدوام وعلى من خصه بمزيد التفضيل والسيادة مزيد الصلاة والسلام وأنزل عليه في الكتاب المكنون:{  وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون}وعلى آله وصحبه الذين كانوا يأمرون بالخير ويأتمرون صلاة وسلاما دائمين إلى يوم يبعثون .

أما  بعد! . فقد تكرر السوال - قديما وحديثا- عن الخضر -صاحب موسى- هل هو نبي أو ولي

 وهل عمر إلى أن أدرك بعثة النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاش بعده أو مات قبل ذلك

أو هو حي باق وعن كثير من أخباره . وكنت جمعت في ذلك مما صنف فيه بخصوصه من القدماء أبو الحسين بن المنادي ، ومن المتأخرين أبو الفرج بن الجوزي ، وأضفت إليهما أشياء ظفرت بها بطول التتبع . ثم لما التزمت في كتابي "الإصابة في تمييز الصحابة" أن أذكر كل ما جاء في خبر من الأخبار أنه لقي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزم ذكرى للخضر - عليه السلام- لأنه من شرط الإصابة وإن لم يرد في خبر ثابت أنه من جملة الصحابة ، وقد أفردته الآن ليقف كل سائل عنه على كل ما كنت قرأته وسمعته وجعلته أبوابا ، والله أسأل النفع به إنه قريب مجيب. باب نسبه :   قيل هو ابن آدم من صلبه وهذا قول رواه الدار قطني في الافراد من طريق رواد بن الجراح عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس -رضي الله عنهما-

ورواد ضعيف ومقاتل مترك ، والضحاك لم يسمع من ابن عباس -رضي الله عنهما- ، القول الثاني  إنه ابن قابيل بن آدم ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين قال حدثنا مشيختنا منهم أبو عبيدة فذكره وهذا معضل وحكى صاحب هذه المقالة أن اسمه خضرون وهو الخضر

 القول الثالث  جاء عن وهب بن منبه أنه بليا بن ملكان بن فالغ ، بن شالخ بن عامر بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، وبهذا قال ابن قتيبة وحكاه النووي وزاد وقيل كلمان بدل ملكان . القول الرابع  جاء عن اسماعيل بن أبي أويس إنه المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد ، وقيل اسمه عامر حكاه أبو الخطاب بن دحية عن ابن حبيب البغدادي،  القول الخامس   هو ابن عمائيل بن النور بن العيص بن إسحاق حكاه ابن قتيبة أيضا وكذا سمى أباه عمائيل مقاتل , القول السادس  أنه من سبط هارون أخي موسى روى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو بعيد .. وأعجب منه قول ابن إسحاق أنه أرميا بن خلقيا وقد رد ذلك أبو جعفر بن جرير . القول السابع  إنه ابن بنت فرعون حكاه محمد بن أيوب عن ابن لهيعة وقيل ابن فرعون لصلبه حكاه النقاش . القول الثامن  إنه اليسع حكى عن مقاتل أيضا وهو بعيد أيضا . القول التاسع  أنه من ولد فارس جاء ذلك عن ابن شوذب أخرجه الطبري بسند جيد من رواية ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب . القول العاشر  إنه من ولد بعض من كان آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل حكاه ابن جرير في تأريخه وقيل كان أبوه فارسيا وأمه رومية . وثبت في الصحيحين أن سبب تسميته الخضر أنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء

هذا لفظ أحمد من رواية ابن المبارك عن معمر عن همام عن أبي هريرة - رضي الله - عنه و الفروة الأرض اليابسة ...الخ ).

أخيرا :

1 ـ إستمر العصر المملوكى من القرن 13 الى القرن 16  يجتر هجص السنة والتصوف ، وبعد بداية العصر المملوكى بقرن تقريبا بدأت أوربا نهضتها بترجمة الحركة العلمية التى قام بها أفذاذ العلماء فى العصر العباسى المُشار اليهم . وبينما بدأت أوربا بالنهوض كان المسلمون يدخلون فى التخلف السنى يحسبونه دينا . وبينما كان علماء أوربا ينشطون فى ترجمة كتب ابن سينا والفارابى وابن الهيثم والبيرونى وابن رشد ..الخ كان ابن حجر وغيره منشغلا بتكرار ماقاله البخارى وما إفتراه عن ابن عباس والسدى ووهب بن منبه وقتادة ومسرور ..

2 ـ وقد يكون هذا عارا فى العصر المملوكى .. فماذا عن اليوم ، وقد عاد تقديس هجص البخارى أشدّ ما يكون ، وبه أصبح الاسلام متهما بالتخلف والتزمت والتعصب والارهاب ؟

3 ــ أليس منكم رجل رشيد ؟ 

 

 

 

 

الباب الرابع : هجص الخضر فى العصر العثمانى

 الفصل الأول : هجص الخضر فى هجص الشعرانى  (898 – 973 ) 

الفصل الثانى :  هجص الخضر فى كتاب (الميزان الخضرية ) للشعرانى

  

الفصل الأول : هجص الخضر فى هجص الشعرانى  (898 – 973 ) 

أولا :

1 ــ الامام الشعرانى ـ فى نظرى ـ أكبر هجّاص ـ بين أئمة الأديان الأرضية المحمديين من سنيين وشيعة وصوفية . تسيد بمؤلفاته الكثيرة العصر العثمانى ، وجمع بين إمامة السنيين والصوفية فى دين التصوف السنى ، وكالعادة إستخدم إمامته فى إخضاع الدين السنى لدين التصوف . وقد ركب الإثنين معا ـ ليس فقط لعلمه بالسنة والتصوف وسيطرة الجهل على عصره وخضوعه لخرافات وهجص الكرامات الصوفية ، بل لسبب أهم ، وهو أنه كان ــ فى نظرى أيضا ـــ اكبر كذاب فى تاريخ المحمديين الفكرى ، كان إعجوبة فى الكذب . هذه محصلة معايشة لكل مؤلفاته استمرت سنتين من رحيق الشباب . دعنا نقل  إنه  كان لا يكذب إلا فى ثلاث حالات فقط : عندما يتكلم وعندما يكتب وعندما يصمت .!! فى هذه الحالة من الهجص لا بد أن ينال ( هجص الخضر ) عناية خاصة . وهذا ما نُلمح اليه هنا .

2 ـ على أن الشعرانى ــ هذا الكذاب الأثيم ــ  كان صادقا رغم أنفه . كان صادقا فى التعبير عن عصره . فلولا أن عصره كان يصدق كل هذا الهجص ما تجرأ وقال هذا الهجص .!  بل إن شهرته وتقديس الناس له كان بسبب تفرده بهذا النبوغ فى الكذب ، إذ صدقوه فى كل ما هجص قاله عن نفسه وعن الآخرين ، بدءا فى تأريخه لرواد التصوف  فى " الطبقات الكبرى " الى ( الخضر ) وشيوخه الصوفية فى اواخر العصر المملوكى . العجيب أنه  لم يكتف بالكتابة فى هجص مناقبهم وفضائلهم المزعومة بل كتب فى مناقب نفسه ومدح نفسه وهجص كراماته فى مجلد ضخم منشور بعنوان ( لطائف المنن ) . ثم لا يزال ـ حسب علمى ـ من المخطوطات ـ كتاب ( لطائف المنن الصغرى ) و ( لطائف المنن الوسطى ) فى هجص مناقبه أيضا .

3 ـ والشعرانى فى كتابته عن ( هجص الخضر ) قد تابع من سبقه من الصوفية وخالف من سبقه من السنيين . السنيون فى كتابتهم عن هجص الخضر مالوا الى موته وعدم خلوده حيا ، لذا تندرج كتابتهم عنه فى الإطار التاريخى ، أى كتبوا عنه كشخصية تاريخية . أما الصوفية الذين يعتقدون حياته الأزلية ويزعمون لقاءه والحديث معه فقد كانوا يتخذون من شخصيته المصنوعة بوقا يقيمون من خلاله حفلات تكريم لأنفسهم بأن يسندوا للخضر عبارات  المدح لأنفسهم ولأشياخهم ، ثم ينسبون له أقوالا فى المواعظ الصوفية . وقد تعرضنا لطرف من ذلك فيما سبق . وكان أبو حامد الغزالى من رواد هذا الإفك ، ثم بعده بأكثر من خمسة قرون نسج الشعرانى على منواله.

4 ـ وكثيرة هى المواضيع التى أورد فيها الشعرانى الحديث عن خضر ، ولكنه أفرد كتابا خاصا زعم فيه أنه إلتقى الخضر ، ونقل عنه أن الخضر قال له  كذا وكذا . إنه كتاب ( الميزان الخضرية ) وقد كان مخطوطا بدار الكتب المصرية ، وقد عثرت عليه عام 1975 حين كنت أجمع المادة العلمية لرسالة الدكتوراة عن اثر التصوف فى مصر المملوكية . وقد نقلته وقتئذ . ولا أعرف هل تم تحقيقه ونشره فيما بعد ـ أم لا . وسنتوقف مع الميزان الخضرية فى المقال القادم . ونخصص هذا المقال لأمثلة لهجص الشعرانى فى كتابه ( الطبقات الكبرى ) :

ثانيا : فى الطبقات  الكبرى للشعرانى :

1 ـ للشعرانى ( الطبقات الكبرى ) وفيه يترجم لشيوخ الصوفية من الرواد الأوائل الى عصره ، ثم أتبعه بالطبقات الصغرى الذى ترجم فيه للمتأخرين من شيوخ العصر المملوكى وأوائل العصر العثمانى  ، وهما منشوران .

فى ( الطبقات الكبرى ) جعل الشعرانى مشاهير الأعلام السابقين ضمن الصوفية ، ولم يسند لهم الكثير من الكرامات بينما أسرف فى تمجيد وتقديس شيوخ الصوفية الذين أدركهم ، ومنحهم الكثير من الكرامات ، وكان ينقل أحيانا عن الرسالة القشيرية وطبقات الصوفية لعبد الرحمن السلمى ، ثم يزيد من عنده هجصا شعرانيا يخترعه إختراعا . وكم تمنينا لو أن لدينا وقتا لتحليل الهجص فى هذا الكتاب ( الطبقات الكبرى للشعرانى ) . وننقل من هذا الكتاب بعض المواضع الى ذكر فيها الخضر ولقائه المزعوم بالأولياء الصوفية (أولياء الشيطان ) .

2 ـ  يزعم الشعرانى أن ( الفضيلبنعياض) قال  (دخلتدارييوماًفإذارجلجالسفيالدارفقلتله:كيفدخلتداريبغيرإذني؟  فقال: أناأخوكالخضر.  فقلت:  ادعاللهتعالىلي. فقالعليهالسلام:هوّنالله عليكطاعته.  فقلتزدني،فقال:  وسترهاعليك،) (  وكانرضياللهعنهيقول: دخلتداريمرةفرأيترجلاطويلاقائماًيصلي ، فراعنيذلكلأنالمفتاحكانمعي.  فسلممنصلاته،  ثمقاللي:  لاتفرغأناأخوكالخضر.  فقلتله: علمني شيئاًينفعنياللهبه.  فقال:  قلأستغفراللهعزوجلوأسألهالتوبةمنكلذنبتبتمنهثمرجعتإليه..)

 ويزعم أن إبراهيمبنأدهم قال (  اجتمعتبالخضرعليهالسلامفقدمليقدحاً أخضرفيهرائحةالسكباجفقاللي:  كلياإبراهيم .فرددتهعليه.فقال: إنيسمعتالملائكةتقولمنأعطى فلميأخذ،سألفلايعطي . )

ويزعم أن سهل بن عبد الله  قال :  ( يقول: اجتمعتبشخصمنأصحابالمسيحعليهالصلاةوالسلامفيديارقومعاد،  فسلمتعليه،  فرد عليالسلام،فرأيتعليهجبةصوففيهاطراوة،فقاللي: إنها عليّمنأيامالمسيح.  فتعجبتمنذلك ، فقال :  ياسهلإنالأبدانلاتخلقالثيابإنمايخلقهارائحةالذنوب،ومطاعمالسحت. فقلتله:  فكملهذه الجبةعليك؟ فقال :  لهاعلىسبعمائةسنة.  فقلتله: هلاجتمعتبنبينامحمدصلىاللهعليهوسلمفقال: نعم وآمنتبهحينآمنبهالجنالذينأوحىإليهفيحقهم"قلأوحيإلىأنهاستمعنفرمنالجن" . قلت:ومن هناكانالخضرعليهالسلاملاتبلىلهثيابلأنهلايعصياللهتعالىولايأكلحراماًوكمالايبلىلآكل الحلالثيابفكذلكلايبلىلهجسمبعدموته،  كماوقعلبعضالأولياءوجدناهطرياًكماوضعناهبعد سنين. ) .

وفى ترجمة : (  أبوالحسينأحمدبنأبيالحواري )  ( يقول:  علمنيالخضرعليهالسلامرقيةللوجعفقال: إذاأصابكوجعفضع يدكعلىالموضعوقل: "وبالحقأنزلناهوبالحقنزل"،"الإسراء: 105 " فلمأزلأقولهاعلىالوجع فيذهبلساعته. )

 ويقول فى ترجمة :(  أبوإسحاقإبراهيمبنإسماعيلالخواص)  ( كان يقول: لقيتالخضرعليهالسلامفيباديةفسألنيالصحبةفخشيتأنيفسدعليتوكليبالسكونإليه ففارقته. ) (  وكانيقول: عطشتفيباديةفيطريقالحجاز،فإذابراكبحسنالوجهعلىدابةشهباءفسقانيالماءوأردفنيخلفه،ثمقال: انظرإلىنخيلالمدينة،فانزلواقرأعلىصاحبهامنيالسلاموقلأخوكالخضريقرأعليكالسلام.)

وفى ترجمة عبد القادر الجيلانى ، يقول الشعرانى : ( ومنهمأبوصالحسيديعبدالقادرالجيليرضياللهتعالىعنه .. وكانالشيخعبدالقادررضياللهعنهيقول : أقمتفيصحراءالعراق،وخرائبه خمساًوعشرينسنةمجرداًسائحاًلاأعرفالخلقولايعرفوني، يأتينيطوائفمنرجالالغيب والجان أعلمهمالطريقإلىاللهعزوجل.ورافقنيالخضرعليهالسلامفيأولىدخوليالعراق،وماكنتعرفته،وشرطأنلاأخالفهوقاللياقعد هنافجلستفيالموضعالذيأقعدنيفيهثلاثسنينيأتينيكلسنةمرةويقوللي:  مكانكحتىآتيك )

 ويقول الشعرانى : ( ومنهمالشيخعليبنوهبالسنجاريرضياللهتعالىعنه . وكانرضياللهعنهيقول: حفظتالقرآنالعظيموأناابنسبعسنينثماشتغلتبالعلم،وكنتأتعبدفي مسجدبظاهرالبريةفبينماأنانائمليلةرأيتأبابكرالصديقرضياللهعنهفقال: ياعليأُمرتأن ألبسكهذاالطاقية،وأخرجمنكمهطاقيةووضعهاعلىرأسي. ثمجاءنيالخضرعليهالسلامبعدأيام وقاللي :ياعلياخرجإلىالناسينتفعوابك.فتثبتفيأمري.  ثمرأيتأبابكرالصديقرضياللهعنهفي النومفقاللي:كمقالةالخضرعليهالسلام، فاستيقظت،وتثبتفيأمري.  ثمرأيترسولاللهصلىاللهعليه وسلمفيالليلةالثالثةفقالليكمقالةالصديقرضياللهعنهفاستيقظت،وعزمتعلىالخروج،ونمتفي آخرالليلمنليلتيتلكفرأيتالحقجل،وعلافقاللي: ياعبديقدجعلتكمنصفوتيفيأرضي، وأيدتكفيجميعأحوالكبروحمني،وأقمتكرحمةلخلقيفاخرجإليهم،واحكمفيهمبماعلمتكمن حكمي،وأظهرلهمبماأيدتكبهمنآياتيفاستيقظت،وخرجتإلىالناسفهرعواإليمنكلجانب .).الهجص هنا يهبط الى أحط درجات الكفر.

 ويقول الشعرانى : ( أبوسعيدالقلوريرضياللهعنه .. هومنأكابرالعارفين،والأئمةالمحققينصاحبالأنفاسالصادقة،والأفعالالخارقة،والكرامات والمعارف،وكانيفتيببلده،وماحولها،وكانيتكلمبقلوريةعلىعلومالشرائع،والحقائقعلىكرسي عال،وقصدبالزياراتمنسائرأقطارالأرض.  ..وكانالخضرعليهالسلاميأتيهكثيراً....  ودُعيمرةإلىطعام هو،وأصحابهفمنعهممنأكلذلكالطعام،وأكلهوحدهفلماخرجواقاللهم: إنمامنعتكممنأكله لأنهكانحراماًثمتنفسفخرجمنأنفهدخانأسودعظيمكالعمود،وتصاعدفيالجوحتىغابعن أبصارالناسثمخرجمنفمهعمودنار،وصعدإلىالجوحتىغابعنالنظرثمقالهذاالذيرأيتموه هوالطعامالذيأكلتهعنكم،رضياللهعنه.). هنا هجص مضحك .

وننتقل بعده الى هجص مُقرف.

يقول الشعرانى :( ومنهمأبوالشيخعبداللهالقرشيرضياللهعنهورحمه ... وكانرضياللهعنهكثيراً مايجتمعبالخضرعليهالسلام،وكانيطبخطعامالقمحكثيراًفقيللهفيذلكفقالرضياللهعنه: إن الخضرعليهالسلامزارنيليلةفقال: اطبخليشوربةقمحفلمأزلأحبهالمحبةالخضرعليهالسلاملها ..وكانرضياللهعنهيشترطعلىأصحابهأنلايطبخوافيبيوتهم  إلالوناًواحداًحتىلايتميزعلىأحد . فاتفقأنأحدأصحابهقاللزوجته:  ماتشتهيحتىنشتريهتطبخيه؟ فقالت: شاوربنتك.  فقاللابنته: أي شيءتشتهين؟  قالت:ماتقدرعلىشهوتي.!  فقال: بلأقدرعليهاولوتكونبألفدينار،فقال:لابد تخبريني .فقالت:  تزوجنيللقرشي. !  وكانالشيخرضياللهتعالىعنهأعمىأجذملاترضىبمثلهالنساء . قال: فجئتإلىالقرشيوأخبرته.  فقال: اطلبواالقاضيفجاءالقاضي،وعقدواعليها،وأصلحواشأ نها ، وأحضروهاعندالشيخ.  فلماخرجتالنسوةدخلالشيخإلىالمرحاض،وخرجوهوشابجميلالصورة أمردبثيابحسنةوروائحطيبةفسترتوجههامنهحياءفقال: لاتستريأناالقرشي.!  فقالت: ماأنت القرشي.  فحلفلهاباللهتعالىفقالتله: ماهذاالحال؟  فقاللها: أبقىمعكعلىهذاالحال،ومعغيرك علىتلكالحالة،ولكنلاتخبريبذلكأحداًحتىأموت. فقالت: نعم. ثمقالت :بلأختارحالتكالتي تكون فيهابينالناسمنالجذام،والبرص،والعمى.فقاللها: جزاكاللهخيراً. فلمتزلمعهعلىتلكالحالة،  وكانيضعشيئاًتحتثيابه،وأقدامهينزلفيهالصديد،  فكانترضياللهعنهاإذاخرجتمنالحمام جاءتفشربتذلكالصديدعوضاًعنالماء.  فلماقبضالشيخرضياللهعنهحكتللناسأحواله ، وكانتحرمتهابينالفقراءكحرمةالشيخفيحالحياته. ) .

 

الفصل الثانى :  هجص الخضر فى كتاب (الميزان الخضرية ) للشعرانى   (898 – 973 )    

 

مقدمة:

 كتاب : ( الميزان الخضرية )  ينقسم الى محورين : كلام عن الخضر وحياته ، والثانى : الآراء التى زعم الشعرانى أن الخضر علّمها للشعرانى . ونعطى لمحة عنهما ، ونترك للقارىء الحكم على هجص الخضر فى هذا الكتاب ( الميزان الخضرية ) للشعرانى .

 

أولا :

العلم اللدنى ( الفقهى ) الذى عم الشعرانى أنه تلقاه عن الخضر  فى المنام :

1 ـ يقول الشعرانى أنه كتب ( الميزان الخضرية ) من تعليم الخضر له فى المنام ( ص 17 )

2 ـ ويقول الشعراني :  ص 7  ،  أنه توجه إلى الله ( جل وعلا ) سائلا أن يجمعه على أحد عنده علم بالميزان  الذي يجمع من الأقوال والمذاهب المتعارضة فى الفقه ، يقول : ( فمنّ الله تعالى  ، وتفضل وأجاب سؤالي ، وجمعني على سيدنا ومولانا أبى العباس الخضر عليه الصلاة والسلام ، وذلك فى سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة ،  بسطح جامع الغمرى ، حين كنت ساكنا فيه ، فشكوت إليه حالي،  فقلت له  :" أريد تعلمني يا نبي الله ميزانا أجمع بها بين مذاهب المجتهدين ومقلديهم واردها كلها إلى الشريعة."  فقال عليه الصلاة والسلام  : "" ..افتح عين قلبك . "  فقلت له : " نعم " . فقال : " أعلم يا ولدى أن الشريعة المطهرة  قد جاءت من حيث الأمر والنهى على مرتبتين : تخفيف وتشديد لا على مرتبة واحدة ومثلها. "  3 ــ  وفى ص 9 : 10 : يزعم الشعرانى أن الخضر نصحه بان يسلك طريق الرياضة على يد شيخ متضلع فى علوم الشريعة والحقيقة حتى يوقفه على عين الشريعة ( فقلت له : لا أجد أحدا أعلم منكم .! فقال عليه الصلاة  والسلام : " هات يدك وغمض عينيك " فسار بى فى الغيب حتى أوقفني على عين الشريعة المطهرة ..فلما أخبرته  بذلك سُرّ عليه الصلاة والسلام فقال : عرفت فألزم.  !)

4  ـ أى أن الشعرانى ــ بعد أن اصبح الامام الأكبر للصوفية والسنيين فى العصر العثمانى ــ يؤرخ كاذبا لنفسه ، وبأثر رجعى ، يزعم أنه تلقى العلم اللدنى من الخضر ، وحدّد الزمان والمكان ، ووقتها ـ فيما يزعم ـ كان فى الثالثة والثلاثين من العمر ، يسكن مريدا فى جامع شيخه الغمرى ، لم يحصل على شهرته اللاحقة بعد ، ولم يؤسس مسجده ( مسجد الشعرانى ) الذى أصبح علما على المنطقة فى القاهرة ، وسُمى الحى على إسمه ( باب الشعرية ) . الشعرانى يزعم أنه تعلم من الخضر ليس علم الصوفية ولكن ( ميزان ) الشريعة السنية . وإتخذ الشعرانى من هذا الكذب طريقا يتفوق به على أقرانه وشيوخه فى أوائل العصر العثمانى   . وتحقق له ما يريد ، إذ ظل بهذا الافتراء الذى حشا به مؤلفاته الكثيرة صاحب التأثير الأكبر على العصر العثمانى . ثم كان أن فضحناه فى أواخر القرن الماضى فسقطت مكانته الفكرية وأصبح مثارا للسخرية . واذكر أن مكتبة ( صبيح ) بجوار الجامع الأزهر ـ والتى كانت تتخصص فى نشر كتب الشعرانى ـ أصبحت لا تبيع كتبه إلا لم تثق فيهم من الصوفية ، تحرجا من موجة الاستهزاء التى نشرتها عن أقواله ومؤلفاته فى الفترة ( 1977 : 1984 ).

5 ـ عن الانفراد بالتفوق على الفقهاء ، وفى ص  17   يقول الشعرانى عن كتابه ( الميزان ) : ( فأنى قد انفردت بها من بين أقراني فى مصر وقراها ، فلا اعلم لي مشاركا فيها . وتقدم عن الخضر عليه الصلاة والسلام أنه قال  : لم يسبق منى تعليمها لأحد قبلك .) . وأكد هذا فى ص 50 ، أنه أطلع شيخه عليا الخواص على كتاب الميزان فقال له الخواص : ( يا ولدى هذه خصيصة خصك بها الخضر .)

6 ـ الشعرانى الأفّاق الأفّاك قال كلاما من عنده وزعم انه تعليم الخضر له . مع ان ما قاله سبق أن كرره فى مؤلفات له فقهية . وليس فيه جديد ، هو نوع آخر معتاد من الهجص الفقهى ، يخرج عن موضوعنا .

ثانيا :

 هجص الشعرانى عن الخضر حيا  فى ( الميزان الخضرية ):

  كرر فى ( الميزان الخضرية ) نفس الهجص وننقل منها فقرات من ( ص 13 : 18 ).   : 

1 ـ عن حياة الخضر ومن التقى به من شيوخ الصوفية يقول تحت عنوان :( نبذة من أحوال سيدنا ومولانا أبى العباس الخضر عليه الصلاة والسلام : أذكر فيها عدة جماعة من الأولياء الذين اجتمعوا به إلى عصرنا هنا ، وأبين منها نبذة من صفاته وملبسه وأكله ، وأنه لا يأتي لأحد فى المنام أو يقظة إلا معلما له لا متعلما ، لأنه غنى عن علم العلماء مما أعطاه الله تعالى من لدنه ) . ( فأقول وبالله التوفيق : قد أجمع أهل الكشف قاطبة على حياة الخضر عليه السلام إلى وقت اجتماعنا به. ومن أخبر أنه أجتمع به وصافحه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقال قلت له: يا نبي الله  أوصنى فقال : يا عمر إياك أن تكون وليا لله تعالى فى العلانية وعدوا له فى السر انتهى . ومنهم ذو النون  المصري اجتمع به مرات وعلمه اسم الله الأعظم . ومنهم ابوعبدالله البسرى كان يذكر أن الخضر بأنه فى داره . ومنهم الشيخ عبدا لرازق اجتمع بالخضر مرات لما كان الخضر يحضر مجلس وعظه وعلمه الخضر : " أن كل من واظب على قراءة آية الكرسي وآخر سورة البقرة وشهد الله أنه لا إله إلا هو وقل اللهم مالك الملك الآيتين عقيب كل صلاة صبح  حفظ الله عليه الإيمان حتى يلقى ربه عز وجل" . حكاه الشيخ عبدا لغفار القوصى  رحمه الله تعالى. ومنهم إبراهيم الخواص وأبو يزيد البسطامى وإبراهيم بن أدهم . وكذلك كان ممن كان يجتمع به كثيرا الشيخ محيي الدين بن العربى  قال: " أخذ على الخضر عليه السلام العهد بالتسليم لمقالات الشيوخ وألبسنى خرقة الصديقية تجاه الحجر الأسود . " . وكذلك كان ممن يجتمع به الشيخ الكامل أبوعبدالله القرشي من أكابر مشايخ مصر..وأجمع أهل الكشف قاطبة على حياة الخضر إلى وقت اجتماعنا به وقد أجتمع بعمر بن عبدا لعزيز وأبى عبدا لله البسرى والشيخ عبدا لرازق وإبراهيم الخواص وأبى يزيد البسطامى وابن عربى وأبى عبد الله القرشي والشاذلي والمرسى وياقوت العرشى . وكذلك ممن يجتمع به كثيرا الشيخ الكامل أبو الحسن الشاذلي والشيخ أبو العباس المرسى والشيخ ياقوت العرشى . وكان الشيخ أبو الحسن  يقول : أكره للفقهاء خصلتين قولهم بموت الخضر وقولهم بكفر الحلاج . وكان أبو العباس المرسى رضي الله عنه يقول : صافحت الخضر بيدي هذه فوق ثلاثمائة مرة . وكان الشيخ ياقوت رحمه الله يقول :  طلبت مرة أجمع لفقير شيئا من الدنيا فقال لي الخضر : يا ياقوت إن الله يفقر عيده  لحكمة .  فتركت ما كنت عزمت عليه ، وممن سمعنه يذكر اجتماعه به من أهل عصرنا سيدي على الضرير النبتيتى وأخبرني أنه سأل الخضر عن علماء مصر فى عصره فصار يقول ونعم من فلان حتى سأله عن الشيخ زكريا وقال ونعم منه إلا أن عنده نفيسة قال فقلت له : وما هي فقال : إذا كاتب الأمراء يقول فى كتابه من الشيخ زكريا إلى فلان فيلقب نفسه بالشيخ قال فأعلمته بذلك فترك هذه اللفظة   انتهى . وكذالك من اجتمع به على الخواص وأخي أفضل الدين وسيدي محمد المنير بإخبارهم لي عن ذلك ، وحاشا أولياء الله تعالى أن يخبروا عن بخلاف الواقع  . وقد نقل اليافعى إجماع القوم على حياته إلى أيام الدجال فأعلم ذلك .)

2 ــ وعن مكانته بين النبوة والولاية الصوفية يقول : ( وأما مقامه عليه الصلاة والسلام فهو دون مقام النبوة وفوق مقام الصديقين كما اخبر بذلك عن نفسه،  فهو مقام برزخي له وجه إلى النبوة  ووجه إلى الولاية. فلذلك كان العارفون يصلون على الخضر عليه الصلاة والسلام تارة ويقولون رضي الله عنه تارة .

3 ـ وعن شروط الاجتماع به يقول : ( وأخبرني سيدي على الخواص رضي الله عنه أن للاجتماع بالخضر عليه الصلاة والسلام ثلاثة شروط  من  لم تجتمع  عنده لا يجتمع به ولو كان على عبادة الثقلين. الأول: أن يكون أن يكون على سنة لا يتدين ببدعة ، الثاني  :أن لا يكون له حرص على الدنيا فلو خبأ عنده رغيف إلى غد لم يجتمع به . الثالث أن يكون سليم الصدر للمسلمين، فلا يكون فى قلبه غل ولا حسد ولا كبر على أحد منهم . قال: "وكان أبو عبد الله اليسرى احد رجال رسالة القشيرى يجتمع به كثيرا ، فوقع انه قال لزوجته ضعي هذا الدرهم إلى غد فانقطع عن رؤيته إلى أن مات . ثم رآه فى المنام من بعد فقال له : ما ذنبي أما علمت أنا لا نصحب من يخبئ رزق غد  انتهى .

4 ـ وعن صفته ومظهره يقول : ( وأما صفته وصفة ملبسه:  فهو رجل مهيب أبيض اللحية مطرق الرأس على الدوام عليه إزار ورداء من صوف لا يخلقان ( يعنى لا يصيبهما القدم بمرور الأيام ) خصوصية من الله تعالى له حيث أطال عمره . وقال بعضهم الحكمة فى ذلك عدم العصيان فإن من لا يعصى لا يخلق له ثياب . وما  ورد من ترقيع  الأنبياء ثيابهم فهو محمول على أنها تمزقت من جذب الجهاد والحيطان والأشجار . انتهى.

5 ـ وعن طعامه يقول : ( وأما طعامه عليه الصلاة و السلام فتارة يكتفي بالتسبيح  وذكر الله عز وجل ، تارة يتغذى بنسيم الاسحار وتارة يأكل كآحاد الناس . وكان أبو عبد الله القرشي يقول زاراني الخضر عليه الصلاة والسلام فلم أزل أحب طبيخه من حين علمت انه يحبه حين طبخه له .

6 ـ وعن علمه اللدنى يقول : ( وأعلم  يا آخى أن الخضر عليه الصلاة والسلام لا يجتمع بأحد   من الأمة إلا معلما له ، ما لم يكن عنده علم ، ولا يستفيد هو علما من احد لأنه غنى عن علم الاستنباط  لما أعطاء الله الحق سبحانه وتعالى  من العلم اللدنى. )

7 ـ وعن وقت الاجتماع به ، يقول : (  ثم أنه  لا يجتمع بأحد من المريدين يقظة إنما يجتمع به فى المنام. ) ويعلل ذلك لأن المريد لا يتحمل الصبر : ( يعجز المريد من الصبر عن صحبته فى اليقظة بخلاف كل العارفين يجتمع بهم فى اليقظة ويعلمهم من العلم ما لم يكن عندهم . وأنا  ممن اجتمع به فى المنام جاء تعليمه لي فى هذه الميزان فاعلم ذلك فانه نفيس .).

أخيرا :

كل الأديان الأرضية مبنية على الكذب والافتراء . ليس فى هذا عجب . العجب فيمن يصدقها ويؤمن بها .!

 

 

 خاتمة : الخضر والكشوف الجغرافية وحالة المحمديين المُزرية

1 ـ فى العصر العباسى فى القرنين الثالث والرابع من الهجرة كان الازدهار العلمى العربى ( الناطق بالعربية ) فى أوج إزدهاره . تمت ترجمة كنوز المعرفة الغربية والشرقية وبدأ البناء عليها وتطويرها ، ثم بدأ عصر الظلام وتسيده الأفاقون مخترعو الأحاديث الضالة والخرافات ( المقدسة ) ، وعلا شأن أولئك الأفاقين وأصبحوا أئمة لمن جاء بعدهم ، لأن من جاء بعدهم سار يرقص على أنغامهم ـ ولا يزال هذا الرقص سائدا حتى الآن بدليل تقديس أولئك الجاهلين الأفّاقين الأفّاكين ، من أئمة المذاهب السنية ( مالك والشافعى وابن حنبل ) وائمة الحديث ( البخارى ومسلم ..الخ ) الى أئمة التصوف (من الغزالى الى الشعرانى ) وأئمة التشيع .

عمّ الظلام وورث التصوف السيطرة باسم التصوف السنى ، وتحول الكذب على النبى (بالأحاديث النبوية ) الى تطرف بالكذب الصوفى بالعلم اللدنى ومزاعم رؤية الله ورؤية النبى مناما ويقظة ، والحديث المباشر عن رب العزة بالمنامات والهاتف ، وكرامات ومعجزات الأولياء الأحياء والمقبورين .

وقت أن عمّ هذا الظلام شعوب المحمديين إستيقظت أوربا وبدأت تتحرر من الكهنوت الكنسى ، وبدأت نهضة أوربية بترجمة ما قام به أفذاذ العلماء العرب السابقين من ابن سينا والفارابى والرازى الى ابن رشد ، وبدأت أوربا فى السير فى طريق العلم التجريبى تكتشف وتخترع ، بينما  ظل المحمديون عاكفين على هجص البخارى ومسلم والغزالى وابن تيمية ، ( ولا يزالون ) .!

2 ــ ثم إزداد الأمر سوءا .

وقت أن كان المحمديون مُغيبين بأساطير الخضر وخرافات الكرامات كانت أوربا تكتشف العالم الجديد . ووقت أن كان المحمديون عاكفين على قبورهم المقدسة لآل البيت والأولياء والأئمة كان الأوربيون ( يسيرون فى الأرض ) يكتشفون العالم ، ويكتشفون أسرار الطبيعة ويرون كيف بدأ الله جل وعلا الخلق (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ  ) (20)العنكبوت  ) .ووقت أن كان المحمديون يرتلون البخارى ويقرأون ( دلائل الخيرات ) و ( جامع الكرامات ) كان الأوربيون يقرآون بسفنهم وجنودهم معالم العالم الجديد فى الأمريكيتين واستراليا .

3 ـ مقارنة التواريخ هنا مهمة :

مات جلال الدين السيوطى عام 1505 بعد أن أفنى عمره فى جمع وتلخيص وشرح وسرقة مؤلفات هابطة ، ملأها بهجص الأحاديث وهجص رؤية  الخضر والملائكة ومناقب السابقين وكتابات جنسية وضيعة ينسب فيها أحاديث للنبى ، ولا يتورع أن يسميها بأسماء ساقطة نابية نتحرج من كتابتها . فى حياة السيوطى الوضيعة كانت البرتغال تكتشف رأس الرجاء الصالح بحملة دياز عام 1488 ، ويجتاز فاسكوداجاما رأس الرجاء الصالح عام 1497  ليصل الى الهند ، ويصل امريكو فوسبوتشى الى البرازيل فى نفس العام 1497 ويواصل رحلاته حتى عام 1504 ( قبيل عام من موت السيوطى ) . ويعلن أمريكو فيسبوتشى أنه عالم جديد وليس سواحل الهند ، فيتم تسمية العالم الجديد على إسمه ( امريكا ). ويواصل الأمير هنرى الملاح رحلاته البحرية من سواحل أفريقيا الغربية الى الهند والصين . وفى حياة ذلك الهجاص جلال الدين السيوطى وصل كولمبوس ـ قائدا لرحلات إستكشاف أسبانية الى  الساحل الشرقى لأمريكا الشمالية (جزر البهاما والكاريبى ) فى أعوام : 1492 ، 1393 ، 1502 .

4 ــ عاش الشعرانى بين (1493 /  1565 )، وظل يكتب عن كراماته وكيف يسمع تسبيح الجمادات والاسماك والحشرات ويلتقى بالخضر ويطوف بالعالم فى سجادة طائرة ويتغنى بجبل ( قاف ) فى آخر العالم . فى حياته المليئة بالهجص إجتاز ماجلان  الطرف الجنوبى من أمريكا الجنوبية وعبر المحيط الهادى ، وهو الذى أسماه هذا الاسم ،ووصل الى الفلبين ، بينما إكتشفت فرنسا كندا وأسست كويبك ومونتريال ، فى الوقت الذى توسعت فيه انجلترة شرقا فأسست شركة الهند الشرقية التى سيطرت بها على الهند وتوسعت فى الداخل الأمريكى فى امريكا الشمالية والوسطى ، وأرسلت جون كابوت فاكتشف استراليا .

5 ـ نام المحمديون فى العصر العثمانى مُخدّرين بكتب الشعرانى الذى أطلقوا عليه بعد موته لقب ( القطب الربانى والكهف الصمدانى ) . وأثناء هذا النوم كانت أوربا قد إستعمرت العالم الجديد ، بالاضافة الى الهند وجزر الهند الشرقية . ثم إشتعل التنافس بين انجلترة وفرنسا وروسيا حول إلتهام أقطار المحمديين التى تتبع الدولة العثمانية ( وقد أسموها الرجل المريض )، وبدأ إحتلال بلاد المحمديين من المغرب والجزائر وتونس ومصر الى الهند واندونيسيا ..ثم التهمت روسيا  ( القيصرية ثم السوفيتية ) بلاد المحمديين فى آسيا الوسطى .  إستيقظ المحمديون فجأة على الغرب يحتل بلادهم ، فهرعوا الى البخارى وقبور أوليائهم يستنجدون بها فما أغنت عنهم من شىء . وضاع الخضر  الذى جعلوه فى اساطيرهم يأتى مسرعا لنجدة المحتاج  .!  أما المهدى المنتظر فقد أخلف موعده لأن لديه موعدا غراميا مع فتاة أوربية شقراء فاقع لونها تسر الناظرين !.

6 ــ قام المحمديون بثورات تحرر وبدأوا النهضة بالتعلم من عدوهم الأوربى منهجه العقلى والعلمى ، لكن ظهرت الوهابية السعودية تُجدد الحنبلية السنية وتنشرها . وبهذه الوهابية تم  اولا : إجهاض المنهج العلمى العقلى بين المحمديين ، ثم تم أخيرا إعادة الصراع السنى الشيعى ، وهاهم الآن يقتلون أنفسهم بأنفسهم ويخرجون فريقا منهم من ديارهم بغير حق ، كما كانت تفعل بنو اسرائيل فى عصور تمزقها ، يقول جل وعلا عنهم : ( ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) البقرة ) هو نفس ما تفعله داعش الوهابية ، وهو نفس الخزى فى الحياة الدنيا ، ولا يتبقى سوى أشد االعذاب فى الآخرة ، وما رب العزة جل وعلا بغافل عما تعملون .  

7 ــ حمامات الدم مستمرة ، والمساجد تحولت الى مراكز حربية وأهداف حربية ، ولم تتخلف عنها المدارس والمستشفيات .!! . وأشلاء الأبرياء من أطفال ونساء تغزو القنوات الفضائية،  ودُعاة الوهابيين ــ بلا خجل ـ ينعقون فى القنوات  الفضائية يقولون مُنكرا من القول وزورا ، وفى نفس الوقت فإن دُعاة الاصلاح السلمى يتعرضون للنفى والسجن والاضطهاد بتهمة (إزدراء الدين ) . أيضا هو نفس ما كانت تفعله بنو اسرائيل حين كانوا يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس . وفيهم وفى غيرهم من المحمدييين يقول جل وعلا باسلوب عام : (  إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) آل عمران ).

8 ــ لقد قصّ رب العزة جل وعلا قصص السابقين ثم قال عن هلاكهم : (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ   الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) هود ) هو نفس ما يحدث الآن ـ تقريبا ــ فآلهة الشيعة والصوفية والسنيين لم تنفعهم فى محنة هذا الاقتتال الدائر . الفارق أن الأمم السابقة كان إهلاكها بتدمير الاهى وكان إهلاكا عاما لكل القوم الظالمين . أما الاهلاك الذى نراه اليوم فهو إهلاك جُزئى يقوم به المحمديون يقتلون به أنفسهم بانفسهم ، وبكل إخلاص وتفان  لم يحدث من قبل فى الجهاد ضد المستعمر الغربى .!. هذا العذاب الذى يوقعه المحمديون بأنفسهم الآن هو بالضبط  نفس ما أنبأ به رب العزة من قبل فى قوله جل وعلا : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) الانعام  )

ودائما : صدق الله العظيم .

اجمالي القراءات 29506