إن التراث الإنساني على ثلاثة أوجه : التاريخ المكتوب , وهو أقل ما نعرف , إذ يغطي حقبة زمنية لا تزيد على نحو خمسة أو ستة آلاف عام . والتاريخ المحكِي , وهو تاريخ شفهي تناقلته الأجيال عبر السنين قبل اختراع الكتابة , مما عرّضه للتحريف بالحذف والإضافة , فجاءنا بصورة شائهه , وهو ما سميناه بالأساطير . أما الجزء الأهم فهو التاريخ المجهول , مجهول من حيث محتواه وزمانه. وجاء التعبير عن (التاريخ)في القرآن في مصطلحات مثل: قصص الأولين , وأساطير الأولين , وأنباء القرى .
وليس بوسع أحد ادعاء انفراده بامتلاك الحقيقة , وكتابنا هذا هو ما نراه صوابا , لكن قد تكون رؤيتنا ناقصة , فمرحبا بمن يكمل , فليس لطالب الحقيقة غاية مقصودة يقف عندها ولا يرى سواها, ولسنا ممن لا يحتمل الشك فيما اعتاده ولا يرى حقا خارج مألوفه . إن سكان الكهوف البدائيين كانوا بقايا مجتمعات أكثر تقدما, لكن البدائية فُرِضت عليهم بسبب كوارث طبيعية ماحقة أفنت مجتمعاتهم , أو بسبب دمار مِن صُنع الإنسان نفسه كما أسلفنا, بل هناك من العلماء من يؤكد أن العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث , لا يوجدان إلا في خيال المؤرخين الأكاديميين كما سيرد في موضعه من الكتاب. إن الغبي وحده هو من يفكر بطريقة من سبقوه , والأحمق هو من يدَعُ الآخرين يفكرون له , أما المبدع فهو من يفكر بطريقة مختلفة , والعبقري هو من يفكر بطريقة مختلفة جدا, وبين هذه الفئات يتوزع منتجو الحضارات ومستهلكوها , ومدمروها. والكتاب الذي بين يديك هو من قبيل الدفاع عن حقنا في النظر في القرآن الكريم . وكان رجال الدين قد اغتصبوا هذا الحق وحرَموا منه الآخرين عبر التاريخ. ولو كانت الأمور تسير وفقا لما يريد الفقهاء من حظر النظر الديني على غيرهم لما أمكن استخراج درر النص القرآني , ولبقينا نَعْمَهُ في ضلالات تراثنا الأصفر , ولو لم يجتهد علماء العلوم الطبيعية- غير الدينية - في استنطاق النصوص لما أمكن اكتشاف الإعجاز العلمي في القرآن , ولولا جهود علماء الإحصاء والحاسوب لما أمكن اكتشاف الإعجاز الرقمي (العددي) في القرآن , وهي الأدوات الحديثة لإقناع إنسان العصر المتحضر بألوهية مصدر القرآن بعدما انحصرت فعاليات الإعجاز اللغوي على أهل الضاد , وليس كلهم , بل المتعلمين منهم فقط. فلا دور الآن للمشايخ والمؤسسات الدينية المعاصرة في اكتشاف معجزات القرآن لأن الأمر يفوق الإلمام بألفية ابن مالك والتفقّه في اللغة , فالأمر أعقد من ذلك بكثير , فالزمام الآن بأيدي العلماء بعلوم العصر والحاسوب . والبراهين على ألوهية مصدر القرآن الكريم تقع في علوم الفلك والجيولوجيا والنبات والطب وعلوم العصر والعصور المقبلة حتى قيام الساعة , وهي علوم عصرية لا يقوى على فهمها من يؤمن- مثلا- بأن كوكب الأرض يحمله حوت (انظر تفسيرالقرطبي) , أو من يكفّر القائل بكروية الأرض , أو من ينكر غزو الفضاء. وبعض من يقول ذلك هم من مشايخنا الموكول إليهم تعليمنا حقائق الدين والكون! وكثيرا ما قال المشايخ بقصْر البحث الديني على من ألمَ بعلوم التفسير , والحديث , واللغة , والفقه , وعرف الناسخ والمنسوخ , وعلم أسباب النزول , وكأنه لم يبق شرط لمن يتصدى للنظر في الدين غير القول بقدرته على المشي على الحبل , أو اللعب بالبيضة والحجر , أو إخراج أرنب من القبعة! مع أن العالِمين بأوجه الإعجاز العلمي والرقمي في القرآن لم يدرسوا شيئا من هذه العلوم (الدينية) , ولو أخذوا بما يرى المشايخ لاستحال عليهم إنجاز ما أنجزوا, فهي "علوم" لم يعلم الصحابةُ الأولون عنها شيئا . فالمشايخ ينصحون بقراءة القرآن بقصد حصد الثواب بقدر عشرة أمثال عدد الحروف المقروءة , الأمر الذي يجعل قراءته سريعة لا تتيح فرصة للتأمل أو الفهم , وجعلوها قراءة ببغاوية استهلاكية لا تصل إلى دلالة النص , فأبطلوا غاية القرآن بصرف الناس عن تدبره بحق وتأمل معانيه المنظِّمة لحياة الناس , وأوهموهم أن قراءته هي المبتغَى , وأن المؤمن الحق هو الذي يختم القرآن مرة كل شهر على الأقل , حتى إن بعض مشايخ الصوفية يباهون بأنهم يختمونه مرة يوميا ! ويحضون على قراءته ولو بغير فهم! -يتبع- بتصرف من كتابنا (القرآن بين المعقول واللامعقول)-نبيل هلال هلال