القاموس القرآنى : كره

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٢٥ - ديسمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

القاموس القرآنى : كره

( كره ) ومشتقاتها تأتى بمعنيين : كره من ( الكراهية ) ، وكره من ( الاكراه ) . وفى آية واجدة جاءت الكلمة مرة بمعنى الكراهية ومرة بمعنى الإكراه فى قول الله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) النساء ). قوله جل وعلا : ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً ) أى بالاكراه . وقوله جل وعلا : ( َفإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) من الكراهية . ونعطى المزيد من التفصيلات :

أولا : كره من ( الكراهية )

كراهية الحق :

1 ــ المؤمن يُخلص قلبه لربه جل وعلا ، فلا تقديس فى قلبه لغير الله جل وعلا . أما الكافر المشرك فهو يكره هذا الاخلاص لرب العزة جل وعلا ، ولأنهم يقاومون إخلاص الدين لرب العزة فإن الله جل وعلا يأمر به المؤمنين مهما كره الكافرون ، يقول جل وعلا فى خطاب مباشر للذين آمنوا :( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) غافر )

2 ـ والكافر الذى يمتلىء قلبه بتقديس البشر، يشمئز إذا سمع خطابا دينيا ليس فيه ذكر وتعظيم لآلهته ، فإذا ذُكر الله جل وعلا وحده إشمأز قلبه ، وإذا ذُكر إسم معبوده تهلل وإستبشر ،يقول جل وعلا : (  وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) الزمر ). وفى مكة كانوا يكرهون الاستماع الى القرآن الكريم ، فإذا قُرىء عليهم ظهرت الكراهية على وجوههم الى درجة تحفزهم للبطش بمن يتلو عليهم القرآن الكريم ، يقول جل وعلا : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ) (72) الحج ). وكانو إذا قرأ عليهم الرسول القرآن الكريم نظروا اليه بكراهية شديدة ، يعبر عنها رب العزة جل وعلا بقوله : (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ )(51) القلم )

يقول جل وعلا عن كراهية الكافرين للقرآن الكريم وكيف أنها أحبطت أعمالهم الصالحة : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) محمد ). الكافر المشرك لا يخلو من أعمال صالحة ، ولكنه إذا مات على تقديسه للبشر والحجر وكراهيته للحق القرآنى فإن ثمرة أعماله الصالحة فى الدنيا تضيع هباءا منثورا ، يقول جل وعلا : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً (23) الفرقان)، بل تتحول ذكريات عمله الصالح الى حسرات له وهو يتعذب فى جهنم خالدا فيها لا خروج له منها يقول جل وعلا : (كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ (167) البقرة ).

كراهية القرآن وصلت للمنافقين فى المدينة فى حضور النبى عليه السلام فتعاونوا مع الكافرين الذين ( كرهوا ما أنزل الله ) يقول جل وعلا فى نفس السورة  عن أولئك المنافقين ونفس مصيرهم : ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) محمد ). ومطلوب من المحمديين المنافقين ان يعتبروا من هذا حتى لا يكونوا من الذين يكرهون القرآن الكريم فيُحبط الله جل وعلا أعمالهم  .

هذه الكراهية الشديدة للحق القرآنى مستمرة باستمرار الكفر وعملهم مستمر فى الصّد عن القرآن ،ومع ذلك فالحق القرآنى ظاهر مهما فعلوا . ويعبر عن هذا رب العزة جل وعلا بقوله :( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)الصف )( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) التوبة ). وانتهى الكافرون القرشيون ولا يزال القرآن الكريم ظاهرا محفوظا من لدن الله جل وعلا الى قيام الساعة.

 3 ـ والجاهليون كانوا يكرهون أن يرزقهم الله جل وعلا بالبنات ، وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا ، وقد يسارع بدفنها حية ، يقول جل وعلا : (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) النحل ) ثم هم مع هذا ينسبون لرب العزة ما يكرهون حين زعموا ان الملائكة هى بنات الله ــ تعالى عن ذلك علوا كبيرا . يقول جل وعلا: ( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) النحل )

4 ــ والمجرمون من فرعون وقومه تحدوا الآية التى كانت لموسى ، فإنعقدت مباراة جىء بها السحرة من مدائن مصر ليهزموا موسى عليه السلام،يقول جل وعلا:( فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)وبعدها يقول جل وعلا : ( وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) يونس ). وفعلا .. تمّ إحقاق الحق .

وفى موقعة بدر وعد الله جل وعلا المؤمنين بالنصر أو بالقافلة ، وكان المؤمنون يريدون الأسهل وهو القافلة ، ولكن رب العزة جل وعلا أراد لهم النصر ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ، يقول جل وعلا : ( وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)  لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) الانفال ) .

كراهية القتال فى سبيل الله جل وعلا :

معظم المؤمنين فى مكة كانوا من المستضعفين المُسالمين ، وهم ( مؤمنون ) بالسلوك الظاهرى الذى يعنى الأمن والأمان وتفضيل السلامة والخنوع وكراهية العنف والحرب حتى لو كانت دفاعية لوقف الاعتداء الحربى الظالم . بعد الهجرة للمدينة واصلت قريش غاراتها على المؤمنين فى المدينة ، وكان مطلوبا من المؤمنين كف اليد عن القتال الدفاعى الى ان يتم استعدادهم القتالى ، فلما إستعدوا نزل لهم الإذن بالقتال الدفاعى ( الحج  39 : 40)، فاحتج أولئك المؤمنون وطلبوا تأجيل فريضة القتال ( النساء 77 ) ، لذا قال لهم جل وعلا : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) البقرة )

وفى المدينة كره المنافقون الجهاد ـ حتى دفاعا عن وطنهم ـ وكانوا يتحججون بشتى الأعذار حتى لا يخرجوا للقتال العدو الزاحف نحوهم ، وكانوا يحضون على عدم المشاركة الحربية كراهية منهم للجهاد فى سبيل الله جل وعلا بالنفس والمال. وردّ رب العزة جل وعلا عليهم ، فقال جل وعلا: ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) التوبة) وعقابا لهم فقد نزل الأمر بحرمانهم من شرف القتال الدفاعى:( فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) التوبة )، وقال جل وعلا إنه يكره خروجهم للقتال، يقول جل وعلا:( وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)التوبة ).  

المكروه فى التشريع الاسلامى

1 –تدور التشريعات فى القرآن الكريم حول ثلاث درجات : الفرض المكتوب او الاوامر ، ثم النواهى أو المحرمات ، ثم ما بينهما وهو المباح ، ومنهج القرآن فى التشريعات فى هذه الدرجات ان يحدد الفروض والمحرمات ثم يترك المباح مفتوحا وقد ينظمه ، وباب التشريع البشرى مفتوح فى تنظيم هذا المباح فى إطار المقاصد العليا للتشريع الاسلامى وهى العدل و التيسير وحفظ الحقوق ، واهما الحرية المطلقة فى الايمان او الكفر . وجاء الدين السنى بشريعة جديدة ، اضاف درجتين فى التشريع انتزعهما من المباح الحلال هما المكروه والمندوب او المسنون . فالمكروه هو عندهم مباح ولكن ينبغى تركه أو درجة اقل من الحرام،   والمندوب او المسنون هو مباح ينبغى فعله وان لم يكن واجبا لأنه اقل من الفرض الواجب .وترتب على هذا التأويل والتعديل للمدار التشريعى الاسلامى القرآنى اضافة مصطلحات جديدة ليست فى تشريعات القرآن وهى المكروه والمندوب ، وعلى سبيل المثال فإن المكروه فى مصطلحات القرآن ليس مباحا اقل درجة من الحرام كما يقولون بل هو اشد انواع الحرام تحريما وتجريما ، ومنه الكفر والفسوق والعصيان ، يقول جل وعلا : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) الحجرات 7) وبعد ان جاء النهى عن الكفر فى قوله جل وعلا : ( لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) الاسراء ) توالت التحريمات للكبائر كالقتل والزنا وأكل مال اليتيم ، ثم وصف جل وعلا هذه الكبائر بأنها مكروهة عنده جل وعلا:( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) الاسراء).

المكروه فى الغيبة :

تبقى تلك الصورة الأدبية الرائعة فى تحريم وتجريم الغيبة ، فى قوله جل وعلا :( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ )(12)الحجرات). كلمة ( فكرهتموه ) جاءت هنا فى موضعها .

ثانيا : كره من ( الاكراه  )

ويأتى مصطلح ( كره ) بمعنى الاكراه . ونتتبعه فى السياق القرآنى :

1 ـ هناك تناقض بين التطوع الاختيارى والإكراه الاجبارى. ويأتى مصطلح ( طوعا وكرها ) يجمع النقيضين ، ويأتى ( طوعا أو كرها ) فى التخيير بينهما  .

يجتمع ( الطوع والكره ) فيما يخص مخلوقات الرحمن جل وعلا . مثلا : جسد الانسان خاضع لرب العزة ، فقلبك ينبض بأمره جل وعلا شأن الشمس التى تجرى لمستقر لها . ولكن نفسك التى تركب وتسيطر على جسدك لها حرية الطاعة والمعصية . من هنا نفهم قوله جل وعلا : ( وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً )(83) آل عمران). ( اسلم ) أى خضع وأطاع . وهناك خضوع طوعى فى المؤمن المخلص لربه ، وخضوع إجبارى لأجهزة جسده البيلوجية التى هى مجبولة مُرغمة على الطاعة شأن الأفلاك السماوية والخلية والاليكترون فى دورانه الاجبارى حول نواة الذرة . هنا تجتمع (طَوْعاً وَكَرْهاً )، لأن  نفسه أطاعت وأسلمت طوعا ، وجسده أطاع كرها لأنه لا إختيار له.

 ويعبر عن الخضوع أيضا بكلمة السجود، فيتكرر المعنى السابق فى قوله جل وعلا:( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً )(15)الرعد ). وهو أيضا التسبيح الذى تسبح له جل وعلا السماوات والأرض وما بينهما وما فيهن وكل شىء:(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)(44)الاسراء ) .

واقع الأمر أن الله جل وعلا خلق الجمادات وبقية المخلوقات غير المُكلفة على الطاعة ، بينما أعطى نفس الانسان حرية الاختيار ، وعلى أساس حرية إختياره سيكون مٌساءلا يوم القيامة . ويوم القيامة سيفقد حريته وإختياره وسيّسلّم نفسه لربه جل وعلا. عن استسلام جميع المخلوقات للرحمن جل وعلا يقول جل وعلا:(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) طه )( رَبِّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) النبأ ).

حقيقة الأمر أن الله جل وعلا قبل خلق السماوات والأرض خيّرهما بين الطاعة الإختيارية أو فرض الطاعة الاجبارية فإختارتا الطاعة الطوعية ، وربما يكون هذا هو معنى تسبيحها ، يقول جل وعلا : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)  فصلت ). هذا كلام بعيد عن أفهامنا المحدودة بمدركاتنا المحدودة.

وندخل بهذا على التخيير بين الطوع والإكراه ، يقول جل وعلا عن المنافقين : ( قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) التوبة ). المنافق الذى يستولى عليه نفاقه مهما أنفق فلن يتقبل صدقاته ، لأنه قد يتصدق مُكرها كارها فلا مجال لقبول صدقته ، وقد يتصدق طوعا رياءا ، وهذا الرياء يمنع قبول صدقته .

2 ـ الاكراه فى الدين : القاعدة الاسلامية أنه لا إكراه فى الدين ، لا إكراه فى دخوله أو الخروج منه ولا إكراه فى تادية العبادات . يقول جل وعلا : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) البقرة ). وفى سورة مكية يقول جل وعلا للنبى : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) يونس ).

ومن المُباح للمؤمن عند الاضطرار أن يقول الكفر بلسانه عندما يتعرض للإكراه ، ولابأس طالما كان قلبه ينبض بالايمان ، يقول جل وعلا : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) النحل ) . ونفس الحال فى التقية أو المدارة لتحاشى الاضطهاد فى الدين والإكراه فى الدين ، يقول جل وعلا (لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) آل عمران   )

ولقد أكره فرعون موسى السحرة وأعد لهم أجرا لو غلبوا موسى عليه السلام . فلما رأوا أن ما مع موسى ليس سحرا بل آية إعجاز ربانية أعلنوا إيمانهم أمام فرعون ، فهددهم فرعون : ( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) طه ). قالوا : (  وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ)

الاكراه فى الزنا :

الاضطرار عذر فى أكل المحرمات من الطعام ، والاكراه يمنع توقيع العقوبة على التى تتعرض للإغتصاب ، يقول جل وعلا :  ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) النور )

الإكراه فى الولادة

لا بد للجنين أن يخرج وليدا ، تئن أمه بحمله ، تحمله كرها غصبا وتلده كرها غصبا ،يقول جل وعلا فى التوصية بالوالدين :  ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (15) الاحقاف ).

اجمالي القراءات 8359