بين العلمانية والاحتراف الدينى

آحمد صبحي منصور في الخميس ٢٤ - ديسمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

بين العلمانية والاحتراف الدينى

مقدمة : جاءتنى هذه الرسالة وتأثرت بها فأحببت أن أعلق عليها فى هذا المقال ، وتحت هذا العنوان .

يقول صاحب الرسالة أكرمه الله جل وعلا : (انا من لبنان . ومنذ زمن كنت ارى ان هناك خطبا في عالمنا العربي والإسلامي،  وانا كنت ماركسيا ثم التحقت مع المقاومة الفلسطينية مع حركة فتح بالتحديد ، ثم بعد الثورة الإيرانية تحولت مع مجموعة من الشباب الى تبني الاسلام واعتباره المنهج الأقوم لمواجهة التحديات التي تواجهها امتنا العربية . وعملنا بصفوف حركة التوحيد الاسلامي التي انشأت بداية الثمانينات في طرابلس لبنان . وهنا وقعنا في مفارقة كبيرة ما بين ما كنّا نسمع من مثاليات خطب ودروس تلقى على الناس وما بين الواقع الحقيقي للذين يحملون زورا حركات ناطقة بإسم الاسلام . وعلمنا بشكل تدريجي ان هناك بونا واسعا بين ما يقال ويدعون الناس اليه وما يمارسونه فعليا عند استحوازهم ولو لجزء يسير من السلطة ، حيث تظهر حقيقتهم محبين للسلطة والجاه ، ويتصارعون بوحشية بالغة للاستحواذ عليها واقصاء الآخرين ، ليس المختلفين معهم عقائديا،  ولكن حتى الذين يماثلونهم بالفكر والمرجعية . وسرعان ما تبدء عمليات التكفير والتفسيق والتخوين ، ومن ثم القتل والسحل. أقول ذلك من بعد التجربة العملية معهم وكنت اتساءل : هل هذ هو  الاسلام الذي انزله الله لإنقاذ البشرية وإخراج الناس من عبادة العباد الى عبادة رب العباد  ؟ ظللت حائرا حتى عثرت على موقعكم . وانا منذ ذلك الوقت اتابعكم بصورة دائمة محاولا الاستفادة من منبركم لأبين للناس ان ما نسمعهم من المشايخ لا يمثل الاسلام الحقيقي . جزاكم الله خيرا واعانكم على هذه المسؤلية الجسيمة . )

وبعد الشكر لصاحب الرسالة أقول :

أولا : التشخيص

1 ـ دعنا نتفق أولا على تسمية الكفاح للوصول الى الحكم أو فى المقاومة  بالعمل السياسى ، سواء كان الكفاح سياسيا بحتا أو سياسيا عسكريا . هذا لأن الذى يحترف ( المقاومة ) هو الذى يحكم . وحتى فى عمله فى المقاومة وقبل أن ينجح ويؤسس نظام حكم أو دولة فهو قائد وحاكم يجد من يسمع له ويطيع . أى فى البداية قائد لمجموعة مسلحة ثم إذا نجح يكون قائدا لنظام الحكم أو للدولة . والمثل الكلاسيك هو أبوعمار : ياسر عرفات . كان قائدا لفتح ثم رئيسا للضفة والقطاع . وأيضا حركة حماس ، قادتها ما لبث أن حكموا غزة .

2 ـ  ومن هذين المثلين نتعرف على نوعين من العمل السياسى فى منطقة الشرق الأوسط : عمل سياسى لا يخلط  ـ كثيرا ـ السياسة بالدين مثل حركة فتح ، وعمل سياسى قائم على خلط السياسة بالدين الأرضى وهو حماس .

ومن هذين المثلين أيضا نعرف أنهما معا إمتداد للعمل السياسى فى الشرق الأوسط ( الكبير ) وثقافته الاستبدادية ، فالعلمانية فيه من نظام عسكرى أو حزبى مستبدة لا تمانع فى إستغلال الدين فى سياستها لو إقتضى الأمر ، وهذا يحدث عندما يتعرض الحكم العلمانى المستبد الى أزمة تهدد بقاءه ، حينئذ يلجأ الى إستدعاء الدين الأرضى ، والدين الأرضى عنده هو ( الحاضر / الغائب )، نرى هذا فى أواخر حكم جعفر نميرى فى السودان ، والقذافى فى ليبيا الذى غيّر توجهاته الى أن وصل الى الدين وأصبح يسمى معارضيه بالزنادقة ، وصدام حسين الذى تديّن سُنّيا فى أواخر حكمه وأضاف ( الله اكبر ) الى شعاراته والى العلم الرسمى لدولته . حركة ( فتح ) لم تتورع عن الصدام الحربى مع بعض فصائلها ، فى سبيل أن يحتفظ أبو عمار بقيادته ، وعند شيخوخته لم يتورع رفاق نضاله من التضحية به فمات مسموما ليرثه رفيقه أبو مازن الذى إستمر حاكما فى منصبه بقوة الأمر الواقع. وصلوا بالانتخابات الى الحكم ن ثم ضحوا بالديمقراطية عند أول فرصة  .

3 ـ  المهم فى ثقافة الاستبداد فى الشرق الأوسط هو الوصول والبقاء فى السلطة مستبدا بها تحت أى لافتة حتى لو كانت لافتة ديمقراطية أو لافتة دينية . ولا تفترق حركة حماس الدينية فى هذا عن حركة فتح  العلمانية . حماس سيطرت على عقول الفلسطينيين وغيرهم باسم الدين السُّنى ، وبها وصلت بالانتخابات الى الحكم ،وعندما جاءتها فرصة الاستئثار بحكم غزة لم تتوان عن الغدر بفتح . وفى سياستها لعبت حماس مع الجميع وغدرت بالجميع وإكتسبت البلايين من الجميع من ايران وسوريا وحزب الله الى السعودية والخليج . بل لم تتورع عن الدخول فى حروب إنتحارية غير متكافئة مع إسرائيل لتدفع اسرائيل الى تدمير غزة فوق رءوس أهلها الغلابة مقابل أن يجنى قادة حماس بلايين الدولارات، وتاجرت بدماء أهل غزة وبيوتها المدمرة ليعيش قادة حماس فى نعيم الثروة والسلطة . هذا بالاضافة الى ما فعلوه بمصر فى سيناء   .

4 ـ ولكن نصل سريعا الى المطلوب وهو المقارنة بين حركتين للمقاومة الفلسطينية تحت لافتتين متعارضتين ، وقد نجحتا فى الوصول للحكم .هما يشتركان فى ( النوع ) وهو الفساد والاستبداد  . كان جميع الفلسطينيين يحلمون بقطعة أرض يقيمون عليها نظام حكم ويرفعون عليها ( علم فلسطين ). كان مفترضا أن يهرع الفلسطينيون الذين يعيشون تحت الظلم الاسرائيلى ( كما يقولون ) الى الانتقال الى الضفة وغزة بدلا عن حياتهم تحت الحكم الاسرائيلى . ولكن هذا لم يحدث ، مما ينهض دليلا على ان الحكم الاسرائيلى مهما يقال عنه من ظلم فهو أرحم بالعرب الاسرائيليين من حكم فتح فى الضفة وحكم حماس فى غزة .

وهما يختلفان فى ( الكم ) أى مدى الاستبداد والفساد . حماس الأكثر إستبدادا والأكثر فسادا ، ومن يعترض على ( حماس ) فهو مرتد مُستباح الدم ، والفرد العادى الذى يسير ( جنب الحائط ) لا ينجو من عصا حماس فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر طبق الشريعة الوهابية . وهناك أمل ولو ضعيف فى وجود ديكور هامشى ديمقراطى فى فتح ، ولكن الديمقراطية أصبحت كافرة بعد أن صعدت بها حماس للسلطة .

5 ـ حماس هى الأكثر ظلما للناس من فتح . ظلم ( فتح ) قاصر على الفلسطينيين ، ولكن ظلم حماس يصل لغير الفلسطينيين لأنها تمثل دينأ ارضيا سنيا وهابيا يضرب بفساده معظم الشرق الأوسط ، وتتمدد به حماس مستفيدة منه ليصل فسادها الى خارج فلسطين كما يحدث فى سيناء المصرية . وتضيف الى ذلك حماس ما تعلمته من (الاخوان المسلمين ) من براجماتية إنتهازية تجعلها تمد يدها الى خصوم عقيدتها من الشيعة طالما تستفيد منهم ، فاستفادت من سوريا وحزب الله وايران ، وغدرت بالجميع وظلمت الجميع حتى المتخصصين فى الظلم ، أى أن حماس ( ظلمت ) ( الحكام الظالمين ) وليس فقط الناس العاديين .

ولكن حماس لا تظلم الناس فقط ، بل هى تظلم رب الناس الواحد القهار جل وعلا ، بزعمها أنها تمثّل رب العزة جل وعلا ، وأنها مُفوضة عنه بحكم الناس ، وأن كل ما ترتكبه من كبائر هو إرادة الله جل وعلا وشريعته . حماس لا تختلف فى هذا عن أى حركة دينية سياسية أو دولة دينية تخلط  السياسة بالدين وتفسد السياسة وتدمر الدين . لا فارق هنا بين دولة دينية شيعية فى ايران ( الجمهورية الاسلامية ) والدولة الوهابية السعودية ، وبين حركات الاخوان المسلمين والتوحيد الاسلامى السنية فى لبنان ثم القاعدة وداعش وجبهة النصرة ..الخ وبين حزب الله الشيعى فى لبنان والحوثيين فى اليمن.

6 ـ بثقافة الاستبداد والاستبعاد والاستعباد هذه وصلت منطقة الشرق الأوسط الى مرحلة الدمار والخراب والحروب الأهلية وضحايا بملايين البشر ، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر .!!

ثانيا : العلاج

1 ـ الخلاص من هذا هو بتغيير ثقافة الاستبداد والاستبعاد والاستعباد الى ثقافة الديمقراطية والحرية الدينية والاحتفال بالتنوع العرقى والدينى والمذهبى والمساواة والعدل وكرامة الانسان وحقوق الفرد .  أى تغيير سطحى وشكلى بنظام ديمقراطى وانتخابات وبرلمان لن ينتج إلا قادة مستبدين صغارا يركبون شعوبهم ويعيدون إنتاج الاستبداد والاستبعاد والاستعباد كما يحدث الآن فيما تبقى من العراق العربى والكردى . لا تنجح الديمقراطية ولا تترسخ حقوق الانسان إلا بترسيخ ثقافة الديمقراطية وثقافة التعدد وحقوق الانسان . وهذا يحتاج الى ترسيخ الوعى الجمعى والفردى .

2 ــ العقبة الأساس هنا هو الدين الأرضى السائد. ولقد صدقت مقولة (الدين أفيون الشعوب ) التى إستخلصتها أوربا عبر معاناة من القرون تحكمت فيها الكنيسة فى شعوب أوربا ، متعاونة مع إستبداد الملوك . الدين المقصود هنا هو الدين الأرضى الكاثولوكى . وبدأ الأمر بحركة إحتجاج دينية إصلاحية تزعمها لوثر وتبعه زونجلى وكالفن ، وإهتزت بها هيبة الكاثولوكية وانضم مبكرا للمحتجين ( البروتستانت ) أمراء طموحون يريدون التحرر من سلطة البابا ، ونشأت البرجوازية ، ودخلت أوربا الى العلمانية التى فرضت حظر التجول على الكنيسة ومنعتها من العمل السياسى وقصرتها على العمل الخيرى الاجتماعى . وبهذه العلمانية وما صاحبها من تحرر ومخترعات فى البخار و كشوف جغرافية واستعمار حكمت أوربا معظم العالم ، بينما ظل المحمديون أسرى للدولة العثمانية الدينية وخلافتها المتخلفة ، حتى إذا سقطت الخلافة العثمانية عام 1924 بدأت الوهابية السعودية طريقها لتكون البديل ، ثم جاء البترول بتأييد الغرب للوهابية السعودية ، فوصل بالشرق الأوسط الآن الى الرقص فوق فوهة بركان .

3 ــ العقبة الأساس هنا هو الدين الأرضى السائد من تشيع وتصوف ووهابية . لا بد من تحييده وحظر تجوله ليكون شأنا فرديا بلا تسلط على الناس ، أى حق أى فرد فى ان يؤمن أو أن يكفر ، دون أن يفرض إيمانه أو كفره على أحد . إن بداية الفساد هى فى تقديس الكهنوت الدينى ورجاله وتصديق خرافاتهم ، إذ سرعان ما يتبع هذا الاستغلال السياسى للمستبد القائم أو المستبد القادم . إذا تحرر الفرد من تقديس البشر أصبح مستعدا لقبول مبادىء العدل والمساواة والحرية والديمقراطية والتعدد وحقوق وكرامة الانسان .

4 ـ  وهذه هى دعوتنا ( أهل القرآن ) . على أنه يجب أن يكون معلوما ومؤكدا أننا لا نفرض هويتنا الاسلامية على هذه الدعوة ، ليس فقط فى جوهر دعوتنا الى العدل والمساواة والحرية والديمقراطية والتعدد وحقوق وكرامة الانسان للجميع ، ولكن أيضا فى دعوتنا الى رفع هذه الشعارات كقيم عليا يدخل تحتها كل المؤمنين بها من كل المواطنين من كل الملل والنحل والأعراق ، سعيا لاقامة نظم علمانية ديمقراطية حقوقية حقيقية .  

أخيرا :

لا زالت أيدينا ممدودة الى كل الأحرار فى كل مكان ، ليعملوا معنا فى التخلص من الطغيان . والله جل وعلا هو المستعان . 

اجمالي القراءات 8068