القاموس القرآنى : الاستغفار
الاستغفار هو طلب الغفران من الغفور الرحيم جل وعلا ، لأن الألف والسين والتاء إذا دخلت على ( الفعل ) تفيد الطلب ، مثل ( إستغفر ، إستعان ، استوقد ، استكبر ). ونتعرض للإستغفار فى القاموس القرآنى من خلال المحاور الآتية :
أولا : الاستغفار عبادة
الاستغفار ضمن العبادات المنسية لدى المحمديين الذين وقعوا ضحية الحديث الكاذب القائل ( بُنى الاسلام على خمس ) والذى أسقط الكثير من الفرائض الاسلامية ، ومنها التسبيح وذكر الله جل وعلا والاستغفار . ونعطى لمحة عن الاستغفار كعبادة إسلامية فى الدين الالهى الذى نزلت به كل الرسالات الاسلامية .
1 ـ من صفات المتقين المستحقين للجنة أنهم كانوا يقومون الليل ويستغفرون ، يقول الله جل وعلا عنهم : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) الذاريات ).
2 ـ فى الرسالات السماوية للأمم السابقة كانت ضمن الدعوة إن يستغفروا ربهم جل وعلا . نوح قال لقومه : ( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) نوح ) ، و قال شعيب لقومه : ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) هود ). وشهدت مصر القديمة أنبياء لم يذكرهم القرآن الكريم ، فالله جل وعلا لم يقص قصص كل الأنبياء، ( النساء 164 ) ، ومن قصة يوسف عليه السلام نعرف أنهم كانوا يعرفون الله جل وعلا ويتردد ذكره على ألسنتهم فى الحديث العادى( يوسف 31 ) وفى التوبة العلنية حيث إعترفت إمرأة العزيز بذنبها علنا أمام الملك : (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) يوسف 31 ، 51 ،) ولقد قالت قريب لامرأة العزيز ينصحها بالاستغفار : ( وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ (29) يوسف ).
3 ــ وأتباع الأنبياء الذين قاتلوا معهم كانوا وقت شدة القتال يستغفرون ربهم جل وعلا فجزاهم الله جل وعلا خيرا ، يقول رب العزة : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) آل عمران ).
4 ــ والله جل وعلا دعا الذين يقولون أنه جل وعلا ثالث ثلاثة الى التوبة والاستغفار حتى لا يمسهم عذاب أليم ، قال جل وعلا : ( (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) المائدة ).
5 ـ وكانت قريش مع رفضها للقرآن تستغفر الله ، تمسكا ببعض ملة ابراهيم ، وطالما كانوا بستغفرون كانوا بمنجى من العذاب ، مع أنهم فى رفضهم للقرآن كانوا يدعون أن ينزل عليهم العذاب لو كان القرآن حقا من عنده جل وعلا : ( وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) الانفال )
6 ـ وكانت الدعوة للإستغفار ضمن دعوة القرآن خاتم الرسالات السماوية ، وهذا ما جاء فى قوله جل وعلا : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)فصلت ) (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) (3) هود).
7 ــ المؤمنون بالقرآن فى عهد النبوة قال لهم جل وعلا : ( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) المزمل )، وربط الاستغفار بالحج فى قوله جل وعلا : ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)البقرة ). ومن دعاء المؤمن المأمور به طلب الغفران والرحمة : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)المؤمنون ). والمؤمنون من الأجيال اللاحقة بعد عصر النبوة يدعون بالغفران لهم ولمن سبقهم من المؤمنين : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) الحشر ). ومن قواعد التوية الاستغفار ، يقول جل وعلا :( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) النساء )
8 ـ والاستغفار عبادة الأنبياء.
8 / 1 : موسى حين إندفع وضرب الرجل المصرى ندم واستغفر فقال : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) القصص ). وغضب موسى على أخيه هارون بعد أن عبدت بنو اسرائيل العجل،ثم هدأ وطلب الغفران له ولأخيه عليهما السلام ، يقول جل وعلا : ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) الاعراف ). وتعرض سليمان عليه السلام لاختبار ونجح فيه فقال: ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) ص ).
8 / 2 : وخاتم النبيين عليهم السلام كان مأمورا بالاسغفار والتسبيح مع الصبر ، قال له رب جل وعلا :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (55) غافر ). وحين وقع فى خطأ وخدعه بعض أصحابه أمره ربه جل وعلا بالاستغفار ، قال له جل وعلا : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) النساء ). وحين تم له النصر ، وراى بعينيه دخول العرب ــ المتحاربين المتشاكسين ــ فى دخول الاسلام ( السلام ) أفواجا وتوقف الحرب أمره ربه جل وعلا بالتسبيح والاستغفار ، يقول رب العزة جل وعلا : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3) النصر ).
ثانيا : الاستغفار للغير
1 ــ كل العبادات شخصية لا يصح فيها أن يقوم بها أحد عن أحد ، فلا تصلى بالنيابة عن غيرك ، ولا تصوم بدل أحد ، ولا تحج عن أحد . ولكن يتميز الاستغفار بأنه يمكن أن تستغفر عن غيرك ، وأن تدعو لغيرك أن يرحمه الله جل وعلا وأن يغفر له . والاستغفار ـ سواء إستغفار الشخص لنفسه أو لغيره ـ يدخل ضمن الدعاء . ثواب الدعاء هو للداعى سواء دعا لنفسه أو لغيره ، وثواب المستغفر هو للمستغفر نفسه سواء إستغفر لنفسه أو لغيره . أما إستجابة الدعاء بالغفران فهى لرب العزة ، وموعد الغفران يوم الدين وليس الآن . ولا شأن لنا بهذا . الذى يهمنا هو أن سعينا فى حياتنا الدنيا خيرا أو شرا يتم تسجيله أولا بأول فى صحيفة أعمالنا . ومن السعى الخيّر الدعاء والاستغفار . وحالما تقدم عملا صالحا أو تقول قولا صالحا تتم كتابته فورا فى صحيفة أعمالك . لا فارق إن كان إستغفارا عن ذنبك أو عن ذنوب الاخرين .
2 ـ و الملائكة عموما يقرنون تسبيحهم لرب العزة جل وعلا بالاستغفار لمن فى الأرض ، أى يطلبون لهم الغفران . يقول جل وعلا : ( تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) الشورى ). أما القائمون بتدبير العرش الذى هو الملكوت فى هذه الدنيا أو بالتعبير القرآنى ( الذين يحملون العرش ) فهم يستغفرون للذين آمنوا ، أى يطلبون أن يغفر الله جل وعلا لهم يوم القيامة القادم ، يقول جل وعلا : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) غافر ).
3 ـ والأنبياء عليهم السلام كانوا يستغفرون لغيرهم المؤمنين :
3 / 1 : ومن دعاء نوح عليه السلام : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً (28) نوح )
3 / 2 : وخاتم النبيين عليهم السلام أمره ربه جل وعلا بالاستغفار للمؤمنات عند البيعة بدخولهن الدولة الاسلامية ، يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) الممتحنة ).
وأمره ربه جل وعلا أن يستغفر لمن يستأذن ويتغيب عن حضور مجالس الشورى العامة فى الدولة الاسلامية فى المدينة ، قال رب العزة جل وعلا : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) النور ).
وأمره ربه جل وعلا بالشورى وأن يستغفر للمؤمنين إذا أساءوا اليه ، قال جل وعلا : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) آل عمران ).
وجاء الأمر بالاستغفار تاليا الى شعار الاسلام ( لا إله ألا الله ) فى قوله جل وعلا لخاتم النبيين : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ )(19)( محمد ). هو هنا مأمور بالاستغفار لذنبه وبالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات .
4 ـ ومن الأوامر للمؤمنين الاحسان للوالدين ، ومنه أن تدعو الله جل وعلا طالبا أن يغفر لوالديك: ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) الاسراء )
ثالثا : الاستغفار للغير الموثوق فى كفره
1 ـ المقصود بالموثوق فى كفره أنه نزل وحى الاهى بشأن شخص معين بإسمه يؤكد أنه من أهل النار ، وبالتالى لا يجوز الاستغفار له . وهذا بالتحديد ( قرآنيا ) جاء فى حق ( آزر ) والد ابراهيم عليه السلام :(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) الانعام ) وفى أبى لهب عم النبى محمد عليه السلام : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) المسد ). ويلحق بهما أى شخص محدد بالاسم يظل الى نهاية عمره كافرا بالقلب وبالسلوك ، وبكفره السلوكى نحكم عليه ، أى يحارب هذا الشخص المعتدى المؤمنين المسالمين الى أن يموت على هذا الكفر السلوكى الواضح والذى يعبر به عن كفر قلبى . وهذا ينطبق على كل من ( آزر ) و ( أبى لهب ) ظل كل منهما متمسكا بكفره القلبى وكفره السلوكى العدوانى حتى الموت . وبالتالى لا يصح الاستغفار لهما ولمن على شاكلتهما من الأشخاص المحددين بالاسم . لا ينطبق هذا على عموم الضالين الذين لا يؤمنون باليوم الآخر ، بل إن المؤمنين مُطالبون بالتسامح وأن يغفروا عموما للذين يرجون أيام الله ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) الجاثية ).
2 ـ ابراهيم عليه السلام جاهد ليهتدى أبوه فصمم الأب على الضلال،ففارق والده ووعده أن يستغفر له ، على أمل أن يتوب الأب . وعندما إعتزل والده قال له : ( لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) (4) الممتحنة ) ، وفى سورة ( مريم ) :( قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً ) مريم 48 ) ولما إعتزلهم أنجب إسماعيل ثم اسحاق ثم انجب ابنه اسحاق يعقوب ، وعاش ابراهيم حتى رأى حفيده يعقوب ، قال جل وعلا : ( فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً (49) مريم ). وبعد أن انجب ذريته كان ابراهيم عليه السلام يدعو بالغفران له ولوالديه ، يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) ابراهيم ) ، أى كان ابراهيم عليه السلام ــ حتى وقت متأخر ــ يدعو لأبيه أن يغفر الله جل وعلا له وللمؤمنين أملا فى هداية أبيه ، ومن دعائه : (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ (86) الشعراء ). كل هذا وأبوه كان لا يزال حيا . ثم عندما تبين لابراهيم أن أباه مصمم على الضلال الى النهاية وأنه عدو لرب العزة جل وعلا تبرأ منه ، وأقلع عن الاستغفار له ، يقول جل وعلا : (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) التوبة )
3 ـ خاتم النبيين عليهم السلام ظل يستغفر لعمه أبى لهب مع أن رب العزة أنزل سورة مكية فى لعن أبى لهب وزوجه . لذا جاء التأنيب للنبى وللمؤمنين بعدم الاستغفار لمن يموت على كفره وضلاله ، بمعنى أن يظل الى نهاية عمره كافرا بالسلوك ، أى يحارب معتديا المؤمنين المسالمين الى أن يموت على هذا ، يقول جل وعلا : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) التوبة )
رابعا : الاستغفار فى التوبة العلنية :
1 ـ هناك توبة قلبية بين المؤمن وربه ، يقول جل وعلا :( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) النساء ). هى توبة مقبولة لأنها تتأسس على تصحيح الايمان والعزم على تصحيح العمل والالتزام بالعمل الصالح ليغطى على السيئات ، يقول جل وعلا : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82) طه )ويقول جل فيمن يقترف الكبائر ثم يتوب توبة صادقة مقبولة : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) الفرقان ).
وهناك توبة علنية تتضمن طلب الاستغفار من الغير ، يعنى أن تُخطىء فى حق شخص فتعتذر اليه وتطلب مغفرته . وهذا ما فعله أخوة يوسف . : (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) يوسف ) وهذه التوبة العلنية وطلب الغفران من المظلوم قد تكون مقدمة للتوبة القلبية الصادقة ، وقد تكون رياءا ولمجرد النجاة من العقوبة . فهذه التوبة العلنية تُسقط عقوبات الزنا والقذف والسرقة والحرابة . وهذا موضوع شرحه يطول . إلا أن المهم أن التوبة العلنية من ملامحها طلب الغفران وإعلان عدم الوقوع فى الذنب . وكان هذا مطلوبا من المنافقين ، قال جل وعلا : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) النساء )، وكانوا يرفضون هذه التوبة العلنية تكبرا ، قال جل وعلا عنهم : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) المنافقون ) وبسبب إستكبارهم عن إعلان التوبة العلنية فقد قال جل وعلا لرسوله الكريم : ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) المنافقون ). وكان بعضهم يتندر على الفقراء المسلمين الذين كانوا يتطوعون بالمال للمجهود الحربى وكان النبى يستغفر لأولئك المنافقين فقال له ربه جل وعلا : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) التوبة )