رحلتي من الإخوان إلى العلمانية (7)

سامح عسكر في الأحد ٢٠ - ديسمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

في بعض محطاتي أعترف أنني كنت صِداميا بمعنى اليقين بالرأي وبذل الجهد للدفاع عنه، ليس كما هو مفترض باتباع الأدلة ومناقشتها، حتى مع إيماني بفصل الدعوة عن السياسة–زمن الإخوان-لم يُترجم لجهد يفصل بين العلمانية والإسلام السياسي، بحيث كنت أظن أن هذ الفصل هو شكل من أشكال (الحكم الإسلامي) وأن الدولة يجب أن تكون مدنية بمرجعية إسلامية.

لكن مع ذلك كان سؤال يراودني هل ستنجح دولة الإخوان (الإسلامية) في القضاء على مشكلة الفقر أو البطالة والعنوسة؟..هل ستقضي على الأمية والظلم؟

السؤال نفسه يُعجب أصحاب النزعات المثالية، وهي نزعة متفشية في أي جماعة أيدلوجية، وإجابته سهلة لديهم..نعم يمكن ذلك إذا اتقيت الله، ومن يتقِ الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، بينما كنت على العكس من ذلك حيث كان السؤال يثير لدي (الفزع) وخوفي من النتيجة المؤلمة التي لو عرفتها شككت بالدين برمته.

في حين أن العلمانية لا تهتم بالإجابة عن هذا السؤال-وهو ما اكتشفته بعد ذلك بالتدريج- والسبب أنها ليست نظام اقتصادي ولا اجتماعي ولا حتى قانوني دستوري كي تهتم بكل شئ ، هذه المشكلات بحاجة لنماذج متخصصة في التطبيق كالشيوعية والاشتراكية والليبرالية الاقتصادية، وأتذكر كتاب للدكتور حازم الببلاوي –رئيس وزراء مصر الأسبق-بعنوان.."على أبواب عصر جديد"..كتبه في التسعينات طالب فيه بدور لرجال الفكر والاجتماع في تأسيس نظام اقتصادي جديد يواكب العصر.

كتاب الببلاوي كان نقلة لي لتصور معنى العلمانية حيث لم يهتم الرجل للشكل –المهيمن على ذهني-بأن الحكم الإسلامي به كل الحلول، وشعرت بمدى صعوبة وتعقيدات السوق، وقتها كنت أسأل بعض الأصدقاء عن شعارات المساواه في الحكم الإسلامي..هل هي عملية؟!

السبب في هذا السؤال أنني شخص واقعي –غير مثالي-لا أهتم بالنماذج المتخيلة أكثر من اهتمامي بقابليتها للتطبيق، وفي ذلك أقترب من أصحاب الفلسفة المادية، أي أنني في بعض جوانبي براجماتي، لكن ولسمعة البراجماتية السيئة وارتباطها بالذرائعية والميكافيللية المتطرفة لم أفصل بين هذا التوجه وبين ما كنت أردده –حينها- بأن الإسلام دين عمل وليس مجرد عبادة، يهتم بالأفعال والنتائج أكثر من الأقوال والنصائح، رغم أنني على المستوى الشخصي لست ناجحاً يتقلد أرفع المناصب..بل مجرد موظف بسيط في إحدى الشركات.

سؤالي عن عملية نداء المساواه في الحكم الإسلامي هو يطرح سؤال آخر..لماذا لم يخلق الله كل البشر متساويين؟..لماذا يوجد ظلم طبقي وحصر الأموال والكنوز في أيدي فئة قليلة من الناس، هذا السؤال يساري بالأصل لكن حوّلته لسؤال ليبرالي آخر: هل الإنسان حر كي يطلب المساواه؟..وماذا لو حدثت تلك المساواه ألا يفضي ذلك لفساد الناس وإفسادهم؟

وجدت الإجابة مؤخرا..لكن أزعم أنها غير نهائية وأختصرها في بيت النحل (الخلية) وكيف بها تنوع وظيفي وجنسي أيضاً، بحيث تعمل الشغالات على جمع الرحيق، ويعمل الذكور على تلقيح الملكة، وتعمل الملكة على البيض، نفس الحال مع النمل، هذا يعني أن الطبقية واقعة لا محالة، وأن التنوع الموجود ليس طبقية ظالمة ولكنه تنوع وظيفي، بمعنى تكامل دور الأفراد ضمن المؤسسة ، وليس كما يظن البعض أنه تفاضل من أي نوع.

فلو فرضنا أن الملكة هي التي تجمع الرحيق وفي نفس الوقت يلقحها الذكور وتبيض ، ما الذي يضمن عدم تعرضها للأخطار وهي تتنقل بين الزهور والأشجار، ألا يؤدي ذلك إلى خلل اجتماعي ونقص في عدد (الولّادات) ويقل التكاثر؟..وماذا لو كان مجتمع النحل نفسه غير معنى بالتكاثر ألا يؤثر ذلك على جمع الرحيق وبالتالي في إنتاج العسل؟

نموذج بيت النحل مطبق في حياة البشر ، فالفلاح قادر على العمل الشاق الذي لا يطيقه الطبيب ، والمهندس قادر على فهم الماكينة أكثر من العامل، والمدير قادر على التواصل وجمع الموظفين للعمل أكثر من الموظف الذي يحلم كثيراً بالإدارة لكن حين يُصبح مديرا يفشل في إدارة المؤسسة ، بل ويفشل في التعامل مع الفنيين والمشرفين..بالضبط كالمواطن العادي الذي يرى مسئولية الدولة شئ من الترف ، وحين يوضع في هذه المسئولية بالمصري.."يجيب عليها واطيها"..يعني يهدم الدولة ومؤسساتها ويضع الشعب في مهب الريح.

لذلك أرى أن الطبقية هي واقع شئنا أم أبينا، وما دامت الطبقية موجودة سيُوجد الظلم والاستغلال والعنجهية والغرور..وكلها آفات بشرية لا تفني إلا بفنائهم من على ظهر الكوكب.

لكن هذا لا يعني الإقرار بالظلم الناتج عن الطبقية، هو فقط مجرد إقرار بالأصل واستنكار للنتائج، لأن دور الإنسان في التدخل واجب للتعديل من تلك المنظومة، وهو ما يُسمى.."بجهاد النفس والظلم"..والأديان جميعها أراها بعثت لهذه الوظيفة وهي مواجهة الظلم، فمع كل حقبة تاريخية يستسلم فيها الإنسان لتلك الطبقية وتعلو سلطة الضعفاء والسفهاء يتعرض الإنسان لنكبات يجب لمواجهتها صفات راشدة تعين الإنسان على تحديها أو التقليل من نتائجها السيئة.

هذا أكثر ما أثارني للتشكيك في جدوى (الحكم الإسلامي) وكونه مجرد أمنيات مستحيلة التطبيق،لأن النماذج التي تعالج هذه الطبقية هي من صنع الإنسان، ومتنوعة بحيث لا تجد نموذج في دولة متطابق-حرفياً- مع نموذج في دولة أخرى، بل أحيانا يوجد تضاد أعزه إلى ثقافة المجتمع وكيف يرى الحياه، فكيف بعد أن يصنع الإنسان شيئا بيده يزعم أنه (حكم الدين) بل حُكمهِ هو وألصقه كذباً بالله على طريقة.." فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا"..[البقرة : 79] 

هذا غير مشروعية هذا المطلب بالأساس-الحكم الإسلامي-لم أتحدث فيه لكن تعرضت فيه سابقاً في كتابي الأخير.."رسائل في التجديد والتنوير"..ومن قبل مشروعي في نقد الإخوان والقرية المصرية، وكذلك عالجته بأسلوب أدبي في مسرحيتي.."لطمية رابعة"..التي أراها لم تأخذ الاهتمام الكافي سواء من النشر أو المناقشة رغم أهميتها في تصوير أزمة الثقافة وارتباطها بالوضع السياسي وانحطاط المجتمعات أخلاقيا.

وخلاصة هذه الأعمال أن الدين الإسلامي ليس به نظام حكم واضح أو حتى غير واضح حتى نزعم أنه يوجد.."حكم إسلامي".. وغاية ماخص به السياسة هي قيم عامة كالصدق والتواضع والإيثار وكف الأذى والدفاع عن النفس، وأن التراث –خصوصاً السني-حوى عددا كبيراً من القيم المضافة الخاصة بأصحابها تطلب من المسلمين تجاوز الدين لتحقيق مصالح شخصية وزعامات جهوية كالخلافة والغزوات..مصحوبة بقوانين تاريخية وأعراف قبلية نزلت في الدين الإسلامي إقراراً بحالها وليس تشريعاً لموضوعها كالحدود.

هذا يعني أن الإسلام دين لا يهتم بأي عمل سياسي ويتركه لإمكانيات الشخص وبراعته في إصدار نموذج محترم يليق بعصره ومجتمعه..بل يليق بنفسه هو كإنسان ويجيب فيه عن كل الأسئلة المشروعة، وكل من أقر بهذه النتيجة سواء من الإخوان أو الجماعات بالعموم أو المواطن العادي هو أقر بالعلمانية كمبدأ وكطريق.

وإلى اللقاء في الجزء الثامن والأخير من الرحلة

اجمالي القراءات 7724