يسأل البعض كيف موضوع السمع والطاعة هذا في الإخوان، وأي عقل يقبل بإلقاء العضو الإخواني نفسه في التهلكة لأجل القادة أو لأجل أمرٍ لا يفهمه..
مبدئيا: الإخوان جماعة ليست فقط سياسية أو دينية بل هي .."جماعة عسكرية"..ومن صفات العسكر تنفيذ الأوامر دون مناقشة، وإذا كان هناك أمر جلل أو مظاهرة أو اجتماع هام يحرص القادة على إخفاء طبيعته وجهل الأفراد به إلى حين انعقاده فجأة..
حدث ذلك مرات معي..منها مثلا مظاهرة ضد حرب إسرائيل على غزة في ميدان رمسيس بالقاهرة، كنا –كإخوان وكأي مصري-ضد هذه الحرب ونتعاطف مع ضحايا القصف، وفي صبيحة يوم المظاهرة التقى بي الأخوة وقالوا ارتدي كل ملابسك وجهز نفسك للسفر، سألت إلى أين نذهب؟..حرصوا على عدم إجابة السؤال ، وبروح الإخوان الضاحكة تمت التغطية على السؤال إلى أن وصلنا رمسيس فوجدنا الأمن يغلق جامع الفتح ، فكان البديل مباشرة مسجد الجمعية الشرعية الكائن تحت أحد كباري الميدان..
وقتها علمت أن هذه مظاهرة لكن لم أتحدث مع أحد وفضلت الكتمان، وسبب سؤالي أنني أكره المظاهرات ولا أذهب إليها إلى للضرورة القصوى لإيماني بأنها سياسة القطيع، وأفضل العمل الفردي بشكل كبير..
لكن وبعد ثورة يونيو وأثناء اعتصام رابعة وأحداث الحرس الجمهوري، وقبل ذلك أحداث فض اعتصام الاتحادية في زمن مرسي وتعيين النائب العام ومظاهرات الإخوان المؤيدة..علمت أن كل ما سبق تم بنفس الطريقة التي تمت بها مظاهرة رمسيس ضد حرب غزة، فالأغلبية من الشباب وأعضاء الإخوان لم يكونوا على علم بطبيعة المهمة، القادة فقط هم الذين يمتلكون الخطة والمعلومة، ولكن الشباب والأعضاء حين يجد نفسه في هذا الموقف يضطر تلقائيا للدفاع عن نفسه كإخوان، وهذا يعني أن المواجهة فرضت عليهم وليس لهم خيار في إشعالها، لذلك قلت وأكرر أن الكثير من مصائب الإخوان في اعتصام رابعة وغيرها حدثت على غير رغبة من الشباب والأعضاء..وأنها كانت تخطيط وتنفيذ القادة بواسطة قاعدتهم الجماهيرية التي يستخدمونها للضغط من أجل مكاسب سياسية..
أما كيف يحدث هذا الانفصام عن الواقع أحكي لكم قصة
في جزيرة هاييتي وسط البحر الكاريبي انتشرت أسطورة.."الزومبي"..واختصارها قيام السَحَرة بإحياء الموتى قبل تحللهم لاستعبادهم وإجبارهم على طاعة أوامر الساحر، فيُصبح معها الزومبي/ الميت حياً يفعل ما يأمره به سيده دون مناقشة.
مخلوق متبلد المشاعر ذو شكل مخيف يسمع ويطيع..ويفعل كل شئ حتى الشر دون عقل أو ضمير..
هذه الصورة تملكتني كلما قمت بنقد سلوك .."السمع والطاعة"..عند الإخوان، فالزومبي عند الهاييتيين هو نفسه كائن الإخوان الذي يحرص قادة التنظيم على بنائه لاستعباده كي يقوم بخدمات لصالح الجماعة وقادتها، وتصبح المصيبة أعظم فيما لو اخترقت بعض الجهات قادة التنظيم فتعمل على توظيف الجماعة لمصالحها دون دراية، وقتها يكون الزومبي أفضل حالا كونه يخدم سيده فقط دون انشغاله بعواقب ما يفعل، أو حتى إمكانية كشف الخدعة التي حدثت له.
الإنسان كائن حر وفي المأثور قول عمر بن الخطاب لابن العاص.."متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"..لكن في الإخوان هذه الحرية من جانب واحد، فهم يطرحون قول ابن الخطاب ضد خصومهم حتى تكون لحجتهم دليل ومنطق نبيل، أما لو طالبهم الآخر بالمعاملة بالمثل فيرفعون ضده سيف الضلال والفرقة الناجية والولاء والبراء ..والتكفير لو لزم الأمر..حينها يكون الإخواني أقرب إلى الزومبي عمليا..!
اعتقادي بالحرية -كما قلت في المقدمة- أنها نابعة من ثقافة ويقين من كتابات مثقفي أوروبا في المرحلة الإعدادية، فالتسامح والحرية قيمتين من أعظم ما أنجبت حضارة أوروبا، هذه الحضارة التي ينقم عليها المتدينون بدعوى استعبادها لنا طيلة قرنين، في حين يقبلوا استعبادنا لهم طيلة خمسة قرون في الأندلس والبلقان...حتى نقمتهم على الحرب الصليبية ضد المشرق أفسدها اعتقاهم بنزاهة الغزوات والفتوحات لبلاد فارس والروم، كانوا يأتون كل شئ ونقيضه ..والأدهى لا يملك الفرد الإخواني أي ثقافة أو إمكانيات تؤهله لمناقشة الآخر وإقناعه..خصوصاً لو كان هذا الآخر مثقف حقيقي يعني ما يقول ولديه أدوات جيدة.
بالعموم سلوك السمع والطاعة هو نفسه أسطوري بحيث لا يخلق انتصار ولا تقدم حضاري، وكل من سمع وطاع-دون مناقشة- هو في حكم المهزوم، وأن النصرة الحقيقية تبدأ بحرية الفرد وحقه في الاختيار..وهذا الكلام لن يعجب قادة الجماعات ومنهم الإخوان، حيث يزعمون أن الانتصار سيأتي من الله كنتيجة طبيعية لإخلاص الفرد له وصدقه في عبادته..هكذا دون تفسير معنى العبادة والصدق..وما هو العدل ومما تلك المساواه؟..وقتها سيحدث مع الإخوان ما حدث مع الزومبي في انقلاب العسكر الهاييتي في التسعينات، حيث أشيع أن أمريكا ستتدخل لإنهاء الانقلاب، بعدها هدد قادة الانقلاب أمريكا بتجنيد جيوش الزومبي ضد الغُزاه ، ولكن ولأن الأمريكان ضد الخرافة لم يبالوا واجتاحوا هاييتي ولم يروا زومبياً واحدا..!
تكرر هذا السيناريو بعد ثورة يونيو بالحرف..زعم القادة الإخوانيون أن الله سينصرهم ونشروا الرؤى والأحلام المؤيدة لهذه النبؤة، وبعد خذلانهم كان من المفترض أن يكشف العضو الإخواني أن ما حدث هو خديعة مشابهة لخديعة الزومبي في هاييتي، وأن السَحَرة هم أنفسهم قادة وشيوخ الإخوان، وأن عبدالفتاح السيسي هو الجيش الأمريكي الذي لا يؤمن بالخرافة..بل بالعمل فقط يحدث التغيير.
والسبب في ذلك أن الإخوان نشروا مبادئهم على أنها إصلاح للدنيا بالدين..فأهملوا الدنيا والدين معاً..وعلى قول البعض لم يحصلوا على عنب الشام ولا بلح اليمن
كان حريا بهم التفريق بين أمور الدنيا وأمور الدين، فالقرآن –مثلاً- ناقش كل الأمور الدينية..وهي الثابتة والمحكمة التي لا تتغير ، لكن حين تعرضه لأمور دنيوية كان الخطاب مقيد بظرف مكاني وزماني مناسب..كمثال قوله.."ياأيها النبي جاهد الكفار والمشركين واغلظ عليهم"..لم يقل ياأيها الرسول، والفرق أن محمد كنبي هو الموجه بالخطاب..وقرينة ذلك أن خطاب النبوة في القرآن كله دنيوي لا يمس أصل الرسالة، وهذه فروقات لغوية وشرعية بين مفهومي.."النبوة والرسالة"..يظهر معها أن الأمر بجهاد المشركين ليس مطلقا ولكنه مقيد بزمان الوحي ومخصص للنبي وحده ولظروف مكانية وزمانية يستحيل تحقيقها الآن..لكن معنى الجهاد هو المعتبر من الآية وهو أحد المعاني لهذا اللفظ التي تشمل معانٍ أخرى كجهاد النفس وجهاد الظلم وقول الحق وأشياء أخرى..
إن كون القرآن دينيا وليس دنيويا يعني أن أي أمر دنيوي هو لا يخص الدين..ومن أمثلة ذلك السياسة، فالسياسة تعني مصالح الناس وهي شأن دنيوي بحت، ولو حاول أحدهم التوفيق بين القرآن والسياسة يقع في تناقضات وكوارث عقلية وشرعية بل وأخلاقية مثلما يحدث الآن مع داعش..وهي أشهر من خلط بين الدين والسياسة حتى جاوزت جرائمهم حد الإنسان وقتلوا الحيوان وأهلكوا النبات ..حتى أنفسهم لم تسلم من جرائمهم فانشقوا وحاربوا أنفسهم وقتلوا كل مخالف ولو على الصغائر..
إن فكرة دينية القرآن هي التي حملتني على إعادة النظر في مفهوم العلمانية وكون القرآن يشرع العلمانية ويضعها في سياق دنيوي متغير لا يخص الثوابت، فالثوابت ليس كم يصفها شيوخ الأزهر كالبخاري ومسلم وعذاب القبر، بل الثوابت هي مضمون الرسالة المحمدية وما يرافقها من قيم عامة يؤمن بها كل البشر دون تمييز، ومن أمثلة القيم العامة الصدق والإيثار والإحسان والتواضع..هذه هي الثوابت الحقيقية وليست ثوابت الأزهر المزيفة، وكلها في الأخير قيم تؤمن بها العلمانية كون التعلمن قائم أساساً على تحييد رجال الدين عن السياسة.
وفكرة التحييد هذه ورائها هدف معلوم هو تنقية المجتمع من أدران وأوبئة الأساطير الدينية وخرافات ومصالح الشيوخ الذين قد يستغلون سطوتهم الدينية في السيطرة على الجماهير..وقتها ينتشر الكذب والتعصب مثلما يحدث الآن من فتن طائفية يشعلها المشايخ أصبح فيها الكذب شئ عادي لا يتورع فيها المتدين-أياً كان- من الكذب لنصره مذهبه أو حزبه، وأكثر من يتضرر من هذه السطوة هي المجتمعات المتنوعة والشعوب التي تتسم بالتعددية الدينية، فمثال المجتمع العراقي المتنوع هو أفضل مجتمع تلائمه العلمانية لتنوعه، حيث أصبح إقصاء رجال الدين عن السياسة يعني الاعتراف بكل الأديان والقوميات والأجناس دون تمييز، وهو مقدمة لاستيعاب الكل دون منظومة سياسية واحدة تعترف بحقوق الشعب..وهذا لب الديمقراطية.
لذلك فالديمقرطية والعلمانية وجهان لعملة واحدة، ومن يؤمن بأحدهم دون الآخر يكشف عدم فهمه لكِلا المفهومين معا.
وإلى اللقاء في الجزء الخامس من الرحلة