فى تدبر قوله جل وعلا : (مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ )

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٣ - ديسمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

  فى تدبر قوله جل وعلا : (مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ )

مقدمة :

1 ـ دار نقاش بين الأحبة فى موقع ( اهل القرآن ) حول قوله جل وعلا :( لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ )   فى مقال للأستاذة عائشة حسين حمل هذه الآية الكريمة عنوانا.  وهذا المقال هو دراسة عملية للتعامل مع هذا الموضوع بمنهج التدبر القرآنى فى المحكم والمتشابه .

2 ــ قلنا إن البداية هى تحديد المصطلح القرآنى من داخل القرآن الكريم ، ثم تجميع كل ما يتصل بالموضوع فى السياق الموضعى خلال الاية فى داخل السورة بما قبلها وما بعدها من الآيات ، ثم بالسياق العام للموضوع بتجميع كل الايات الخاصة فى القرآن كله ، ثم بحثها كلها بدون رأى مسبق إبتغاء الاهتداء بالقرآن الكريم . ومن خلال هذا التجميع وتدبره يتحدد لو كان هناك آيات محكمات وأخرى متشابهات ، ومعلوم أن الآية المحكمة تقول الحقيقة القرآنية مرة واحدة بينما تقوم الآيات المتشابهات بالتفصيل والشرح . وبتجميع الايات المتشابهات تجدها تؤكد ما جاء فى الآية المحكمة . على أنه ليس فى كل موضوع توجد آيات محكمات وأخرى متشابهات . والتدبر القرآنى فى السياق الموضعى المحلى والسياق العام هو الذى يحدد طبيعة كل موضوع . جدير بالذكر أن من يتدبر القرآن لا بد أن يكون مسلحا بفهم كامل للسان العربى وبلاغته والفارق بين المصطلحات القرآنية وغيرها من شتى المصطلحات التراثية للمسلمين وتاريخهم . وفى النهاية فما يصل اليه الباحث القرآنى ـ مهما بلغ علمه ـ فإنه يظل وجهة نظر تحمل إسمه ، وتظل رؤية شخصية غير معصومة من الخطأ ، وتحتاج للنقد والمراجعة . اهل الجهل من أئمة الأديان الأرضية هم فقط الذين يعتبرون كلامه الجاهل دينا ، لأنهم هم الذين يملكون دينهم الأرضى وهم الذين يصنعونه وهم بذلك مختلفون وفى شقاق لا ينتهى .

3 ـ ونقوم بتطبيق تدبرنا فى موضوع :( لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ).

أولا : تحديد معنى ( ما ) فى قوله جل وعلا :  :( لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ).

1 ـ أهم معانى ( ما ) فى اللسان العربى :

تأتى بمعنى السؤال والنفى والموصول .

1 / 1 : جاءت بمعنى السؤال ، كما فى قول رب العزة جل وعلا : ( فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنْ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) المدثر ) أى يسألون المجرمين ما سلككم فى سقر . ومثله : (  مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) القارعة )( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) الهمزة )(مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) الحاقة  )(وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) المدثر ) . قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (75) ص   )

1 / 2 : وجاءت ( ما ) بمعنى الموصول أى ( الذى ) أو ( التى ) فى قول الله جل وعلا : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا ) 20 الاعراف) ، أى الذى وُورى عنهما ، (وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص  )أى الذى كانوا يحذرون ، ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ) (68) القصص ) أى يخلق الذى يشاء ، ( وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) القصص ) أى يعلم الذى تكن صدورهم .

1 / 3 : وجاءت ( ما ) بمعنى النفى العادى فى قوله جل وعلا : ( مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ )(68) القصص ) أى ليست لهم الخيرة والاختيار. والأغلب أن تأنى ( ما ) النافية ( قرآنيا ) فى اسلوب القصر بالنفى والاستثناء فيما يخص رب العزة جل وعلا ، على نسق ( لا إله إلا الله ) . وهذا كثير فى القرآن الكريم ، ومنه قوله جل وعلا : ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ ) آل عمران  )( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) 73 ) المائدة ) (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس ) وأيضا : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا   (6) هود ) (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ) (56) هود ). وفى غيرها تأتى ( ما ) بمعنى النفى والاستثناء فى موضوعات أخرى ، كما فى قوله جل وعلا :( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ) (38) الانعام ) (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) (52)  الانعام )  ( وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ (20) الاعراف ) (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54) التوبة) (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) ،( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) الاسراء  )

2 ـ وقد جاءت ( ما ) بمعنى النفى ومعنى الموصول فى آية واحدة ،وذاك فى قوله جل وعلا عن بنى إسرائيل:( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) البقرة ).

2 / 1 : ( ما ) هنا بمعنى ( الذى ) فى : ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) أى الذى تتلوه الشياطين ، ( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) أى الذى أُنزل على الملكين ، ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) أى الذى يفرقون به بين المرء وزوجه.( وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ ) اى الذى يضرهم ولا ينفعهم. ( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) اى الذى شروا به أنفسهم.

 

2 / 2 : وأتت ( ما ) بمعنى ( النفى العادى ) فى : ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) ،( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ )،  وبمعنى النفى والاستثناء ( القصر ) فى : ( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا ... )،  ( وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) .

3 ـ وبالتدبر فى معنى ( ما ) فى قوله جل وعلا : (مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ ) نتأكد  أنها بمعنى النفى ، أى لم يأتهم من نذير من قبل . وهذا بتجميع الايات التى فى نفس السياق ، وفي بعضها تأتى ( ما ) بمعنى النفى أى نفى مجىء نذير لهم من قبل . وفى غيرها من آيات يأتى السياق بالاثبات بطريق مختلف . ونعطى لمحة سريعة :

ثانيا : الآيات التى تؤكد باسلوب النفى أنه لم يأت العرب نذير قبل خاتم النبيين عليهم السلام :

يقول جل وعلا :( وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) سبأ ) هنا نفى لارسال نذير ولإنزال كتب من قبل . وفى نفس المعنى  يقول جل وعلا : ( لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) القصص ). (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6 ) يس ). (  تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) السجدة )  كل هذا تأكيد بالنفى أنه لم يكن لهم كتاب سماوى قبل القرآن الكريم ، ولم يرسل رب العزة قبل محمد عليه السلام رسولا ، ولم يأتهم قبله نذير لهم .

ثالثا : الآيات التى تؤكد باسلوب الإثبات عدم وجود نذير للعرب قبل خاتم النبيين عليهم السلام:

كانوا يتمنون إرسال رسول لهم مثل أهل الكتاب ، بل كانوا يقسمون بالله جل وعلا لئن جاءهم نذير رسول ليكونن أهدى من أهل الكتاب، فلما جاءهم خاتم النبيين كفروا ، يقول جل وعلا  :( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) فاطر) . ويقول جل وعلا أنه لو أهلكهم قبل نزول القرآن لكانت حجتهم : لولا أرسلت الينا رسولا : (  وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى (135) طه   )

رابعا : إستمرارية الخطاب الى عصرنا وكل عصر :

  الوصايا العشر هى القاسم المشترك فى الرسالات السماوية ، وقد تعرضت من قبل للتحريف ، ونزلت فى القرآن الكريم محفوظة لتكون حجة على البشر ، وفى الوصية العاشرة منها والأخيرة يقول جل وعلا : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) وهذه دعوة للجميع نزلت فى القرآن الكريم للتمسك به وحده وعدم إتباع سبيل آخر معه . ثم تأتى إشارة الى الكتاب الذى نزل على موسى ووصفه ، يقول جل وعلا : ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) ثم وصف القرآن الكريم بقوله جل وعلا :( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) ، ثم توجيه الخطاب للعرب الذين كانوا يتمنون نزول كتاب لهم مثل التوراة والانجيل، وانه لو نزل هذا الكتاب سيكونون أهدى من اليهود والنصارى، فلما نزل القرآن الكريم أعرضوا عنه وكذبوا به . قال جل وعلا لهم :( أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) وطلبوا بديلا عن القرآن الكريم ،هو الآية الحسية برؤية رب العزة او الملائكة ، مع انهم حين يرون الملائكة سيكون ذلك عند الموت وفى اليوم الآخر حيث الخسارة الكبرى، يقول جل وعلا عنهم: ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158)، ثم ينتقل الخطاب الى النبى محمد عن أصحاب بالبراءة من أصحاب الديانات الأرضية الذين تركوا العمل بالوصية العاشرة السابقة ( الآية 153 ) وفرقوا دينهم ، يقول جل وعلا :( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) الانعام  ) . الاعجاز فى آيتى ( 153 ، 159 ) أن اصحاب الديانات الأرضية ممّن يزعمون الانتماء الى الاسلام يتفقون فى تأليه محمد عليه السلام ، أو هم ( محمديون ) يعبدون شخصية مصنوعة لا صلة بينها وبين خاتم النبيين عليه السلام . وقد إخترعوا أحاديث وجعلوا لها إسنادا بطرق مختلفة أو ( سُبُل ) مختلفة ، وهذا تعبيرهم فى التراث عن سلاسل العنعنة ، ونزل  مقدما فى الاية 153 تنهى عن إتباع السُّبُل ، ونزل مقدما فى الاية 159 قطع الصلة بينهم وبين خاتم النبيين . والمستفاد من كل ما سبق ان الجاهليين العرب كانوا يتمنون أن ينزل عليهم كتاب وأن يبعث الله جل وعلا رسولا منهم ، فلما حدث هذا كفروا وكذبوا بالكتاب واضطهدوا النبى محمدا عليه السلام ، وبعد موته أرجعوا نفس الكفر بالفتوحات والفتنة الكبرى ، وبهما معا تم تاسيس أديان أرضية ، جعلت أصحابها يخسرون الدنيا والآخرة .!

خامسا : بداية القصة :

1 ـ حين كان ابراهيم يرفع قواعد الكعبة ومعه ابنه اسماعيل كانا يدعوان الله جل وعلا :( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) الذى يهمنا الدعاء التالى :( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) أى دعا ابراهيم واسماعيل أن يرسل الله جل وعلا من ذرية اسماعيل رسولا منهم . ولقد تواترت الرسل من ذرية اسحاق أخ إسماعيل ، ولكن جاء خاتم النبيين من ذرية اسماعيل رسولا عالميا للبشرية ، وهذا مع أنه لم يأت نذير أو رسول من ذرية اسماعيل ـ بعد موت اسماعيل والى مولد خاتم النبيين نذير.

2 ـ وتوارثت ذرية اسماعيل ملة أبيهم ابراهيم ، ولكن حرفتها فى تضييع ثمرة الصلاة بالاشراك والمعاصى ونفس الحال فى بقية العبادات من صوم وحج وصدقات . حافظوا على الشكل الحركى والمراءاة بالعبادة والتدين السطجى وإستغلاله فى الاحتراف الدينى كما فعلت قريش فى خلط الدين بالسياسة واستغلال ملة ابراهيم فى الحصول على حُطام دنيوى . ونزل القرآن يصحح هذا الوضع وينقّى ملة ابراهيم مما لحقها من تحريف وتضليل . لذا يقول جل وعلا فى الآيات التالية عن ابراهيم وملة ابراهيم وذرية ابراهيم : ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) البقرة ). هذا خطاب للجميع من أهل الكتاب والعرب ( الأميين ) .

2 ـ ذرية اسماعيل إسمها ( العرب المستعربة ) لأن جدهم اسماعيل ليس عربى الأصل مثل بقية عرب الجزيرة ؛عرب اليمن ( العرب العارب : القحطانية ) . وعاش العرب مع أهل الكتاب فى الجزيرة العربية ، لذا كان وصف العرب بالأميين أى الذين ليس لهم كتاب سماوى مثل ( أهل الكتاب).ولقد إمتنّ الله جل وعلا على العرب الأميين أن بعث فيهم رسولا منهم فقال جل وعلا:(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) الجمعة  ).

3 ـ وكان وصف العرب بالأميين يأتى مقابلا لوضع العرب من (أهل الكتاب )، وهكذا كان يقول بنواسرائيل عن العرب يعتبرونهم أقل مكانة منهم : ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) (75) آل عمران ). وفى الدعوة الى لا إله إلا الله وتنقية ملة ابراهيم مما لحقها من تحريف وتضليل وتفرق وبغى على الوحى الالهى والعلم الالهى ، يقول جل وعلا : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) ثم يقول جل وعلا للرسول : ( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) آل عمران ). هنا استعمال مصطلح أهل الكتاب وما يقابله وهو العرب الأميين . فالأميون أى الذين لم يأتهم كتاب من قبل ولم يأتهم نذير من قبل ، بينما جاء فى أولاد عمومتهم من ذرية اسحاق بن ابراهيم كتب وأنبياء ومنذرون .

اجمالي القراءات 10453