المشترك بين المكى والمدنى
مقدمة :
1 ــ القرآن الكريم هو كتاب واحد ، والتنوع فيه لأنه يخاطب البشر جميعا من وقت نزوله الى قيام الساعة . هذا التنوع القرآنى يتعامل مع التنوعات البشرية ، وهو بذلك يختلف عن الكتاب الذى تلقاه موسى عند جبل الطور ، فالألواح التى تلقاها موسى من رب العزة جل وعلا كانت أوامر ونواهى شاملة ، ولكن لبنى اسرائيل فقط وفى وقتهم فقط ، يقول جل وعلا : ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ) (145) الاعراف )، كانت رسالة محلية مؤقتة لقوم بعينهم فى مكان محدد وزمان معين . أما القرآن الكريم فقد كان موعظة للبشر جميعا ، يقول جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) يونس ) لذا أوكل رب العزة حفظ التوراة لبنى إسرائيل ، ولكن حفظ القرآن موكول لرب العزة جل وعلا ، وجعل رب العزة القرآن المحفوظ من لدنه جل وعلا هو المهيمن على ما سبقه من كتاب سماوى، وجعله المرجعية عند الاختلاف: ( الحجر 9، المائدة 44 ، 48 ، النمل 76 ).
2 ــ ونتوقف مع المشترك فى التنزيلين المكى والمدنى وعلى كل المستويات من المؤمنين والكافرين وقت النزول الى الى كل زمان ومكان بعده والى البشر جميعا . وهو موضوع يطول ، وتعرضنا له كثيرا ، ولذا نعطى لمحة سريعة :
أولا : فى الخطاب :
1 ـ يأتى الخطاب العام للبشر بغض النظر عن اللون وعن الذكورة والأنوثة والمستوى الاجتماعى، يقول لهم : يا بنى آدم ، يا أيها الناس ، يا أيها الانسان. ويأتى الخطاب كصفات : الذين آمنوا ، الذين كفروا ـ الذين أشركوا ، المؤمنون المشركون الكافرون الظالمون ، المنافقون ، ثم حقوق ابن السبيل واليتامى والفقراء والمساكين والوالدين وذوى القربى ..الخ ، تأتى بالصفة بغض النظر عن الايمان أو الكفر . وعلى سبيل المثال فإن من المصطلحات المتواترة فى القرآن الكريم هو جزاء الجنة للذين ( آمنوا وعملوا الصالحات ) وتكرر عشرات المرات فى التنزيل المكى والتنزيل المدنى ليشمل كل الذين آمنوا وعملوا من بين البشر جميعا الى قيام الساعة. وفى المقابل فإنّ جزاء النار هو للكافرين المشركين الظالمين المجرمين الفاسقين المسرفين المعتدين المنافقين. هذا تكرر عشرات المرات فى التنزيل المكى والتنزيل المدنى ليشمل من يموت بهذه الصفة فى كل زمان ومكان.وأيضا فان الدعوة للتوبة للنجاة من النار تكررت للبشر جميعا .
ثانيا : فى التقوى المقصد الأعلى للتشريع :
1 ـ التقوى تعنى : إخلاص الدين لرب العزة جل وعلا وحده وتقديسه وحده وعباته وحده وفى حُسن التعامل مع الناس . خوطب بهذا البشر جميعا فى السور المكية والمدنية لأن التقوى هى جوهر كل الرسالات السماوية ، حيث خاطب الله تعالى كل الرسل فقال (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) ( المؤمنون ـ 52 ). أى أمرهم بالتمسك بالتقوى والعمل الصالح. ولذلك فكل نبى كان يأمر قومه بالتقوى، وفى سورة الشعراء ـ التى قصّت سيرة كثير من الأنبياء ـ كان كل نبى منهم يقول لقومه : (أَلَا تَتَّقُونَ ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) وتكرر هذا فى سور أخرى ، يقول تعالى ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ؟) (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ؟ ) (المؤمنون 23 ـ32 ) (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ؟ ) (الاعراف 65 ) (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ اِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ؟) (الصافات ـ 124 ) (..ٍ وَاذكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (الاعراف171).
وخطاب القرآن بالتقوى لم يشر فقط الى الأمم السابقة وانما امتد به من عصره حتى قيام الساعة. فالنبى محمد مأمور بالتقوى شأن كل إنسان فى هذه الدنيا ،يقول له رب العزة : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ) ( الاحزاب 1 ). * وكذلك الذين آمنوا معه والذين آمنوا بعده (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) ( التوبة 119 ) والصادقون هم مجموع الأنبياء ، وليس ( عليا وذريته ) كما يفترى الشيعة ، فالمتقون جميعا سيكونون فى صُحبة الأنبياء يوم القيامة ، يقول جل وعلا : ( وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69) النساء ), ويقول تعالى أيضا للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الحجرات 1) أى يحرم عليهم المزايدة على الله تعالى ورسوله ، ويحذرهم بأنه ( سميع عليم ) ، * وفى الرسالة الخاتمة أكّد رب العزة أنه أمر المسلمين وأهل الكتاب بالتقوى فقال (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ : أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ ) (النساء131 ). وكرر خطابه لبنى اسرائيل يأمرهم بالتقوى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ , وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) ( البقرة ـ 41). * وكان مشركو العرب يؤمنون بأن الله تعالى خالق السماوات والأرض وبيده ملكوت كل شىء ومع ذلك يتخذون معه آلهة أخرى ، وفى حوار القرآن معهم اتخذ من ايمانهم بالله تعالى الخالق حجة عليهم فدعاهم لتقوى الله (قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ) (المؤمنون ـ 87)، * بل ان الأمر بالتقوى يتوجه لجميع الناس:، يذكرهم بماضيهم حيث جاءوا من أصل واحد ولهم اله واحد يراقب أعمالهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (النساء 1 ـ) ، أو يذكرهم بالمستقبل حين تأتى القيامة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) (الحج 1)
. وكما أن دين الله جل وعلا للعالم بأسره فان الأمر بالتقوى للعالم بأسره. وفى النهاية فلا تميز بين البشر إلا بالتقوى ، يقول جل وعلا يخاطب البشر جميعا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات ).
ولن يدخل الجنة من البشر إلا المتقون : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً (63) مريم ) ،حيث سيكون الناس فى الآخرة قسمين : كفار من أهل النار ، ومتقون أصحاب الجنة : ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً )(71) ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً )(73) الزمر ).
والسمة العامة للكافرين فى كل زمان ومكان أنهم كذبوا بآيات الله جل وعلا وكتبه ورسالاته ، قالها جل وعلا منذ هبوط آدم وحواء الى الأرض : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) البقرة ). والتكذيب بآيات الله عادة سيئة لكل أصحاب الديانات الأرضية من محمديين ومسيحيين وبوذيين وهندوسيين ..الخ .
ثانيا : الصبر :
تكلمنا كثيرا عن بقية المقاصد التشريعية فى دين رب العزة والتى نزلت بها رسالاته السماوية ، مثل العدل والقسط والحرية المطلقة فى الدين والاحسان والسلام والرحمة . ونتوقف سريعا مع قيمة إسلامية عليا هى ( الصبر )
1 ـ والمفهوم أن المؤمنين فى مكة تحملوا الأذى والتعذيب وصبروا على ذلك ، وتعرض النبى محمد نفسه للأذى وتوالت الآيات المكية تأمره بالصبر. من بداية الوحى قال له ربه جل وعلا : (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) المزمل ) وتتابعت بعدها نفس الأوامر : ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) يونس) ( وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115 هود )( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) هود ).
وبعضها كان يذكره بما حدث للرسل السابقين الذين صبروا على الأذى ، يقول ربه جل وعلا:(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) الانعام )، ومثله قوله جل وعلا له : (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17 ) ص ) ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) القلم )
2 ـ هو الصبر الايجابى الذى لا يعنى الاستسلام والخنوع بل الصمود والهجرة ، وبعد تأسيس الدولة الاسلامية كان ذلك الصبر الايجابى يصحب المؤمنين فى جهادهم وقتالهم الدفاعى فى الآيات المدنية . البداية قال جل وعلا : (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)النحل:126 ، 127 )، ثم جاء الصبر مرافقا للجهاد والقتال ،يقول جل وعلا للمؤمنين يأمرهم بالصبر والمصابرة والمرابطة حراسة لحدود دولتهم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)آل عمران:200 ). ولأنهم كانوا قلّة عددية كان لا بد لهم من الصبر ليحوزوا النصر ، قال جل وعلا لهم بعد موقعة بدر : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)الأنفال:65 ، 66 ) وحذرهم من التنازع وأمرهم بطاعة الله جل وعلا ورسوله وبالصبر لأن الله جل وعلا ( مع ) الصابرين : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)الأنفال:46 ).
وفى الدعوة للصبر فى الجهاد وعدهم رب العزة بالمغفرة ، فقال : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)النحل:110) وأكّد لهم أن إختبارهم فى الجهاد والصبر فإذا نجحوا فجزاؤهم الجنة ، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)محمد:31 ) ، فلن يدخلوا الجنة مجانا ، يقول جل وعلا : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)آل عمران:142 ). وذكّرهم بالمؤمنين السابقين المقاتلين الصابرين : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)آل عمران:146 ). وندخل بهذا على قيمة الصبر على المستوى العام فى الآيات المكية والمدنية .
3 ـ الصبر على مستوى الرسالات السماوية والأمم السابقة والبشرية جمعاء:
كل الرسل صبروا على أذى قومهم ، متوكلين على ربهم جل وعلا . ومع اختلاف الزمان والمكان واللسان فقد قالوا لأقوامهم : (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ) إبراهيم:12 ) وقالها موسى لقومه وهم تجت إضطهاد فرعون : (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الأعراف ) وعندما صبر بنو إسرائيل أنجاهم رب العزة من فرعون ، وحافظ بعضهم على الصبر فكانوا أئمة ، يقول جل وعلا عنهم : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)السجدة:24 ). وفى عهد التنزيل المدنى قالجل وعلا لبنى اسرائيل : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)البقرة:45 ) ويقول نفس الشىء للمؤمنين بالقرآن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)البقرة:153 ).
وقالها النبى لقمان لابنه : (يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)لقمان:17 )ووُصف بعض الأنبياء بالصبر : (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنْ الصَّابِرِينَ) الأنبياء:85 ).
وكونه جل وعلا ( مَعَ الصَّابِرِينَ) تكرر اربع مرات فى القرآن الكريم؛ مرتين فى سورة البقرة، مرة فى حديث مع المؤمنين : ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) البقرة)ومرة فى حديث عن الفئة القليلة الصابرة من بنى اسرائيل التى قاتلت وصبرت : ( وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) البقرة )، ومرتين فى سورة الأنفال ، مرة فى حديث مع المؤمنين بعد موقعة بدر:( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)الانفال ) ومرة فى حثهم وهم فئة قليلة على الصبر فى القتال :(وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) الانفال ). والشعب المصرى المشهور بصبره ( السلبى ) على ظُلم الفراعنة السابقين واللاحقين جعل قوله جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) مثلا شعبيا . ولكن يهمنا أنه جل وعلا مع الصابرين المؤمنين فى كل زمان ومكان .
لذا يقول جل وعلا فى أحكام عامة تنطبق على من يتصف بهذه الصفات من البشر فى كل الأزمنة :عن الدُعاة الصابرين يقول جل وعلا : (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)فصلت:35 ) وعن المتسامحين الصابرين على الأذى يقول جل وعلا : ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)الشورى:43 ) وهذه آيات مكية . ثم فى آيات مدنية يقول جل وعلا عن المؤمنين الصابرين : (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) الحج:35 ) ويقول جل وعلا فى مجموعة صفات منها الصبر : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)الأحزاب:35 )
4 ـ على مستوى الجزاء فى الدنيا والآخرة لكل المؤمنين الصابرين :
أفضل الصابرين هم الذين عانوا من الاضطهاد والأذى وصبروا ثم هاجروا متوكلين على ربهم جل وعلا . هؤلاء لهم أجرهم الحسن فى الدنيا ، ثم ينتظرهم جزاء أكبر فى الآخرة إذا ماتوا وهم صابرون وعلى ربهم جل وعلا متوكلون : ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) النحل ). نلاحظ هنا اسلوب التأكيد الثقيل فى أجرهم : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ )، كما نلاحظ إرتباط الصبر بالتوكل على الله جل وعلا . هذا الأجر العظيم فى الدنيا والآخرة هو أحسن من عملهم ، يقول جل وعلا :( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) النحل ) . وبتعبير آخر هو أجر بلا حد أقصى ، يقول جل وعلا : (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر:10 )بغير حساب أى بدون حدّ أقصى فى أجرهم فى الدنيا وفى الجنة فى الآخرة.
5 ـ الجنة للصابرين من كل البشر:
من بين البشر جميعا فالفائزون هم المؤمنون الصابرون: (ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) البلد:17 ) (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)العصر:3 ).
والصبر من صفات أصحاب الجنة: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) العنكبوت )(إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)هود:11)(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)الرعد:22 ).
حين يدخلون الجنة تتلقاهم الملائكة تسلّم عليهم وتقول لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)الرعد:24 ). وعن تلقيهم التحية والسلام فى الجنة جزاء صبرهم يقول جل وعلا : (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً)الفرقان:75 ). وفى حديث رب العزة عنهم وهم فى الجنة يقول : (إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواأَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ)المؤمنون:111 )، أى بسبب صبرهم جزاهم ربهم الجنة وجعلهم الفائزين .